زبدة التفاسير الجزء ٦

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
التفرقة بين المذكّر والمؤنّث في الأسماء غير الصفات ـ نحو: حمار وحمارة ـ غريب، وهي في «أيّ» أغرب، لإبهامه. والمعنى: أيّ آية من تلك الآيات( تُنْكِرُونَ ) فإنّها لظهورها لا تقبل الإنكار. وهو ناصب «أيّ»، إذ لو قدّرته متعلّقا بضميره كان الأولى رفعه.
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥) )
ثمّ قال سبحانه مخاطبا للكفّار الّذين جحدوا آيات الله، وأنكروا أدلّته الدالّة على توحيده:( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ) ما بقي منهم من القصور والمصانع ونحوهما.
وقيل: آثار أقدامهم في الأرض، لعظم أجرامهم.( فَما أَغْنى عَنْهُمْ ) نافية، أو استفهاميّة منصوبة بـ «أغنى»، أي: أيّ شيء أغنى عنهم؟!( ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) موصولة، أو مصدريّة مرفوعة به، أي: مكسوبهم، أو كسبهم.
( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) بالمعجزات أو الآيات الواضحات( فَرِحُوا
بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) واستحقروا علم الرسل. والمراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة، كقوله تعالى:( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) (١) . وهو قولهم: لا نبعث ولا نعذّب.( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) (٢) .( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) (٣) . وكانوا يفرحون بذلك، ويدفعون به البيّنات وعلم الأنبياء، كما قالعزوجل ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (٤) . وسمّاها علما على زعمهم تهكّما بهم.
أو(٥) العلوم الطبيعيّة والفلسفة والتنجيم، وعلوم الدهريّين من بني يونان. وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه، وصغّروا علم الأنبياء إلى علمهم.
وعن سقراط: أنّه سمع بموسىعليهالسلام ، وقيل له: لو هاجرت إليه. فقال: نحن قوم مهذّبون، فلا حاجة إلى من يهذّبنا.
أو علمهم بأمور الدنيا، ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى:( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ) (٦) .( ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) (٧) . فلمّا جاءهم الرسل بعلوم الديانات ـ وهي أبعد شيء من علمهم، لبعثها على رفض الدنيا، وذمّ الملاذّ والشهوات ـ لم يلتفتوا إليها، وصغّروها واستهزؤا بها، واعتقدوا أنّه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به.
أو علم الأنبياء. وفرحهم به ضحكهم منه واستهزاؤهم به. ويؤيّده( وَحاقَ )
__________________
(١) النمل: ٦٦.
(٢) فصّلت: ٥٠.
(٣) الكهف: ٣٦.
(٤) الروم: ٣٢.
(٥) عطف على قوله: والمراد بالعلم عقائدهم ...، في بداية الفقرة السابقة.
(٦) الروم: ٧.
(٧) النجم: ٣٠.
وحلّ ونزل( بِهِمْ ما كانُوا بِهِ ) جزاء ما كانوا به( يَسْتَهْزِؤُنَ ) .
وقيل: الفرح أيضا للرسل، فإنّهم لـمّا رأوا تمادي جهل الكفّار وسوء عاقبتهم، فرحوا بما أوتوا من العلم، وشكروا الله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ) شدّة عذابنا. ومنه قوله تعالى:( بِعَذابٍ بَئِيسٍ ) (١) .( قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ) يعنون أصنامهم.
( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ) لامتناع قبوله حينئذ، لأنّ فعل الملجأ لا يقبل، ولا يستحقّ به المدح. ولذلك قال:( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ ) بمعنى: لم يصحّ ولم يستقم. ولم يقل: فلم ينفعهم إيمانهم.
وترادف هذه الفاءات، أمّا في قوله:( فَما أَغْنى عَنْهُمْ ) فلأنّه نتيجة قوله:( كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ) . وأمّا في قوله:( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) فجار مجرى البيان والتفسير لقوله:( فَما أَغْنى عَنْهُمْ ) . كقولك: رزق زيد المال، فمنع المعروف، فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ) تابع لقوله( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ ) . كأنّه قال: فكفروا، فلمّا رأوا بأسنا آمنوا. وكذلك:( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ ) تابع لإيمانهم لـمّا رأوا بأس الله.
( سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) أي: سنّ الله ذلك سنّة ماضية في العباد. والمراد الطريقة المستمرّة من فعله بأعدائه الجاحدين. وهي من المصادر المؤكّدة.( وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) أي: وقت رؤيتهم البأس. اسم مكان استعير للزمان.
__________________
(١) الأعراف: ١٦٥.
(٤١)
سورة حم السجدة «فصّلت»
مكّيّة. وهي أربع وخمسون آية.
أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «من قرأ حم السجدة أعطي بعدد كلّ حرف منها عشر حسنات».
وروى ذريح المحاربي عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «من قرأ حم السجدة كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره وسرورا، وعاش في هذه الدنيا محمودا مغبوطا».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) )
ولـمّا ختم الله سبحانه سورة المؤمن بذكر المنكرين لآيات الله، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم ) إن جعل اسما للسورة كان مبتدأ، وخبره( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) . وإن جعل تعديدا للحروف، فـ «تنزيل» خبر محذوف.
أو مبتدأ، لتخصّصه بالصفة، وخبره( كِتابٌ ) . وهو على الأوّلين بدل منه، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. وقد تقدّم(١) القول فيه.
وقيل في وجه الاشتراك في افتتاح هذه السور السبع بـ «حم» وتسميتها به: إنّها مصدّرة ببيان الكتاب، متشاكلة في النظم والمعنى. وإضافة التنزيل إلى الرحمن الرحيم، للدلالة على أنّه مناط المصالح الدينيّة والدنيويّة.
( فُصِّلَتْ آياتُهُ ) ميّزت باعتبار اللفظ، وجعلت تفاصيل في معان مختلفة، من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد وغير ذلك.
( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) نصب على المدح أو الحال من «فصّلت». وفيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه.
( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصّلة المبيّنة بلسانهم العربيّ المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه. أو لأهل العلم والنظر.
وهو صفة اخرى لـ «قرآنا». أو صلة لـ «تنزيل» أو لـ «فصّلت» أي: تنزيل من الله لأجلهم، أو فصّلت آياته لهم. والأجود أن يكون صفة، لوقوعه بين الصفات. والمعنى: قرآنا عربيّا كائنا لقوم يعلمون.
( بَشِيراً ) للعاملين به( وَنَذِيراً ) للمخالفين له( فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ) عن تدبّره وقبوله( فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) سماع تأمّل وطاعة، فكأنّهم لا يسمعونه رأسا. من قولك: تشفّعت إلى فلان فلم يسمع قولي. ولقد سمعه، ولكنّه لـمّا لم يقبله ولم يعمل
__________________
(١) راجع ص ٥٤، ذيل الآية ١ من سورة الزمر.
بمقتضاه فكأنّه لم يسمعه.
( وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ) أغطية جمع كنان، وهو الغطاء( مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ) صمم. وأصله الثقل.( وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ) يمنعنا عن التواصل. «من» لإفادة أنّ الحجاب ابتدأ منّا وابتدأ منك، بحيث استوعب المسافة المتوسّطة، ولم يبق فراغ.
وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقادهم، كأنّها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، كقوله:( وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ) (١) . ومجّ أسماعهم له، كأنّ بها صمما عنه. وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم . يعني: لأجل تباعد المذهبين كأنّ بينهم وما هم عليه، وبين رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وما هو عليه، حجابا ساترا وحاجزا منيعا من جبل ونحوه.
( فَاعْمَلْ ) على دينك، أو في إبطال أمرنا( إِنَّنا عامِلُونَ ) على ديننا، أو في إبطال أمرك. قيل: إنّ أبا جهل رفع ثوبا بينه وبين النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم فقال: يا محمد أنت من ذلك الجانب ونحن من هذا الجانب، فاعمل أنت على دينك ومذهبك، إنّنا عاملون على ديننا ومذهبنا.
( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) لست ملكا ولا جنّيّا لا يمكنكم التلقّي منه، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول والأسماع، وإنّما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل، وقد يدلّ عليهما دلائل العقل وشواهد النقل.
( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ) فاستقيموا في أفعالكم متوجّهين إليه. أو فاستووا إليه بالتوحيد والإخلاص، غير ذاهبين يمينا وشمالا، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان( وَاسْتَغْفِرُوهُ ) وتوبوا إليه ممّا أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل.
ثمّ هدّدهم على ذلك بقوله:( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) من فرط جهالتهم
__________________
(١) البقرة: ٨٨.
واستخفافهم بالله تعالى( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) لبخلهم، وعدم إشفاقهم على الخلق، وحرصهم على حبّ الدنيا، وذلك من أعظم الرذائل، وأقرب الأسباب إلى، الكفر.
وفيه دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع، وحثّ شديد على أداء الزكاة، وتخويف بليغ من منعها، حيث جعله مقرونا بالكفر.
وعن عطاء عن ابن عبّاس أنّ معناه: لا يفعلون ما يزكّي أنفسهم، وهو الإيمان والطاعة.
( وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) حال مشعرة بأنّ امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم الآخرة، فإنّ المال أحبّ الأشياء إلى الإنسان، فإذا بذله في سبيل الله دلّ ذلك على ثباته في الدين وصدق نيّته.
