زبدة التفاسير الجزء ٦

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
لهم. أو حديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل يحدّثون به.
( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) )
روي: أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم لـمّا قرأ على قريش( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (١) امتعضوا(٢) من ذلك امتعاضا شديدا.
فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد أَخاصّة لنا ولآلهتنا، أم لجميع الأمم؟
فقالصلىاللهعليهوآلهوسلم : هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم.
فقال: خصمتك وربّ الكعبة، أَلست تزعم أنّ عيسى بن مريم نبيّ وتثني عليه خيرا وعلى أمّه؟ وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما، وعزير يعبد، والملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم.
__________________
(١) الأنبياء: ٩٨.
(٢) امتعض من الأمر: غضب منه وشقّ عليه.
ففرحوا وضحكوا، وسكت النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم . فأنزل الله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) (١) . ثمّ نزلت :
( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ) أي: مثلا ضربه ابن الزبعرى( إِذا قَوْمُكَ ) قريش( مِنْهُ ) من هذا المثل( يَصِدُّونَ ) يضجّون فرحا وضحكا، لظنّهم أنّ الرسول صار ملزما به.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالضمّ من الصدود، أي: يصدّون عن الحقّ ويعرضون عنه. وقيل: هما لغتان، نحو يعكف ويعكف.
( وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) أي: آلهتنا خير عندك أم عيسى، فإن كان عيسى في النار فلتكن آلهتنا معه( ما ضَرَبُوهُ لَكَ )
( إِلَّا جَدَلاً ) ما ضربوا هذا المثل إلّا لأجل الجدل والغلبة، لا لتمييز الحقّ من الباطل( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) شداد الخصومة، حراص على اللجاج، كقوله تعالى:( قَوْماً لُدًّا ) (٢) .
ولا شبهة أنّ قوله:( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ) (٣) ما أريد به إلّا الأصنام. وكذلك قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «هو لكلم ولآلهتكم ولجميع الأمم» إنّما قصد به الأصنام، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة. إلّا أنّ ابن الزبعرى لخداعه وخبث دخلته(٤) ، لـمّا رأى كلام الله ورسوله محتملا لفظه وجه العموم، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير، وجد للحيلة مساغا، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكلّ معبود غير الله، على طريق فرط الجدال وحبّ المكابرة والمغالبة، وتوقّح(٥) في ذلك، فتوقّر رسول
__________________
(١) الأنبياء: ١٠١.
(٢) مريم: ٩٧.
(٣) الأنبياء: ٩٨.
(٤) الدخلة: باطن الأمر.
(٥) أي: قلّ حياؤه وأظهر الوقاحة.
اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى أجاب عنه ربّه:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ) (١) . فدلّ به على أنّ الآية خاصّة في الأصنام. على أنّ ظاهر قوله:( وَما تَعْبُدُونَ ) لغير العقلاء.
وقيل: لـمّا سمعوا قوله:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ) (٢) قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنّهم عبدوا آدميّا ونحن نعبد الملائكة، فنزلت. وقوله:( أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) على هذا القول تفضيل لآلهتهم على عيسى، لأنّ المراد بهم الملائكة.
وقيل: لـمّا نزلت:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ ) قالوا: ما يريد محمّد بهذا إلّا أن نعبده، وأنّه يستأهل أن يعبد وإن كان بشرا، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر. فالضمير في «أم هو» لمحمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم . وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم السخريّة به والاستهزاء.
وروى سادة أهل البيتعليهمالسلام عن عليٍّعليهالسلام أنّه قال: «جئت إلى النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم يوما فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إليّ ثمّ قال: يا عليّ مثلك في هذه الأمّة كمثل عيسى بن مريم، أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا، وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا. فعظم ذلك عليهم وضحكوا وقالوا: يشبّهه بالأنبياء والرسل. فنزلت الآية.
( إِنْ هُوَ ) وما عيسى( إِلَّا عَبْدٌ ) كسائر العبيد( أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) بالنبوّة وخلقه من غير أب( وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) أمرا عجيبا لهم، بأن خلقناه من غير سبب كما خلقنا آدم، وصيّرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر. وهو كالجواب المزيح لتلك الشبهة.
ثمّ قال سبحانه دالّا على كمال قدرته، وعلى أنّه لا يفعل إلّا الأصلح:( وَلَوْ
__________________
(١) الأنبياء: ١٠١.
(٢) آل عمران: ٥٩.
نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ ) لولدنا منكم يا رجال( مَلائِكَةً ) كما ولدنا عيسى من غير أب، لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر. أو لجعلنا بدلا منكم ملائكة( فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) يخلفونكم في الأرض، بأن أهلكناكم وجعلنا الملائكة بدلكم سكّان الأرض يعمرونها ويعبدون الله.
والمعنى: أنّ حال عيسى وإن كانت عجيبة، فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك. وأنّ الملائكة مثلكم، من حيث إنّها ذوات ممكنة وأجسام حادثة يحتمل خلقها توليدا كما جاز خلقها إبداعا، وذات القديم متعالية عن الحدوث والإمكان، فمن أين لهم استحقاق الألوهيّة والانتساب إلى الله سبحانه؟
( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) وإنّ عيسى، أي: نزوله من السماء شرط من أشراطها، يعلم منه دنوّها. فسمّى الشرط علما لحصول العلم به. أو إحياؤه الموتى يدلّ على قدرة الله على النشر الّذي هو أوّل ساعات القيامة. والأوّل أكثر وأشهر.
وأورد مسلم في الصحيح قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم يقول: «ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا. فيقول: لا إنّ بعضكم على بعض أمراء، تكرمة من الله لهذه الأمّة»(١) .
وفي الحديث أيضا: «ينزل عيسى على ثنيّة بالأرض المقدّسة يقال لها: أفيق، وعليه ممصرتان، أي: حلّتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، وبها يقتل الدجّال. فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام يؤمّ بهم، فيتأخّر الإمام، فيقدّمه عيسى ويصلّي خلفه على شريعة محمدصلىاللهعليهوآلهوسلم . ثمّ يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلّا من آمن به».
وعن الحسن: الضمير للقرآن، فإنّ فيه الإعلام بالساعة والدلالة عليها. وفي حديث آخر: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم».
__________________
(١) صحيح مسلم ١: ١٣٧ ح ١٥٦.
( فَلا تَمْتَرُنَّ بِها ) فلا تشكّنّ فيها. من المرية، وهي الشكّ.( وَاتَّبِعُونِ ) واتّبعوا هداي، أو شرعي، أو رسولي. وقيل: هو قول الرسول، أمر أن يقول: اتّبعوني( هذا ) أي: هذا الّذي أدعوكم إليه. أو هذا القرآن إن جعل الضمير في «وإنّه» للقرآن.( صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) لا يضلّ سالكه. وقرأ أبو عمرو: فاتّبعوني.
( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ ) عن المتابعة( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) بانت عداوته لكم، إذ أخرج أباكم من الجنّة، ونزع عنه اللباس، وعرّضكم للبليّة.
( وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) )
ثمّ أخبر سبحانه عن حال عيسىعليهالسلام حين بعثه الله نبيّا، فقال:( وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ ) بالمعجزات، أو بآيات الإنجيل، أو بالشرائع الواضحات( قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ ) بالإنجيل، أو بالشريعة( وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) وهو ما يكون من أمر الدين، لا ما يتعلّق بأمر الدنيا، فإنّ الأنبياء لم يبعثوا لبيانه، ولذلك قالصلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنتم أعلم بأمر دنياكم»( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) فيما أبلغه عنه.
