زبدة التفاسير الجزء ٥
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) )
( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ) يعنون وعد البعث( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) وهذا استهزاء منهم بخبر النبيّ والمؤمنين بوقوع البعث.
فقال في جوابهم:( ما يَنْظُرُونَ ) ما ينتظرون( إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ) هي النفخة الأولى( تَأْخُذُهُمْ ) أو القيامة تأتيهم بغتة( وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم، لا يخطر ببالهم أمرها، كقوله:( أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (١) .
وفي الحديث: «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه، فما يطويانه حتّى تقوم. والرجل يرفع أكلته إلى فيه، فما تصل إلى فيه حتّى تقوم. والرجل يليط(٢) حوضه ليسقي ماشيته، فما يسقيها حتّى تقوم».
__________________
(١) يوسف: ١٠٧.
(٢) لاط الحوض: طيّنه لئلّا ينشف الماء.
وقيل: وهم يختصمون هل ينزل بهم العذاب أم لا؟
وأصل «يخصّمون» يختصمون، فأسكنت التاء وأدغمت، ثمّ كسرت الخاء، لالتقاء الساكنين.
وروي عن أبي بكر بكسر الياء، للإتباع. وقرأ ابن كثير وورش وهشام بفتح الخاء، على إلقاء حركة التاء إليه. وأبو عمرو وقالون به مع الاختلاس(١) . وعن نافع الفتح فيه والإسكان والتشديد. وكأنّه جوّز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغما. وقرأ حمزة: يخصمون، من: خصمه إذا جادله.
( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ) في شيء من أمورهم( وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم وأهاليهم، فيروا أحوالهم، بل يموتون حيث تفاجئهم الصيحة.
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) أي: مرّة ثانية. وقد سبق تفسيره في سورة المؤمنين(٢) .
( فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ ) من القبور. جمع جدث.( إِلى رَبِّهِمْ ) إلى الموضع الّذي يحكم الله فيه، لا حكم لغيره هناك( يَنْسِلُونَ ) يسرعون.
فلمّا رأوا أهوال القيامة( قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) من منامنا الّذي كنّا فيه. وفيه ترشيح ورمز وإشعار بأنّهم لاختلاط عقولهم يظنّون أنّهم كانوا نياما.
وقيل: إنّهم لـمّا عاينوا أهوال القيامة، عدّوا أحوالهم في قبورهم بالإضافة إلى تلك الأهوال رقادا. وسكت حفص على «مرقدنا» سكتة لطيفة. ووقف غيره عليه.
( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ ) مبتدأ وخبر. و «ما» مصدريّة. أو موصولة محذوفة الراجع، أي: هذا الّذي وعده الرحمن والّذي صدّقه المرسلون صدقوا فيه. من
__________________
(١) اختلس القارئ الحركة: لم يبلّغها. ويقابله الإشباع. وهو: تبليغ الحركة حتّى تصير حرف مدّ.
(٢) راجع ج ٤ ص ٤٦٦، ذيل الآية (١٠١) من سورة المؤمنون.
قولهم: صدقوهم الحديث. او «هذا» صفة لـ «مرقدنا». و «ما وعد» خبر محذوف. أو مبتدأ خبره محذوف، أي: ما وعد الرحمن( وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) حقّ. وهو من كلامهم، يتذكّرون ما سمعوه من الرسل، فيجيبون به أنفسهم، أو بعضهم بعضا.
وقيل: جواب للملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم، تذكيرا لكفرهم، وتقريعا لهم عليه، وتنبيها بأنّ الّذي يهمّهم هو السؤال عن البعث دون الباعث. فكأنّه قيل لهم: ليس الأمر كما تظنّون، فإنّه ليس البعث الّذي عرفتموه هو بعث النائم من مرقده، فيهمّكم السؤال عن الباعث، إنّ هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال الشديدة، والأفزاع العظيمة.
( إِنْ كانَتْ ) ما كانت الفعلة( إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ) هي النفخة الأخبرة( فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ ) مجموعون في عرصات القيامة( لَدَيْنا ) عند محاسبتنا إيّاهم( مُحْضَرُونَ ) بمجرّد تلك الصيحة. وفي كلّ ذلك تهوين أمر البعث والحشر، واستغناؤهما عن الأسباب الّتي ينوطان بها، فيما يشاهده الأوّلون والآخرون.