وعن الفرّاء: أن ذكر الزكاة في هذا الموضع لأجل أنّ قريشا كانت تطعم الحاجّ وتسقيهم، فحرّموا ذلك على من آمن بمحمدصلىاللهعليهوآلهوسلم .
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) )
ثمّ عقّب ما ذكره من وعيد الكافرين بذكر الوعد للمؤمنين، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) لا يمنّ به عليهم. من المنّ، وأصله القطع، من: مننت الحبل إذا قطعته.
وقيل: نزلت في المرضى والهرمى والزمنى، إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصحّ ما كانوا يعملون.
( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ) بتحقيق الهمزتين، أو الثانية بين بين، أو بألف بينهما. والاستفهام للتعجيب. والمعنى: كيف تستجيزون أن تكفروا بمن خلق الأرضين السبع( فِي يَوْمَيْنِ ) في مقدار يومين. أو نوبتين، بأن خلق في كلّ نوبة ما خلق في أسرع ما يكون.
ويحتمل أن يكون المراد من الأرض ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة، ومن خلقها في يومين أنّه خلق لها أصلا مشتركا، ثمّ خلق لها صورا بها صارت أنواعا، وكفرهم به إلحادهم في ذاته وصفاته.
( وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) أمثالا وأشباها، ولا يصحّ أن يكون له ندّ( ذلِكَ ) الّذي خلق الأرض في يومين( رَبُّ الْعالَمِينَ ) خالق جميع ما وجد من الممكنات ومربّيها، ومالك التصرّف فيهم.
( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ ) جبالا ثابتات. استئناف غير معطوف على «خلق» للفصل بما هو خارج عن الصلة.( مِنْ فَوْقِها ) مرتفعة عليها ليظهر ما فيها من وجوه الاستبصار، وتكون منافعها معرّضة للطلّاب، حاضرة لمحصّليها.
وليبصر أنّ الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلّها مفتقرة إلى ممسك لا بدّ لها منه، وهو ممسكها عزّ وعلا بقدرته. ولو كانت تحتها كالأساطين لاستقرّت الأرض عليها، أو كانت مركوزة فيها كالمسامير لمنعت من الميدان. وأيضا لفاتت الفوائد المذكورة.
( وَبارَكَ فِيها ) وأكثر خيرها وأنماها، بأن خلق فيها أنواع النباتات والحيوانات( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، بأن عيّن لكلّ نوع ما يصلحه ويعيش به. أو أقواتا تنشأ منها، بأن خصّ حدوث كلّ
قوت بقطر من أقطارها.
( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) في تتمّة أربعة أيّام من حين ابتداء الخلق. فاليومان الأوّلان داخلان فيها، كما تقول: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيّام، وإلى الكوفة في خمسة عشر، أي: في تتمّة خمسة عشر. ولم يقل: في يومين كما في الأوّل، للإشعار باتّصالهما باليومين الأوّلين، والتصريح على الفذلكة لمدّة خلق الله الأرض وما فيها.
( سَواءً ) أي: استوت سواء، بمعنى استواء. والجملة صفة «أيّام». ويدل عليه قراءة يعقوب بالجرّ. والمعنى: أربعة أيّام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.
وقيل: حال من الضمير في «أقواتها» أي: قدّر الأقوات في الأرض حال كون الأرض مستوية في هذا الحكم.
( لِلسَّائِلِينَ ) متعلّق بمحذوف تقديره: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو بـ «قدّر» أي: قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها، المحتاجين إليها من المقتاتين.
وإنّما خلق الأرض وما فيها في هذه المدّة على التأنّي والتدريج، مع أنّه كان قادرا على إيجادها لحظة واحدة، ليعلم أنّ من الصواب التأنيّ في الأمور، وترك الاستعجال فيها، كما في الحديث: «التأنّي من الرحمن، والعجلة من الشيطان».
وليعلم بذلك أنّها صادرة عن قادر مختار عالم بالمصالح وبوجوه الأحكام، إذ لو صدرت عن مطبوع أو موجب لحصلت في حالة واحدة.
وروى عكرمة عن ابن عبّاس، عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنّ الله تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الشجرة والماء والعمران والخراب يوم الأربعاء. فتلك أربعة أيّام. وخلق يوم الخميس السماوات، وخلق يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة وآدم».
( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) )
ولـمّا بيّن خلق الأرض وما فيها، ذكر خلق السماوات، فقال:( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ) قصد نحوها. من قولهم: استوى إلى مكان كذا، إذا توجّه إليه توجّها لا يلوي على غيره. وهو من الاستواء الّذي هو ضدّ الاعوجاج. ونحوه قولهم: استقام إليه وامتدّ إليه. ومنه قوله تعالى:( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ) (١) .
والمعنى: ثمّ دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها، من غير صارف يصرفه عن ذلك. والظاهر أنّ «ثمّ» لتفاوت ما بين الخلقين، لا للتراخي في المدّة، لقوله:( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) (٢) . ودحوها متقدّم على خلق الجبال من فوقها.
( وَهِيَ دُخانٌ ) ظلمانيّ. قيل: كان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على
__________________
(١) فصّلت: ٦.
(٢) النازعات: ٣٠.
الماء، فأخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء وعلا عليه، فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثمّ فتقها فجعلها أرضين، ثمّ خلق السماء من الدخان المرتفع.
ويحتمل أنّه أراد بالدخان مادّتها والأجزاء المتصغّرة الّتي تركّبت منها.
( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا ) بما خلقت فيكما من التأثير والتأثّر، وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوّعة. والمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، أي: ائتي يا أرض مدحوّة قرارا ومهادا لأهلك، وائتي يا سماء مقبّبة سقفا لهم. أو ائتيا في الوجود، على أنّ الخلق السابق بمعنى التقدير.
وقيل: إتيان السماء حدوثها، وإتيان الأرض أن تصير مدحوّة.
ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كلّ واحدة منكما صاحبتها الإتيان الّذي أريده وتقتضيه حكمتي وتدبيري، من كون الأرض قرارا للسماء، وكون السماء سقفا للأرض.
( طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) أي: شئتما ذلك أو أبيتما. والمراد إظهار كمال قدرته، ووجوب وقوع مراده، لا إثبات الطوع والكره لهما. وهما مصدران وقعا موقع الحال، أي: طائعين أو كارهين.
( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) منقادين بالذات. والأظهر أنّ المراد تصوير تأثير قدرته فيهما، وتأثّرهما بالذات عن قدرته، من غير أن يحقّق شيء من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقّني؟ قال الوتد: سل من يدقّني فلم يتركني. أو تمثيلهما بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع، كقوله: «كن فيكون». فمعنى إتيانهما وامتثالهما: أنّه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع. فهو من المجاز الّذي يسمّى التمثيل. وما قيل: إنّه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب
إنّما يتصوّر على الوجه الأوّل والأخير لا المتوسّط، لأنّ الإقدار فرع الوجود.
وإنّما قال: «طائعين» ولم يقل: طائعتين على اللفظ، أو طائعات على المعنى، لأنّهما سماوات وأرضون، باعتبار كونهما مخاطبتين، فتكونا كقوله:( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) (١) .
( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) فخلقهنّ خلقا إبداعيّا، وأتقن أمرهنّ. والضمير للسماء على المعنى، أو مبهم. و «سبع سموات» حال على الأوّل، وتمييز على الثاني.( فِي يَوْمَيْنِ ) قيل: خلق السماوات يوم الخميس، والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة.( وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) شأنها وما يتأتّى منها، بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا. وقيل: أوحى إلى أهلها بأوامره.
( وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ) فإنّ الكواكب كلّها ترى كأنّها تتلألأ عليها( وَحِفْظاً ) وحفظناها من الآفات أو من المسترقة حفظا. وقيل: مفعول له على المعنى، كأنّه قال: وخصّصنا السماء الدّنيا بمصابيح زينة وحفظا.( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) البالغ في القدرة والعلم.
( فَإِنْ أَعْرَضُوا ) عن الإيمان بعد هذا البيان( فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً ) مهلكة تنزل بكم كما نزلت بمن قبلكم. أو فحذّرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنّه صاعقة.( مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) .
( إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ ) حال من( صاعِقَةِ عادٍ ) . ولا يجوز جعله صفة لـ «صاعقة»، أو ظرفا لـ «أنذرتكم»، لفساد المعنى.( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) أتوهم من جميع جوانبهم، واجتهدوا بهم من كلّ جهة. أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عمّا جرى فيه على الكفّار، ومن جهة المستقبل بالتحذير عمّا أعدّ لهم في الآخرة. وكلّ من اللفظين يحتملهما. أو من قبلهم ومن بعدهم، إذ قد بلغهم خبر
__________________
(١) يوسف: ٤.
المتقدّمين، وأخبرهم هود وصالح عن المتأخّرين، داعيين إلى الإيمان بهم أجمعين.
ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة، كقوله تعالى:( يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ) (١) .
( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) بأن لا تعبدوا. أو أي: لا تعبدوا. أو مخفّفة من الثقيلة، أصله: بأنّه لا تعبدوا، أي: بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم: لا تعبدوا.
( قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا ) إرسال الرسل( لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) برسالته( فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) على زعمكم( كافِرُونَ ) إذ أنتم بشر مثلنا، لا فضل لكم علينا.
( فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) )
( فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) فتعظّموا فيها على أهلها بغير استحقاق( وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) اغترارا بقوّتهم وشوكتهم. قيل: كان من قوّتهم أنّ الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده.( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً )
__________________
(١) النحل: ١١٢.
قدرة، فإنّه قادر بالذات، مقتدر على ما لا يتناهى، قويّ على ما لا يقدر عليه أحد غيره( وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) يعرفون أنّها حقّ فينكرونها. وهو عطف على «فاستكبروا».
( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ) باردة تهلك بشدّة بردها. من الصرّ، وهو البرد الّذي يصرّ، أي: يجمع. أو شديدة الصوت في هبوبها. من الصرير.( فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) جمع نحسة، من: نحس نحسا، نقيض: سعد سعدا. وقرأ الحجازيّان والبصريّان بالسكون، على التخفيف، أو النعت على فعل، أو الوصف بالمصدر.
وقيل: كنّ آخر الشوّال، من الأربعاء إلى الأربعاء. وما عذّب قوم إلّا في يوم الأربعاء.
( لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) أضاف العذاب إلى الخزي ـ وهو الذلّ ـ على قصد وصفه به، من إضافة الموصوف إلى الصفة، لقوله:( وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى ) وهو في الأصل صفة المعذّب، وإنّما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة.( وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ) بدفع العذاب عنهم.
( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ ) فدللناهم على الحقّ، بنصب الحجج وإرسال الرسل( فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) فاختاروا الضلالة على الهدى، والكفر على الإيمان( فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ ) صاعقة من السماء فأهلكتهم. وإضافتها إلى العذاب ووصفه بالهون للمبالغة، أو بحذف المضاف، أي: ذي الهون، وهو الهوان ـ أي: العذاب ـ الّذي يهينهم.( بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) من اختيار الضلالة والكفر.
( وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) من تلك الصاعقة.
( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠)
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) )
( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ ) وقرأ نافع: نحشر، بالنون المفتوحة وضمّ الشين، ونصب «أعداء».( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) يحبس أوّلهم على آخرهم لئلّا يتفرّقوا. وهو عبارة عن كثرة أهل النار.
( حَتَّى إِذا ما جاؤُها ) إذا حضروها. و «ما» مزيدة لتأكيد اتّصال الشهادة بالحضور.( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) بأن ينطقها الله، أو يظهر عليها آثارا تدلّ على ما اقترف بها، فينطق بلسان الحال.
( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ) سؤال توبيخ أو تعجّب. ولعلّ المراد بالجلود النفس الحيوانيّة.( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) أي: ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا الله الّذي أنطق كلّ شيء. أو ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الّذي أنطق كلّ حيّ. ولو أوّل الجواب والنطق بدلالة الحال بقي الشيء عامّا في الموجودات الممكنة.( وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود، وأن يكون استئنافا.
( وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ) أي: كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة، وما ظننتم أنّ أعضاءكم تشهد عليكم بها، فما استترتم عنها. وفيه تنبيه على أنّ المؤمن ينبغي أن يتحقّق أنّه لا يمرّ عليه حال إلا وهو عليه رقيب.( وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ) فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.
( وَذلِكُمْ ) إشارة إلى ظنّهم هذا. وهو مبتدأ، وقوله:( ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ ) خبران له. ويجوز أن يكون «ظنّكم» بدلا، و «أرداكم» خبرا.
( فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سببا لشقاء المنزلين.
( فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) لا خلاص لهم عنها( وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا ) يسألوا العتبى. وهي الرجوع إلى ما يحبّون.( فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ) المجابين إليها.
ونظيره قوله تعالى حكاية:( أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ) (١) .
( وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما
__________________
(١) إبراهيم: ٢١.
كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) وَقَيَّضْنا ) أي: قدّرنا( لَهُمْ ) للكفرة( قُرَناءَ ) أخدانا(١) من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض، وهو القشر. وقيل: أصل القيض البدل.
ومنه: المقايضة للمعاوضة.( فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) من أمر الدنيا واتّباع الشهوات( وَما خَلْفَهُمْ ) من أمر الآخرة وإنكاره. فدعوهم إلى التكذيب به، وأن لا جنّة ولا نار، ولا بعث ولا حساب.
( وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) أي: كلمة العذاب( فِي أُمَمٍ ) في جملة أمم بالخسران والهلاك. وهو حال من الضمير المجرور في «عليهم».( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) وقد عملوا مثل أعمالهم( إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لهم وللأمم.
( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ) وعارضوه بالهذيان. أو ارفعوا أصواتكم بها لتشوّشوه على القارئ. يقال: لغي يلغى، ولغا يلغو، إذا هذى.( لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) أي: تغلبونه على قراءته.
( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ) المراد بهم هؤلاء القائلون، أو عامّة الكفّار( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) جزاء سيّئات أعمالهم. وقد سبق مثله.
( ذلِكَ ) إشارة إلى الأسوأ، مبتدأ( جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ ) خبره( النَّارُ ) عطف بيان للجزاء، أو خبر محذوف( لَهُمْ فِيها ) في النار( دارُ الْخُلْدِ ) فإنّها دار إقامتهم. وهو كقولك: في هذه الدار دار سرور، وتعني بالدار عينها، على أنّ المقصود هو
__________________
(١) أخدان جمع خدن، وهو الحبيب والصاحب.
الصفة.( جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) ينكرون الحقّ. أو يلغون، وذكر الجحود الّذي هو سبب اللغو.
( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) يعني: شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة والعصيان. وقيل: هما إبليس وقابيل، فإنّهما سنّا الكفر والقتل.
وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والسوسي: أرنا بالتخفيف، كفخذ في فخذ. وقرأ الدوري باختلاس(١) كسرة الراء.
( نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ) ندوسهما انتقاما منهما. وقيل: نجعلهما في الدرك الأسفل.( لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) مكانا، أو ذلّا.
( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
__________________
(١) اختلس القارئ الحركة: لم يبلّغها. ويقابله الإشباع. وهو تبليغ الحركة حتّى تصير حرف مدّ.
(٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) )
ولـمّا ذكر سبحانه وعيد الكفّار، عقّبه بذكر الوعد للمؤمنين، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ) اعترافا بربوبيّته، وإقرارا بوحدانيّته( ثُمَّ اسْتَقامُوا ) ثبتوا على الإقرار ومقتضياته، من فعل الأعمال الصالحة، وترك الأفعال السيّئة. و «ثمّ» لتراخي الاستقامة عن الإقرار في الرتبة وفضلها عليه، من حيث إنّ الإقرار مبدأ الاستقامة، أو لأنّها عسر قلّما تتبع الإقرار.
وعن عليّعليهالسلام معناه: «أدّوا الفرائض بعد الإقرار».
وقال سفيان بن عبد الله الثقفي: «قلت: يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به.
قال: قل: ربّي الله ثمّ استقم. قال: فقلت: ما أخوف ما تخاف عليّ. فأخذ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بلسان نفسه فقال: هذا».
وعن أنس قال: قرأ علينا رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم هذه الآية ثمّ قال: «قد قالها ناس ثمّ كفر أكثرهم. فمن قالها حتّى يموت فهو ممّن استقام عليها».
وروى محمّد بن الفضيل قال: «سألت أبا الحسن الرضاعليهالسلام عن الاستقامة، فقال: هي والله ما أنتم عليه».
( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) عند الموت، وفي القبر، وإذا قاموا من قبورهم( أَلَّا تَخافُوا ) ما تقدمون عليه( وَلا تَحْزَنُوا ) على ما خلّفتم. والخوف: غمّ يلحق لتوقّع المكروه. والحزن: غمّ يلحق لوقوعه، من فوات نافع أو حصول ضارّ. والمعنى: إنّ الله كتب لكم الأمن من كلّ غمّ، فلن تذوقوه أبدا. و «أن» مصدريّة، أو مخفّفة مقدّرة بالباء. وأصله: بأنّه لا تخافوا. أو مفسّرة.( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) في الدنيا على لسان الرسل.
القول من رسول اللهصلىاللهعليهوآله وانهم أمنوا على أنفسهم وعيالاتهم.
٢٤ ـ في روضة الكافي باسناده إلى أبي عبد اللهعليهالسلام حديث طويل وفي آخره يقول كان على أفضل الناس بعد رسول اللهصلىاللهعليهوآله واولى الناس بالناس حتى قالها ثلاثا.
٢٥ ـ في نهج البلاغة قالعليهالسلام : فو الله انى لاولى الناس بالناس.
٢٦ ـ في كتاب الاحتجاج للطبرسيرحمهالله عن عبد الله بن جعفر بن أبي ـ طالب حديث طويل وفيه قال: سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوآله يقول: انا اولى بالمؤمنين من أنفسهم، من كنت اولى به من نفسه فأنت اولى به من نفسه، وعلى بين يديهعليهماالسلام في البيت.
٢٧ ـ في الكافي محمد بن يحيى وغيره عن أحمد بن محمد عن الحسن بن الجهم عن حنان قال: قلت لأبي عبد اللهعليهالسلام : أي شيء للموالي؟ فقال: ليس لهم من الميراث إلّا ما قال اللهعزوجل ( إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً )
٢٨ ـ محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن ابن أبي الحمراء قال: قلت لأبي عبد اللهعليهالسلام : أي شيء للموالي من الميراث؟ فقال: ليس لهم شيء إلّا الترباء يعنى التراب.
