زبدة التفاسير الجزء ٦
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
( نَحْنُ ) معاشر الملائكة( أَوْلِياؤُكُمْ ) أنصاركم وأحبّاؤكم( فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) نتولّى إيصال الخيرات إليكم من قبل الله تعالى، ونلهمكم الحقّ، ونحملكم على الخير، بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة( وَفِي الْآخِرَةِ ) بالشفاعة والكرامة، حيثما يتعادى الكفرة وقرناؤهم، ولا نفارقكم إلى أن ندخلكم الجنّة( وَلَكُمْ فِيها ) في الآخرة( ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ) من اللذائذ( وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ) ما تتمنّون. من الدعاء بمعنى الطلب. وهو أعمّ من الأوّل.
( نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) حال من «ما تدّعون» للإشعار بأنّ ما يتمنّون بالنسبة إلى ما يعطون ممّا لا يخطر ببالهم كالنزل، أي: كرزق النزيل، وهو الضيف.
( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ) صورته صورة الاستفهام، والمراد به النفي. وتقديره: وليس أحد أحسن قولا( مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ ) إلى عبادته( وَعَمِلَ صالِحاً ) فيما بينه وبين ربّه( وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) المستسلمين لأمر الله تعالى، المنقادين لطاعته. وليس الغرض أنّه تكلّم بهذا الكلام، بل المراد أنّه اتّخذ دين الإسلام مذهبه، كما تقول: هذا قول فلان، والمراد مذهبه.
والآية عامّة في كلّ من جمع بين هذه الثلاث، وهي: أن يكون موحّدا، معتقدا لدين الإسلام، عاملا بالخير، داعيا إليه. وما هم إلّا طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد، الدعاة إلى دين الله.
وعن ابن عبّاس: نزلت في النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم . وقيل: في المؤذّنين.
وفي هذه الآية دلالة على أنّ الدعاء إلى الدّين من أعظم الطاعات وأجلّ الواجبات. والداعي يجب أن يكون عاملا بعلمه، ليكون الناس إلى القبول منه أقرب، وإليه أسكن.
( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ) في الجزاء وحسن العاقبة. و «لا» الثانية
مزيدة لتأكيد النفي.( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ادفع السيّئة حيث اعترضتك بالحسنة الّتي هي أحسن منها، على أنّ المراد بالأحسن الزائد مطلقا. أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات. ومثال ذلك: رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة أن تعفو عنه، والّتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمّك فتمدحه، ويقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوّه.
وإنّما لم يقل: فادفع، لأنّه أخرجه مخرج الاستئناف، على أنّه جواب من قال: كيف أصنع؟ للمبالغة. ولهذا آثر «أحسن» على الحسنة ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة، لأنّ من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها.
وعن ابن عبّاس: «الّتي هي أحسن» الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة.
وروي عن أبي عبد اللهعليهالسلام : «أنّ الحسنة التقيّة، والسيّئة الإذاعة».
( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) أي: إذا فعلت ذلك صار عدوّك المشاقّ مثل الوليّ الشفيق والحميم الشقيق.
( وَما يُلَقَّاها ) وما يلقّى هذه السجيّة الّتي هي مقابلة الإساءة بالإحسان( إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ) فإنّها تحبس النفس عن الانتقام( وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) من الخير وكمال النفس. وقيل: الحظّ العظيم الجنّة.
( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ) وإن يصبك( مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ) نخس. شبّه به وسوسته، لأنّها تبعث الإنسان على ما لا ينبغي، كالدفع بما هو أسوأ. وجعل النزغ نازغا، على طريقة: جدّ جدّه. أو أريد به نازغ، وصفا للشيطان بالمصدر للمبالغة.
والمعنى: وإن صرفك الشيطان عمّا وصّيت به من الدفع بالّتي هي أحسن( فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ) من شرّه، ولا تطعه، وامض على شأنك( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ) لاستعاذتك( الْعَلِيمُ ) بنيّتك، أو بصلاحك.
( وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) )
ثمّ ذكر دلالات التوحيد فقال:( وَمِنْ آياتِهِ ) أي: حججه الدالّة على وحدانيّته، وأدلّته على صفاته الّتي باين به جميع خلقه( اللَّيْلُ ) بذهاب الشمس عن بسيط الأرض( وَالنَّهارُ ) بطلوعها على وجهها، وتقديرهما على وجه مستقرّ، وتدبيرهما على نظام مستمرّ( وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) وما اختصّا به من النور، وما ظهر فيهما من التدبير في المسير، والتصريف في فلك التدوير.
( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ) وإن كان فيهما منافع كثيرة، لأنّهما مخلوقان
مأموران مثلكم( وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ ) الضمير للأربعة المذكورة، فإنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، يقال: الأقلام بريتها وبريتهنّ. أو لـمّا قال: «ومن آياته» كنّ في معنى الآيات، فقيل: «خلقهنّ». والمقصود تعليق الفعل بهما إشعارا بأنّهما من عداد ما لا يعلم.( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) إن كنتم تقصدون بعبادتكم الله كما تزعمون فاسجدوا له، فإنّ السجود أخصّ العبادات.
والآية نزلت في ناس منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر، كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنّهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن هذه الواسطة، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصا إن كانوا إيّاه يعبدون، وكانوا موحّدين غير مشركين.
وهذا موضع السجود عندنا وعند الشافعي، للأمر به. وعند أبي حنيفة الآية الاخرى، لأنّها من تمام المعنى.
( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ) ولم يمتثلوا ما أمروا به، وأبوا إلّا الواسطة، فدعهم وشأنهم( فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ) من الملائكة. وهذا عبارة عن الزلفى ومزيّة المكانة والكرامة.
( يُسَبِّحُونَ لَهُ ) ينزّهونه عن الأنداد( بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) أي: دائما، لقوله:( وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) لا يملّون.
( وَمِنْ آياتِهِ ) الدالّة على ربوبيّته( أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ) يابسة متطامنة. مستعار من الخشوع بمعنى التذلّل. وصفها بالهمود في قوله تعالى:( وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ) (١) . وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربوّ في قوله:( فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ ) تزخرفت بالنبات، كأنّها بمنزلة المختال في زيّه( وَرَبَتْ ) وانتفخت به( إِنَّ الَّذِي أَحْياها ) بعد موتها( لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) من الإحياء والإماتة.
__________________
(١) الحجّ: ٥.
( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ ) يميلون عن الاستقامة( فِي آياتِنا ) يقال: ألحد الحافر ولحد، إذا مال عن الاستقامة، فحفر في شقّ. فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحّة والاستقامة، والطعن فيها، وإلقاء المزخرفات، وفعل المكاء(١) والصفير في أثناء قراءتها.( لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ) فنجازيهم على إلحادهم.
( أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ ) وهم الملحدون( أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) من عذاب الله. وهم المؤمنون المطيعون. والاستفهام للتقرير، أي: لا يستويان أصلا. قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمنا مبالغة في إحماد حال المؤمنين.( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) تهديد شديد( إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) عالم لا يخفى عليه شيء منها.
ثمّ أخبر عنهم مهجّنا لهم، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا ) بعد إذ( جاءَهُمْ ) بدل من قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا ) . أو مستأنف. وخبر «إنّ» محذوف، مثل: معاندون، أو يجازون بكفرهم. وعن أبي عمرو بن العلاء النحويّ: أنّ خبره( أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) (٢) . والمراد بالذكر القرآن، لأنّهم ـ لكفرهم به ـ طعنوا فيه وحرّفوا تأويله.( وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ) كثير النفع، عديم النظير، أو منيع محميّ بحماية الله من التغيير والتبديل.
( لا يَأْتِيهِ ) لا يتطرّق إليه( الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) وهذا مثل، كأنّ الباطل لا يتطرّق إليه، ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتّى يصل إليه ويتعلّق به. أو المراد: ليس في إخباره عمّا مضى باطل، ولا في إخباره عمّا يكون
__________________
(١) مكا مكاء: صفر بفيه.
(٢) فصّلت: ٤٤.
في المستقبل باطل، بل أخباره كلّها موافقة لمخبراتها. وهذا القول مرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام .
وقيل: إنّ الباطل الشيطان. ومعناه: لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّا، أو يزيد فيه باطلا. والطاعنون المبطلون وإن كانوا يطعنون فيه ويتأوّلونه بالباطل، لكنّ الله حماه عن تعلّق باطلهم به، بأن قيّض قوما عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم، فلم يخلّوا طعن طاعن إلّا ممحوقا، ولا قول مبطل إلّا مضمحلّا. ونحوه قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (١) .
( تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ ) أيّ حكيم( حَمِيدٍ ) يحمده كلّ مخلوق بما ظهر عليه من نعمه.
( ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) )
ثمّ سلّى نبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم عن تكذيب المبطلين، فقال:( ما يُقالُ لَكَ ) أي: ما يقول لك كفّار قومك( إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ) إلّا مثل ما قال لهم كفّار قومهم.
وقيل: معناه: ما يقول الله لك إلّا مثل ما قال لهم، وهو الأمر بالدعاء إلى الحقّ في عبادة الله ولزوم طاعته، فهذا القرآن موافق لـما قبله من الكتب.( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ) لذو رحمة سابغة لأنبيائه( وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ ) لأعدائهم. وهو على الثاني يحتمل أن يكون مقول القول. يعني: أنّ حاصل ما أوحي إليك وإليهم وعد المؤمنين بالمغفرة، ووعيد الكافرين بالعقوبة. فمن حقّه أن يرجوه أهل طاعته، ويخافه أهل معصيته.
__________________
(١) الحجر: ٩.
( وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) )
روي: أنّ المعاندين لفرط تعنّتهم كانوا يقولون: هلّا نزّل عليك القرآن بلغة العجم. فنزلت:( وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا ) الضمير للذكر( لَقالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آياتُهُ ) بيّنت بلسان نفقهه( ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ ) أَكلام أعجميّ ومخاطب عربيّ؟
والهمزة للإنكار. والأعجميّ يقال للّذي لا يفهم كلامه.
وهذا قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي. وقرأ قالون وأبو عمرو بالمدّ والتسهيل. وورش بالمدّ وإبدال الثانية ألفا. وابن كثير وابن ذكوان وحفص بتسهيل الثانية بغير مدّ. وهشام: أعجميّ، على الإخبار.
والمعنى: إنّ القوم غير طالبين للحقّ، وإنّما يتّبعون أهواءهم الباطلة وآراءهم الزائغة. فآيات الله على أيّ طريقة جاءتهم كانوا غير منفكّين عن التعنّت فيها، مقترحين غيرها، لفرط العناد واللجاج.
لا يقال: كيف يقال عربيّ والحال أنّ الآية نزلت في أمّة العرب؟
لأنّا نقول: مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أنّ المكتوب إليه واحد أو جماعة، فوجب أن يجرّد لـما سيق إليه من الغرض، ولا يوصل به ما يخيّل غرضا آخر. ألا تراك تقول ـ وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة ـ: اللباس طويل واللابس قصير. ولو قلت: واللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة وفضول قول، لأنّ الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته، وإنّما وقع في غرض غيرهما.
( قُلْ هُوَ ) أي: القرآن( لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً ) إلى الحقّ( وَشِفاءٌ ) لـما في الصدور من كلّ شكّ وشبهة. سمّي اليقين شفاء، كما سمّي الشكّ مرضا في قوله:( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) (١) .( وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) مبتدأ خبره( فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ) على تقدير: هو في آذانهم ثقل( وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) وذلك لتصامّهم عن سماعه، وتعاميهم عمّا يريهم من الآيات. ومن جوّز العطف على عاملين عطف قوله:( الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) على( لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً ) أي: هو للّذين لا يؤمنون في آذانهم وقر.( أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) أي: انّهم لا يقبلونه، ولا يرعونه أسماعهم، فمثلهم في شدّة إعراضهم عنه، مثل من يصاح به من مسافة بعيدة لا يسمع من مثلها الصوت، فلا يسمع النداء.
( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) )
ثمّ سلّى نبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم عن جحود قومه له وإنكارهم لنبوّته بقوله:( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) بالتصديق والتكذيب، كما اختلف في القرآن، فلا تحزن ولا تبخع(٢) نفسك عليهم حسرات( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) وهي العدة بالقيامة، وفصل الخصومة في ذلك اليوم. أو تقدير الآجال.( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) في الدنيا باستئصال المكذّبين قبل انقضاء آجالهم. ومثل ذلك قوله تعالى :
__________________
(١) البقرة: ١٠.
(٢) بخع نفسه: نهكها وكاد يهلكها من غضب أو غمّ.
( وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) (١) . وقوله:( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ) (٢) .( وَإِنَّهُمْ ) وإنّ اليهود، أو الّذين لا يؤمنون مطلقا( لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ) من التوراة، أو القرآن( مُرِيبٍ ) موجب للاضطراب وقلق النفس، موقع لهم الريبة، وهي أفظع الشك وأبلغه.
( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ) نفعه، لأنّ ثواب ذلك واصل إليه قطعا( وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) ضرّه، لأنّ عقابه يلحق به دون غيره( وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله، بأن يعذّب غير المسيء، وغير ذلك.
وإنّما قال بصيغة المبالغة، مع أنّه لا يظلم مثقال ذرّة، للإشعار بأنّ من فعل الظلم وإن قلّ ـ وهو عالم بقبحه، وبأنّه غنيّ عنه ـ لكان ظلّاما.
وقيل: هذا على طريق الجواب لمن زعم أنّه يظلم العباد، فيأخذ أحدا بذنب غيره، ويثيبه بطاعة غيره، ولا شكّ أنّ ذلك غاية الظلم ونهاية التعدّي.
( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) )
ثمّ بيّن سبحانه أنّه العالم بوقت القيامة دون غيره، فقال:( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ) أي: قل ذلك لهم إذا سألوا عنها، إذ لا يعلمها إلّا هو( وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها ) من أوعيتها. جمع كمّ بالكسر، وهو وعاء الثمرة. وقرأ نافع وابن عامر
__________________
(١) النحل: ٦١.
(٢) القمر: ٤٦.
وحفص: من ثمرات بالجمع، لاختلاف الأنواع.
و «ما» نافية. و «من» الأولى زائدة للاستغراق. ويحتمل أن تكون موصولة معطوفة على «الساعة». و «من» مبيّنة، بخلاف قوله:( وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ ) بمكان، أي: ما يحدث شيء من خروج ثمرة، ولا حمل حامل، ولا وضع واضع( إِلَّا بِعِلْمِهِ ) إلّا مقرونا بعلمه واقعا حسب تعلّقه به. فيعلم سبحانه قدر الثمار وأجزاءها وكيفيّتها، من طعومها وروائحها وألوانها. ويعلم ما في بطون الحبالى، وأنواع انتقاله من حال إلى حال، وكيفيّته من الطول والقصر والوسط، ومن الخداج(١) والتمام، والذكورة والأنوثة، والحسن والقبح.
( وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ ) ينادي المشركين( أَيْنَ شُرَكائِي ) أضافهم إليه تعالى على زعمهم. وبيانه في قوله:( أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) (٢) وفيه تهكّم وتقريع.
( قالُوا آذَنَّاكَ ) أعلمناك( ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ) من أحد يشهد لهم بالشركة، إذ تبرّأنا عنهم لـمّا جاءنا، فما منّا اليوم إلّا من هو موحّد لك. فيكون السؤال عنهم للتوبيخ. أو من أحد يشاهدهم، لأنّهم ضلّوا عنّا.
وقيل: هو قول الشركاء، أي: ما منّا من شهيد يشهد لهم بأنّهم كانوا محقّين فيما أضافوا إلينا من الشركة.
( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما ) أي: آلهة غير الله( كانُوا يَدْعُونَ ) يعبدون( مِنْ قَبْلُ ) في الدنيا، أي: لا يرونهم، أو لا ينفعونهم، فكأنّهم ضلّوا عنهم على التفسير الأخير( وَظَنُّوا ) وأيقنوا( ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) مهرب من عذاب الله. والظنّ معلّق عنه بحرف النفي.
__________________
(١) الخداج: كلّ نقصان في شيء.
(٢) القصص: ٦٢.
( لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) )
ثمّ بيّن سبحانه طريقتهم المذمومة في الدنيا بقوله:( لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ ) لا يملّ( مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ ) من طلب السعة في النعمة( وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ ) الضيقة فيها( فَيَؤُسٌ ) شديد اليأس( قَنُوطٌ ) من فضل الله ورحمته. وقد بولغ فيه من طريقين: بناء فعول، ومن طريق التكرير. والقنوط: أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، أي: يقطع الرجاء من فضل الله وروحه. وهذه صفة الكافر، لقوله تعالى:( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) (١) .
( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ) أي: إذا فرّجنا عنه بصحّة بعد مرض، أو سعة بعد ضيق( لَيَقُولَنَّ هذا لِي ) حقّي أستحقّه، لـما لي من الفضل وأعمال البرّ. أو هذا لي لا يزول عنّي. ونحوه قوله تعالى:( فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ
__________________
(١) يوسف: ٨٧.