ثمّ حكى سبحانه ما يقوله في ذلك اليوم للخلائق، تمكينا له في نفوسهم، وزيادة لتصوير الموعود، وترغيبا في الحرص عليه، فقال :
( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) لا ينقص من له حقّ شيئا من حقّه من الثواب أو العوض، ولا يفعل به ما لا يستحقّه من العقاب، بل الأمور جارية على مقتضى العدل. وذلك قوله:( وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .
( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) )
ثمّ ذكر حال أوليائه بقوله:( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ) متلذّذون فرحون في النعمة. من الفكاهة. وفي تنكير «شغل» وإبهامه تعظيم لـما هم فيه من البهجة التامّة والتلذّذ الكامل، وتنبيه على أنّه أعلى ما تحيط به الأفهام، ويفسّر عن كنه الكلام، فلا يهتمّون بأهل النار ونكالهم، وإن كانوا أقاربهم.
وعن ابن مسعود وابن عبّاس: أنّهم شغلوا بافتضاض الأبكار. وهو المرويّ عن الصادقعليهالسلام .
وقيل: باستماع الألحان.
وقيل: شغلهم في الجنّة سبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء. فثواب الرجل بقوله:( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) (١) . وثواب اليد( يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً ) (٢) . وثواب الفرج( وَحُورٌ عِينٌ ) (٣) . وثواب البطن( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً ) (٤) وثواب اللسان( وَآخِرُ دَعْواهُمْ ) (٥) الآية. وثواب الأذن( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً ) (٦) .
وثواب العين( وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) (٧) .
وقرأ ابن كثير ونافع: في شغل بالسكون. ويعقوب في رواية: فكهون، للمبالغة. وهما خبران لـ «إنّ». ويجوز أن يكون «في شغل» صلة لـ «فاكهون».
( هُمْ وَأَزْواجُهُمْ ) وحلائلهم في الدنيا ممّن وافقهم على إيمانهم. أو أزواجهم اللّاتي زوّجهم الله تعالى من الحور العين.( فِي ظِلالٍ ) جمع ظلّ، كالشعاب جمع الشعب. أو ظلّة، كقلال وقلّة. ويؤيّده قراءة حمزة والكسائي: في ظلل.( عَلَى
__________________
(١) الحجر: ٤٦.
(٢) الطور: ٢٣.
(٣) الواقعة: ٢٢.
(٤) الطور: ١٩.
(٥) يونس: ١٠.
(٦) مريم: ٦٢.
(٧) الزخرف: ٧١.
الْأَرائِكِ ) على السرر المزيّنة. جمع الأريكة. وهي السرير في الحجلة.( مُتَّكِؤُنَ ) جالسون جلوس الملوك.
و «هم» مبتدأ، خبره «في ضلال». و «على الأرائك» جملة مستأنفة، أو خبر ثان. أو «متّكؤن»، والجارّان صلتان له. أو «هم» تأكيد للضمير في «شغل»، أو في «فاكهون». و «على الأرائك متّكئون» خبر آخر. و «أزواجهم» عطف على «هم» لأنّهم يشاركنهم في الأحكام الثلاثة، أعني: الفكاهة والظلال والاتّكاء. و «في ظلال» حال من المعطوف ـ وهو: أزواجهم ـ والمعطوف عليه، وهو ضمير «هم».
( لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ) ما يدّعون به لأنفسهم. يفتعلون من الدعاء، كاشتوى إذا شوى لنفسه. أو ما يتداعونه، كقولك: ارتموه، بمعنى: تراموه. أو يتمنّون، من قولهم: ادّع عليّ ما شئت، بمعنى: تمنّه عليّ. أو ما يدعونه في الدنيا من الجنّة ودرجاتها.
و «ما» موصولة، أو موصوفة، مرتفعة بالابتداء، و «لهم» خبرها. وقوله:( سَلامٌ ) بدل منها، أو صفة اخرى.