قال عز من قائل:( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) .
٢٩ ـ في روضة الكافي علي بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفرعليهالسلام قال: كانت شريعة نوح صلى الله عليه أنْ يعبد الله بالتوحيد والإخلاص وخلع الأنداد، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها، وأخذ الله ميثاقه على نوح وعلى النبيين صلى الله عليهم أجمعين أنْ يعبدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا، وأمر بالصلوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والحلال والحرام ولم يفرض عليه احكام حدود ولا فرائض مواريث، فهذه شريعته والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
٣٠ ـ في تفسير علي بن إبراهيم وقولهعزوجل :( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) قال: هذه الواو زيادة في قوله: «ومنك» وانما هو منك ومن نوح فأخذ اللهعزوجل الميثاق لنفسه على الأنبياء ثم أخذ لنبيه على الأنبياء والائمة صلوات الله عليهم ثم أخذ للأنبياء على رسولهصلىاللهعليهوآله .
٣١ ـ في كتاب الاحتجاج للطبرسيرحمهالله روى عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن عليعليهمالسلام قال: إنّ يهوديا من يهود الشام وأحبارهم قال لأمير المؤمنينعليهالسلام : فان هذا هود قد انتصر الله له من أعدائه بالريح فهل فعل لمحمد شيئا من هذا؟ قال له عليٌّعليهالسلام : لقد كان ذلك كذلك ومحمدعليهالسلام اعطى ما هو أفضل من هذا، إنّ الله عز ذكره انتصر له من أعدائه بالريح يوم الخندق إذا أرسل عليهم ريحا تذرو الحصا، وجنودا لم يروها فزاد الله تبارك وتعالى محمداصلىاللهعليهوآله على هود بثمانية آلاف ملك، وفضله على هود بأن ريح عاد سخط وريح محمدصلىاللهعليهوآله رحمة، قال الله تبارك وتعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) .
٣٢ ـ في مجمع البيان وقال أبو سعيد الخدري: قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال: قولوا أللّهمّ استر عوراتنا وآمن روعاتنا؟ قال: فقلناها فضرب وجوه أعداء الله بالريح فهزموا.
٣٣ ـ في كتاب التوحيد حديث طويل عن عليٍّعليهالسلام يقول فيه وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات: واما قوله:( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) وقوله:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) وقوله للمنافقين:( وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) فان قوله:( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) يقول: إنّي ظننت انى ابعث فأحاسب وقوله للمنافقين( وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) فهذا الظن ظن شك وليس الظن ظن يقين، والظن ظنان، ظن شك وظن يقين، فما كان من أمر معاد من الظن فهو ظن يقين، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك. فافهم ما فسرت لك.
٣٤ ـ في كتاب الاحتجاج للطبرسيرحمهالله عن أمير المؤمنين حديث
طويل يقول فيهعليهالسلام : اما انه سيأتى على الناس زمان يكون الحق فيه مستورا والباطل ظاهرا مشهورا، وذلك إذا كان اولى الناس به أعدائهم له،( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ ) وعظم الإلحاد، وظهر الفساد( هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً ) ونحلهم الأخيار أسماء الأشرار، فيكون جهد المؤمن أن يحفظ مهجته من أقرب الناس اليه، ثم يفتح الله الفرج لأوليائه ويظهر صاحب الأمر على أعدائه.
٣٥ ـ في مجمع البيان:( يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ ) بل ـ رفيعة السمك حصينة عن الصادقعليهالسلام .
٣٦ ـ في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفرعليهالسلام في قوله:( رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ ) فقال: النساء، انهم قالوا:( إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ) وكان بيوتهم في أطراف البيوت حيث ينفرد الناس فأكذبهم قال:( وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ) وهي رفيعة السمك حصينة.
٣٧ ـ في نهج البلاغة من كتاب لهعليهالسلام إلى معاوية جوابا ثم ذكرت ما كان من أمري وامر عثمان ولك أنْ تجاب عن هذه لرحمك منه، فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله، امن بذل له نصرته فاستنقذه واستكفه أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه؟ كلا والله لقد علم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلّا قليلا.
٣٨ ـ في تفسير علي بن إبراهيم قولهعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً* إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) الآية فانها نزلت في قصة الأحزاب من قريش والعرب الذين تحزبوا على رسول اللهصلىاللهعليهوآله ، قال: وذلك أنّ قريشا تجمعت في سنة خمس من الهجرة وساروا في العرب وجلبوا واستنفروهم لحرب رسول اللهصلىاللهعليهوآله فوافوا في عشرة آلاف ومعهم كنانة وسليم وفزارة، وكان رسول اللهصلىاللهعليهوآله حين اجلى بنى النضير وهم بطن من اليهود من المدينة وكان رئيسهم حبى ابن أخطب وهم يهود من بنى هارون على نبينا وعليهالسلام فلما اجلاهم من المدينة صاروا الى
خيبر وخرج حيي بن أخطب إلى قريش بمكة وقال لهم: إنّ محمدا قد وتركم وترنا وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا وأجلا بنى عمنا بنى قينقاع فسيروا في الأرض واجمعوا حلفاءكم وغيرهم وسيروا إليهم فانه قد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة، وبينهم وبين محمد عهد وميثاق وانا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمد، ويكونوا معنا عليهم فتأتون أنتم من فوق وهم من أسفل، وكان موضع بنى قريظة من المدينة على قدر ميلين، وهو الموضع الذي يسمى بئر بنى المطلب، فلم يزل يسير معهم حيي بن أخطب في قبائل العرب حتى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش وكنانة والأقرع بن حابس في قومه، والعباس بن مرداس في بنى سليم فبلغ ذلك رسول اللهصلىاللهعليهوآله فاستشار أصحابه وكانوا سبعمائة رجل فقال سلمان رضى الله عنه: يا رسول الله إنّ القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة(١) ولا يمكنهم أنْ يأتونا من كل وجه، فانا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم(٢) من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة، فنزل جبرئيلعليهالسلام على رسول اللهصلىاللهعليهوآله فقال: أشار بصواب، فأمر رسول اللهصلىاللهعليهوآله بحفرة من ناحية أحد إلى راتج(٣) وجعل على كل عشرين خطوة وثلثين خطوة قوما من المهاجرين والأنصار يحفرونه فأمر فحملت المساحي والمعاول، وبدأ رسول اللهصلىاللهعليهوآله وأخذ معولا فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، وأمير المؤمنين صلوات الله عليه ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللهصلىاللهعليهوآله وعيي وقال: لا عيش إلّا عيش الاخرة، أللّهمّ ارحم للأنصار والمهاجرين فلما نظر الناس إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآله يحفر اجتهدوا في الحفر ونقل التراب، فلما كان في اليوم الثاني بكروا إلى الحفر وقعد رسول اللهصلىاللهعليهوآله في مسجد الفتح، فبينا المهاجرين والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه، فبعثوا جابر بن عبد الله الأنصار رضى الله عنه إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآله يعلمه بذلك، قال جابر: فجئت إلى المسجد
__________________
(١) المطاولة هنا بمعنى المقاتلة.
(٢) دهمه: غشيه، والدهم: الداهية.
(٣) اسم موضع.
ورسول الله مستلقى على قفاه ورداءه تحت رأسه وقد شد على بطنه حجرا، فقلت: يا رسول الله انه قد عرض لنا جبل لم تعمل المعاول فيه، فقام مسرعا حتى جاءه ثم دعا بماء في إناء فغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه ثم شرب ومج في ذلك الماء ثم صبه على ذلك الحجر، ثم أخذ معولا فضرب ضربة فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشام، ثم ضرب اخرى فبرقت برقة نظرنا فيها إلى قصور المدائن، ثم ضرب اخرى فبرقت برقة اخرى فنظرنا فيها إلى قصور اليمن، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآله : اما انه سيفتح الله عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق ثم انهال علينا الجبل(١) كما ينهال علينا الرمل، فقال جابر: فعلمت أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآله مقو، أي جائع لما رأيت على بطنه الحجر، فقلت: يا رسول الله هل لك في الغذاء؟ قال: ما عندك يا جابر؟ فقلت عناق(٢) وصاع من شعير. فقال: تقدم وأصلح ما عندك، قال جابر: فجئت إلى أهلي فأمرتها فطحنت الشعير وذبحت العنز وسلختها وأمرتها أنْ تخبز وتطبخ وتشوى.
فلما فرغت من ذلك جئت إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآله فقلت: بأبى أنت وأمي يا رسول الله قد فرغنا فاحضر مع من أحببت. فقامصلىاللهعليهوآله إلى شفير الخندق ثم قال: يا معاشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابرا قال جابر: فكان في الخندق سبعمائة رجل، فخرجوا كلهم ثم لم يمر بأحد من المهاجرين والأنصار إلّا قال: أجيبوا جابرا قال جابر: فتقدمت وقلت لأهلي: قد والله أتاك محمّد رسول اللهصلىاللهعليهوآله بما لا قبل به(٣) فقالت: أعلمته أنت بما عندنا؟ قال: نعم قالت: فهو أعلم بما أتى، قال جابر: فدخل رسول الله فنظر في القدر ثم قال: أغر في وأبقى، ثم نظر في التنور ثم قال: اخرجى
__________________
(١) يقال هال عليه التراب فانهال أي صبه فانصب.
