زبدة التفاسير الجزء ٥

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
المشاهدات: 15843
تحميل: 3447


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15843 / تحميل: 3447
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 5

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-07-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في ظلام مرتبك(١) فيه، لا يدري أين يتوجّه، أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصّى(٢) منها.

( قُلْ ) يا محمّد إذا لم ينقادوا للحجّة( لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) بل كلّ إنسان يسأل عمّا يفعله، ويجازى على فعله، دون فعل غيره. وهذا أدخل في الإنصاف، وأبلغ في الإخبات(٣) من الأوّل، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، والعمل إلى المخاطبين. وفيه دلالة على أنّ أحدا لا يجوز أن يؤخذ بذنب غيره.

ثمّ أمر سبحانه أن يحاكمهم إلى الله، لإعراضهم عن الحجّة، فقال :

( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ) يوم القيامة( ثُمَّ يَفْتَحُ ) يحكم ويفصل( بَيْنَنا بِالْحَقِ ) بأن يدخل المحقّين الجنّة، والمبطلين النار( وَهُوَ الْفَتَّاحُ ) الحاكم الفصل في القضايا المغلقة( الْعَلِيمُ ) بما ينبغي أن يقضي به.

ثمّ استفسر عن شبهتهم، بعد إلزام الحجّة عليهم، زيادة في تبكيتهم، فقال :

( قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ ) لأرى بأيّ صفة ألحقتموهم بالله في استحقاق العبادة. أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم، ليطلعهم على إحالة القياس إليه، والإشراك به.

( كَلَّا ) ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة، كما قال إبراهيم:( أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) (٤) ، بعد ما حجّهم.

__________________

(١) ارتبك في الأمر: وقع فيه، ولم يكد يتخلّص منه.

(٢) أي: يتخلّص.

(٣) أي: في التخشّع والاطمينان.

(٤) الأنبياء: ٦٧.

٤٤١

ثمّ نبّه على تفاحش غلطهم، وإن لم يقدّروا الله حقّ قدره، بقوله:( بَلْ هُوَ ) بل الله، أو الشأن( اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الموصوف بالغلبة، وكمال القدرة والحكمة.

وهؤلاء الملحقون به متّسمون بالذلّة، متأبيّة عن قبول العلم والقدرة رأسا. فأين الّذين ألحقتم به شركاء من تلك الصفات الجليلة والسمات العليّة؟

( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) )

ثمّ بيّن سبحانه بنوّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجه العموم بقوله:( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) إلّا إرسالة عامّة لهم كلّهم، العرب والعجم، وسائر الأمم، محيطة بهم إلى يوم القيامة. من الكفّ، فإنّها إذا عمّتهم وشملتهم فقد كفّتهم أن يخرج منها أحد منهم.

ويؤيّده الحديث المرويّ عن ابن عبّاس، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعطيت خمسا، ولا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر والأسود. وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا.

وأحلّ لي المغنم، ولم يحلّ لأحد قبلي. ونصرت بالرعب، فهو يسير أمامي مسيرة شهر. وأعطيت الشفاعة، فادّخرتها لأمّتي يوم القيامة».

أو إلّا جامعا لهم في الإبلاغ. فجعله حالا من الكاف. والتاء للمبالغة، كالراوية والعلّامة. ولا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار، لأنّ تقدّم حال المجرور عليه في الإحالة، بمنزلة تقدّم المجرور على الجارّ.

وعن ابن مسلم أنّ معناه: مانعا لهم عمّاهم عليه من الكفر والمعاصي، بالأمر والنهي، والوعد والوعيد.

٤٤٢

( بَشِيراً ) للمطيعين بالجنّة( وَنَذِيراً ) للعاصين بالنّار( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) رسالتك العامّة، لإعراضهم عن النظر في معجزتك، لفرط عنادهم ولجاجهم، فيحملهم جهلهم على مخالفتك.

( وَيَقُولُونَ ) من فرط جهلهم وعنادهم( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) يعنون المبشّر به والمنذر عنه. أو الموعود بقوله:( يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ) .( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) يخاطبون به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين.

( قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ ) وعد يوم، أو زمان وعد. وإضافته إلى اليوم للتبيين، كما تقول: سحق(١) ثوب، وبعير سانية.( لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ) أي: ليوم يفاجئكم، فلا تستطيعون تأخّرا عنه ولا تقدّما عليه. وهو جواب تهديد جاء مطابقا لـما قصدوه بسؤالهم، من التعنّت والإنكار، لا الاسترشاد.

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا

__________________

(١) السحق: الثوب البالي. والسانية: الناقة يستقى عليها من البئر.

٤٤٣

الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) )

ثمّ بيّن سبحانه حالهم في القيامة، فقال حكاية عنهم :

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) ولا بما تقدّمه من الكتب الدالّة على النعت. وقيل: «الّذي بين يديه» يوم القيامة.

روي: أنّ كفّار مكّة سألوا أهل الكتاب عن الرسول، فأخبروهم أنّهم يجدون نعته في كتبهم. فأغضبهم ذلك، وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدّمه من كتب الله في الكفر. فبهذه الآية أخبر الله عن ذلك.

والمعنى: أنّهم جحدوا أن يكون القرآن من الله، أو أن تكون لـما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة.

ثمّ أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة، فقال لرسوله أو لمن شأنه التخاطب :

( وَلَوْ تَرى ) في الآخرة( إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ ) محبوسون( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي: في موضع المحاسبة( يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ ) يتحاورون ويتراجعون القول، لرأيت العجيب. فحذف الجواب.

ثمّ فصّل محاورتهم بقوله:( يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) يقول الأتباع( لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) للرؤساء( لَوْ لا أَنْتُمْ ) لولا إضلالكم وصدّكم إيّانا عن الإيمان( لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) باتّباع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ) أنكروا أنّهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان، وأثبتوا أنّهم هم الّذين صدّوا بأنفسهم عنه، حيث أعرضوا عن الهدى، وآثروا التقليد عليه من

٤٤٤

قبل اختيارهم. ولهذا بنوا الإنكار على الاسم، أعني: «نحن». كأنّهم قالوا: أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكّنين مختارين، بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان، وصحّت نيّاتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظّها، وآثرتم الضلال على الهدى، وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهى، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم، لا لقولنا وتسويلنا.

واعلم أنّ قوله:( يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) إلى هنا، لـمّا كان جيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف، فجيء بكلام آخر للمستضعفين، وعطف على كلامهم الأوّل، فقال :

( وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) إضراب عن إضرابهم. وإضافة المكر إلى الظرف على الاتّساع. والمعنى: ما كان الإجرام الصادّ عن الإيمان من جهتنا، بل من جهة مكركم ليلا ونهارا، حتّى غلبتم على رأينا.

( إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ) دعوتموننا دائما إلى أن نجعل له شركاء في العبادة، ونجحد وحدانيّته.

( وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) أي: أضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال، وأخفاها كلّ عن صاحبه مخافة التعيير. أو أظهروها، فإنّه من الأضداد، إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب.

( وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: في أعناقهم. فجاء بالظاهر تنويها بذمّهم، وإشعارا بموجب أغلالهم. وعن ابن عبّاس: غلوّا بها في النيران.( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي: لا يفعل بهم ما يفعل إلّا جزاء على أعمالهم. وتعدية «يجزى» إمّا لتضمين معنى: يقضى، أو بنزع الخافض.

٤٤٥

( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) )

ثمّ سلّى نبيّه ممّا مني(١) به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد، والمفاخرة بالدنيا وزخارفها، والتكبّر بذلك على المؤمنين، والاستهانة بهم من أجله، فقال :

( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ) من نبيّ مخوّف بالله( إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها ) جبابرتها المتنعّمون بزخارف الدنيا، والانهماك في الشهوات، استهانة بمن لم يحظ منها.

__________________

(١) أي: ابتلي به.

٤٤٦

ولأجل توغّلهم في لذائذ النعمة، والانهماك في الشهوات النفسانيّة، ضمّوا التهكّم والتفاخر إلى التكذيب، فقالوا:( إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) .