وقيل: «ما يدّعون» مبتدأ، وخبره «سلام» بمعنى: ولهم ما يدّعون خالص لا شوب فيه. أو خبر محذوف. أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: القول بينهم سلام.
( قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) أي: يقول الله. أو يقال لهم قولا كائنا من جهته.
والمعنى: أنّ الله يسلّم عليهم بواسطة الملائكة تعظيما لهم، وذلك مطلوبهم ومتمنّاهم.
وعن ابن عبّاس: الملائكة يدخلون عليهم بالتحيّة من ربّ العالمين، فيقولون: سلام عليكم من ربّكم الرحيم. ويحتمل نصبه على الاختصاص.
( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) )
ثمّ ذكر سبحانه أهل النار، فقال:( وَامْتازُوا الْيَوْمَ ) وانفردوا اليوم عن المؤمنين( أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) معاشر العصاة. وذلك حين يسار بهم إلى الجنّة. ونحوه قوله:( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ) (١) .
وقيل: اعتزلوا من كلّ خير. أو تفرّقوا في النار، فإنّ لكلّ كافر بيتا ينفرد به، لا يرى ولا يرى.
ثمّ خصّهم سبحانه بالتوبيخ، فقال:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) تقريعا لهم، وإلزاما للحجّة. وعهده إليهم ما نصب لهم من الحجج العقليّة والسمعيّة، الآمرة بعبادته، الزاجرة عن عبادة غيره. وجعلها عبادة الشيطان لأنّه الآمر بها والمزيّن لها( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ظاهر عداوته، فإنّه يدعوكم إلى ما فيه هلاكك.
__________________
(١) الروم: ١٤.
( وَأَنِ اعْبُدُونِي ) عطف على «أَنْ لا تَعْبُدُوا »( هذا ) إشارة إلى ما عهد إليهم، أو إلى عبادة الله( صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) إلى الجنّة. والجملة استئناف لبيان المقتضي للعهد بشقّيه، أو بالشقّ الآخر. والتنكير للمبالغة والتعظيم، أي: صراط بليغ في استقامته، جامع لكلّ شرط يجب أن يكون عليه. أو للتبعيض، فإنّ التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم.
ثمّ رجع إلى بيان معاداة الشيطان بقوله:( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً ) خلقا كثيرا، بأن دعاهم إلى الإغواء والإضلال. وقرأ يعقوب بضمّتين(١) . وابن كثير وحمزة والكسائي بهما مع تخفيف اللام. وابن عامر وأبو عمرو بضمّة وسكون مع التخفيف. والكلّ لغات.( أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) فإنّه وضح إضلاله لمن له أدنى عقل ورأي. وفي هذا بطلان مذهب أهل الجبر في أنّ الله سبحانه أراد إضلالهم.
( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) بها في دار التكليف، حاضرة لكم تشاهدونها( اصْلَوْهَا الْيَوْمَ ) الزموا العذاب بها، وذوقوا حرّها. وأصل الصلاء: اللزوم. ومنه المصلّي الّذي يجيء في أثر السابق، للزومه أثره.( بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) بكفركم في الدنيا.
( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ) نمنعها عن الكلام، فلا يقدرون على التكلّم( وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ) بما عملوا( وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) بظهور آثار المعاصي عليها، ودلالتها على أفعالها. فسمّي ذلك شهادة منها، كما تقول: عيناك تشهدان بسهرك، أو بإنطاق الله إيّاها. وفي الحديث: أنّهم يجحدون ويخاصمون فيختم على أفواههم، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله.
ثمّ أخبر سبحانه عن قدرته على إهلاك هؤلاء الكفّار الّذين جحدوا وحدانيّته، فقال تهديدا لهم :
__________________
(١) أي: جبلّا.
( وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ ) لمسحنا أعينهم، حتّى تصير ممسوحة ممحوّا أثرها( فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ ) فاستبقوا إلى الطريق الّذي اعتادوا سلوكه.