(٢) لعناق كسحاب: الأنثى من أولاد المعز قبل استكمالها الحول.
(٣) لا قبل به أي لا طاقة به.
وأبقى، ثم دعا بصحفة(١) فثرد فيها وغرف، فقال: يا جابر ادخل عشرة عشرة، فأدخلت عشرة فأكلوا حتى نهلوا(٢) وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم ثم قال: يا جابر على.
بالذراع فأتيته بالذراع فأكلوا وخرجوا ثم قال: ادخل على عشرة فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلوا ولم ير في القصعة إلّا آثار أصابعهم، ثم قال: يا جابر على بالذراع فأكلوا وخرجوا ثم قال: ادخل على عشرة فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلوا ولم ير في القصعة الا آثار أصابعهم، ثم قال: يا جابر على بالذراع فأتيته بالذراع فقلت: يا رسول الله كم للشاة من ذراع؟ قال: ذراعان قلت: والذي بعثك بالحق نبيا لقد أتيتك بثلاثة، فقال: لو سكت يا جابر لأكل الناس كلهم من الذراع، قال جابر: فأقبلت ادخل عشرة عشرة فيأكلون حتى أكلوا كلهم وبقي والله لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياما قال: وحفر رسول اللهصلىاللهعليهوآله الخندق وجعل له ثمانية أبواب وجعل على كل باب رجلا من المهاجرين ورجلا من الأنصار مع جماعة يحفظونه، وقدمت قريش وكنانة وسليم وهلال فنزلوا الزغابة(٣) ففرغ رسول اللهصلىاللهعليهوآله من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، وأقبلت قريش ومعهم حيي بن أخطب، فلما نزلوا العقيق(٤) جاء حيي بن أخطب إلى بنى قريظة في جوف الليل وكانوا في حصنهم قد تمسكوا بعهد رسول اللهصلىاللهعليهوآله فدق باب الحصن فسمع كعب بن أسد قرع الباب، فقال لأهله: هذا أخوك قد شأم قومه(٥) وجاء الآن يشأمنا ويهلكنا ويأمرنا بنقض العهد بيننا و
__________________
(١) الصحفة: قصعة كبيرة منبسطة تشبع الخمسة قال الكسائي: أعظم القصاع: الجفنة ثم القصعة تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل.
(٢) النهل: ما أكل من الطعام. والناهل بمعنى الريان والمراد هنا الشبع.
(٣) الزغابة ـ بالضم ـ: موضع بقرب المدينة.
(٤) العقيق: اسم عدة مواضع بلاد العرب منها عقيق المدينة وهو على ثلثة أميال أو ميلين منها.
(٥) شأمهم وعليهم أي صادر شوما عليه.
بين محمد، وقد وفي لنا محمد وأحسن جوارنا، فنزل إليه من غرفته فقال له: من أنت؟ قال: حيي بن أخطب، قد جئتك بعز الدهر، فقال كعب: بل جئتني بذل الدهر، فقال: يا كعب هذه قريش في قادتها وسادتها قد نزلت بالعقيق مع حلفائهم من كنانة، وهذه فزارة مع قادتها وسادتها قد نزلت الزغابة، وهذه سليم وغيرهم قد نزلوا حصن بنى ذبيان، ولا يفلت محمد من هذا الجمع أبدا فافتح الباب وانقض العهد الذي بينك وبين محمد، فقال كعب: لست بفاتح لك الباب ارجع من حيث جئت، فقال حيي: ما يمنعك من فتح الباب إلّا جشيشتك(١) التي في التنور تخاف أنْ أشركك فيها فافتح فانك آمن من ذلك فقال له كعب: لعنك الله قد دخلت عليَّ من باب دقيق ثمّ قال: افتحوا له الباب، ففتح له فقال: ويلك يا كعب انقض العهد الذي بينك وبين محمّد ولا ترد رأيى فانّ محمّدا لا يفلت من هذه الجموع أبدا، فانْ فاتك هذا الوقت لا تدرك مثله أبدا.
قال: واجتمع كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود مثل غزال بن شمول وياسر بن قيس ورفاعة بن زيد والزبير بن باطا فقال لهم كعب: ما ترون؟ قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا وصاحب عهدنا، فان نقضت نقضنا وان أقمت أقمنا معك، وان خرجت خرجنا معك، فقال الزبير بن باطا ـ وكان شيخا كبيرا مجريا وقد ذهب بصره ـ: قد قرأت التوراة التي أنزلها الله في سفرنا بأنه يبعث نبيا في آخر الزمان يكون مخرجه بمكة ومهاجرته إلى المدينة في هذه البحيرة(٢) يركب الحمار العرى ويلبس الشملة ويجتزى بالكسيرات والتميرات وهو الضحوك القتال، في عينيه الحمرة وبين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر، فان كان هذا هو فلا يهولنه هؤلاء جمعهم ولو ناوته(٣)
__________________
(١) هذا هو الظاهر الموافق للمصدر والبحار ومن كتب العامة كالسيرة لابن هشام وفي الأصل «حسيسك» بالسين والجشيشة: طعام يصنع من الجشيش وهو البر يطحن غليظا.
(٢) قال الجزري: البحيرة: مدينة الرسولصلىاللهعليهوآله .
(٣) المناواة: المعاداة.
هذه الجبال الرواسي لغلبها، فقال حيي: ليس هذا وذاك ذاك النبي من بنى إسرائيل وهذا من العرب من ولد إسماعيل، ولا يكون بنو إسرائيل اتباعا لولد إسماعيل أبدا لان الله قد فضلهم على الناس جميعا، وجعل فيهم النبوة والملك، وقد عهد إلينا موسى( أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) ، وليس مع محمّد آية وانما جمعهم جمعا وسخرهم ويريد أنْ يغلبهم بذلك فلم يزل يقلبهم عن رأيهم حتى أجابوه فقال لهم: اخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمد فأخرجوه فأخذه حيي بن أخطب ومزقه وقال: قد وقع الأمر فتجهزوا وتهيأوا للقتال وبلغ رسول اللهصلىاللهعليهوآله ذلك فغمه غما شديدا، وفزع أصحابه فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآله لسعد بن معاذ وأسيد بن حصين وكانا من الأوس وكانت بنو قريظة حلفاء الأوس فانظرا ما صنعوا فان كانوا نقضوا العهد فلا تعلما أحدا إذا رجعتما إلى وقولا عضل والقارة(١) فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حصين إلى باب الحصن فأشرف عليهما كعب من الحصن فشتم سعدا وشتم رسول اللهصلىاللهعليهوآله . فقال له سعد: انما أنت ثعلب في جحر لتولين قريش وليحاصرنك رسول الله ثم لينرلنك على الصغر والقماء(٢) وليضربن عنقك، ثم رجعا إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآله فقال: عضل والقارة(٣) فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآله : لعنا نحن أمرناهم بذلك وذلك انه كان على عهد رسول اللهصلىاللهعليهوآله عيون لقريش يتجسسون أخباره(٤) وكانت
__________________
(١) عضل والقارة: قبيلتان من كنانة غدروا بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه، حيث طلبت من رسول اللهصلىاللهعليهوآله نفرا من المسلمين ليعلموهم فقالوا: يا رسول الله فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين فبعث رسول اللهصلىاللهعليهوآله عشرة من أصحابه فيهم خبيب بن عدى سنة من المهاجرين وأربعة من الأنصار فخرجوا حتى إذا كانوا على الرجيع وهو ماء غدروا بهم وقتلوا منهم ستة أو ثمانية وأسروا خبيب إلى آخر ما ذكره المؤرخون وسيأتى من المصنف بيان في ذلك.
(٢) القماء: الذل والصفار.
(٣) أي غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع.
(٤) قوله «لعنا» قال المجلسي (ره) أي لعن العضل والقارة والمراد كل من غدر ثم قال:صلىاللهعليهوآله على سبيل التورية. نحن امرناهم بذلك أي نحن أمرنا بنى قريظة أنْ يظهر والغدر للمصلحة ـ
عضل والقارة قبيلتان من العرب دخلا في الإسلام ثم غدرا فكان إذا عدل أحد ضرب بهما المثل فيقال: عضل والقارة.
