زبدة التفاسير الجزء ٥

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
المشاهدات: 15841
تحميل: 3447


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15841 / تحميل: 3447
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 5

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-07-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ورهطي، وإنّ الله لم يبعث نبيّا إلّا جعل له أخا ووزيرا ووارثا ووصيّا وخليفة في أهله، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي ووارثي ووزيري ووصيّي، ويكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟ فسكت القوم. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليقومنّ قائمكم، أو ليكوننّ في غيركم ثمّ لتندمنّ.

ثمّ أعاد الكلام ثلاث مرّات. فقام عليّعليه‌السلام فبايعه وأجابه. ثمّ قال: ادن منّي.

فدنا منه، ففتح فاه ومجّ(١) في فيه من ريقه، وتفل بين كتفيه وثدييه.

فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمّك أن أجابك، فملأت فاه ووجهه بزاقا.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ملأته حكمة وعلما.

وعن ابن عبّاس قال: لـمّا نزلت الآية صعد رسول الله على الصفا، فقال: يا صباحاه. فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ قال: أرأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم، ما كنتم تصدّقونني؟ قالوا: بلى. قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تبّا لك ألهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل اللهعزوجل ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ ) إلى آخر السورة.

وروي: أنّه لـمّا نزلت صعد الصفا وناداهم فخذا فخذا حتّى اجتمعوا إليه، فقال: «لو أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا: نعم. قال: فإنّي لكم نذير بين يدي عذاب شديد».

( وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ليّن جانبك لهم. وهذا مستعار من: خفض الطائر إذا أراد أن ينحطّ، فإنّ الطائر إذا أراد أن ينحطّ كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه. فجعل خفض جناحه عند

__________________

(١) أي: رمى وقذف.

٦١

الانحطاط مثلا في التواضع ولين الجانب.

و «من» للتبيين، لأنّ من اتّبع أعمّ ممّن اتّبع لدين أو غيره. أو للتبعيض، على أنّ المراد من المؤمنين المشارفون للإيمان، أو المصدّقون باللسان، فإنّ المؤمنين المصدّقين بألسنتهم صنفان: صنف صدّق واتّبع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما جاء به، وصنف ما وجد منه إلّا التصديق فحسب، وهم المنافقون والفاسقون، وهما لا يخفض لهما الجناح.

( فَإِنْ عَصَوْكَ ) ولم يتّبعوك فيما تدعوهم إليه( فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) ممّا تعملونه. أو من أعمالكم القبيحة، من الشرك وغيره.

( وَتَوَكَّلْ ) وفوّض أمرك( عَلَى الْعَزِيزِ ) الّذي يقدر على قهر أعدائه( الرَّحِيمِ ) الّذي يقدر على نصر أوليائه، يكفك شرّ من يعصيك منهم ومن غيرهم. والتوكّل: عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضرّه.

وقرأ نافع وابن عامر: فتوكّل، على الإبدال من جواب الشرط.

( الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ) إلى التهجّد. أو إلى الصلاة بالناس جماعة. أو تقوم للإنذار وأداء الرسالة.( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) في المصلّين، وتردّدك في تصفّح أحوال المتهجّدين. كما روي: أنّه لـمّا نسخ فرض قيام الليل، طافصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، حرصا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لـمّا سمع منها من دندنتهم(١) بذكر الله وتلاوة القرآن.

وقيل: معناه: تصرّفك فيما بين المصلّين بالقيام والركوع والسجود إذا أممتهم.

__________________

(١) دندن الرجل: نغّم ولم يفهم منه كلام.

٦٢

أو تقلّبك في أصلاب الموحّدين، حتّى أخرجك نبيّا من صلب أبيك، من نكاح غير سفاح، من لدن آدمعليه‌السلام . وهو المرويّ عن أئمّة الهدىعليهم‌السلام .