وانتصابه بنزع الخافض. أو بتضمين الاستباق معنى الابتدار. أو جعل المسبوق إليه مسبوقا على الاتّساع. أو بالظرف.( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) الطريق وجهة السلوك، فضلا عن غيره؟
وعن ابن عبّاس: معنى الآية: ولو نشاء لأعميناهم عن الهدى، فطلبوا طريق الحقّ وقد عموا عنه، فكيف يبصرون؟
( وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ ) بتغيير صورهم، وإبطال قواهم، كالحجارة( عَلى مَكانَتِهِمْ ) أي: مكانهم الّذي هم فيه قعود. والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. وقرأ أبو بكر: مكاناتهم.( فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ) ذهابا( وَلا يَرْجِعُونَ ) ولا رجوعا. فوضع الفعل موضعه للفواصل. وقيل: ولا يرجعون عن تكذيبهم.
والمعنى: أنّهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقّاء بأن يفعل بهم ذلك، لكنّا لم نفعل لشمول الرحمة لهم، واقتضاء الحكمة إهمالهم.
وعن ابن عبّاس: معناه: لمسخناهم قردة وخنازير.
وعن قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم وأزمنّاهم(١) .
( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ ) ومن نطل عمره( نُنَكِّسْهُ ) نقلّبه( فِي الْخَلْقِ ) فلا يزال يتزايد ضعفه، وانتقاض بنيته وقواه، عكس ما كان عليه بدء أمره. وابن كثير يشبع ضمّة الهاء على أصله. وقرأ عاصم وحمزة: ننكّسه، من التنكيس. وهو أبلغ. والنكس أشهر.
والملخّص: إنّا نقلّبه فنخلقه على عكس ما خلقناه قبلا، بأن خلقناه على ضعف في جسده، وخلوّ من عقل وعلم، ثمّ جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى
__________________
(١) أزمن الله فلانا: ابتلاه بالزمانة.
حال، ويرتقي من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشدّه، ويستكمل قوّته، ويعلم ماله وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبيّ، في ضعف جسده وقلّة عقله وخلوّه من العلم، كما ينكس السهم، فيجعل أعلاه أسفله. ومثل ذلك قوله تعالى:( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) (١) .( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) (٢) .
( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) أنّ من قدر على أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم، ومن القوّة إلى الضعف، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلّة التمييز، ومن العلم إلى الجهل، قادر على أن يطمس على أعينهم، ويمسخهم على مكانتهم، ويفعل بهم ما شاء وأراد. فلم لا يتدبّرون في أنّ الله تعالى يقدر على الإعادة كما قدر على ذلك؟
( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) )
ولـمّا ذكر أدّلة وحدانيّته وكمال قدرته، شرع في بيان رسالة رسوله، ردّا لقولهم: إنّ محمدا شاعر ليس برسول، فقال تأكيدا لقوله:( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٣) :( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ) بتعليم القرآن، فإنّه غير مقفّى ولا موزون، ولا يكون نظمه كنظمه، ولا أسلوبه كأسلوبه، وليس معناه ممّا يتوخّاه الشعراء من التخيّلات المرغّبة والمنفّرة، فأين هو عن الشعر؟
( وَما يَنْبَغِي لَهُ ) وما يصحّ له الشعر، ولا يتطلّب لو طلبه، أي: جعلناه
__________________
(١) النحل: ٧٠.
(٢) التين: ٥.
(٣) يس: ٣.
بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأتّ له ولم يتسهّل، كما جعلناه أمّيّا لا يتهدّى للخطّ ولا يحسنه، لتكون الحجّة أثبت، والشبهة أدحض.
وعن الخليل: كان الشعر أحبّ إلى رسول الله من كثير من الكلام، ولكن كان لا يتأتّى له وما كان يتّزن له بيت شعر، حتّى إذا تمثّل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا. كما روي عن الحسن: أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم كان يتمثّل بهذا البيت: كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا. فقال أبو بكر: يا رسول الله إنّما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا. أشهد أنّك رسول الله، وما علّمك الشعر، وما ينبغي لك.
وعن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم يتمثّل ببيت أخي بني قيس :
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا |
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد |
فجعل يقول: من لم تزوّد بالأخبار. فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله. فيقول: إنّي لست بشاعر، وما ينبغي لي.