ورجع حيي بن أخطب إلى أبي سفيان وقريش فأخبرهم بنقض بنى قريظة العهد بينهم وبين رسول اللهصلىاللهعليهوآله : ففرحت قريش بذلك، فلما كان في جوف الليل جاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآله وقد كان أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيام فقال: يا رسول الله قد آمنت بالله وصدقتك وكتمت إيماني عن الكفرة، فان أمرتنى أن آتيك بنفسي وأنصرك بنفسي فعلت، وان أمرتنى أنْ أخذل بين اليهود وبين قريش فانه أوقع عندي، قال: فتأذن لي أنْ أقول فيك ما أريد؟ قال: قل ما بدا لك، فجاء إلى أبي سفيان فقال له: أتعرف مودّتى لكم ونصحى ومحبّتي أنْ ينصركم الله على عدوكم، وقد بلغني أنّ محمّدا قد وافق اليهود أنْ يدخلوا بين عسكركم ويميلوا عليكم ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يرد عليهم جناحهم الذي قطعه بنى النضير وقينقاع، فلا أرى أنْ تدعوهم أن يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم رهنا تبعثوا به إلى مكّة فتأمنوا مكرهم وغدرهم، فقال أبو سفيان: وفقك الله وأحسن جزاك منك من أهدى النصائح، ولم يعلم أبو سفيان بإسلام نعيم ولا أحد من اليهود، ثم جاء من فوره ذلك إلى بنى قريظة فقال له: يا كعب تعلم مودتى لكم وقد بلغني أنّ أبا سفيان قال: نخرج بهؤلاء اليهود فنضعهم في نحر محمّد فان ظفروا كان الذكر لنادونهم، وان كانت علينا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب فما ارى لكم أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم، انهم إنْ لم يظفروا بمحمّد لم يبرحوا حتى يردوا عليكم عهدكم وعقدكم بين محمّد وبينكم، لأنه إنْ ولت قريش ولم تظفروا بمحمّد غزاكم محمّد فيقتلكم، فقالوا: أحسنت وأبلغت في النصيحة لا نخرج من حصننا حتى نأخذ منهم رهنا يكونون في حصننا.
__________________
وهم موافقون لنا في الباطن وانما قال ذلك لئلا يكون هنا لك عين من عيون قريش فيعلموا بالغدر فيصير سببا لجرأتهم.
وأقبلت قريش فلما نظروا إلى الخندق قالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك، فقيل لهم: هذا من تدبير الفارسي الذي معه، فوافى عمرو بن عبد ود وهبيرة بن وهب وضرار بن الخطاب إلى الخندق، وكان رسول اللهصلىاللهعليهوآله قد صف أصحابه بين يديه فصاحوا بخيلهم حتى ظفروا الخندق(١) إلى جانب رسول الله فصاروا أصحاب رسول الله كلهم خلف رسول الله وقدموا رسول اللهصلىاللهعليهوآله بين أيديهم، وقال رجل من المهاجرين وهو فلان لرجل بجنبه من إخوانه: اما ترى هذا الشيطان عمروا لا والله ما يفلت من يديه أحد، فهلموا ندفع إليه محمدا ليقتله ونلحق نحن بقومنا، فأنزل اللهعزوجل : على نبيهصلىاللهعليهوآله في ذلك الوقت:( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ) إلى قوله تعالى:( أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) وركز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض وأقبل يجول جولة ويرتجز ويقول :
ولقد بححت من النداء لجمعكم هل من مبارز |
ووقفت إذ جبن الشجاع مواقف القرن المناجز(٢) |
|
انى كذلك لم أزل متسرعا نحو الهزاهز |
ان الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرايز(٣) |
فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآله : من لهذا الكلب؟ فلم يجبه أحد فوثب إليه أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: أنا له يا رسول الله، فقال: يا عليُّ هذا عمرو بن عبد ود فارس يليل(٤)
__________________
(١) الطفرة ـ: الوثبة في ارتفاع.
(٢) بح بححا: اخذه بحة وخشونة وغلظ في صوته والمناجزة في الحرب: المبارزة والمقاتلة.
(٣) الهزاهز: البلايا والحروب والشدائد التي تهز أي تحرك الناس والغريزة الطبيعة.
(٤) يليل: واد قرب من بدر وقيل له فارس يليل لأنه أقبل في ركب من قريش حتى إذ هو ـ
فقال: أنا عليُّ بن أبي طالب، فقال له رسول اللهصلىاللهعليهوآله ادن منى فدنا منه فعممه بيده ودفع إليه سيفه ذا الفقار وقال له: اذهب وقاتل بهذا وقال: أللّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، فمر أمير المؤمنين صلوات الله عليه يهرول في مشيه وهو يقول :
لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز |
ذو نية وبصيرة والصدق منجى كل فائز |
|
انى لأرجو أنْ أقيم عليك نائحة الجنائز |
من ضربة نجلاء يبقى صيتها بعد الهزاهز(١) |
فقال له عمرو: من أنت؟ قال: انا عليّ بن أبي طالب ابن عم رسول الله وختنه فقال: والله إنّ أباك كان لي صديقا ونديما وانى أكره أنْ أقتلك. ما آمن ابن عمّك حين بعثك إليَّ أنْ اختطفك برمحي هذا فاتركك شائلا(٢) بين السماء والأرض لا حي ولا ميت، فقال له أمير المؤمنين صلوات الله عليه: قد علم ابن عمّى انك إنْ قتلتني دخلت الجنة وأنت في النار، وان قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة. فقال عمروا: كلتاهما لك يا عليُّ، تلك إذا قسمة ضيزى فقال عليٌّ صلوات الله عليه: دع هذا يا عمرو انى سمعت منك وأنت متعلّق بأستار الكعبة تقول: لا يعرضنّ عليَّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلّا أجبته إلى واحدة منها، وانا أعرض إليك ثلاث خصال فأجبنى إلى واحدة قال: هات يا عليُّ، قال: أحدها تشهد أنْ لا إله إلّا الله وانّ محمّدا رسول الله، قال: نح عنى هذا فاسأل الثانية، فقال: أنْ ترجع وترد هذا الجيش عن رسول اللهصلىاللهعليهوآله فانْ يك صادقا فأنتم أعلى به عينا وانْ يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره(٣) قال: إذا
__________________
ـ بيليل عرضت لهم بنو بكر في عدد فقال لأصحابه: امضوا فمضوا فقام في وجوه بنى بكر حتى منعهم من أنْ يصلوا إليه فعرف بذلك.
(١) طعنة نجلاء أي واسعة.
(٢) شائلا أي مرتفعا.
(٣) قولهعليهالسلام أعلى به عينا أي أبصر به وأعلم بحاله. وذؤبان العرب، صعاليكها ولصوصها.
تتحدث نساء قريش وتنشد الشعراء في أشعارها انى جبنت ورجعت على عقبى من الحرب وخذلت قوما رأسونى عليهم؟ فقال له أمير المؤمنين: فالثالثة أنْ تنزل إلى قتالي فانك فارس وانا راجل حتى أنابذك(١) فوثب عن فرسه وعرقبه(٢) وقال: هذه خصلة ما ظننت أنّ أحدا من العرب يسومني عليها(٣) ثمّ بدأ فضرب أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالسيف على رأسه فاتقاه أمير المؤمنين بالدَّرْقة(٤) فقطعها وثبت السيف على رأسه فقال له عليٌّ صلوات الله عليه: يا عمرو ما كفاك انى بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت عليَّ بظهير؟ فالتفت عمرو إلى خلفه فضربه أمير المؤمنين صلوات الله عليه مسرعا إلى ساقيه فقطعهما جميعا وارتفعت بينهما عجاجة(٥) فقال المنافقون: قتل عليُّ بن أبي طالب، ثمّ انكشفت العجاجة ونظروا فاذا أمير المؤمنين صلوات الله عليه على صدره قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه ثمّ أخذ رأسه وأقبل إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآله والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو، وسيفه يقطر منه الدم وهو يقول والرأس بيده :
انا ابن عبد المطّلب(٦) |
الموت خير للفتى من الهرب |
فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآله يا عليُّ ما كرته؟ قال: نعم يا رسول الله الحرب خديعة وبعث رسول الله الزبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته وأمر رسول اللهصلىاللهعليهوآله عمر بن الخطاب أن يبارز ضرار بن الخطاب، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهما فقال له ضرار: ويلك يا ابن صهاك أترميني في مبارزة والله لئن رميتني لا تركت عدويّا بمكة إلّا قتلته، فانهزم عند ذلك عمر، ومر نحو ضرار وضربه ضرار على رأسه
__________________
(١) المنابذة: المكاشفة والمقاتلة.
(٢) عرقبه أي قطع عرقوبه والعرقوب: عصب غليظ فوق العقب.
(٣) سام فلانا الأمر: كلفه إياه.
(٤) الدَّرقة ـ محركة ـ: التـّـرس من جلود ليس فيها خشب ولا عَقَب.
(٥) العجاج ـ كسحاب ـ: الغبار.
(٦) في المصدر «انا على وابن عبد المطلب».
بالقناة ثم قال: احفظها يا عمر فانى آليت ألّا أقتل قرشيا ما قدرت عليه فكان عمر يحفظ له ذلك بعد ما ولّى وولّاه.