قال النيشابوري: «قد احتجّ بالآية علماء الشيعة في مذهبهم أنّ آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكونون كفّارا. قالوا: أراد: تقلّب روحه من ساجد إلى ساجد، كما في الحديث المعتمد عليه عندهم: «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات». وناقشهم أهل السنّة في التأويل المذكور، وفي صحّة الحديث. والأصوب عندي أن لا نشتغل بمعنى أمثال هذه الدعوى، ونسرح إلى بقعة الإمكان. على أنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول»(١) . انتهى كلامه، وما أنصفه.( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ) لـما تقوله( الْعَلِيمُ ) بما تنويه.

( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) )

ولـمّا أخبر الله سبحانه أنّ القرآن ليس ممّا تتنزّل به الشياطين، وأنّه وحي من الله، عقّبه بذكر من تنزّل عليه الشياطين، فقال:( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ * تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) أي: يتنزّل على كلّ كذّاب فاجر، كثير الإثم، عامل بالمعاصي. وهم الكهنة. وقيل: طليحة ومسيلمة. وأنت لست بكذّاب ولا أثيم، فلا تتنزّل عليك الشياطين، بل تتنزّل عليك الملائكة.

وإنّما دخل حرف الجرّ على «من» المتضمّنة لمعنى الاستفهام، والاستفهام له

__________________

(١) تفسير غرائب القرآن ٥: ٢٨٨.

٦٣

صدر الكلام، كقولك: أعلى زيد مررت؟ ولا تقول: على أزيد مررت؟ لأنّ «من» دالّ على معنيين معا: معنى الاسم، ومعنى الحرف. وأصله: أمن، فحذف حرف الاستفهام، واستمرّ الاستعمال على حذفه، كما حذف من «هل» والأصل: أهل. فإذا دخل حرف الجرّ على «من» فقدّر الهمزة قبل حرف الجرّ، كأنّك تقول: أعلى من تنزّل الشياطين؟ كما تقول: أعلى زيد مررت؟

( يُلْقُونَ السَّمْعَ ) يلقي الشياطين ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى أوليائهم، وهم الكهنة والكذّابون، ويخلطون به كثيرا من الأكاذيب، ويوحونه إليهم( وَأَكْثَرُهُمْ ) وأكثر الشياطين الأفّاكين الآثمين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقّون وحيهم إليهم( كاذِبُونَ ) فيما يلقون إلى الكهنة، لأنّهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، أي: لا على نحو ما تكلّمت به الملائكة، لشرارتهم، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو أفهامهم. أو أكثر الأفّاكين كاذبون، يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم.

وفي الحديث: «الكلمة يتخطّفها الجنّي فيقرّها في أذن وليّه، فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة». والقرّ: الصبّ.

قال الحسن: هم الّذين يسترقون السمع من الملائكة فيلقون إلى الكهنة.

وهذا قبل أن يوحى إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد ذلك فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.

وقيل: المراد بالأكثر الكلّ، لقوله:( كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) . والأظهر أنّ الأكثريّة باعتبار أقوالهم، على معنى أنّ هؤلاء قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجنّي.

والحاصل: أنّ الله سبحانه بيّن أنّ محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصلح أن تتنزّل الشياطين عليه من وجهين :

أحدهما: أنّه إنّما يكون تنزّلهم على كلّ شرّير كذّاب كثير الإثم، فإنّ اتّصال الإنسان بالغائبات لـما بينهما من التناسب والتوادّ، وحال محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٦٤

على خلاف ذلك.

وثانيهما: أنّ الأفّاكين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقّون منهم ظنونا وأمارات، لنقصان علمهم، فيضمّون إليها على حسب تخيّلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها الواقع. ولا كذلك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه أخبر عن مغيّبات كثيرة لا تحصى، وقد طابق كلّها.

واعلم أنّ محلّ «يلقون» يجوز أن يكون نصبا على الحاليّة، أيّ: تنزّل ملقين السمع. أو جرّا صفة لـ «كلّ أفّاك» لأنّه في معنى الجمع. ويحتمل أن لا يكون له محلّ من الإعراب، بأن يكون كلاما مستأنفا، كأنّ قائلا قال: لم تنزّل على الأفّاكين؟ فقيل: يلقون السمع إلخ.

( وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧) )

روي: أنّ شعراء المشركين من قريش، مثل عبد الله بن الزبعري السهمي، وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف الجمحي، وأبو عزّة عمرو بن عبد الله، ومن ثقيف أميّة بن أبي الصلت، تكلّموا بالكذب والباطل، وقالوا: نحن نقول مثل ما قال محمّد. وكانوا يهجونه وأصحابه في الشعر. واجتمع إليهم غواة من قومهم، يستمعون أشعارهم، ويروون عنهم أهاجيهم، فنزلت :

٦٥

( وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ ) على أباطيلهم، وأكاذيبهم، وفضول كلامهم، وما هم عليه من الهجاء. وقرأ نافع: يتبعهم بالتخفيف.( الْغاوُونَ ) السفهاء والشطّار(١) . وقيل: الشياطين. وأتباع محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسوا كذلك. وهذا استئناف يبطل كونه شاعرا.

وقرّره بقوله:( أَـ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ ) في كلّ فنّ من الكذب يتكلّمون، وفي كلّ لغو يخوضون، فيمدحون ويذمّون بالباطل.

والمعنى: أنّهم لـما يغلب عليهم من الهوى كالهائم على وجهه في كلّ واد يعنّ له، فيخوضون في كلّ فنّ من الكلام والمعاني الّتي تعنّ لهم. فالوادي مثل لفنون كلامهم. وهيمانهم فيه قولهم على الجهل بما يقولون من لغو وباطل، وغلوّ في مدح وذمّ، فإنّ أكثر مقدّماتهم خيالات لا حقيقة لها، وأغلب كلامهم في النسيب(٢) بالحرم، والغزل والابتهار، وتمزيق الأعراض، والقدح في الأنساب، والوعد الكاذب، والافتخار بالباطل، ومدح من لا يستحقّه، والإطراء فيه، حتّى يفضّلوا أجبن الناس على أشجعهم، وأشحّهم على أسخاهم، ويبهتوا(٣) البريء، ويفسّقوا التقيّ. وإليه أشار بقوله:( وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ ) .

ولـمّا كان إعجاز القرآن من جهة المعنى واللفظ، وقد قدحوا في المعنى بأنّه ممّا تنزّلت به الشياطين، وفي اللفظ بأنّه من جنس كلام الشعراء، تكلّم في القسمين، وبيّن منافاة القرآن لهما، ومضادّة حال الرسول لحال أربابهما.

روى العيّاشي بالإسناد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «هم قوم تعلّموا وتفقّهوا بغير

__________________

(١) الشطّار جمع الشاطر، وهو المتّصف بالدهاء والخباثة.

(٢) نسب نسيبا الشاعر بالمرأة: شبّب بها في شعره وتغزّل. والحرم: النساء. والابتهار: القذف بالبهتان، ودعوى الشيء كذبا.

(٣) أي: يتّهموا.

٦٦

علم، فضلّوا وأضلّوا».

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم: «إنّهم الّذين يغيّرون دين الله تعالى، ويخالفون أمره»(١) .

وقيل: هم القصّاص الّذين يكذبون في قصصهم، ويقولون ما يخطر ببالهم.

ثمّ استثنى الشعراء الصالحين المؤمنين منهم، الّذين يكثرون ذكر الله في الشعر، فقال:( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً ) أي: كانت أشعارهم في التوحيد والثناء على الله والرسول وآله، والحثّ على طاعته، والحكمة والموعظة والزهد، والآداب الحسنة، ومدح المؤمنين على طاعة الله.

( وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) بأن هجوا الكفّار الهاجين مكافحة لهجائهم المسلمين، وردءا(٢) وانتصارا ممّا يهجونهم، من غير اعتداء ولا زيادة على ما هو جواب، لقوله تعالى:( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (٣) .

قيل: المراد بالمستثنين: عبد الله بن رواحة، وحسّان بن ثابت، والكعبين: كعب بن مالك، وكعب بن زهير، والّذين كانوا ينافحون(٤) عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكافحون عنه، ويكافحون هجاة قريش.

وعن كعب بن مالك: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له: «اهجهم، فو الّذي نفسي بيده هو أشدّ عليهم من وقع النبل».