وأمّا قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم :
أنا النبيّ لا كذب |
أنا ابن عبد المطّلب |
وقولهصلىاللهعليهوآلهوسلم حين اصابه حجر فعثر فدميت إصبعه :
هل أنت إلّا إصبع دميت |
وفي سبيل الله ما لقيت |
اتّفاقيّ من غير تكلّف وقصد منه إلى ذلك. وقد يقع كثيرا في تضاعيف المنثورات ـ من الخطب والرسائل والمحاورات ـ أشياء موزونة لا يسمّيها أحد شعرا، ولا يخطر ببال المتكلّم ولا السامع أنّه شعر. على أنّ الخليل ما أعدّ المشطور من الرجز شعرا. هذا وقد روي: أنّه حرّك الباءين(١) وكسر التاء الأولى بلا إشباع، وسكّن الثانية.
__________________
(١) أي: الباءين من: كذب، عبد المطّلب. والتاء من: دميت، لقيت.
وقيل: الضمير للقرآن، أي: وما يصحّ للقرآن أن يكون شعرا.
( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ) عظة وإرشاد من الله( وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) وكتاب سماويّ يتلى في المعابد، ظاهر أنّه ليس كلام البشر، لـما فيه من الإعجاز.
( لِيُنْذِرَ ) القرآن أو الرسول من معاصي الله. ويؤيّده قراءة نافع وابن عامر ويعقوب بالتاء.( مَنْ كانَ حَيًّا ) عاقلا متأمّلا، فإنّ الغافل كالميّت. أو مؤمنا في علم الله، فإنّ الحياة الأبديّة بالإيمان. وتخصيص الإنذار بمن كان حيّا، لأنّه المنتفع به.
( وَيَحِقَّ الْقَوْلُ ) وتجب كلمة العذاب( عَلَى الْكافِرِينَ ) المصرّين على الكفر.
وجعلهم في مقابلة من كان حيّا، إشعار بأنّهم لكفرهم وعدم تأمّلهم أموات في الحقيقة.
( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) )
ثمّ عاد الكلام إلى ذكر الأدّلة على التوحيد، فقال:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا ) ممّا تولّينا إحداثه، ولم يقدر على إحداثه غيرنا. وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها، استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص والتفرّد بالإحداث، كقول الواحد منّا: عملت هذا بيدي، أي: انفردت فيه من غير إعانة معين.
( أَنْعاماً ) خصّها بالذكر، لـما فيه من بدائع الفطرة وكثرة المنافع( فَهُمْ لَها مالِكُونَ ) متملّكون بتمليكنا إيّاها. أو متمكّنون من ضبطها، متصرّفون فيها تصرّف الملّاك بتسخيرنا إيّاها لهم، كقوله :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا |
أملك رأس البعير إن نفرا |
أي: لا أضبطه.
( وَذَلَّلْناها لَهُمْ ) صيّرناها منقادة لهم( فَمِنْها رَكُوبُهُمْ ) مركوبهم( وَمِنْها يَأْكُلُونَ ) أي: ما يأكلون لحمه( وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ ) من الجلود والأصواف والأوبار وغير ذلك( وَمَشارِبُ ) من اللبن. جمع مشرب، بمعنى موضع الشرب، أو المصدر.
ذكرها مجملة، وقد فصّلها في قوله:( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً ) (١) الآية.
وأمال الشين ابن عامر وحده برواية هشام.( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) نعم الله في ذلك، إذ لولا خلقه لها وتذليله إيّاها، كيف أمكن التوسّل إلى تحصيل هذه المنافع المهمّة؟
ثمّ ذكر سبحانه جهلهم فقال:( وَاتَّخَذُوا ) وعبدوا( مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً ) أي: أشركوها به في العبادة بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة، وعلموا أنّه المتفرّد بها( لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ) رجاء أن ينصروهم فيما حزبهم(٢) من الأمور، والأمر على عكس ما قدّروا، لأنّهم( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ) ودفع الحزن عنهم( وَهُمْ لَهُمْ ) لآلهتهم( جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) معدّون، يخدمونهم ويذبّون عنهم. أو اتّخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهّموا، حيث هم محضرون إثرهم في النار، فإنّ كلّ حزب مع ما عبدوه من الأوثان في النار، فلا الجند يدفعون عنها الإحراق، ولا هي تدفع عنهم العذاب. وهذا كما قال سبحانه :
__________________
(١) النحل: ٨٠.