قالُوا لَنا هذِهِ ) (١) .
( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) تقوم( وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) أي: ولئن قامت ـ على طريق التوهّم ـ كان لي عند الله الحالة الحسنى من الكرامة. وذلك لاعتقاده أنّ ما أصابه من نعم الدنيا فلاستحقاق لا ينفكّ عنه، أو لقياس أمر الآخرة على أمر الدنيا. وعن بعضهم: للكافر أمنيتان، يقول في الدنيا:( وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) . ويقول في الآخرة:( يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) (٢) . وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة.
( فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فلنخبرنّهم( بِما عَمِلُوا ) بحقيقة أعمالهم، ولنبصرنّهم عكس ما اعتقدوا فيها من أنّهم يستوجبون عليها كرامة عند الله. وذلك أنّهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس، وطلبا للافتخار والاستكبار لا غير. وكانوا يحسبون أنّ ما هم عليه سبب الغنى والصحّة، وأنّهم محقوقون بذلك( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ ) شديد متراكم، لا يمكنهم التفصّي عنه.
( وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ ) عن الشكر، وأبطرته النعمة حتّى كأنّه لم يلق بؤسا قطّ، فنسي المنعم( وَنَأى بِجانِبِهِ ) عطفه. وهذا عبارة عن الانحراف، كما قالوا: ثنّى عطفه، وتولّى بركنه. فالمعنى: انحرف عنه تكبّرا وتجبّرا عن الاعتراف بنعم الله تعالى، وأعرض وتباعد عنه تكبّرا وتعظّما. أو الجانب مجاز عن النفس، كالجنب في قوله( فِي جَنْبِ اللهِ ) (٣) . فكأنّه قال: ونأى بنفسه، كقولهم في المتكبّر: ذهب بنفسه، وذهبت به الخيلاء كلّ مذهب.
( وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ ) الضرّ( فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ) كثير. مستعار ممّا له عرض متّسع، للإشعار بكثرته واستمراره، كما استعير الغلظ لشدّة العذاب. وهو أبلغ من
__________________
(١) الأعراف: ١٣١.
(٢) النبأ: ٤٠.
(٣) الزمر: ٥٦.
الطويل، إذ الطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنّك بطوله؟!( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ) أخبروني( إِنْ كانَ ) أي: القرآن( مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ) من غير نظر واتّباع دليل( مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) أي: من أضلّ منكم. فوضع الموصول موضع الصلة شرحا لحالهم، وتعليلا لمزيد ضلالهم.
وتوضيح المرام في هذا المقام: أنّ الله سبحانه أمر حبيبه بأن يقول لأهل الشرك: إنّ ما أنتم عليه من إنكار القرآن وتكذيبه ليس بأمر صادر عن حجّة قاطعة حصلتم منها على اليقين وثلج(١) الصدور، وإنّما هو قبل النظر واتّباع الدليل أمر محتمل، يجوز أن يكون من عند الله وأن لا يكون من عنده. وأنتم لم تنظروا ولم تفحصوا، فما أنكرتم أن يكون حقّا وقد كفرتم به؟ فأخبروني من أضلّ منكم وأبعد في المشاقّة والمناصبة في أمر الحقّ، فأهلكتم بذلك أنفسكم؟
( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤) )
( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ ) يعني: ما أخبرهم النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم به من الحوادث الآتية، وآثار النوازل الماضية، وما يسّر الله له ولأمّته من الفتوح والظهور على الجبابرة والأكاسرة، وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعافهم على أقويائهم، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة، وبسط دولته في الشرق والغرب على وجه خارق للعادة.
__________________
(١) أي: ارتياحها واطمئنانها.
( وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) ما ظهر فيها بين أهل مكّة، وما حلّ بهم من عجائب الصنع الدالّة على كمال قدرته. والاستقراء يطلعك ـ في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهل الإسلام وأيّامهم ـ على عجائب، بحيث لا ترى وقعة من وقائعهم إلّا علما من أعلام الله وآية من آياته، يقوى معها اليقين، ويزداد بها الإيمان.
( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ) الضمير للقرآن أو الرسول، أي: يظهر لهم أنّ دين الإسلام هو دين الحقّ الّذي لا يحيد(١) عنه إلّا مكابر حسّه، مغالط نفسه.