روى البخاري ومسلم في الصحيحين أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول لحسّان :

__________________

(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ٢: ١٢٥.

(٢) الردء: الناصر والعون.

(٣) البقرة: ١٩٤.

(٤) نافح عن فلان: دافع عنه.

٦٧

«اهجهم وروح القدس معك»(١) .

( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) أيّ منصرف ينصرفون، ومرجع يرجعون؟! لأنّ منصرفهم إلى النار. وفيه تهديد شديد بما لا شيء أهيب منه وأهول، ولا أنكى لقلوب المتأمّلين، ولا أصدع لأكباد المتدبّرين. وذلك لـما في «سيعلم» من الوعيد البليغ، وفي «الّذين ظلموا» من الإطلاق والتعميم، وفي( أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ـ أي: بعد الموت ـ من الإبهام والتهويل.

__________________

(١) صحيح البخاري ٨: ٤٥، صحيح مسلم ٤: ١٩٣٣ ح ١٥٣.

٦٨

(٢٧)

سورة النمل

وهي ثلاث وتسعون آية.

عن أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلّا الله».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الشعراء بذكر القرآن، افتتح هذه السورة بذكره أيضا، فقال :

٦٩

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * طس ) سبق(١) تفسيره، وقراءته بالتفخيم والإمالة( تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ ) إشارة إلى آي السورة( وَكِتابٍ مُبِينٍ ) إمّا اللوح. وإبانته من حيث إنّه خطّ فيه ما هو كائن، فهو يبيّنه للناظرين فيه. وتأخيره باعتبار تعلّق علمنا به. وتقديمه في الحجر(٢) باعتبار الوجود. وإمّا السورة أو القرآن. وإبانتهما لـما أودع فيهما من الحكم والأحكام، أو لوضوح إعجازهما. وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الاخرى. وتنكيره للتعظيم، كقوله:( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (٣) .

وقرأ نافع: وكتاب بالرفع، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.( هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) حالان من الآيات، أي: هادية من الضلالة إلى الحقّ بالبيان الأتمّ والبرهان الأكمل، ومبشّرة لهم بالجنّة والثواب. أو بدلان من الآيات. أو خبران آخران، أي: جمعت أنّها آيات، وأنّها هدى وبشرى. أو خبران لمحذوف، أي: هي هدى وبشرى.

ثمّ وصف المؤمنين بقوله:( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) بحدودها وواجباتها، ويداومون على أوقاتها( وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) ويخرجون ما يجب عليهم من الزكاة في أموالهم إلى من يستحقّها. وتخصيصهما بالذكر لمزيد شرفهما على سائر الأعمال البدنيّة والماليّة.

( وَهُمْ بِالْآخِرَةِ ) أي: البعث والجزاء( هُمْ يُوقِنُونَ ) لا يشكّون فيه. أو من جملة الصلة، والواو للحال أو للعطف. وتغيير النظم للدلالة على قوّة يقينهم وثباته، وأنّهم الأوحدون فيه. أو جملة اعتراضيّة، كأنّه قيل: وهؤلاء الّذين يؤمنون

__________________

(١) في أوّل سورة الشعراء، راجع ص: ٦.

(٢) الحجر: ١.

(٣) القمر: ٥٥.

٧٠

ويعلمون الصالحات هم الموقنون بالآخرة. ويدلّ عليه أنّه عقد جملة ابتدائيّة اسميّة، وكرّر فيها المبتدأ الّذي هو «هم»، فإنّهما يدلّان على الثبات والاختصاص.

والمعنى: وما يوقن بالآخرة حقّ الإيقان إلّا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، فإنّ تحمّل المشاقّ إنّما يكون لخوف العاقبة، والوثوق على المحاسبة.

ثمّ وصف من خالفهم، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ) أي: أعمالهم القبيحة. والفرق بين إسناد هذا التزيين إلى الله تعالى، وإلى الشيطان في قوله تعالى:( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) (١) أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإلى الله مجاز. وله طريقان في علم البيان. أحدهما: أن يكون من المجاز الّذي يسمّى الاستعارة. والثاني: أن يكون من المجاز الحكمي.