(٢) أي: أصابهم واشتدّ عليهم.
( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (١) .
( فَلا يَحْزُنْكَ ) فلا يهمّنّك( قَوْلُهُمْ ) في الله بالإلحاد والشرك. أو فيك بالتكذيب والتهجين.( إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ) فنجازيهم عليه، وكفى ذلك أن تتسلّى به. وهو تعليل للنهي على الاستئناف، فلذلك لو قرئ: أنّا بالفتح، على حذف لام التعليل، جاز.
( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣) )
روي: أنّ أبا لهب أو العاص بن وائل، جاء بعظم بال يفتّته بيده، وقال: يا محمّد أتزعم أنّ الله يحيي هذا بعد ما رمّ؟ فقالصلىاللهعليهوآلهوسلم نعم، ويبعثك ويدخلك في النار، فنزلت :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ) ثمّ نقلناه من النطفة إلى العلقة، ومنها
__________________
(١) الأنبياء: ٩٨.
إلى المضغة، ومنها إلى العظم، ومنه إلى أن جعلناه خلقا سويّا. ثمّ جعلنا فيه الروح، وأخرجناه من بطن أمّه، ثمّ نقلناه من حال إلى حال، حتّى كمل عقله، وصار متكلّما خصيما. وذلك قوله:( فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) أي: مخاصم ذو بيان. فمن قدر على جميع ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة، وهي أسهل من الإنشاء والابتداء؟
وهذا تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر. وفيه تقبيح بليغ لإنكاره، حيث عجّب الله منه، وجعله إفراطا في الخصومة بيّنا. ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون ممّا عمله في بدء خلقه. ومقابلة النعمة الّتي لا مزيد عليها ـ وهي خلقه من أخسّ شيء وأمهنه شريفا مكرّما ـ بالعقوق والتكذيب.
وقيل: معناه: فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا، رجل مميّز منطيق قادر على الخصام، معرب عمّا في نفسه، فصيح.
ثمّ أكّد سبحانه الإنكار عليه، فقال:( وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً ) أمرا عجيبا. وهو إنكار قدرتنا على إحياء الموتى. أو تشبيهنا بخلقنا، لوصفنا بالعجز عمّا عجزوا عنه.( وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) خلقنا إيّاه.
ثمّ بيّن ذلك المثل بقوله:( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) منكرا إيّاه، مستبعدا له. والرميم ما بلي من العظام. ولعلّه فعيل بمعنى فاعل، من: رمّ الشيء.
صار اسما بالغلبة، ولذلك لم يؤنّث. أو بمعنى مفعول، من: رممته. والمراد بإحياء العظام في الآية ردّها إلى ما كانت عليه غضّة رطبة في بدن حيّ حسّاس، لا بمعنى أنّ العظم ذو حياة، فيؤثّر فيه الموت كسائر الأعضاء. ولهذا عندنا وعند أبي حنيفة طاهر. وكذلك الشعر والوبر والصوف، وسائر ما لا تحلّه الحياة. والشافعي يقول: إنّ العظم ذو حياة، فيؤثّر فيه الموت. ولذلك عنده عظام الميتة نجسة.
( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) لأنّ من قدر على اختراع ما يبقى فهو
على إعادته قادر لا محالة( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) يعلم تفاصيل المخلوقات وكيفيّة خلقها. فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتّتة، المتبدّدة أصولها وفصولها ومواقعها، وطريق تمييزها، وضمّ بعضها إلى بعض على النمط السابق، وإعادة الأعراض والقوى الّتي كانت فيها، أو إحداث مثلها.
ثمّ زاد سبحانه في البيان بقوله:( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ) مع مضادّة النار الماء، وانطفائها به. وهي الزناد الّتي تورى بها الأعراض. وأكثرها من المرخ(١) والعفار، بأن يسحق المرخ ـ الّذي هو ذكر ـ على العفار الّتي هي أنثى، وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فتنقدح النار. وعن ابن عبّاس: ليس من شجرة إلّا وفيها نار إلّا العنّاب.( فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) لا تشكّون في أنّها نار تخرج منه.
فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائيّة المضادّة لها بكيفيّتها، كان أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضّا فيبس وبلى.
ثمّ ذكر من خلقه ما هو أعظم من الإنسان، فقال:( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) مع كبر جرمهما وعظم شأنهما( بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) في الصغر والحقارة بالإضافة إليهما. أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها، وهو المعاد.
وعن يعقوب: يقدر. والهمزة للتقرير. يعني: من قدر على خلق السماوات والأرض واختراعهما، مع عظمهما وكثرة أجرامهما، ليقدر على إعادة خلق البشر.
ثمّ أجاب لتقرير ما بعد النفي بقوله:( بَلى ) مشعرا بأنّه لا جواب سواه( وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) كثير المخلوقات والمعلومات.
ثمّ ذكر سبحانه قدرته على إيجاد الأشياء على وجه السهولة، فقال:( إِنَّما أَمْرُهُ ) إنّما شأنه سبحانه( إِذا أَرادَ شَيْئاً ) إذا دعت حكمته إلى تكوين شيء
__________________
(١) المرخ: شجر رقيق سريع الوري يقتدح به. والعفار: شجر يتخذ منه الزناد. والزناد جمع الزند، وهو العود الأعلى الذي يقتدح به النار.
( أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) فهو يكون، أي: يحدث من غير توقّف. وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور، من غير امتناع وتوقّف، وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، قطعا لمادّة الشبهة، وهي قياس قدرة الله على قدرة الخلق. ونصبه الكسائي عطفا على «يقول».
ثمّ نزّه ذاته عمّا ضربوا له، وعجّبهم عمّا قالوا فيه، فقال:( فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) معلّلا بكونه مالكا للملك، قادرا على كلّ شيء( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي: تردّون إلى حيث لا يملك الأمر والنهي أحد سواه، وهو يوم القيامة، فيجازيكم بالثواب والعقاب على الطاعات والمعاصي على قدر أعمالكم. وهذا وعد ووعيد للمقرّين والمنكرين. وقرأ يعقوب بفتح التاء، من: رجع.
(٣٧)
سورة الصافّات
مكّيّة. وهي مائة واثنتان وثمانون آية. عن أبيّ بن كعب عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ سورة الصافّات أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ جنّي وشيطان، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرىء من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين».
وروى الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «من قرأ سورة الصافّات في كلّ يوم جمعة، لم يزل محفوظا من كلّ آفة، مدفوعا عنه كلّ بليّة في الحياة الدنيا، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق، ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم، ولا من جبّار عنيد. وإن مات في يومه أو ليلته، بعثه الله شهيدا، وأماته شهيدا، وأدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ
(٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) )
واعلم أنّه سبحانه افتتح هذه السورة بمثل ما اختتم به سورة يس من ذكر البعث، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) أقسم بالملائكة الصافّين أقدامهم في مقام العبوديّة على مراتب، باعتبارها تفيض عليهم الأنوار الإلهيّة، منتظرين لأمر الله. ومثله قوله:( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) (١) . أو الصّافّين أجنحتهم في الهواء.
( فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ) فالزاجرين السحاب سوقا. أو جميع الأجرام العلويّة والسفليّة بالتدبير المأمور به فيها. أو الناس عن المعاصي بإلهام الخير. أو الشياطين عن التعرّض لهم.( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) فالتالين آيات الله، من الكتب المنزلة ـ وغيرها من جلايا قدسه ـ على أنبيائه وأوليائه.
وقيل: أقسم الله بنفوس العلماء الصافّين في الصلوات بالجماعة، الزاجرين عن الكفر والمعاصي بالحجج والنصائح، التالين آيات الله، والدارسين شرائعه.
وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «أقسم الله سبحانه بنفوس الغزاة الصافّين في الجهاد، الزاجرين الخيل أو العدوّ، التالين ذكر الله، لا يشغلهم عنه مباراة العدوّ».
__________________
(١) الصافّات: ١٦٥.