وعن عطاء معنى الآية: سنريهم حججنا ودلائلنا على التوحيد في آفاق العالم وأقطار السماء والأرض، من الشمس والقمر والنجوم والنباتات والأشجار والجبال، وفي أنفسهم ما فيها من لطائف الصنع وبدائع الحكم الّتي بيّنت جملة منها في علم التشريح، حتّى يظهر لهم أنّ الله هو الحقّ. وما الثبات والاستقامة إلّا صفة الحقّ والصدق، كما أنّ الاضطراب والتزلزل صفة الفرية والتزوير، وأنّ للباطل ريحا تخفق ثمّ تسكن، ودولة تظهر ثمّ تضمحلّ.
( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ ) أو لم يكف ربّك. والباء مزيدة للتأكيد، كأنّه قيل: أو لم تحصل الكفاية به. ومعنى كفايته سبحانه هاهنا: أنّه بيّن للناس ما فيه كفاية، من الدلالة على توحيده وتصحيح نبوّة رسله. ولا تكاد تزاد الباء في الفاعل إلا مع «كفى».( أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) بدل منه. والمعنى: أو لم يكفك أنّه تعالى على كلّ شيء شهيد محقّق له، فيحقّق أمرك بإظهار الآيات الموعودة، كما حقّق سائر الأشياء الموعودة.
ومحصول المعنى: أنّ هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه، فيتبيّنون عند ذلك أنّ القرآن تنزيل عالم الغيب الّذي هو على كلّ شيء شهيد، أي: مطّلع مهيمن، يستوي عنده غيبه وشهادته. فيكفيهم
__________________
(١) أي: لا يميل عنه.
ذلك دليلا على أنّه حقّ، وأنّه من عنده، ولو لم يكن كذلك لـما قوي هذه القوّة، ولـما نصر حاملوه هذه النصرة. أو المعنى: أو لم يكف الإنسان رادعا عن المعاصي أنّه تعالى مطّلع على كلّ شيء، لا يخفى عليه خافية.
( أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ ) شكّ( مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ) لقاء مجازاة ربّهم يوم البعث( أَلا ) كلمة تنبيه( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ) عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها، ظواهرها وبواطنها، مقتدر عليها، لا يفوته شيء منها، فهو مجازيهم على كفرهم.
(٤٢)
سورة حم عسق
وتسمّى سورة الشورى أيضا. مكّيّة. وعن ابن عبّاس وقتادة: إلّا أربع آيات نزلت بالمدينة:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (١) . قال ابن عبّاس: ولـمّا نزلت هذه الآية قال رجل: والله ما أنزل الله هذه الآية. فأنزل الله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) (٢) . ثمّ إنّ الرجل تاب وقدم فنزل:( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) إلى قوله( لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) (٣) .
وعدد آيها ثلاث وخمسون.
أبيّ عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «من قرأ سورة حم عسق كان ممّن يصلّي عليه الملائكة، ويستغفرون له ويسترحمون».
وروى سيف بن عميرة، عن أبي عبد الله قال: «من قرأ حم عسق بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، حتّى يقف بين يدي اللهعزوجل فيقول: عبدي أدمنت قراءة حم عسق ولم تدر ما ثوابها، أما لو دريت ما هي وما ثوابها لـما مللت من قراءتها، ولكن سأجزيك جزاءك، أدخلوه الجنّة، وله فيها قصر من ياقوتة حمراء أبوابها وشرفها ودرجها، منها يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها.
وله فيها حوراوان من الحور العين، وألف جارية، وألف غلام من الولدان المخلّدين الّذين وصفهم الله تعالى».
__________________
(١) الشورى: ٢٣ و٢٤.
(٢) الشورى: ٢٣ و٢٤.
(٣) الشورى: ٢٥ ـ ٢٦.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) )
واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة السجدة بذكر القرآن، افتتح هذه السورة بذكره أيضا، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم عسق ) لعلّهما اسمان للسورة، ولذلك فصل بينهما، وعدّا آيتين. وإن كانا اسما واحدا فالفصل ليطابق سائر الحواميم.
وقيل: إنّما فضّلت هذه السورة من بين سائر الحواميم بـ «عسق»، لأنّ جميعها استفتح بذكر الكتاب على التصريح به إلّا هذه، فذكر عسق ليكون دلالة على الكتاب، لأنّه اسم من أسماء القرآن. وهو معنى قول قتادة، فإنّه قال: هو اسم القرآن.