فالطريق الأوّل: أنّه لـمّا متّعهم بطول العمر وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتّباع شهواتهم وبطرهم، وإيثارهم الروح والترفّه، ونفارهم عمّا يلزمهم فيه من التكاليف الصعبة والمشاقّ المتعبة، فكأنّه زيّن لهم بذلك أعمالهم. وإليه أشارت الملائكة في قولهم:( وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ) (٢) .

والطريق الثاني: أنّ إمهاله الشيطان، وتخليته حتّى يزيّن لهم، ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه، لأنّ المجاز الحكمي يصحّحه بعض الملابسات.

وعن الحسن: أي أعمال الخير الّتي وجب عليهم أن يعملوها، زيّنّاها لهم بتعريض المثوبات عليها.

( فَهُمْ يَعْمَهُونَ ) عنها، لا يدركون ما يتبعها من ضرّ أو نفع. ويقرب منه قوله :

__________________

(١) العنكبوت: ٣٨.

(٢) الفرقان: ١٨.

٧١

( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) (١) . والعمه: التحيّر والتردّد، كما يكون حال الضالّ عن الطريق. وعن بعض الأعراب: أنّه دخل السوق وما أبصرها قطّ، فقال: رأيت الناس عمهين. أراد: متردّدين في أعمالهم وأشغالهم.

( أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ ) أي: شدّة العذاب وصعوبته، كالقتل والأسر يوم بدر( وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ) أشدّ الناس خسرانا، لفوات المثوبة، واستحقاق العقوبة.

( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ

__________________

(١) فصّلت: ١٧.

٧٢

آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) )

( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ ) لتؤتاه( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) أي: من عند أيّ حكيم وأيّ عليم. وهذا معنى مجيئهما نكرتين. والجمع بينهما ـ مع أنّ العلم داخل في الحكمة ـ لعموم العلم، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، والإشعار بأنّ علوم القرآن منها ما هي حكمة، كالعقائد والشرائع، ومنها ما ليس كذلك، كالقصص والإخبار عن المغيّبات.

وهذه الآية بساط وتمهيد لـما يريد أن يسوق بعدها من أقاصيص الأنبياء، وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه. ومن ذلك قصّة موسى، فإنّ فيها من الحكم العجيبة واللطائف الغريبة مزيّة فضل بالنسبة إلى أقاصيص اخرى، ولهذا قدّمها فقال:( إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً ) منصوب بمضمر، وهو: اذكر. كأنّه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه، واذكر قصّة موسى حين قال لأهله: إنّي أبصرت ورأيت نارا. ومنه اشتقاق الإنس، لأنّهم مرئيّون. وقيل: آنست أي: أحسست بالشيء من جهة يؤنس بها، وما أنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه. ويجوز أن ينصب بـ «عليم».

وروي: أنّه لم يكن مع موسىعليه‌السلام غير امرأته، وقد كنّى الله عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع، لأنّها قائمة مقام جماعة في الأنس بها والسكون إليها في الأمكنة الموحشة، فقال:( سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ ) أي: ما يخبر به عن حال الطريق، لأنّه كان قد ضلّه.

وذكر السين للدلالة على بعد المسافة، والوعد بالإتيان وإن أبطأ.( أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ

٧٣

قَبَسٍ ) أي: شعلة نار مقبوسة، فإنّ الشهاب شعلة نور كالعمود من النار، وكلّ نور يمتدّ مثل العمود يسمّى شهابا. وإضافته إلى القبس لأنّه قد يكون قبسا وغير قبس.

ونوّنه الكوفيّون ويعقوب على أنّ القبس بدل منه أو وصف له، لأنّه بمعنى المقبوس.

وهاتان العدتان على سبيل الظنّ، ولذلك عبّر عنهما بصيغة الترجّي في طه(١) والترديد هنا، للدلالة على أنّه إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما: إمّا هداية الطريق، وإمّا اقتباس النار، ثقة بعادة الله تعالى أنّه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده.

( لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) رجاء أن تستدفئوا بها. وذلك لأنّهم كانوا قد أصابهم البرد الشديد. والصلاء: النار العظيمة.

( فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ ) أي: بورك، فإنّ النداء فيه معنى القول، كأنّه قال: قيل له بورك. أو بأن بورك، على أنّها مصدريّة، أو مخفّفة من الثقيلة، والضمير ضمير الشأن. والتخفيف وإن اقتضى التعويض بـ «لا» أو «قد» أو السين أو سوف، لكنّه دعاء وهو يخالف غيره في أحكام كثيرة.

( مَنْ فِي النَّارِ ) من في مكان النار. وهو البقعة المباركة في قوله تعالى:( نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ ) (٢) .( وَمَنْ حَوْلَها ) ومن حول مكانها. والظاهر أنّه عامّ في كلّ من في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من ارض الشام الموسومة بالبركات، لكونها مبعث الأنبياء، وكفاتهم(٣) أحياء وأمواتا، وخصوصا تلك البقعة الّتي كلّم الله تعالى فيها موسىعليه‌السلام .

__________________

(١) طه: ١٠.

(٢) القصص: ٣٠.

(٣) كفات الأرض: ظهرها للأحياء، وبطنها للأموات.

٧٤

وقيل: المراد موسى والملائكة الحاضرون فيها، لهم زجل(١) بالتسبيح والتقديس.

وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنّه قد قضي له أمر عظيم فيها، وهو تكليم الله إيّاه، واستنباؤه له، وإظهار المعجزات عليه. وربّ خير يتجدّد في بعض البقاع، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها، ويبثّ آثار يمنه في أباعدها، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الّذي جرى في تلك البقعة؟! عن وهب: أنّ موسى لـمّا رأى النار وقف قريبا منها، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة، لا تزداد النار إلّا اشتعالا، ولا تزداد الشجرة إلّا خضرة وحسنا، فلم تكن النار بحرارتها تحرق الشجرة، ولا الشجرة برطوبتها تطفئ النار. فعجب منها، وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها، فمالت إليه، فخافها فتأخّر عنها، ثمّ لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن نودي:( أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ) .

( وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) من تمام ما نودي به، تنزيها له عمّا لا يليق بصفاته، تعالى عن أن يكون جسما يحتاج إلى جهة، أو عرضا يحتاج إلى محلّ، أو ممّن يتكلّم بآلة، لئلّا يتوهّم من سماع كلامه تشبيها، ولتعجيب موسى من عظمة ذلك الأمر. أو تعجّب من موسى لـما دهاه من عظمته.

( يا مُوسى إِنَّهُ ) الضمير للشأن. وقوله:( أَنَا اللهُ ) جملة مفسّرة له. أو ضمير للمتكلّم، و «أنا» خبره، أي: من يكلّمك أنا، و «الله» بيان له.( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) صفتان لله ممهّدتان لـما أراد أن يظهره على يده من المعجزة. يريد: أنا القويّ القادر على ما يبعد من الأوهام، كقلب العصا حيّة، الفاعل كلّ ما أفعله بحكمة وتدبير.

__________________

(١) الزجل: الصوت.

٧٥

( وَأَلْقِ عَصاكَ ) عطف على «بورك» أي: نودي أن بورك من في النار، وأن ألق عصاك. فكلاهما تفسير لـ «نودي». والمعنى: قيل له: بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك. ويدلّ عليه قوله:( وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ ) (١) بعد قوله:( أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ ) (٢) بتكرير «أن». كما تقول: كتبت إليه أن حجّ وأن اعتمر.

( فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ ) فألقى موسى عصاه فصارت حيّة تتحرّك باضطراب( كَأَنَّها جَانٌ ) حيّة خفيفة سريعة( وَلَّى مُدْبِراً ) رجع إلى ورائه( وَلَمْ يُعَقِّبْ ) ولم يرجع. من: عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرّ.

قال المفسّرون: لم يلتفت ولم يقف. وإنّما رعب لظنّه أنّ ذلك لأمر أريد به، فسكّنه ونهاه عن الخوف، وقال:( يا مُوسى لا تَخَفْ ) ثقة برحمتي( إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) أي: إنّك مرسل، والمرسل لا يخاف، لأنّه لا يفعل قبيحا، ولا يخلّ بواجب فيخاف العقاب على ذلك.