ثمّ بيّن ما أمرهم بالطاعة فيه بقوله:( إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) كأنّه قال: ما أمركم هو اعتقاد التوحيد والتعبّد بالشرائع( هذا ) إشارة إلى مجموع
الأمرين( صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) يفضي بكم إلى الجنّة. وهذا من تتمّة كلام عيسى، أو استئناف من الله يدلّ على ما هو المقتضي للطاعة في ذلك.
( فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ ) الفرق المتحزّبة بعد عيسى( مِنْ بَيْنِهِمْ ) من بين النصارى، أو اليهود والنصارى من بين قومه المبعوث هو إليهم( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ) من المتحزّبين( مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) هو يوم القيامة.
( هَلْ يَنْظُرُونَ ) هل ينظر قريش، أو الّذين ظلموا( إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ ) بدل من «الساعة». والمعنى: ما ينظرون إلّا إتيان الساعة( بَغْتَةً ) فجأة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) غافلون عنها، لاشتغالهم بأمور الدنيا، وإنكارهم لها.
( الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) )
( الْأَخِلَّاءُ ) الأحبّاء( يَوْمَئِذٍ ) متعلّق بـ «عدوّ» في قوله:( بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) أي: يتعادون يومئذ، لأنّه ينقطع فيه كلّ خلّه بين المتخالّين في غير ذات الله، وينقلب عداوة ومقتا، لأنّه ظهر عليهم في ذلك اليوم أنّ ما كانوا يتخالّون له صار
سببا للعذاب( إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) إلّا خلّة المتصادقين في الله، فإنّها لـمّا كانت في الله تبقى نافعة أبد الآباد، بل تصير زائدة إذا رأوا ثواب التحابّ في الله والتباغض في الله.
وقيل: «إلّا المتّقين» إلّا المجتنبين أخلّاء السوء. وقيل نزلت: في أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط.
ثمّ حكى عمّا ينادى به المتّقون المتحابّون في الله يومئذ بقوله:( يا عِبادِ ) أي: يقال لهم: يا عبادي( لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) من فوات الثواب. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بحذف الياء من: عباد.
ثمّ وصف المنادون بقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا ) صدّقوا بدلائلنا وحججنا واتّبعوها. وهو منصوب المحلّ، لأنّه صفة منادى مضاف.( وَكانُوا مُسْلِمِينَ ) حال من الواو، أي: الّذين آمنوا مخلصين وجوههم لنا، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا. غير أنّ هذه العبارة آكد وأبلغ.
قيل: إذا بعث الله الناس فزع كلّ أحد، فينادي مناد: يا عبادي، فيرجوها الناس كلّهم. ثمّ يتبعها: الّذين آمنوا، فييأس الناس منها غير المسلمين.
( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ ) نساؤكم المؤمنات( تُحْبَرُونَ ) تسرّون سرورا بحيث يظهر حباره ـ أي: أثره ـ على وجوهكم، كقوله:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) (١) . أو تزيّنون، من الحبر، وهو حسن الهيئة. قال الزجّاج: تكرمون إكراما يبالغ فيه. والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل.
( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ ) بقصاع ـ جمع صحفة ـ مأخوذة( مِنْ ذَهَبٍ ) فيها ألوان الأطعمة( وَأَكْوابٍ ) كيزان لا عرى لها. جمع كوب. وهو كوز لا عروة له.( وَفِيها ) وفي الجنّة( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ) من أنواع النعم المشروبة
__________________
(١) المطفّفين: ٢٤.
والمطعومة والمشمومة والملبوسة وغيرها. وقرأ نافع وابن عامر وحفص: تشتهيه على الأصل.
( وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) ما تلذّه العيون بالنظر إليه. وإنّما أضاف الالتذاذ إلى الأعين، وإنّما المتلذّذ في الحقيقة هو الإنسان، لأنّ المناظر الحسنة سبب من أسباب اللذّة، فإضافة اللّذة إلى الموضع الّذي يلتذّ الإنسان به أحسن، لـما في ذلك من البيان مع الإيجاز. وقد جمع الله تعالى بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلائق كلّهم على أن يصفوا ما في الجنّة من أنواع النعم لم يزيدوا على ما انتظمتاه.
( وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ ) فإنّ كلّ نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال، ومستعقب للتحسّر في ثاني الحال.
( وَتِلْكَ ) الإشارة إلى الجنّة المذكورة وقعت مبتدأ، خبره( الْجَنَّةُ ) . وقوله:( الَّتِي أُورِثْتُمُوها ) صفتها. أو «الجنّة» صفة «تلك» و «الّتي» خبرها، أو صفة «الجنّة» والخبر( بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) . وعلى هذا تتعلّق الباء بمحذوف لا بـ «أورثتموها» كما في الظروف الّتي تقع أخبارا، تقديره: حاصلة بما كنتم. وعلى الوجه الأوّل تتعلّق بـ «أورثتموها». وشبّهت الجنّة في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. وعن ابن عباس: الكافر يرث نار المؤمن، والمؤمن يرث جنّة الكافر. وهذا كقوله:( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ) (١) .
( لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها ) بعضها( تَأْكُلُونَ ) لكثرتها ودوام نوعها. ولعلّ تخصيص التنعّم بالمطاعم والملابس، وتكريره في القرآن، وهو حقير بالإضافة إلى سائر نعائم الجنّة، لـما كان بهم من الشدّة والفاقة في الدنيا. وعن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا ينزع رجل في الجنّة من ثمرها إلّا نبت مكانها مثلاها».
__________________
(١) المؤمنون: ١٠.
( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) )
ثمّ أخبر سبحانه عن أحوال أهل النار، فقال:( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ) الكاملين في الإجرام. وهم الكفّار، لأنّه جعل قسيم المؤمنين بالآيات، وحكى عنهم ما يخصّ بالكفّار، وهو قوله:( فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ ) . خبر «إنّ». أو «خالدون» خبر، والظرف متعلّق به.
( لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ) لا يخفّف. من: فترت عنه الحمّى إذا سكنت قليلا. والتركيب للضعف.( وَهُمْ فِيهِ ) في العذاب( مُبْلِسُونَ ) آيسون من النجاة. وعن الضحّاك: يجعل المجرم في تابوت من نار، ثمّ يردم عليه، فيبقى فيه خالدا لا يرى ولا يرى.
ولـمّا بيّن سبحانه ما يفعله بالمجرمين، بيّن أنّه لم يظلمهم بذلك، فقال:( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) على أنفسهم بما جنوا عليها من العذاب. مرّ مثله غير مرّة. و «هم» فصل عند البصريّين، عماد عند الكوفيّين.
( وَنادَوْا يا مالِكُ ) هو خازن جهنّم( لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ) أي: سل ربّك أن يقضي علينا، أي: يميتنا حتّى نتخلّص من هذا العذاب. مأخوذ من: قضى عليه إذا
أماته. ومنه قوله تعالى:( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (١) . وهو لا ينافي إبلاسهم، لأنّهم معذّبون أزمنة متطاولة وأحقابا ممتدّة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنّه لا فرج لهم، ويغوّثون(٢) أوقاتا لشدّة ما بهم.
وعن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «يلقى على أهل النار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون: ادعوا مالكا. فيدعون: يا مالك ليقض علينا ربّك».
( قالَ ) أي: قال الله، أو مالك( إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ) لا خلاص لكم بموت ولا غيره.
( لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ ) بالإرسال والإنزال. وهو تتمّة الجواب إن كان في «قال» ضمير الله، وإلّا فجواب منه. فكأنّه تعالى تولّى جوابهم بعد جواب مالك.
( وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ ) معاشر الخلق( لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) لـما في اتّباعه من إتعاب النفس وإدءاب(٣) الجوارح، ولألفتكم بالباطل فكرهتم مفارقته. عن ابن عبّاس: إنّما يجيبهم بهذا الجواب بعد ألف سنة.
( أَمْ أَبْرَمُوا ) إضراب عن الكلام السابق، أي: ما سمعوا هذا القول بسمع القبول، بل أحكموا( أَمْراً ) من كيدهم ومكرهم بالرسول، ولم يقتصروا على كراهة الحقّ( فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) كيدنا بهم في مجازاة ما أبرموا من كيدهم، كقوله:( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ) (٤) .
( أَمْ يَحْسَبُونَ ) بل أَيظنّ هؤلاء الكفّار( أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ) حديث أنفسهم بذلك، أو تحديثهم غيرهم في مكان خال( وَنَجْواهُمْ ) وتناجيهم، أي: ما تكلّموا به فيما بينهم( بَلى ) نسمعهما ونطّلع عليهما( وَرُسُلُنا ) والحفظة مع ذلك
__________________
(١) القصص: ١٥.
(٢) أي: يقولون: وا غوثاه.
(٣) أدأب إدآبا: أتعب.
(٤) الطور: ٤٢.
( لَدَيْهِمْ ) ملازمة لهم( يَكْتُبُونَ ) ذلك.
وعن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر من الناس ذنوبه، وأبداها للّذي لا يخفى عليه شيء في السماوات، فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من علامات النفاق.
( قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩) )
( قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ ) أي: صحّ ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه، وحجّة واضحة تدلون بها( فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ) أي: أنا أوّل من يعظّم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظّم الرجل ولد الملك، فإنّ النبيّ يكون أعلم بالله.
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد على أبلغ الوجوه. وذلك أنّه علّق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان المعلّق بها محالا مثلها. فهو في صورة إثبات كينونة الولد والعبادة، وفي معنى نفيهما، على أبلغ الوجوه وأقواها. ونظيره أن يقول العدليّ للمجبّر: إن كان الله خالقا للكفر في القلوب، ومعذّبا عليه عذابا سرمدا، فأنا أوّل من يقول: هو شيطان وليس بإله.
فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه: نفي أن يكون الله خالقا للكفر، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه، على طريق المبالغة فيه من الوجه الّذي ذكرنا. مع الدلالة على سماجة المذهب وضلاله الذاهب إليه، والشهادة القاطعة بإحالته، والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه.
وقد تمحّل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف، المليء بالنكت والفوائد المستقلّة بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه. فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم، فأنا أوّل الآنفين من أن يكون له ولد. من: عبد يعبد إذا اشتدّ أنفه، فهو عبد وعابد.
وقيل: «إن» نافية، أي: ما كان للرحمن ولد، فأنا أوّل من قال بذلك وعبد ووحّد.
وقرأ حمزة والكسائي: ولد، بالضمّ وسكون اللام.
ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن ذلك فقال:( سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) عن كونه ذا ولد، فإنّ هذه الأجسام لكونها أصولا ذات استمرار تبرّأت عمّا يتّصف به سائر الأجسام من توليد المثل، فما ظنّك بمبدعها وخالقها؟! ثمّ خاطب نبيّه على وجه التهديد للكفّار، فقال:( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ) في
باطلهم( وَيَلْعَبُوا ) في دنياهم( حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) وهو دلالة على أنّ قولهم هذا جهل واتّباع هوى، وأنّهم مطبوع على قلوبهم خذلانا وتخلية، كقوله:( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (١) . وإيعاد بالشقاء الأبدي في العاقبة.
ولـمّا بيّن سبحانه وحدانيّته عقّبه تأكيدا لها قوله:( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) أي: مستحقّ لأن يعبد فيهما. والظرف متعلّق به، لأنّه بمعنى المعبود، أو متضمّن معناه، كقولك: هو حاتم في البلد، على تضمين معنى الجواد الّذي شهر به، كأنّك قلت: هو جواد في البلد.
والراجع إلى الموصول مبتدأ محذوف، لطول الصلة بمتعلّق الخبر والعطف عليه. ويجوز أن يكون «في السماء» صلة «الّذي» و «إله» خبر مبتدأ محذوف، على أنّ الجملة بيان للصلة، وأنّ كونه في السماء على سبيل الإلهيّة والربوبيّة، لا على معنى الاستقرار. وفيه نفي الآلهة السماويّة والأرضيّة، واختصاصه باستحقاق الألوهيّة.
وكرّر لفظ «إله» لأمرين، أحدهما: التأكيد، ليتمكّن المعنى في النفس. والثاني: لأنّ المعنى: هو إله في السماء يجب على الملائكة عبادته، وإله في الأرض يجب على الإنس والجنّ عبادته.
( وَهُوَ الْحَكِيمُ ) في جميع أفعاله( الْعَلِيمُ ) بمصالح عباده. وهذا كالدليل على وحدانيّته في الألوهيّة.
ثمّ نزّه ذاته عن الشركة بقوله:( وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) كالهواء، أي: جلّ عن أن يكون له ولد أو شبيه من له التصرّف في السماوات والأرض وفيما بينهما، بلا دافع ولا منازع. أو دامت بركته.( وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) العلم بالساعة الّتي تقوم القيامة فيها، لأنّه لا يعلم وقته على التعيين غيره
__________________
(١) فصّلت: ٤٠.
( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يوم القيامة، فيجازي كلّا على قدر عمله. وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم بالتاء، على الالتفات للتهديد.
( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ ) كما زعموا أنّهم شفعاؤهم عند الله. وهي مسألة الطالب العفو عن غيره وإسقاط العقاب عنه.( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ ) وهو توحيد الله( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإخلاص.
وتوحيد الضمير ثمّ جمعه باعتبار اللفظ والمعنى. والاستثناء متّصل إن أريد بالموصول كلّ ما عبد من دون الله، لاندراج الملائكة والمسيح فيه. ومنفصل إن خصّ بالأصنام.
روي: أنّ النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقوله محمد حقّا فنحن نتولّى الملائكة، وهم أحقّ بالشفاعة لنا منه. فنزلت الآية.
فالمعنى: أنّهم يشفعون للمؤمنين بإذن الله. وفيه دلالة على أنّ حقيقة الإيمان هو الاعتقاد بالقلب والمعرفة.
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) سألت العابدين، أو المعبودين( مَنْ خَلَقَهُمْ ) من أخرجهم من العدم إلى الوجود( لَيَقُولُنَّ اللهُ ) لتعذّر المكابرة فيه من فرط ظهوره( فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟!( وَقِيلِهِ ) وقول الرسول. عن الأخفش: أنّ نصبه للعطف على( سِرَّهُمْ ) (١) أي: أم يحسبون أنّا لا نسمع قوله. وعنه أيضا: أنّه منصوب بإضمار فعله، أي: وقال قيله. وعن الزجّاج: أنّه معطوف على محلّ( السَّاعَةِ ) (٢) كما تقول: عجبت من ضرب زيد وعمرا. وجرّه عاصم وحمزة عطفا على لفظ «الساعة».( يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) .