ثمّ صرّح بهذا المعنى، فقال:( وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ) فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن( وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) لأنّه أكرمنا بذلك، فلا يهيننا بالعذاب.

فقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا، واعتقدوا أنّهم لو لم يكرموا على الله تعالى لـما رزقهم، ولو لا أن المؤمنين هانوا عليه لـما حرمهم.

فأبطل الله حسبانهم، بأنّ الرزق فضل من الله، يقسّمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح والحكم، فقال :

( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) ويضيّق لمن يشاء، فربما وسّع على العاصي وضيّق على المطيع، وربما عكس، وربما وسّع عليهما وضيّق عليهما، فلا يقاس عليه أمر الثواب الّذي مبناه على الاستحقاق.

( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) فيظنّون أنّ كثرة الأموال والأولاد لشرفهم وكرامتهم عند الله، وكثيرا ما يكون للاستدراج، كما قال:( وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ) قربة، فإنّه اسم للمصدر. وذكر «الّتي» دون «اللائي» إمّا لأنّ المراد: وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم. أو لأنّها صفة محذوف، كالخصلة.

( إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) استثناء من مفعول «تقرّبكم» أي: الأموال والأولاد لا تقرّب أحدا إلّا المؤمن الصالح الّذي ينفق ماله في سبيل الله، ويفقّه ولده في الدين، ويعلّمه الخير.

( فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ ) هذه الإضافة إضافة المصدر إلى المفعول. وأصله: لهم أن يجاوزا الضعف إلى عشر فما فوقه، فإنّ الضعف اسم جنس يدلّ على القليل والكثير.

٤٤٧

وعن يعقوب: جزاء، بالنصب على التمييز، أو المصدر لفعله الّذي دلّ عليه «لهم». و «الضّعف» بالرفع على أنّه خبر.

( بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ ) غرفات الجنّة. وهي البيوت فوق الأبنية.( آمِنُونَ ) من المكاره.

( وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ ) يجتهدون( فِي آياتِنا ) بالردّ والطعن فيها( مُعاجِزِينَ ) مسابقين لأنبيائنا، أو ظانّين أنّهم يفوتوننا( أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ ) .

( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ) يوسّع عليه تارة، ويضيّق عليه اخرى. فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين، وما سبق في شخصين، فلا تكرير.

( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ) وما أخرجتم من أموالكم في وجوه البرّ( فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) عوضا، إمّا عاجلا بالمال، أو آجلا بالثواب الّذي هو أفضل كلّ خلف( وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) فإنّ غيره وسط في إيصال رزقه، لا حقيقة لرازقيّته.

روى أبو هريرة عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ينادي مناد كلّ ليلة: لدوا للموت.

وينادي مناد: ابنوا للخراب. وينادي مناد: أللّهمّ هب للمنفق خلفا. وينادي مناد: أللّهمّ هب للممسك تلفا. وينادي مناد: ليت الناس لم يخلقوا. وينادي مناد: ليتهم إذ خلقوا فكّروا فيما له خلقوا».

وعن جابر، عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أنفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامنا، إلّا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية».

( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ

٤٤٨

بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) )

( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ) المستكبرين والمستضعفين( ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ) تقريعا للمشركين، وتبكيتا لهم، وإقناطا لهم عمّا يتوقّعون من شفاعتهم، فإنّ ظاهر الكلام خطاب للملائكة، والمراد به تقريع الكفّار، وارد على المثل السائر: إيّاك أعني واسمعي يا جارة. ونحوه قوله تعالى:( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) (١) . وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزّهين، برآء ممّا وجّه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير. والغرض منه أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، ليكون تقريعهم أشدّ، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم، وهوانهم ألزم. ويكون اقتصاص ذلك لطفا لمن سمعه، وزاجرا لمن اقتصّ عليه.

وتخصيص الملائكة، لأنّهم أشرف شركائهم، والصالحون للخطاب منهم.

ولأنّ عبادتهم مبدأ الشرك وأصله. وقرأ حفص بالياء فيهما(٢) .