ويحتمل أن يقسم الله سبحانه بطوائف الأجرام المرتّبة كالصفوف المرصوصة، والأرواح المدبّرة لها، والجواهر القدسيّة المستغرقة في بحار القدس، الزاجرين أنفسهم عمّا يبعّدهم عن امتثال أوامر الله، يسبّحون الليل والنهار لا يفترون.
والعطف لاختلاف الذوات أو الصفات. والفاء لترتيب الوجود، كقوله: يا لهف زيّابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب. كأنّه قال: الّذي صبح فغنم فآب. فهنا الصفّ كمال، والزجر تكميل بالمنع عن الشرّ، أو الإشاقة إلى قبول الخير، والتلاوة إفاضته.
أو الفاء للرتبة، كقولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «رحم الله المحلّقين فالمقصّرين».
غير أنّه لفضل المتقدّم على المتأخّر، وهذا للعكس، فإنّ الطوائف الصافّات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلا.
وإنّما لم يقل: فالتاليات تلوا، كما قال:( فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ) لأنّ التالي قد يكون بمعنى التابع، ومنه قوله تعالى:( وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها ) (١) ، فلمّا كان اللفظ مشتركا بيّنه بما يزيل الإبهام.
وأدغم أبو عمرو وحمزة التاءات فيما يليها لتقاربها، فإنّها من طرف اللسان وأصول الثنايا.
( إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ) جواب للقسم. والفائدة فيه تعظيم المقسم به، وتأكيد المقسم عليه، لـما فيها من الدلالة على توحيده وصفاته العلى.
ثمّ حقّق مضمون المقسم عليه بقوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) أي: خالقهما ومدبّرهما( وَما بَيْنَهُما ) من سائر الأجناس، من الحيوانات والنباتات والجمادات( وَرَبُّ الْمَشارِقِ ) فإنّ وجود هذه الأمور وانتظامها على الوجه الأكمل مع إمكان غيره، دليل على وجود الصانع الحكيم ووحدته، على ما مرّ غير مرّة. و «ربّ» بدل
__________________
(١) الشمس: ٢.
من «واحد»، أو خبر ثان، أو خبر محذوف. والمشارق مشارق الكواكب، أو مشارق الشمس في السنة. وهي ثلاثمائة وستّون مشرقا، تشرق كلّ يوم في واحد، وبحسبها تختلف المغارب، ولذلك اكتفى بذكرها. مع أنّ الشروق أدلّ على القدرة، وأبلغ في النعمة، وأسبق في الوجود.
( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا ) القربى( بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) بزينة هي الكواكب. والإضافة بيانيّة، فإنّ الزينة مبهمة. ويؤيّده قراءة حمزة ويعقوب وحفص بتنوين «زينة» وجرّ «الكواكب» على إبدالها منه.
أو بزينة هي للكواكب، كأضوائها ومطالعها ومسايرها وأشكالها المختلفة، كشكل الثريّا وبنات النعش والجوزا والعقرب وغيرها. أو بأن زيّنّا الكواكب فيها، على إضافة المصدر إلى المفعول، فإنّها كما جاءت اسما كالليقة(١) لـما يلاق، جاءت مصدرا كالنسبة. ويؤيّده قراءة أبي بكر بالتنوين والنصب على الأصل.
أو بأن زيّنتها الكواكب، على إضافته إلى الفاعل. وركوز الثوابت في الكرة الثامنة، وما عدا القمر من السيّارات في الستّ المتوسّطة بينها وبين السماء الدنيا، إن تحقّق لم يقدح في ذلك، فإنّ أهل الأرض يرونها بأسرها، كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة. فتخصيصها بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة.
والتزيين عبارة عن تحسين الشيء، وجعله على صورة تميل إليها النفس. فالله سبحانه زيّن السماء على وجه تمتّع الرائي لها. وفي ذلك أعظم النعمة على العباد، مع ما لهم من المنفعة بالتفكير فيها، والاستدلال بها على صانعها.
( وَحِفْظاً ) منصوب بإضمار فعله، أي: حفظناها حفظا. أو معطوف على «زينة» باعتبار المعنى. كأنّه قال: إنّا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا( مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ) متمرّد خبيث خال من الخير خارج عن الطاعة برمي الشهب، أي :
__________________
(١) الليقة: صوفة الدواة، أو إذا بلّت.