قال صاحب الكشّاف بعد نقل هذه الأقوال: «والّذي قالوه ليس بقويّ في
__________________
(١) الزخرف: ٨٠ و٨٥.
(٢) الزخرف: ٨٠ و٨٥.
المعنى، مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا، ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجرّ والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه. ويكون قوله:( إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) جواب القسم. كأنّه قيل: وأقسم بقيله يا ربّ إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون وإقسام الله بقيله رفع منه، وتعظيم لدعائه والتجائه إليه»(١) .
( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ) فأعرض عن دعوتهم آيسا عن إيمانهم، وودّعهم(٢) وتاركهم( وَقُلْ سَلامٌ ) تسلّم(٣) منكم ومتاركة. وقيل: معناه: قل ما تسلم به من شرّهم وأذاهم.( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) وعيد من الله لهم، وتسلية للرسول. وقرأ نافع وابن عامر بالتاء، على أنّه من المأمور بقوله.
وهذه الآية منسوخة بآية السيف(٤) . وقيل: معناه: فاصفح عن سفههم، ولا تقابلهم بمثله. فلا يكون منسوخا.
__________________
(١) الكشّاف ٤: ٢٦٨.
(٢) ودّع فلانا: هجره.
(٣) تسلّم منه: تبرّأ.
(٤) التوبة: ٥ و٢٩.
(٤٤)
سورة الدخان
مكّيّة. وهي تسع وخمسون آية.
أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة غفر له».
أبو هريرة عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ حم الدخان في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك».
وعنه عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأها في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له».
أبو امامة عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة ويوم الجمعة، بنى الله له بيتا في الجنّة».
وروى أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفرعليهالسلام قال: «من قرأ سورة الدخان في فرائضه ونوافله، بعثه الله من الآمنين يوم القيامة، وأظلّه تحت ظلّ عرشه، وحاسبه حسابا يسيرا، و أعطي كتابه بيمينه».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) )
ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الزخرف بالوعيد والتهديد، افتتح هذه السورة أيضا بمثل ذلك في الإنذار بالعذاب الشديد، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ) القرآن. والواو للقسم إن جعلت «حم» تعديدا للحروف، أو اسما للسورة، مرفوعا على خبر الابتداء المحذوف. وللعطف إن كانت «حم» مقسما بها. والجواب قوله:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) أي: في ليلة القدر. وقيل: هي ليلة النصف من شعبان. ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصكّ، وليلة الرحمة. وقيل: في تسميتها بها: إنّ البندار ـ أي: من في يده الخراج ـ إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك اللهعزوجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة.
ومعنى إنزال القرآن فيها: أنّ الله سبحانه ابتدأ فيها إنزاله، أو أنزل فيها جملة
إلى السماء الدنيا من اللوح الّذي يكون في السماء السابعة، ثمّ أنزله على رسول الله نجوما نجوما.
ومعنى المباركة: الكثيرة الخير. ومن بركتها إنزال القرآن فيها، فإنّ نزوله سبب للمنافع الدينيّة والدنيويّة. ولو لم يوجد فيها إلّا إنزاله لكفى به بركة. قيل: بدأ في استنساخ القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ووقع الفراغ في ليلة القدر.
( إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) استئناف يبيّن المقتضي للإنزال. وكذا قوله:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) فإنّ كونها مفرّق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة، يستدعي أن ينزّل فيها القرآن الّذي هو من عظائمها. ويجوز أن يكون صفة( لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) وما بينهما اعتراض.
وقيل: في ليلة القدر تدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
وقيل: يعطى كلّ عامل بركات أعماله، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، وعلى القلوب هيبته.
وقيل: بركة هذه الليلة في أنّها مختصّة بخمس خصال: تفريق كلّ أمر حكيم.
وفضيلة العبادة فيها.
قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «من صلّى في هذه الليلة مائة ركعة، أرسل الله إليه مائة ملك: ثلاثون يبشّرونه بالجنّة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكائد الشيطان». ونزول الرحمة.
قالصلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله يرحم أمّتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب».
وحصول المغفرة. قالعليهالسلام : «إنّ الله يغفر لجميع المسلمين في هذه الليلة، إلّا لكاهن، أو ساحر، أو مشاحن(١) ، أو مدمن خمر، أو عاقّ للوالدين، أو مصرّ على الزنا».
وما أعطي فيها رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم من تمام الشفاعة. وذلك أنّه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمّته، فأعطي الثلث منها. ثمّ سأل ليلة الرابع عشر، فاعطي الثلثين. ثمّ سأل ليلة الخامس عشر، فاعطي الجميع، إلّا من شرد عن الله شراد البعير. ومن عادة الله في هذه الليلة أن يزيد ماء زمزم زيادة ظاهرة.
والقول الأكثر أنّ المراد بالليلة المباركة ليلة القدر، لقوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (٢) . ولمطابقة قوله:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) لقوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (٣) . وقوله:( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) (٤) . وليلة القدر في أكثر الأقوال في شهر رمضان.
وهذا أصحّ القولين، لأنّه منقول عن ابن عبّاس وقتادة وابن زيد، ومرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام .
( أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ) نصب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا. وهو مزيد تفخيم للأمر. ويجوز أن يكون حالا من «كلّ»، أو «أمر»، أو من ضميره المستكن في «حكيم»، لأنّه موصوف. أو حالا من أحد ضميري «أنزلناه»، يعني: آمرين أو مأمورا. وأن يراد به ما يقابل النهي، وقع مصدرا لـ «يفرق»، لأنّ الأمر والفرقان واحد، من حيث إنّه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه. أو مصدر لفعله مضمرا، من حيث إنّ الفرق به، أي: أمرنا أمرا
__________________
(١) المشاحن: المباغض الشديد العداوة.
(٢) القدر: ١ و٤.
(٣) القدر: ١ و٤.
(٤) البقرة: ١٨٥.
من لدنّا.
( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) بدل من( إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) أي: إنّا أنزلنا القرآن لأنّ من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا.
( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) لأجل الرحمة عليهم. ووضع الربّ موضع الضمير، إشعارا بأنّ الربوبيّة تقتضي الرحمة على المربوبين، فإنّه أعظم أنواع التربية. أو علّة لـ «يفرق» أو «أمرا». و «رحمة» مفعول به.( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ) يسمع أقوال العباد( الْعَلِيمُ ) ويعلم أحوالهم. وهو بما بعده تحقيق لربوبيّته، وإيذان بأنّها لا تحقّ إلّا لمن هذه صفاته.
( رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) خبر آخر، أو استئناف. وقرأ الكوفيّون بالجرّ بدلا من «ربّك».( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) أي: إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم.
أو كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم من خلقها؟ فقلتم: الله، علمتم أنّ الأمر كما قلنا، كما تقول: إنّ هذا إنعام زيد الّذي تسامع الناس بكرمه واشتهر وإسخاؤه، إن بلغك حديثه وحدّثت بقصّته. وفائدة الشرطيّة التنبيه للمخاطب بأنّ من حقّك أن تكون عالما به، ولا تكون غافلا عن مثله. أو إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك.
( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) لا يستحقّ العبادة غيره، إذ لا خالق سواه( يُحْيِي وَيُمِيتُ ) كما تشاهدون( رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) .
ثمّ ردّ أن يكونوا موقنين بقوله:( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) أي: إقرارهم غير صادر عن علم وتيقّن، ولا عن جدّ وحقيقة، بل قول مخلوط بهزء ولعب.
( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ ) فانتظرهم في هذا اليوم. ويجوز أنّه منصوب بأنّه مفعول به. يقال: رقبته وارتقبته، نحو: نظرته وانتظرته، أي: انتظر يوم تأتي السماء( بِدُخانٍ مُبِينٍ ) أي: يوم شدّة ومجاعة، فإنّ الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره. أو لأنّ الهواء يظلم عام القحط، لقلّة الأمطار وكثرة
الغبار. أو لأنّ العرب تسمّي الشرّ الغالب دخانا، وقد قحطوا حتّى أكلوا جيف الكلاب وعظامها.
ويروى أنّه قيل لابن مسعود: إنّ قاصّا عند أبواب كندة يقول: إنّه دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الخلق. فقال: من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإنّ من علم الرجل أن يقول لشيء لا يعلمه: الله أعلم. ثمّ قال: ألا وسأحدّثكم أنّ قريشا لـمّا استعصت على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم دعا عليهم فقال: أللّهمّ اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف. فأصابهم الجهد حتّى أكلوا الجيف والعلهز(١) . وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدّث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه، وناشدوه الله والرحم، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا، فلمّا كشف عنهم رجعوا إلى شركهم.
وإسناد الإتيان إلى السماء لأنّها تكفّ الأمطار الّتي هي سبب الغبار الّذي يشبهه الدخان. أو المراد يوم ظهور الدخان المعدود في أشراط الساعة، لـما روي أنّهصلىاللهعليهوآلهوسلم لـمّا قال: «أوّل الآيات الدخان، ونزول عيسى، ونار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر». قال حذيفة: ما الدخان يا رسول الله؟ فتلا رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم الآية وقال: «يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوما وليلة. أمّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام. وأمّا الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره».
وروي أيضا عن أمير المؤمنينعليهالسلام : «أنّه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة، يدخل في أسماع الكفرة، حتّى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ(٢) .
__________________
(١) العلهز: طعام كانوا يتّخذونه من الدم ووبر البعير في زمن المجاعة.
(٢) الحنيذ: المشويّ.
ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام. وتكون الأرض كلّها كبيت أو قد فيه خصاص»(١) .
( يَغْشَى النَّاسَ ) يحيط بهم. في محلّ الجرّ على أنّه صفة للدخان. وقوله:( هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ) أي: قائلين ذلك( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ ) منصوب المحلّ بفعل مضمر، وهو: يقولون. و «يقولون» منصوب على الحال.( إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) وعد بالإيمان إن كشف العذاب عنهم.
( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى ) من أين لهم وكيف يتذكّرون بهذه الحالة( وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ) بيّن لهم ما هو أعظم من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة.
( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ) فلم يذّكّروا( وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ) فقال بعضهم: يعلّمه عداس، غلام أعجميّ لبعض ثقيف. وقال آخرون: إنّه مجنون.
( إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ ) بدعاء النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّه لـمّا دعا رفع القحط( قَلِيلاً ) كشفا قليلا، أو زمانا قليلا، وهو ما بقي من أعمارهم( إِنَّكُمْ عائِدُونَ ) إلى الكفر غبّ الكشف. ومن فسّر الدخان بما هو من الأشراط قال: إذا جاء الدخان غوّث(٢) الكفّار بالدعاء، فيكشفه الله عنهم بعد أربعين يوما، فريثما يكشفه عنهم يرتدّون لا يتمهّلون. ومن فسّره بما في يوم القيامة أوّله بالشرط. والتقدير:( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ) يوم القيامة، أو يوم بدر. ظرف لفعل دلّ عليه( إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ) لا لـ «منتقمون» فإنّ «إنّ» تحجزه عنه. أو بدل من «يوم تأتي». والبطش هو شدّة الألم.
( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ
__________________
(١) الخصاص: الفرج في البناء وما شاكله.
(٢) أي: قالوا: وا غوثاه.
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) )
ثمّ شبّه حالهم بحال المعاندين الّذين كانوا من قبلهم، فقال:( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ) امتحنّاهم بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم، ليشكروا على ما أنعمنا عليهم ويطيعونا، فبدّلوا الشكر بالكفران، وعصوا أمرنا بالثبات على الكفر( وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) على الله، أو على المؤمنين، أو في نفسه، لشرف نسبه وفضل حسبه، لأنّ الله لم يبعث نبيّا إلّا من سراة قومه وكرامهم.
( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ) بأن أدّوهم إليّ، وأرسلوهم معي. وهم بنو إسرائيل، كقوله تعالى:( أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ) (١) . ولا تعذّبهم. أو بأن أدّوا إليّ حقّ الله، من الإيمان وقبول الدعوة يا عباد الله. ويجوز أن تكون «أن» مخفّفة، أي: وجاءهم بأنّ الشأن أدّوا إليّ. أو مفسّرة، لأنّ مجيء الرسول متضمّن لمعنى القول، لأنّه لا يجيئهم إلّا مبشّرا ونذيرا وداعيا إلى الله.( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) غير متّهم، لدلالة المعجزات على صدقه، أو لائتمان الله إيّاه على وحيه. وهو علّة الأمر.( وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ ) ولا تتكبّروا عليه. بالاستهانة بوحيه ورسوله.
و «أن» كالأولى في وجهيها.( إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) بحجّة واضحة يظهر الحقّ معها. وهذا علّة للنهي. ولذكر الأمين مع الأداء، والسلطان المبين مع العلاء ،
__________________
(١) الشعراء: ١٧.
شأن لا يخفى.
فلمّا قال ذلك توعّدوه بالقتل والرجم، فقال:( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ) التجأت إليه توكّلا عليه( أَنْ تَرْجُمُونِ ) أن تؤذوني ضربا أو شتما، أو تقتلوني. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: عتّ بالإدغام(١) .
( وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) فكونوا بمعزل منّي، واقطعوا أسباب الوصلة عنّي. أو فخلّوني واتركوني لا عليّ ولا لي، ولا تتعرّضوا لي بسوء، فإنّه ليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم.
( فَدَعا رَبَّهُ ) بعد ما كذّبوه ويئس من أن يؤمنوا به( أَنَّ هؤُلاءِ ) بأنّ هؤلاء( قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ) وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به، ولذلك سمّاه دعاء.
قيل: كان دعاؤه: أللّهمّ عجّل لهم ما يستحقّونه بإجرامهم. وقيل. هو قوله:( رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٢) . وما دعا عليهم إلّا بعد أن أذن له في ذلك.
( فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً ) أي: فقال: أسر. أو قال: إن كان الأمر كذلك فأسر ببني إسرائيل. وقرأ ابن كثير ونافع بوصل الهمزة، من: سرى.( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) يتّبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم.
( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ) مفتوحا ذا فجوة واسعة. أو ساكنا على هيئته، قارّا على حاله، من انتصاب الماء، وكون الطريق يبسا بعد ما جاوزته، ولا تضربه بعصاك، ولا تغيّر منه شيئا ليدخله القبط، ويطمع فرعون في دخوله. فقد روي: أنّ موسىعليهالسلام لـمّا جاوز البحر أراد أن يضربه بعصا فينطبق كما ضربه فانفلق، فقال سبحانه: اتركه يا موسى.( إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) أي: سيغرقهم الله.
__________________
(١) أي: بإدغام الذال في التاء.
(٢) يونس: ٨٥.
( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) )
ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم بعد إهلاكهم، فقال:( كَمْ تَرَكُوا ) كثيرا تركوا( مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ) محافل مزيّنة ومنازل حسنة. وعن ابن عبّاس: منابر الخطباء.( وَنَعْمَةٍ ) أي: تنعّم( كانُوا فِيها فاكِهِينَ ) متنعّمين كما يتنعّم الآكل بأنواع الفواكه.
( كَذلِكَ ) مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها. أو الأمر كذلك.( وَأَوْرَثْناها ) عطف على الفعل المقدّر، أو على «تركوا». وإيراث النعمة تصييرها إلى الثاني بعد الأول بغير مشقّة، كما يصير الميراث إلى أهله على تلك الصفة. فلمّا كانت نعمة قوم فرعون وصلت بعد هلاكهم إلى غيرهم، كان ذلك إيراثا من الله لهم.( قَوْماً آخَرِينَ ) لبسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء. وهم بنو إسرائيل، كانوا متسخّرين مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم الله على أيديهم، وأورثهم ملكهم وديارهم. وقيل: غيرهم، لأنّهم لم يعودوا إلى مصر.
( فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ) مجاز عن عدم المبالاة بهلاكهم، وعدم الاعتداد بوجودهم، كما قالت العرب على سبيل التمثيل والتخييل، مبالغة في وجوب البكاء والجزع على موت رجل خطير وتعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح وأظلمت له الشمس، في نقيض ذلك. ومنه ما روي عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه، إلّا بكت عليه
السماء والأرض».
وكذلك يروى عن ابن عبّاس: أنّ المؤمن ليبكي عليه مصلّاه، وموضع عبادته، ومصعد عمله، ومهبط رزقه.
وعن السدّي: لـمّا قتل الحسين بن عليّعليهالسلام بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرة أطرافها.
وروى زرارة بن أعين عن أبي عبد اللهعليهالسلام أنّه قال: «بكت السماء على يحيى بن زكريّا وعلى الحسين بن عليّعليهالسلام أربعين صباحا، ولم تبك إلّا عليهما. قلت: فما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء».
وقيل: تقديره: فما بكت عليهم أهل السماء والأرض، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
( وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ) ممهلين إلى وقت آخر، بل عوجلوا بالعقوبة.
( وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) )
( وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ ) من استعباد فرعون وقتله أبناءهم( مِنْ فِرْعَوْنَ ) بدل من «العذاب» على حذف المضاف، أي: عذاب فرعون. أو على جعل فرعون نفس العذاب، لإفراطه في التعذيب. أو حال من «المهين» يعني: واقعا من جهته.( إِنَّهُ كانَ عالِياً ) متكبّرا متغلّبا( مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) المجاوزين الحدّ في العتوّ والشرارة. وهو خبر ثان، أي: كان متكبّرا مسرفا. أو حال من الضمير في «عاليا» أي: كان رفيع الطبقة في الإسراف حال كونه من بينهم.
( وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ ) اخترنا بني إسرائيل بالنجاة عن الغرق، وإعطاء التوراة، وكثرة الأنبياء منهم( عَلى عِلْمٍ ) عالمين بأنّهم أحقّاء بذلك. أو مع علم منّا بأنّهم يزيغون في بعض الأحوال.( عَلَى الْعالَمِينَ ) على عالمي زمانهم( وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ) كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المنّ والسلوى( ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ ) نعمة جليّة، أو اختبار ظاهر.
( إِنَّ هؤُلاءِ ) يعني: كفّار قريش، لأنّ الكلام فيهم. وقصّة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنّهم مثلهم في الإصرار على الضلالة، والإنذار عن مثل ما حلّ بهم.( لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ) أي: إذا قيل لهم: إنّكم تموتون موتة يتعقّبها حياة، كما تقدّمتكم موتة قد تعقّبتها حياة، قالوا: إن هي إلّا موتتنا الأولى، أي: ما الموتة الّتي من شأنها أن يتعقّبها حياة إلّا الموتة الأولى للحياة الدنيويّة دون الموتة الثانية( وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ) بمبعوثين. يقال: أنشر الله الموتى ونشرهم إذا بعثهم.
( فَأْتُوا بِآبائِنا ) خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين، أي :
فعجّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربّكم ذلك( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) في وعدكم، ليكون دليلا على أنّ ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حقّ.
وقيل: كانوا يطلبون من المؤمنين أن يدعوا الله فينشر لهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه، فإنّه كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل ومعاظم الشؤن.
ولـمّا تركوا الحجّة، وعدلوا إلى الشبهة جهلا، عدل سبحانه في إجابتهم إلى الوعيد والوعظ، فقال:( أَهُمْ خَيْرٌ ) أَمشركو قريش خير في القوّة والمنعة والعدد والعدد( أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ) هو تبّع الحميري. وكان مؤمنا وقومه كافرين، ولذلك ذمّهم دونه. وعنهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما أدري أَكان تبّع نبيّا أو غير نبيّ».
وعنهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تسبّوا تبّعا، فإنّه كان قد أسلم».
وعن ابن عبّاس: كان نبيّا. وقيل: نظر ابن عبّاس إلى قبرين بناحية حمير فقال: هذا قبر رضوى، وقبر حبى بنت تبّع، ولا تشركان بالله شيئا. وقيل: هو الّذي كسا البيت.
وعن الصادقعليهالسلام : «إنّ تبّع قال للأوس والخزرج، كونوا ها هنا حتّى يخرج هذا النبيّ. أما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه».
وهو الّذي سار بالجيوش، وحيّر الحيرة، وبنى سمرقند. وقيل: هدمها ثمّ بناها. وكان إذا كتب قال: بسم الله الّذي ملك برّا وبحرا، وضحّا(١) وريحا. وسمّي تبّعا لكثرة أتباعه من الناس. وقيل: لأنّه تبع من قبله من ملوك اليمن. واسمه أسعد أبو كرب. وقيل لملوك اليمن: التبابعة، كما قيل: الأقيال، لأنّهم يتقيّلون، أي: يتبعون. وسمّي الظلّ تبعا، لأنّه يتبع الشمس.
( وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) كعاد وثمود( أَهْلَكْناهُمْ ) استئناف بمآل قوم تبّع
__________________
(١) الضحّ: الشمس.
والّذين من قبلهم، هدّد به كفّار قريش. أو حال بإضمار «قد». أو خبر من الموصول إن استؤنف به.( إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ) كافرين. فليحذر هؤلاء أن ينالهم مثل ما نال أولئك. وهذا بيان للجامع المقتضي للإهلاك.
( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما ) وما بين الجنسين( لاعِبِينَ ) لاهين، بل خلقناهما لغرض حكمي، وهو أن ننفع المكلّفين بذلك ونعرّضهم للثواب. وهو دليل على صحّة الحشر، كما مرّ في سورة الأنبياء(١) وغيرها.
( ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ ) إلّا بسبب الحقّ الّذي اقتضاه الدليل، من الإيمان والطاعة، أو البعث والجزاء. أو بالأمر والنهي، والتمييز بين المحسن والمسيء.
( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) صحّة ما قلناه، لعدولهم عن النظر فيه والاستدلال على صحّته.
( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ ) فصل الحقّ عن الباطل. أو المحقّ عن المبطل بالجزاء. أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبّائه.( مِيقاتُهُمْ ) وقت موعدهم( أَجْمَعِينَ ) وهو يوم القيامة.