( قالُوا سُبْحانَكَ ) تنزيها لك عن أن يعبد سواك، ويتّخذ معك معبود غيرك( أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ) أنت الّذي نواليه من دونهم، لا موالاة بيننا وبينهم. فبيّنوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفّار، براءتهم من الرضا بعبادتهم.

ثمّ أضربوا عن ذلك، ونفوا أنّهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم:( بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ ) أي: الشياطين، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، وصوّرت لهم

__________________

(١) المائدة: ١١٦.

(٢) أي: يحشرهم يقول.

٤٤٩

الشياطين صور قوم من الجنّ، وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت، فيعبدون بعبادتها.

( أَكْثَرُهُمْ ) أكثر الناس، أو أكثر المشركين. والأكثر بمعنى الكلّ.( بِهِمْ ) بالجنّ( مُؤْمِنُونَ ) .

ثمّ يقول سبحانه:( فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ ) يعني: العابدين والمعبودين( نَفْعاً ) بالشفاعة( وَلا ضَرًّا ) بالتعذيب، إذ الأمر فيه كلّه له، لأنّ الدار دار الجزاء، وهو المجازي وحده.

ثمّ ذكر معاقبة الظالمين، فقال عطفا على «لا يملك، مبينا»، للمقصود من تمهيده:( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ) .

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) )

ثمّ عاد سبحانه إلى الحكاية عن حال الكفّار، فقال:( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا ) يعنون محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ ) يمنعكم( عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ ) فيستنبعكم بما يستبدعه( وَقالُوا ما هذا ) يعنون القرآن( إِلَّا إِفْكٌ ) كذب، لعدم مطابقة ما فيه الواقع( مُفْتَرىً ) يفتريه على الله سبحانه.

٤٥٠

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ) لأمر النبوّة كلّه، أو للقرآن. والأوّل باعتبار معناه، وهذا باعتبار لفظه وإعجازه.( إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ظاهر سحريّته.

وفي تكرير الفعل، والتصريح بذكر الكفرة، وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وما في «لمّا» من المبادهة(١) إلى البتّ بهذا القول، إنكار عظيم، وتعجيب بليغ منه. كأنّه قال: أولئك الكفرة المتمرّدون بجرئتهم على الله، ومكابرتهم لمثل ذلك الحقّ النيّر، ما هذا إلّا سحر بيّن، ظاهر على كلّ عاقل.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم لم يقولوا ذلك عن بيّنة، فقال:( وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها ) فيها برهان على صحّة الإشراك( وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ) يدعوهم إليه، وينذرهم على تركه، كما قالعزوجل :( أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ) (٢) . فقد بان أن لا وجه لهم في الإشراك، فمن أين حكموا بصحّته؟ وهذا في غاية التجهيل لهم، والتسفيه لرأيهم.

ثمّ هدّدهم على تكذيبهم، فقال:( وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) كما كذّبوا( وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ ) وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوّة وطول العمر وكثرة المال. أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البيّنات والهدى. والمعشار بمعنى العشر، كالمرباع بمعنى الربع.

( فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) فحين كذّبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون، فكيف كان نكيري لهم؟ فليحذر هؤلاء من مثله. ولا تكرير في «كذّب»، لأنّ الأوّل للتكثير، والثاني للتكذيب. أو الأوّل مطلق، والثاني مقيّد. ولذلك عطف عليها بالفاء. ونظيره أن يقول القائل: فلان أقدم على الكفر فكفر بمحمد.

__________________

(١) المبادهة: المفاجأة والمباغتة.

(٢) الروم: ٣٥.

٤٥١

( قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤) )

( قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ ) أرشدكم وأنصح لكم( بِواحِدَةٍ ) بخصلة واحدة. وهي ما فسّرها بقوله:( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ) أي: القيام من مجلس رسول الله وتفرّقهم عن مجتمعهم عنده. وليس المراد القيام على القدمين، ولكن الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمّة، خالصا لوجه الله، معرضا عن المراء والتقليد. ومحلّه الجرّ

٤٥٢

على البدل أو البيان، أو الرفع بإضمار: هو، أو النصب بإضمار: أعني.

( مَثْنى وَفُرادى ) متفرّقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، فإنّ الازدحام ممّا يشوّش الخاطر، ويخلّط القول، ويثير عجاج التعصّب.( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ) في أمر محمّد وما جاء به.