ولـمّا أطلق نفي الخوف عن الرسل، كان ذلك مظنّة لطروّ الشبهة، من نفي الخوف عن كلّهم مطلقا، فاستدرك بقوله:( إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ) لكن من نقص من ثوابه بترك الأولى، كالّذي صدر من آدم ويونس وداود وسليمان، ومن موسى بوكزة القبطي( ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً ) بالإنابة والانقطاع إلى الله( بَعْدَ سُوءٍ ) بعد ترك الأولى.( فَإِنِّي غَفُورٌ ) أستر ترك ندبه( رَحِيمٌ ) أعطيه ثواب فعل الندب وإن لم يفعله. وكأنّه أراد منه التعريض بما وجد من موسى من الوكزة. وهو من التعريضات الّتي يلطف مأخذها. وسمّاه ظلما كما قال موسى:( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) (٣) .

ويجوز أن يكون المعنى: لكن من ظلم نفسه بفعل القبيح من غير المرسلين ـ لأنّ الأنبياء لا يقع منهم ظلم، لكونهم معصومين من الذنوب والقبائح ـ ثمّ بدّله

__________________

(١، ٢) القصص: ٣١ ـ ٣٠.

(٣) القصص: ١٦.

٧٦

حسنا بالتوبة عن المعاصي، فإنّي غفور ساتر لذنبه، رحيم قابل لتوبته.

( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) لأنّه كان بمدرعة صوف لا كمّ لها. وقيل: الجيب القميص، لأنّه يجاب، أي: يقطع.( تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) من غير آفة، كبرص( فِي تِسْعِ آياتٍ ) كلام مستأنف. وحرف الجرّ فيه يتعلّق بمحذوف. والمعنى: اذهب في تسع آيات، وقوله:( إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ) متعلّق به.

ويجوز أن يكون المعنى: وألق عصاك. وأدخل يدك في جملة تسع آيات وعدادهنّ، أو معها، على أنّ التسع هي: الفلق، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم. ولمن عدّ العصا واليد من التسع، أن يعدّ الأخيرين واحدا، ولا يعدّ الفلق، لأنّه لم يبعث به إلى فرعون. وعلى هذين الوجهين يتعلّق( إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ) بنحو: مبعوثا أو مرسلا.

( إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) خارجين عن طاعة الله إلى أقبح وجوه الكفر. وهذا تعليل للإرسال.

( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا ) بأن جاءهم موسى بها( مُبْصِرَةً ) بيّنة غاية التبيين.

فأطلق اسم الفاعل للمفعول، إشعارا بأنّها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت ممّا يبصر. أو ذات تبصّر، من حيث إنّها تهدي، والعمى لا تهتدي فضلا عن أن تهدي غيرها. ومنه قولهم: كلمة عيناء، وكلمة عوراء، لأنّ الكلمة الحسنة ترشد، والسيّئة تغوي. أو مبصرة كلّ من نظر إليها وتأمّل فيها. ومثل ذلك قوله:( وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ) (١) .( قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) واضح سحريّته.

( وَجَحَدُوا بِها ) أي: أنكروها وكذّبوها، ولم يقرّوا أنّها من عند الله( وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) أي: وقد استيقنتها، لأنّ الواو للحال. والمعنى: جحدوها

__________________

(١) الإسراء: ٥٩.

٧٧

بألسنتهم مستيقنين إيّاها، عارفين عالمين بقلوبهم أنّها صدق وحقّ من عند الله. والاستيقان أبلغ من الإيقان.

( ظُلْماً ) على أنفسهم، أو على بني إسرائيل( وَعُلُوًّا ) وترفّعا وتكبّرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى. وانتصابهما على العلّة. وأيّ ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنّها آيات بيّنة واضحة جاءت من عند الله، ثمّ كابر بتسميتها سحرا بيّنا مكشوفا لا شبهة فيه؟!( فَانْظُرْ ) يا محمّد، أو أيّها السامع( كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) في الأرض بالمعاصي. وهو الإغراق في الدنيا، والإحراق في الآخرة.

( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) )

٧٨

ثمّ عطف على قصّة موسى قصّة داود وسليمان، الّتي هي أخت قصّة موسى في مزيّة تضمّن العلم والحكمة والفضل من بين سائر الأقاصيص، فقال:( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ) طائفة من العلم. وهو علم الحكم والشرائع. أو علما أيّ علم. وهو العلم بالقضاء بين الخلق، وبكلام الطير والدوابّ، وبتدابير الملك، وإلانة الحديد، وتسخير الشياطين والجنّ والإنس.

( وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ ) عطفه بالواو دون الفاء ـ كما هو مقتضى الظاهر من المقام، لترتّب الحمد على النعمة ـ إشعارا بأنّ ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة. فكأنّه قال: ولقد آتيناهما علما فعملا به، وعرفا حقّ النعمة فيه والفضيلة، وقالا: الحمد لله( الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) يعني: من لم يؤت علما، أو مثل علمهما.

وفيه دليل على فضل العلم، وشرف أهله، وإنافة محلّه، وتقدّم حملته، وأنّ نعمة العلم من أجلّ النعم، وأجزل القسم، حيث شكرا على العلم، وجعلاه أساس الفضل، ولم يعتبرا دونه ممّا أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما. وتحريض للعالم على أن يحمد الله على ما آتاه من فضله، وأن يتواضع ويعتقد أنّه وإن فضّل على كثير فقد فضّل عليه كثير.

( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) النبوّة، أو العلم، أو الملك، فإنّه قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه، وكانوا تسعة عشر( وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) تشهيرا لنعمة الله، وتنويها بها، واعترافا بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة الّتي هي منطق الطير، وغير ذلك من عظائم ما أوتيه.

وإنّما قال: «علّمنا»، مع أنّ ظاهره من كلام المتكبّرين، لوجهين: أحدهما: أنّه يريد نفسه وأباه. والثاني: أنّ هذه النون يقال لها: نون الواحد المطاع، وكان ملكا مطاعا، فكلّم أهل طاعته على صفته وحاله الّتي كان عليها. وليس التكبّر من

٧٩

لوازم ذلك، وقد يتعلّق بتجمّل الملك وتفخّمه وإظهار سياسته مصالح، فيعود تكلّف ذلك واجبا.

والنطق والمنطق في المتعارف: كلّ لفظ يعبّر به عمّا في الضمير، مفردا كان أو مركّبا، مفيدا أو غير مفيد. وقد يطلق لكلّ ما يصوّت به على التشبيه أو التبع، كقولهم: نطقت الحمامة. ومنه: الناطق والصامت للحيوان والجماد، فإنّ الأصوات الحيوانيّة من حيث إنّها تابعة للتخيّلات منزّلة منزلة العبارات، سيّما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض، بحيث يفهم ما هو من جنسه.

ولعلّ سليمانعليه‌السلام مهما سمع صوت حيوان، علم بقوّته القدسيّة التخيّل الّذي صوّته، والغرض الّذي توخّاه به. ومن ذلك ما حكي أنّه مرّ على بلبل في شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيّه أعلم.

قال: يقول: أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء.

وصاحت فاختة، فأخبر أنّها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا.

وصاح طاووس، فقال: يقول: كلّ حيّ ميّت، وكلّ جديد بال.

وصاح خطّاف، فقال: يقول: قدّموا خيرا تجدوه.

وصاحت رخمة، فقال: تقول: سبحان ربّي الأعلى ملء سمائه وأرضه.

وصاح قمريّ، فأخبر أنّه يقول: سبحان ربّي الأعلى.

وقال: الحدأ يقول: كلّ شيء هالك إلّا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم.

والببّغاء تقول: ويل لمن الدّنيا همّه. والديك يقول: اذكروا الله يا غافلين. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس، والضفدع يقول: سبحان ربّي القدّوس.

وأراد بقوله:( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) كثرة ما أوتي، كما تقول: فلان يقصده كلّ أحد، تريد كثرة قصّاده. وفلان يعلم كلّ شيء، تريد غزارة علمه واستكثاره منه. ومثله

٨٠