فبقي رسول اللهصلىاللهعليهوآله يحاربهم في الخندق خمسة عشر يوما، فقال أبو سفيان لحيي بن أخطب: ويلك يا يهودي أين قومك؟ فصار حيي بن أخطب إليهم فقال: ويلكم اخرجوا فقد نابذكم الحرب فلا أنتم مع محمّد ولا أنتم مع قريش؟ فقال كعب: لسنا خارجين حتى تعطينا قريش عشرة من أشرافهم رهنا يكونون في حصننا انهم ان لم يظفروا بمحمّد لم يبرحوا حتى يرد محمّد علينا خلاف عهدنا وعقدنا فانا لا نأمن أنْ تمر قريش ونبقى نحن في عقر دارنا ويغزونا محمّد فيقتل رجالنا ويسبى نسائنا وذرارينا، وان لم نخرج لعلّه يرد علينا عهدنا، فقال له حيي بن أخطب: تطمع في غير مطمع، قد نابذت العرب محمّدا الحرب فلا أنتم مع محمّد ولا أنتم مع قريش، فقال كعب: هذا من شؤمك انما أنت طائر تطير مع قريش غدا وتتركنا في عقر دارنا ويغزونا محمّد، فقال له: لك عهد الله عليّ وعهد موسى انه لم يظفر قريش بمحمّد انى أرجع معك إلى حصنك يصيبني ما يصيبك فقال كعب: هو الذي قد قلته لك إنْ أعطتنا قريش رهنا يكونون عندنا والا لم نخرج، فرجع حيي بن اخطب إلى قريش فأخبرهم فلما قال: يسألون الرهن قال أبو سفيان: هذا والله أول الغدر قد صدق نعيم بن مسعود لا حاجة في اخوان القردة والخنازير، فلما طال على أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوآله الأمر واشتد عليهم الحصار وكانوا في وقت برد شديد وأصابتهم مجاعة وخافوا من اليهود خوفا شديدا، وتلكم المنافقون بما حكى اللهعزوجل عنهم ولم يبق أحد من أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوآله إلّا نافق إلّا القليل، وقد كان رسول الله أخبر أصحابه أنّ العرب تتحزب عليَّ ويجيئونا من فوق وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل وانه يصيبهم جهد شديد ولكن يكون العاقبة لي عليهم، فلما جاءت قريش وغدرت اليهود قال المنافقون:( ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة فقالوا: يا رسول الله تأذن لنا أنْ نرجع إلى دورنا فانها في أطراف المدينة وهي عورة، ونخاف اليهود أنْ يغيروا عليها؟ وقال قوم: هلموا فنهرب ونصبر في البادية ونستجير بالاعراب، فانّ الذي
يعدنا محمّد كان باطلا كلّه، وكان رسول اللهصلىاللهعليهوآله أمر أصحابه أنْ يحرسوا المدينة بالليل وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه على العسكر كله بالليل يحرسهم، فان تحرك أحد من قريش نابذهم، وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يجوز الخندق ويصير إلى قرب قريش حيث يراهم فلا يزال الليل كله قائما وحده يصلّي فاذا أصبح رجع إلى مركزه، ومسجد أمير المؤمنين صلوات الله عليه هناك معروف يأتيه من يعرفه فيصلى فيه وهو من مسجد الفتح إلى العقيق أكثر من غلوة نشاب، فلما رأى رسول اللهصلىاللهعليهوآله من أصحابه الجزع لطول الحصار صعد إلى مسجد الفتح وهو الجبل الذي عليه مسجد الفتح اليوم.
فدعا اللهعزوجل وناجاه فيما وعده وكان مما دعاه أن قال: يا صريخ المكروبين ويا مجيب دعوة المضطرين ويا كاشف الكرب العظيم أنت مولاي ووليي وولى آبائي الأولين، اكشف عنا غمنا وهمنا وكربنا، واكشف عنا شر هؤلاء القوم بقوتك وحولك وقدرتك، فنزل عليه جبرئيلعليهالسلام فقال: يا محمّد إنَّ اللهعزوجل قد سمع مقالتك وأجاب دعوتك وأمر الدبور وهي الريح مع الملائكة ان تهزم قريشا والأحزاب وبعث اللهعزوجل على قريش الدبور فانهزموا وقلعت أخبيتهم، ونزل جبرئيل فأخبره بذلك فنادى رسول اللهصلىاللهعليهوآله حذيفة بن اليمان رضى الله عنه وكان قريبا منه فلم يجبه، ثم ناداه ثانيا فلم يجبه، ثم ناداه الثالثة فقال: لبيك يا رسول الله، قال: أدعوك فلا تجيبني؟! قال: يا رسول الله بأبى أنت وأمي من الخفوف والبرد والجوع فقال: ادخل في القوم وائتنا بأخبارهم ولا تحدثن حدثا حتى ترجع إليَّ فان الله قد أخبرنى انه قد أرسل الرياح على قريش وهزمهم، قال حذيفة: فمضيت وانا انتفض من البرد، فو الله ما كان إلّا بقدر ما جزت الخندق حتى كأنى في حمام فقصدت خباء عظيما فاذا نار تخبو وتوقد، وإذا خيمة فيها أبو سفيان قد دلا خصيتيه على النار وهو ينتفض من شدة البرد ويقول: يا معشر قريش ان كنا نقاتل أهل السماء بزعم محمّد فلا طاقة لنا بأهل السماء وان كنا نقاتل أهل الأرض فنقدر عليهم، ثم قال: لينظر كل رجل منكم إلى جليسه لا يكون لمحمد عين فيما بيننا قال حذيفة: فبادرت أنا فقلت للذي عن يميني: من أنت؟ فقال: أنا عمرو بن العاص، ثم قلت للذي عن يساري: من أنت؟ قال: انا معاوية، و
انما بادرت إلى ذلك لئلا يسألني أحد من أنت، ثم ركب أبو سفيان راحلته وهي معقولة ولولا أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآله قال: لا تحدث حدثا حتى ترجع إليَّ لقدرت ان أقتله ثم قال أبو سفيان لخالد بن الوليد: يا أبا سليمان لا بد من ان أقيم أنا وأنت على ضعفاء الناس، ثم قال: ارتحلوا انا مرتحلون ففروا منهزمين، فلما أصبح رسول اللهصلىاللهعليهوآله قال لأصحابه: لا تبرحوا فلما طلعت الشمس دخلوا المدينة وبقي رسول اللهصلىاللهعليهوآله في نفر يسير وكان أبو عرقد الكناني رمى سعد بن معاذ بسهم في الخندق فقطع أكحله فنزفه الدم(١) فقبض سعد على أكحله بيده ثم قال: أللّهمّ ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقنى لها فلا أحد أحب إلى محاربتهم من قوم حاربوا الله ورسوله، وان كانت الحرب قد وضعت أوزارها بين رسول اللهصلىاللهعليهوآله وبين قريش فاجعلها لي شهادة ولا تمتنى حتى تقر عيني من بنى قريظة، فأمسكت الدم وتورمت يده وضرب له رسول اللهصلىاللهعليهوآله في المسجد خيمة وكان يتعاهده بنفسه. فأنزل اللهعزوجل ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) يعنى بنى قريظة حين غدروا وخافوهم أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوآله ( وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ) إلى قوله:( إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ) وهم الذين قالوا لرسول اللهصلىاللهعليهوآله تأذن لنا نرجع إلى منازلنا فانها في أطراف المدينة، ونخاف اليهود عليها. فانزل اللهعزوجل فيهم:( إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ) إلى قوله تعالى( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) ونزلت هذه الآية في الثاني لـمّا قال لعبد الرحمن بن عوف: هلم ندفع محمدا إلى قريش ونلحق نحن بقومنا.
٣٨ ـ في كتاب الاحتجاج للطبرسيرحمهالله عن أمير المؤمنينعليهالسلام حديث طويل وفيه:ولان الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول اللهعزوجل لنبيهصلىاللهعليهوآله ( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته بقوله:( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .
__________________
(١) نزفه الدم أي سال كثيرا حتى أضعفه.
٣٩ ـ وفيه أيضا عن أمير المؤمنينعليهالسلام كلام طويل وفيه واما قولكم انى جعلت الحكم إلى غيري وقد كنت عندكم أحكم الناس فهذا رسول اللهصلىاللهعليهوآله قد جعل الحكم إلى سعد يوم بنى قريظة وكان احكم الناس. وقد قال الله:( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فتأسيت برسول اللهصلىاللهعليهوآله .
٤٠ ـ في مجمع البيان قال ثعلبة بن حاطب وكان رجلا من الأنصار للنبيصلىاللهعليهوآله : ادع الله أن يرزقني مالا، فقال: يا ثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه أما لك في رسول الله أسوة حسنة، والذي نفسي بيده لو أردت ان تسير الجبال معى ذهبا وفضة لسارت.
٤١ ـ في أصول الكافي أحمد بن مهرانرحمهالله رفعه وأحمد بن إدريس ومحمد بن عبد الجبار الشيباني قال: حدّثني القاسم بن محمد الرازي قال: حدّثني علي بن محمد الهرمزاني عن أبي عبد الله الحسين بن عليّعليهماالسلام قال: لـمّا قبضت فاطمةعليهاالسلام دفنها أمير المؤمنينعليهالسلام سرا وعفي على موضع قبرها(١) ثم قال: فحول وجهه إلى قبر رسول اللهصلىاللهعليهوآله فقال: السلام عليك يا رسول الله عنى والسلام عليك عن ابنتك والبائنة في الثرى ببقعتك، والمختار الله لها سرعة اللحاق(٢) بك قل يا رسول الله عن صفيتك صبري وعفي عن سيدة نساء العالمين تجلدي(٣) إلّا أنّ في التأسى لي بسنتك في فرقتك موضع تعزو والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
٤٢ ـ في الكافي محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن النعمان عن سعيد الأعرج قال: سمعت أبا عبد اللهعليهالسلام يقول: نام رسول اللهصلىاللهعليهوآله عن الصبح واللهعزوجل أنامه حتى طلعت الشمس عليه، وكان ذلك رحمة من ربك للناس، ألآ ترى لو أنّ رجلا نام حتى تطلع الشمس لعيّره الناس وقالوا: لا تتورّع لصلوتك فصارت أسوة وسنة، فان قال رجل لرجل: نمت عن الصلوة، قال: قد نام رسول اللهصلىاللهعليهوآله فصارت أسوة
__________________
(١) العفو: المحو: وعفى على الأرض: غطاها بالنبات.