أمّا الاثنان: فيتفكّران ويعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه نظر متصادقين متناصفين، لا يميل بهما اتّباع هوى، ولا ينبض لهما عرق عصبيّة، حتّى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر الصحيح على جادّة الحقّ وسننه.

وأمّا المتفرّد فيفكّر في نفسه بعدل ونصفة، من غير أن يكابرها، ويعرض فكره على عقله وذهنه، وما استقرّ عنده من عادات العقلاء ومجاري أحوالهم.

فعند ذلك تعلموا( ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ) ما به من جنون يحمله على ذلك، بل تعلموا عند تفكّركم في أمره أنّه أرجح قريش عقلا، وأرزنهم(١) حلما، وأثقبهم ذهنا، وأصدقهم قولا، وأنزههم نفسا. كيف وقد انضمّ إليه معجزات كثيرة.

ويجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا، تنبيها من الله على طريقة النظر في أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقيل: «ما» استفهاميّة. والمعنى: ثمّ تتفكّروا أيّ شيء به من آثار الجنون.

( إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ) قدّامه، لأنّه مبعوث في نسم الساعة، حيث

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت في نسم(٢) الساعة».

( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ) أيّ شيء سألتكم من أجر الرسالة( فَهُوَ لَكُمْ ) .

__________________

(١) أي: أوقرهم. من: رزن رزانة: وقر.

(٢) نسم الريح: أوّلها حين تقبل بلين قبل أن تشتدّ. و «بعثت في نسم الساعة» أي: حين ابتدأت وأقبلت أوائلها.

٤٥٣

والمراد نفي السؤال عنه، فإنّه جعل التنبيء مستلزما لأحد الأمرين: إمّا الجنون، وإمّا توقّع نفع دنيويّ عليه، لأنّه إمّا أن يكون لغرض. أو لغيره، وأيّا ما كان يلزم أحدهما. ثمّ نفى كلّا منهما.

وقيل: «ما» موصولة. وأراد ما سألهم بقوله:( ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (١) ( لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (٢) .

واتّخاذ السبيل ومودّة أهل البيت ينفعان لهم، فلا ينافي قوله: «فهو لكم».

( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) مطّلع، يعلم صدقي وخلوص نيّتي، في أنّي لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلّا منه، ولا أطمع منكم في شيء.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر بإسكان الياء.

( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ ) أصل القذف: تزجية(٣) السهم ونحوه بدفع واعتماد، ثمّ يستعار لمعنى الإلقاء بقوّة. ومنه( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) (٤) .( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ) (٥) . والمعنى: ربّي يلقيه وينزّله على من يجتبيه من عباده. أو يرمي به الباطل فيدمغه. أو يرمي به إلى أقطار الآفاق. فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإفشائه.

( عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) صفة محمولة على محلّ «إنّ» واسمها. أو بدل من المستكن في «يقذف». أو خبر ثان. أو خبر محذوف، أي: هو علّام جميع

__________________

(١) الفرقان: ٥٧.

(٢) الشورى: ٢٣.

(٣) زجّى تزجية الشيء: دفعه برفق.

(٤) الأحزاب: ٢٦.

(٥) طه: ٣٩.

٤٥٤

الخفيّات، وما غاب من خلقه في الأرضين والسماوات.

( قُلْ جاءَ الْحَقُ ) أي: الإسلام. وعن ابن مسعود: الجهاد بالسيف.( وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ) وهلك الباطل، وهو الشرك، بحيث لم يبق له أثر. وهذا مثل لهلاك الشيء، فإنّه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة.

وقيل: الباطل إبليس أو الصنم. والمعنى: لا ينشئ خلقا ولا يعيده. أو لا يبدئ خيرا لأهله ولا يعيده، أي: لا ينفعهم في الدنيا والآخرة.

وقيل: «ما» استفهاميّة منتصبة بما بعدها. والمعنى: أيّ شيء يبدئ إبليس أو الصنم، وأيّ شيء يعيد؟!