وقيل: إنّ هذه السورة انفردت بأنّ معانيها أوحيت إلى سائر الأنبياء، فلذلك خصّت بهذه التسمية.
وقال عطاء: هي حروف مقطّعة منبئة عن حوادث الزمان. فالحاء من حرب، والميم من تحويل ملك، والعين من عدوّ مقهور، والسين من الاستئصال بسنين
كسنيّ يوسف، والقاف من قدرة اللهعزوجل وقهّاريّته على الجبابرة في الأرض.
وقال النيشابوري في تفسيره: «قيل: رموز إلى فتن كان عليّعليهالسلام يعرفها. وقيل: الحاء حكم الله، والميم ملكه، والعين علمه، والسّين سناؤه، والقاف قدرته.
وقيل: الحاء حرب عليّ ومعاوية، والميم ولاية المروانيّة، والعين ولاية العبّاسيّة، والسين ولاية السفيانيّة، والقاف قدرة المهديّ. وهذه الأقاويل ممّا لا معوّل عليها.
وقال أهل التصوّف: حاء حبّه، وميم محبوبيّة محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعين عشقه إلى سيّده، وقاف قربه إلى سيّده، أقسم أنّه يوحي إليه وإلى سائر الأنبياء من قبله، أنّه محبوبه في الأزل، وبتبعيّته خلق الكائنات»(١) .
وباقي الأقوال في ذلك مذكورة في أوّل البقرة.
( كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي: مثل ما في هذه السورة من المعاني، أو مثل ذلك الوحي أوحى الله إليك وإلى الرسل من قبلك. يعني: أنّ الله تعالى كرّر هذه المعاني في القرآن وفي جميع الكتب السماويّة، لـما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده من الأوّلين والآخرين.
وعن عطاء، عن ابن عبّاس قال: ما من نبيّ أنزل الله عليه الكتاب، إلّا أنزل عليه معاني هذه السورة بلغاتهم.
وإنّما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية، للدلالة على استمرار الوحي، وأنّ إيحاء مثله عادة الله سبحانه.
وقرأ ابن كثير: يوحى بالفتح، على أنّ «كذلك» مبتدأ، و «يوحى» خبره المسند إلى ضميره، أي: مثل ذلك يوحى. أو مصدر، و «يوحى» مسند إلى «إليك» ،
__________________
(١) غرائب القرآن للنيسابوري ٦: ٦٧.
أي: إيحاء مثل إيحاء هذه السورة يوحى إليك.
و «الله» مرفوع بما دلّ عليه «يوحى». كأنّ قائلا قال: من الموحي؟ فقيل: الله. كقراءة السلمي( وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ) (١) ، على البناء للمفعول ورفع «شركاؤهم»، على معنى: زيّنه لهم شركاؤهم.
و «العزيز الحكيم» صفتان له، مقرّرتان لعلوّ شأن الموحى به، أي: القرآن نزل من القادر الّذي لا يغالب، المحكم لأفعاله، كما مرّ في السورة السابقة.
أو بالابتداء(٢) ، كما مرّ في قراءة «نوحي» بالنون. و «العزيز» وما بعده أخبار.
أو «العزيز الحكيم» صفتان له، وقوله:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) خبران له. وعلى الوجوه الأخر استئناف مقرّر لعزّته وحكمته.
( تَكادُ السَّماواتُ ) وقرأ نافع والكسائي بالياء( يَتَفَطَّرْنَ ) أي: يتشقّقن من علوّ شأن الله وعظمته. ويدلّ عليه مجيئه بعد قوله:( الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) . وقيل: من دعائهم له ولدا، كقوله:( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ) (٣) .
وقرأ البصريّان وأبو بكر: ينفطرن. والأوّل أبلغ، لأنّه مطاوع: فطّر.
( مِنْ فَوْقِهِنَ ) أي: يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانيّة. وتخصيصها على الأوّل، لأنّ أعظم الآيات وأدلّها على علوّ شأنه من فوق السماوات، وهي العرش والكرسي وصفوف الملائكة القائلين بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلّا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى. وعلى الثاني، ليدلّ على الانفطار من تحتهنّ بالطريق الأولى. وقيل: الضمير للأرض.
( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) بالسعي فيما
__________________
(١) الأنعام: ١٣٧.
(٢) عطف على قوله: بما دلّ عليه، قبل خمسة أسطر.
(٣) مريم: ٩٠.