ولـمّا ذكر سبحانه أنّ يوم الفصل ميقات الخلق يحشرهم فيه، بيّن أيّ يوم هو، فقال :
( يَوْمَ لا يُغْنِي ) بدل من «يوم الفصل» أو صفة لـ «ميقاتهم». أو ظرف لـما دلّ عليه «الفصل» لا له، للفصل. تقديره: يفصل الحقّ من الباطل يوم لا يدفع عذاب الله.( مَوْلًى ) هو الصاحب الّذي من شأنه أن يتولّى معونة صاحبه على أموره، من قريب وحليف وغيرهما ممّن هذه صفته( عَنْ مَوْلًى ) أيّ مولى كان( شَيْئاً ) من الإغناء، أي: قليلا منه( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) الضمير لـ «مولى» الأوّل باعتبار المعنى، لأنّه في المعنى كثير، لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كلّ مولى.
__________________
(١) الأنبياء: ١٦.
( إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ ) رحمة بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه، من فسّاق أهل الإيمان. وشفعاؤهم الأنبياء والأوصياء وصلحاء المؤمنين. ومحلّه الرفع على البدل من الواو، أي: لا يمنع من العذاب إلّا منرحمهالله . أو النصب على الاستثناء.( إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ ) لا ينصر منه من أراد تعذيبه( الرَّحِيمُ ) لمن أراد أن يرحمه.
( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) )
ثمّ وصف سبحانه ما يفصل به بين الفريقين، فقال:( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ) قد سبق تفسيره في سورة الصّافّات(١) . وقد مرّ فيها أيضا أنّ ابن الزبعرى قال: إنّ أهل اليمن يدعون أكل الزبد والتمر التزقّم، فدعا أبو جهل بتمر وزبد وقال: تزقّموا، فإنّ هذا هو الّذي يخوّفكم به محمّد. فنزلت:( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ) .( طَعامُ الْأَثِيمِ ) الفاجر الكثير الآثام. والمراد به الكافر، لدلالة ما قبله وما بعده عليه.
( كَالْمُهْلِ ) وهو ما يمهل في النار حتّى يذوب، من النحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضّة. وقيل: درديّ(٢) الزيت.( يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ) إذا حصلت في أجواف أهل النار. وقرأ ابن كثير وحفص ورويس بالياء، على أنّ الضمير للطعام أو الزقّوم لا للمهل، إذ الأظهر أنّ الجملة حال من أحدهما، لأنّ المهل إنّما ذكر للتشبيه
__________________
(١) راجع ج ٥ ص ٥٥٤ ـ ٥٥٥، ذيل الآية: ٦٢ من سورة الصافّات.
(٢) الدرديّ من الزيت ونحوه: الكدر الراسب في أسفله.
به في الذوب( كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ) غليانا مثل غلي الحميم. وهو الماء الحارّ الّذي انتهى غليانه.
ثمّ يقال للزبانية:( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ ) فجرّوه. والعتل: الأخذ بمجامع الشيء وجرّه بقهر. وعن مجاهد: جرّوه على وجهه. وقرأ الحجازيّان وابن عامر ويعقوب بالضمّ. وهما لغتان.( إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ) وسطه. سمّي وسط الشيء سواء، لاستواء المسافة بينه وبين أطرافه المحيطة به. والسواء العدل.
( ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ) كان أصله: يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم، لأنّ الحميم حقيقة هو المصبوب لا عذابه. فقيل استعارة: يصبّ من فوق رؤوسهم عذاب هو الحميم للمبالغة. ثمّ أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف. وزيد «من» للدلالة على أنّ المصبوب بعض هذا النوع، فيكون أهول وأهيب.
وعن مقاتل: إنّ خازن النار يمرّ به على رأسه، فيذهب رأسه عن دماغه، ويقول له استهزاء وتقريعا على ما كان عليه من التعزّز والتكرّم على قومه:( ذُقْ ) أي: ذق هذا العذاب الشديد( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) على قومك، أو على زعمك.
وروي: أنّ أبا جهل قال لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : ما بين جبليها ـ يعني: جبلي أبي قبيس وثور ـ أعزّ ولا أكرم منّي، فو الله ما تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا.
وقيل: إنّك أنت الذليل المهين، إلّا أنّه قيل على هذا الوجه للاستخفاف به.
وقرأ الكسائي: أنّك بالفتح، أي: ذق لأنّك، أو عذاب أنّك. وعن الحسن بن عليعليهالسلام : أنّه قرأ بفتح «أنّك» على المنبر.
( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤)
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩) )
( إِنَّ هذا ) أي: إنّ هذا العذاب( ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ) تشكّون وتمارون فيه.
وبعد ذكر وعيد الكافرين المعاندين، وعد المؤمنين المطيعين، فقال:( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ ) في موضع القيام. والمراد المكان. وهو من الخاصّ الّذي وقع مستعملا في معنى العموم، أي: في جميع الأمكنة وإن لم يكن ثمّة قيام. وقرأ نافع وابن عامر بضمّ الميم. وهو موضع الإقامة.( أَمِينٍ ) يأمن صاحبه عن الآفة والانتقال. من قولك: أمن الرجل أمانة فهو أمين. وهو ضدّ الخائن. فوصف به المكان استعارة، لأنّ المكان المخيف كأنّما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.
( فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) بدل من «مقام» جيء به للدلالة على نزاهته، واشتماله على ما يستلذّ به من المآكل والمشارب.
( يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) خبر ثان. أو حال من الضمير في الجارّ والمجرور. أو استئناف. والسندس ما رقّ من الحرير. والإستبرق ما غلظ منه. وهو تعريب استبر. وإذا عرّب خرج من أن يكون عجميّا، لأنّ معنى التعريب أن يجعل عربيّا بالتصرّف فيه، وتغييره عن منهاجه، وإجرائه على أوجه الإعراب، فلا يلزم أن يقع في القرآن العربيّ المبين لفظ أعجميّ. وقيل: هو مشتقّ من البراقة. فعربيّ محض.( مُتَقابِلِينَ ) في مجالسهم، ليستأنس بعضهم ببعض. وقيل: متقابلين بالمحبّة، لا متدابرين بالبغضة.
( كَذلِكَ ) الأمر كذلك. أو آتيناهم مثل ذلك.( وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ )
قرنّاهم بهنّ. ولذلك عدّي بالباء. والحور جمع الحوراء، بمعنى البيضاء. والعين جمع العيناء، بمعنى عظيمة العينين. واختلف في أنّهنّ نساء الدنيا أو غيرهنّ.
( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ ) يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه، لا يتخصّص شيء منها بمكان ولا زمان( آمِنِينَ ) من نفادها ومضرّتها.
( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى ) بل يحيون فيها دائما. والاستثناء منقطع أو متّصل. والضمير للآخرة. والموت أوّل أحوالها. أو الجنّة، والمؤمن يشاهدها عنده، فكأنّه فيها. أو الاستثناء للمبالغة في تعميم النفي وامتناع الموت، فكأنّه قال: لا يذوقون فيها الموت إلّا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل.
فهو من باب التعليق بالمحال. وشبّه الموت بالطعام الّذي يذاق ويتكرّه عند المذاق، ثمّ نفى أن يكون ذلك في الجنّة.
وإنّما خصّهم بأنّهم لا يذوقون الموت، مع أنّ جميع أهل الآخرة لا يذوقون الموت، لـما في ذلك من البشارة لهم بالحياة الهنيئة في الجنّة، فأمّا من يكون فيما هو كالموت في الشدّة، فإنّه لا يطلق له هذه الصفة، لأنّه يموت موتات كثيرة بما يقاسيه من العقوبة.
( وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) وصرف عنهم عذاب النار. وهذه الآية مختصّة بمن لا يستحقّ دخول النار فلا يدخلها، أو بمن استحقّ النار فتفضّل الله عليه بالعفو فلم يدخلها. ويجوز أن يكون المراد: ووقاهم عذاب الجحيم على وجه التأبيد، أو على الوجه الّذي يعذّب عليه الكفّار. وعلى أحد هذه الوجوه ؛ ليس للمعتزلة أن يتمسّكوا بها على أنّ الفاسق الملّي لا يخرج من النار، لأنّه يكون قد وقي النار.
( فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ) أي: أعطوا كلّ ذلك عطاء وتفضّلا منه( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) لأنّه خلاص عن المكاره، وفوز بالمطالب.
( فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ ) سهّلناه حيث أنزلناه بلغتك. وهو فذلكة للسورة. ومعناها: ذكّرهم بالكتاب المبين.( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) إرادة أن يفهمه قومك، فيتذكّروا ما فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد. فلمّا لم يتذكّروا به( فَارْتَقِبْ ) فانتظر ما يحلّ بهم من عذاب الله( إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ) منتظرون ما يحلّ بك، متربّصون بك الدوائر.
(٤٥)
سورة الجاثية
وتسمّى أيضا سورة الشريعة، لقوله فيها:( ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ) (١) .
وهي مكّيّة. وآيها سبع وثلاثون آية، كوفي.
أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته، وسكّن روعته عند الحساب».
وروى أبو بصير، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا، ولا يسمع زفير جهنّم ولا شهيقها، وهو مع محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم ».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) )
__________________
(١) الجاثية: ١٨.
ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الدخان بذكر القرآن، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم ) إن جعلتها اسما مبتدأ، وخبرها( تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) احتجت إلى إضمار مثل: تنزيل حم. وإن جعلتها تعديدا للحروف، كان «تنزيل» مبتدأ خبره( مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ ) القادر الّذي لا يغالب( الْحَكِيمِ ) العالم الّذي أفعاله كلّها حكمة وصواب. وعلى الأوّل الجارّ صلة للتنزيل.
وقيل: «حم» مقسم به، و( تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) صفته، وجواب القسم( إِنَّ فِي السَّماواتِ ) وهو يحتمل أن يكون على ظاهره الذوات. وأن يكون المعنى: إنّ في خلق السماوات( وَالْأَرْضِ لَآياتٍ ) لدلالات واضحات على أنّ لهما مدبّرا صانعا قادرا عالما( لِلْمُؤْمِنِينَ ) المنتفعين بالآيات.
ويؤيّد الاحتمال الثاني قوله:( وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ ) عطف على «خلقكم». ولا يحسن عطفه على الضمير المجرور، لأنّهم استقبحوا أن يقال: مررت بك وزيد، وهذا أبوك وعمرو.
ولا شبهة أنّ في بثّ الدوابّ وتنوّعها ومنافعها، والمقاصد المطلوبة منها في المعاش( آياتٌ ) دلائل على وجود الصانع المختار( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) يطلبون علم اليقين بالتفكّر والتدبّر. ورفعه محمول على محلّ «إنّ» واسمها.
وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب حملا على الاسم، كقولك: إنّ زيدا في الدار وعمرا في السوق، أو عمرو في السوق.
( وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) وفي ذهاب الليل والنهار ومجيئهما على وتيرة واحدة. أو في اختلاف حالهما من الطول والقصر. أو في اختلافهما في أنّ أحدهما نور والآخر ظلمة.
( وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ ) من مطر. وسمّاه رزقا لأنّه سببه.( فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) يبسها.
( وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ) باختلاف جهاتها وأحوالها. وقرأ حمزة والكسائي :
وتصريف الريح.( آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) فيه القراءتان. ويلزمهما العطف على عاملين مختلفين، وهما: «في» والابتداء، أو «إنّ». وهذا على مذهب الأخفش سديد لا مقال فيه. وقد أباه سيبويه. فتوجيه الآية عنده أن يكون على إضمار: في، أو ينصب «آيات» على الاختصاص، أو يرفع بإضمار: هي.
ولعلّ اختلاف الفواصل لاختلاف الآيات في الدقّة والظهور، فإنّ معنى الآيات الثلاث أن المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات والأرض النظر الصحيح علموا أنّها مصنوعة، وأنّه لا بدّ لها من صانع، فآمنوا بالله وأقرّوا. فإذا نظروا في خلق أنفسهم، وتنقّلها من حال إلى حال، وهيئة إلى هيئة، وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان، ازدادوا إيمانا وأيقنوا، وانتفى عنهم اللبس.
فإذا نظروا في سائر الحوادث الّتي تتجدّد في كلّ وقت، كاختلاف الليل والنهار، ونزول الأمطار، وحياة الأرض بها بعد موتها، وتصريف الرياح جنوبا وشمالا، وقبولا ودبورا، عقلوا واستحكم علمهم، وخلص يقينهم.
( تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) )
ولـمّا قدّم سبحانه ذكر الأدلّة، عقّب. ذلك بالوعيد لمن أعرض عنها ولم يتفكّر فيها، فقال :
( تِلْكَ آياتُ اللهِ ) أي: تلك الآيات دلائله الّتي نصبها للمكلّفين( نَتْلُوها عَلَيْكَ ) حال، وعاملها معنى الإشارة( بِالْحَقِ ) ملتبسين به، أو ملتبسة به( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ ) أي: بعد آياته. وتقديم اسم «الله» للمبالغة والتعظيم، كما في قولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد: أعجبني كرم زيد. أو بعد حديث الله، وهو القرآن، كقوله:( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) (١) . وآياته دلائله المتلوّة، أو القرآن.
والعطف لتغاير الوصفين، فإنّ الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيّن الحقّ من الباطل، والآيات هي الأدلّة الفاصلة بين الصحيح والفاسد. وقرأ الحجازيّان وحفص وأبو عمرو وروح: يؤمنون بالياء، ليوافق ما قبله.
( وَيْلٌ ) كلمة وعيد يتلقّى بها الكفّار ومستحقّو العذاب. وقيل: هو واد سائل من صديد جهنّم.( لِكُلِّ أَفَّاكٍ ) كذّاب. ويطلق ذلك على من يكثر كذبه، أو يعظم كذبه، وإن كان في خبر واحد، ككذب مسيلمة في ادّعاء النبوّة( أَثِيمٍ ) كثير الآثام.
( يَسْمَعُ آياتِ اللهِ ) آيات القرآن الّتي فيها الحجّة( تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ ) يقيم على كفره( مُسْتَكْبِراً ) عن الإيمان بالآيات، مزدريا لها، معجبا بما عنده. و «ثمّ» للاستبعاد والإصرار بعد سماع الآيات، كقوله: يرى غمرات الموت ثمّ يزورها(٢) .
وذلك أنّ غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائيها بنفسه ويطلب الفرار عنها، وأمّا
__________________
(١) الزمر: ٢٣.
(٢) لجعفر بن علبة الحارثي. وصدره :
لا يكشف الغمّاء إلّا ابن حرّة |
يرى غمرات |
وابن حرّة كناية عن الكريم. والغمّاء: الداهية. وغمرات الموت: شدائده، كأحوال المعركة الشديدة. وعطف بـ «ثمّ» لـمافي لقاء الأهوال والغمرات وزيارتها بعد رؤيتها من الاستبعاد.