عن ابن مسعود: دخل النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة وحول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما، فجعل يطعنها بعود نبعة(١) في يده ويقول:( جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (٢) .( جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ) .

( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ ) عن الحقّ كما تدعون( فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي ) أي: فإنّما يرجع وبال ضلالي عليها، فإنّه بسببها، وهي الجاهلة بالذات، والأمّارة بالسوء، بخلاف ما لها ممّا ينفعها، فإنّه بهداية ربّها وتوفيقه. وبهذا الاعتبار قابل الشرطيّة بقوله:( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ ) إلى الحقّ( فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) أي: فبهدايته وتوفيقه، حيث أوحى إليّ، فله المنّة بذلك عليّ.

فلا يقال: أين التقابل بين قوله:( فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي ) وقوله:( فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) . وإنّما كان يستقيم أن يقال: فإنّما أضلّ على نفسي، وإن اهتديت فإنّما اهتدي لها. كقوله تعالى:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) (٣) ( مَنِ

__________________

(١) النبعة: شجرة تتخذ منها السهام والقسي.

(٢) الإسراء: ٨١.

(٣) فصلت: ٤٦.

٤٥٥

اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) (١) . أو يقال: فإنّما أضلّ بنفسي.

( إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) يدرك قول كلّ ضالّ ومهتد، وفعله وإن أخفاه.

وإنّما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه، لأنّ الرسول إذا دخل تحته، مع جلالة محلّه وسداد طريقته، كان غيره أولى به.

( وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا ) عند الموت، إذا عاينوا ملائكة العذاب لقبض أرواحهم. أو عند البعث حين يشاهدون العذاب. أو يوم بدر حين ضربت أعناقهم، فلم يستطيعوا فرارا من العذاب.

وجواب «لو» محذوف، يدلّ الكلام عليه. والتقدير: لرأيت أمرا فظيعا، أو حالا هائلة.

و «لو» و «إذ» والأفعال الّتي هي «فزعوا» و «أخذوا» و( حِيلَ بَيْنَهُمْ ) (٢) كلّها للمضيّ، والمراد بها الاستقبال، لأنّ ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد، لتحقّقه. فكأنّه قال: وإذ ترى حين يفزعون.

( فَلا فَوْتَ ) فلا يفوتون الله بهرب أو تحصّن.

وعن ابن عبّاس: نزلت في خسف البيداء. وذلك أنّ ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم.

وهذا مرويّ عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين، والحسن بن الحسن بن عليّعليه‌السلام .

( وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) من ظهر الأرض إلى بطنها. وقيل: من الموقف إلى

__________________

(١) الإسراء: ١٥.

(٢) سبأ: ٥٤.

٤٥٦

النار. وقيل: من صحراء بدر إلى القليب(١) . أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم.

والعطف على «فزعوا»، أي: فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم. أو على «لا فوت» على معنى: إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا.

( وَقالُوا آمَنَّا بِهِ ) أي: بمحمّد، لمرور ذكره في قوله:( ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ) (٢) .( وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ ) أي: ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا؟ فإنّ التناول والتناوش أخوان، إلّا أنّ التناوش تناول سهل لشيء قريب.

( مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) فإنّه في حيّز التكليف، وقد بعد عنهم حين مشاهدة العذاب، لأنّها وقت ارتفاع التكليف الاختياري.

وهذا تمثيل لحالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم أو انه وبعد عنهم، بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة(٣) كما يتناوله من ذراع، في الاستحالة.

وقرأ أبو عمرو والكوفيّون غير حفص بالهمز(٤) ، على قلب الواو، لضمّتها. أو لأنّه من: نأشت الشيء إذا طلبته. أو من: نأشت إذا تأخّرت. فيكون بمعنى التناول من بعد.

( وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ ) بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو بالعذاب( مِنْ قَبْلُ ) من قبل ذلك أوان التكليف( وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ) ويرجمون بالظنّ، ويتكلّمون بما لم يظهر لهم في الرسول من المطاعن، من أنّه ساحر شاعر كذّاب، لأنّهم لم يشاهدوا منه سحرا، ولا شعرا، ولا كذبا. أو في العذاب، من البتّ على نفيه. يقولون:( هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما

__________________

(١) القليب: البئر. وقيل: البئر القديمة.