(٢) في الوافي: والمختار الله اضافة إلى الفاعل ومفعول سرعة اللحاق.
(٣) عفى عن الشيء: أمسك عنه. والتجلد: تكلف الجلد ـ بالتحريك ـ وهو القوة والشدة.
ورحمة، رحم الله سبحانه بها هذه الامة.
٤٣ ـ محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن النعمان عن سعيد الأعرج قال: سمعت أبا عبد اللهعليهالسلام يقول: صلى رسول اللهصلىاللهعليهوآله ثم سلم في ركعتين فسأله من خلفه يا رسول الله أحدث في الصلوة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: انما صليت ركعتين قال: أكذلك يا ذا اليدين وكان يدعى ذا الشمالين، فقال: نعم فبنى على صلوته فأتم الصلوة أربعا وقال: إنّ الله هو أنساه رحمة للامة، ألآ ترى لو أنّ رجلا صنع هذا لعير وقيل: ما تقبل صلوتك، فمن دخل عليه اليوم ذاك قال: قد من رسول اللهصلىاللهعليهوآله وصارت أسوة وسجد سجدتين لمكان الكلام.
٤٤ ـ علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: إنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآله كان إذا صلى العشاء الاخرة أمر بوضوئه وسواكه يوضع عند رأسه مخمرا(١) فيرقد ما شاء الله ثم يقوم فيستاك ويتوضأ ويصلى أربع ركعات، ثم يرقد ثم يقوم فيستاك ويتوضأ ويصلى أربع ركعات ثم يرقد، حتى إذا كان في وجه الصبح قام فأوتر ثم صلى الركعتين ثم قال:( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )
٤٥ ـ في كتاب الخصال عن عتبة بن عمر الليثي عن أبي ذررحمهالله قال: دخلت على رسول اللهصلىاللهعليهوآله وهو في المسجد جالس إلى أنْ قال: قالصلىاللهعليهوآله : عليك بتلاوة كتاب الله، وذكر الله كثيرا، فانه ذكر لك في السماء، ونور لك في الأرض.
٤٦ ـ في تفسير علي بن إبراهيم ثم وصف اللهعزوجل المؤمنين أي المصدقين بما أخبرهم رسول اللهصلىاللهعليهوآله ما يصيبهم في الخندق من الجهد فقال جل ذكره:( وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً ) يعنى ذلك الجهد والخوف وتسليما.
٤٧ ـ في الكافي حميد عن ابن سماعة عن عبد الله بن جبلة عن محمد بن مسعود الطائي عن عنبسة بن مصعب عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: قال رسول اللهصلىاللهعليهوآله :
__________________
(١) خمر الشيء: ستره.
من استقبل جنازة أو رءاها فقال: الله أكبر( هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ) وصدق الله أللّهمّ زدنا ايمانا وتسليما، الحمد لله الذي تعزز بالقدرة وقهر العباد بالموت لم يبق في السماء ملك إلّا بكى رحمة لصوته.
٤٨ ـ في روضة الكافي عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان عن أبيه عن أبي عبد اللهعليهالسلام أنّه قال لأبي بصير: يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال:( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) انكم وفيتم بما أخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا. وانكم لم تبدلوا بنا غيرنا، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
٤٩ ـ عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن جعفر بن محمد الأشعري عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: قال رسول اللهصلىاللهعليهوآله : يا عليُّ من أحبّك ثم مات فقد قضى نحبه، ومن أحبّك ولم يمت فهو ينتظر، وما طلعت شمس ولا غربت إلّا طلعت عليه برزق وايمان وفي نسخة نور.
٥٠ ـ في كتاب الخصال عن جابر الجعفي عن أبي جعفرعليهالسلام عن أمير المؤمنين حديث طويل يقول فيهعليهالسلام : ولقد كنت عاهدت الله تعالى ورسوله انا وعمى حمزة وأخى جعفر وابن عمى عبيدة على أمر وفينا به لله تعالى ولرسولهصلىاللهعليهوآله فتقدمني أصحابى وتخلفت بعدهم لما أراد الله تعالى فأنزل الله فينا( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) حمزة وجعفر وعبيدة وانا والله المنتظر يا أخا اليهود وما بدلت تبديلا.
٥١ ـ عن الأعمش عن جعفر بن محمدعليهماالسلام قال: هذه شرائع الدين إلى أنْ قالعليهالسلام : والولاية للمؤمنين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا بعد نبيهمعليهالسلام وأحبته مثل سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود الكندي وعمار بن ياسر وجابر بن عبد الله الأنصاري وحذيفة بن اليمان وأبي الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن الصامت وعبادة بن الصامت وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وأبي سعيد الخدري ومن نحى نحوهم وفعل مثل فعلهم، والولاية
لاتباعهم والمقتدمين بهم وبهداهم واجبة.
٥٢ ـ في عيون الأخبار في باب ما كتبه الرضاعليهالسلام للمأمون من محض الإسلام وشرائع الدين والولاية لأمير المؤمنينعليهالسلام والذين مضوا على منهاج نبيهم، ولم يغيروا ولم يبدلوا مثل سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري، وذكر نحو ما نقلنا عن الخصال بتغيير يسير.
٥٣ ـ في مجمع البيان وروى أبو القاسم الحسكاني عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن عليٍّعليهالسلام قال: فينا نزلت:( رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) فانا والله المنتظر ما بدلت تبديلا.
٥٤ ـ في كتاب سعد السعود لابن طاوسرحمهالله فصل فيما نذكره من مجلد قالب الثمن عتيق عليه مكتوب الاول من تفسير أبي جعفر بن محمد بن علي بن الحسين صلوات الله عليهما رواية أبي الجارود عنه وقال بعد هذا: فصل فيما نذكره من الجزء الثالث من تفسير الباقرعليهالسلام من وجهة ثانية من ثانى سطر بلفظه واما قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) يقول: كونوا مع عليّ بن أبي طالب وآل محمّد، قال الله:( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ) وهو حمزة بن عبد المطلب( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) وهو عليّ بن أبي طالب يقول الله( وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) وقال الله:( اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) وهم هاهنا آل محمد.
٥٥ ـ في إرشاد المفيدرحمهالله في مقتل الحسينعليهالسلام : إنَّ الحسين مشى إلى مسلم بن عوسجة لـمّا صرع فاذا به رمق فقال: رحمك الله يا مسلم( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) .
٥٦ ـ في كتاب مقتل الحسين لأبي مخنف ان الحسينعليهالسلام لـمّا أخبر بقتل رسوله عبد الله بن يقطر تغرغرت عينه بالدموع(١) وفاضت على خديه ثم قال :
__________________
(١) أي ترددت فيها الدموع.
( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) .
٥٧ ـ في كتاب المناقب لابن شهر آشوب ان أصحاب الحسينعليهالسلام بكربلا كانوا كل من أراد الخروج ودع الحسينعليهالسلام وقال: السلام عليك يا ابن رسول الله فيجيبه: وعليك السلام ونحن خلفك ويقرأ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) .
٥٨ ـ في أصول الكافي محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن سنان عن نصير أبي الحكم الخثعمي عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: المؤمن مؤمنان فمؤمن صدق بعهد الله جل وعز ووفي بشرطه، وذلك قول اللهعزوجل :( رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) وذلك الذي لا يصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الاخرة، وذلك ممن يشفع ولا يشفع له، ومؤمن كخامة الزرع(١) يعوج أحيانا ويقوم أحيانا، فذلك ممن يصيبه أهوال الدنيا وأهوال الاخرة وذلك ممن يشفع له ولا يشفع.
٥٩ ـ عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن عبد الله عن خالد القمى عن خضر بن عمرو عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: سمعته يقول: المؤمن مؤمنان: مؤمن وفي للهعزوجل بشروطه التي اشترطها عليه، فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فذلك ممن يشفع ولا يشفع له وذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الاخرة، ومؤمن زلت به قدم، وذلك كخامة الزرع كيف ما كفته الريح انكفأ، وذلك ممن يصيبه أهوال الدنيا وأهوال الاخرة ويشفع له وهو على خير.
٦٠ ـ في كتاب الاحتجاج للطبرسيرحمهالله عن الحسن بن عليعليهالسلام حديث طويل يقول فيه لمعاوية: لعن رسول اللهصلىاللهعليهوآله أبا سفيان في سبعة مواطن إلى قوله: والرابع يوم حنين جاء أبو سفيان بجمع من قريش وهوازن وجاء عيينة بغطفان واليهود فردهم اللهعزوجل ( بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ) ، هذا قول اللهعزوجل الذي أنزله في سورتين في كلتيهما يسمى أبا سفيان وأصحابه كفارا، وأنت يا معاوية يومئذ
__________________
(١) الخامة من الزرع: أول ما ينبت على ساق، وقيل: الطاقة الغضة وقيل: الشجرة الغضة.