(٢) سبأ: ٤٦.

(٣) الغلوة: الغاية. وهي رمية سهم أبعد ما تقدر عليه.

(٤) أي: التناؤش.

٤٥٧

تُوعَدُونَ ) (١) ( وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) (٢) .

وقد أتوا بهذا الغيب( مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) من جانب بعيد من أمره، كالشيء يرمى من موضع بعيد المرمى. والعطف على «كفروا» على حكاية الحال الماضية.

يعني: وكانوا يتكلّمون بالغيب ويأتون به من مكان بعيد. أو على «قالوا»، فيكون تمثيلا لحالهم في تحصيل ما ضيّعوه من الإيمان في الدنيا، بحال القاذف الّذي يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد، لا يكون مجال للظنّ في لحوقه.

( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ) وفرّق بينهم وبين مشتهياتهم، من نفع الإيمان، والنجاة به من النيران( كَما فُعِلَ ) مثل ذلك( بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ) بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة.

( إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ ) من البعث( مُرِيبٍ ) موقع في الريبة. أو ذي ريبة.

من: أرابه، إذا أوقعه في الريبة والتهمة. فهو منقول من المشكّك، فكأنّه قال: في شكّ مشكّك. أو من: أراب الرجل، إذا صار ذا ريبة، ودخل فيها. منقول من صاحب الشكّ إلى الشكّ، أي: شكّ شاكّ، كما تقول: شعر شاعر، وعجب عجيب. وكلا التقديرين مجاز.

__________________

(١) المؤمنون: ٣٦.

(٢) سبأ: ٣٥.

٤٥٨

(٣٥)

سورة فاطر

مكّيّة. وهي خمس وأربعون آية. أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنّة، أن أدخل من أيّ الأبواب شئت».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) )

ولـمّا ختم الله سبحانه السورة المتقدّمة بالردّ على أهل الشرك والشكّ والعنود، افتتح هذه السورة بذكر كمال قدرته، ووحدانيّته، ودلائل التوحيد، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) مبتدئهما ومبتدئهما. من الفطر بمعنى الشقّ، كأنّه شقّ العدم بإخراجهما منه. عن مجاهد، عن

٤٥٩

ابن عبّاس: ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتّى اختصم إليّ أعرابيّان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها وشققتها. والإضافة معنويّة، لأنّه بمعنى الماضي.

( جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ) وسائط بين الله تعالى وبين أنبيائه والصالحين من عباده، يبلّغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة. أو بينه وبين خلقه، يوصلون إليهم آثار صنعه.

( أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) أي: ذوي أجنحة متعدّدة متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها ويعرجون. أو يسرعون بها نحو ما وكلّهم الله عليه، فيتصرّفون فيه على ما أمرهم به. ولم يرد به خصوصيّة الأعداد، ونفي ما زاد عليها. وفي رواية: أنّ صنفا من الملائكة لهم ستّة أجنحة، فجناحان يلفّون بهما أجسادهم، وجناحان يطيرون بهما في أمر من أمور الله، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج، وله ستّمائة جناح».

وروي: «أنّه سأل جبرئيلعليه‌السلام أن يتراءى له في صورته. فقال له: إنّك لن تطيق ذلك. قال: إنّي قد أحبّ أن تفعل. فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة مقمرة، فأتاه جبرئيل في صورته، فغشى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ أفاق وجبرئيل مسنده، وإحدى يديه على صدره، والاخرى بين كتفيه. فقال: سبحان الله ما كنت أرى أنّ شيئا من الخلق هكذا. فقال جبرئيل: فكيف لو رأيت إسرافيل؟ له اثنا عشر جناحا، جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب، وإنّ العرش على كاهله(١) ، وإنّه ليتضاءل الأحانين لعظمة الله، حتّى يعود مثل الوصع، وهو العصفور الصغير».

( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ) استئناف للدلالة على أنّ تفاوتهم في ذلك

__________________

(١) الكاهل: أعلى الظهر ممّا يلي العنق.

٤٦٠