زبدة التفاسير الجزء ٦
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
لهم. أو حديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل يحدّثون به.
( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) )
روي: أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم لـمّا قرأ على قريش( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (١) امتعضوا(٢) من ذلك امتعاضا شديدا.
فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد أَخاصّة لنا ولآلهتنا، أم لجميع الأمم؟
فقالصلىاللهعليهوآلهوسلم : هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم.
فقال: خصمتك وربّ الكعبة، أَلست تزعم أنّ عيسى بن مريم نبيّ وتثني عليه خيرا وعلى أمّه؟ وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما، وعزير يعبد، والملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم.
__________________
(١) الأنبياء: ٩٨.
(٢) امتعض من الأمر: غضب منه وشقّ عليه.
ففرحوا وضحكوا، وسكت النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم . فأنزل الله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) (١) . ثمّ نزلت :
( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ) أي: مثلا ضربه ابن الزبعرى( إِذا قَوْمُكَ ) قريش( مِنْهُ ) من هذا المثل( يَصِدُّونَ ) يضجّون فرحا وضحكا، لظنّهم أنّ الرسول صار ملزما به.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالضمّ من الصدود، أي: يصدّون عن الحقّ ويعرضون عنه. وقيل: هما لغتان، نحو يعكف ويعكف.
( وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) أي: آلهتنا خير عندك أم عيسى، فإن كان عيسى في النار فلتكن آلهتنا معه( ما ضَرَبُوهُ لَكَ )
( إِلَّا جَدَلاً ) ما ضربوا هذا المثل إلّا لأجل الجدل والغلبة، لا لتمييز الحقّ من الباطل( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) شداد الخصومة، حراص على اللجاج، كقوله تعالى:( قَوْماً لُدًّا ) (٢) .
ولا شبهة أنّ قوله:( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ) (٣) ما أريد به إلّا الأصنام. وكذلك قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «هو لكلم ولآلهتكم ولجميع الأمم» إنّما قصد به الأصنام، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة. إلّا أنّ ابن الزبعرى لخداعه وخبث دخلته(٤) ، لـمّا رأى كلام الله ورسوله محتملا لفظه وجه العموم، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير، وجد للحيلة مساغا، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكلّ معبود غير الله، على طريق فرط الجدال وحبّ المكابرة والمغالبة، وتوقّح(٥) في ذلك، فتوقّر رسول
__________________
(١) الأنبياء: ١٠١.
(٢) مريم: ٩٧.
(٣) الأنبياء: ٩٨.
(٤) الدخلة: باطن الأمر.
(٥) أي: قلّ حياؤه وأظهر الوقاحة.
اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى أجاب عنه ربّه:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ) (١) . فدلّ به على أنّ الآية خاصّة في الأصنام. على أنّ ظاهر قوله:( وَما تَعْبُدُونَ ) لغير العقلاء.
وقيل: لـمّا سمعوا قوله:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ) (٢) قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنّهم عبدوا آدميّا ونحن نعبد الملائكة، فنزلت. وقوله:( أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) على هذا القول تفضيل لآلهتهم على عيسى، لأنّ المراد بهم الملائكة.
وقيل: لـمّا نزلت:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ ) قالوا: ما يريد محمّد بهذا إلّا أن نعبده، وأنّه يستأهل أن يعبد وإن كان بشرا، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر. فالضمير في «أم هو» لمحمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم . وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم السخريّة به والاستهزاء.
وروى سادة أهل البيتعليهمالسلام عن عليٍّعليهالسلام أنّه قال: «جئت إلى النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم يوما فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إليّ ثمّ قال: يا عليّ مثلك في هذه الأمّة كمثل عيسى بن مريم، أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا، وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا. فعظم ذلك عليهم وضحكوا وقالوا: يشبّهه بالأنبياء والرسل. فنزلت الآية.
( إِنْ هُوَ ) وما عيسى( إِلَّا عَبْدٌ ) كسائر العبيد( أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) بالنبوّة وخلقه من غير أب( وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) أمرا عجيبا لهم، بأن خلقناه من غير سبب كما خلقنا آدم، وصيّرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر. وهو كالجواب المزيح لتلك الشبهة.
ثمّ قال سبحانه دالّا على كمال قدرته، وعلى أنّه لا يفعل إلّا الأصلح:( وَلَوْ
__________________
(١) الأنبياء: ١٠١.
(٢) آل عمران: ٥٩.
نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ ) لولدنا منكم يا رجال( مَلائِكَةً ) كما ولدنا عيسى من غير أب، لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر. أو لجعلنا بدلا منكم ملائكة( فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) يخلفونكم في الأرض، بأن أهلكناكم وجعلنا الملائكة بدلكم سكّان الأرض يعمرونها ويعبدون الله.
والمعنى: أنّ حال عيسى وإن كانت عجيبة، فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك. وأنّ الملائكة مثلكم، من حيث إنّها ذوات ممكنة وأجسام حادثة يحتمل خلقها توليدا كما جاز خلقها إبداعا، وذات القديم متعالية عن الحدوث والإمكان، فمن أين لهم استحقاق الألوهيّة والانتساب إلى الله سبحانه؟
( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) وإنّ عيسى، أي: نزوله من السماء شرط من أشراطها، يعلم منه دنوّها. فسمّى الشرط علما لحصول العلم به. أو إحياؤه الموتى يدلّ على قدرة الله على النشر الّذي هو أوّل ساعات القيامة. والأوّل أكثر وأشهر.
وأورد مسلم في الصحيح قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم يقول: «ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا. فيقول: لا إنّ بعضكم على بعض أمراء، تكرمة من الله لهذه الأمّة»(١) .
وفي الحديث أيضا: «ينزل عيسى على ثنيّة بالأرض المقدّسة يقال لها: أفيق، وعليه ممصرتان، أي: حلّتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، وبها يقتل الدجّال. فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام يؤمّ بهم، فيتأخّر الإمام، فيقدّمه عيسى ويصلّي خلفه على شريعة محمدصلىاللهعليهوآلهوسلم . ثمّ يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلّا من آمن به».
وعن الحسن: الضمير للقرآن، فإنّ فيه الإعلام بالساعة والدلالة عليها. وفي حديث آخر: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم».
__________________
(١) صحيح مسلم ١: ١٣٧ ح ١٥٦.
( فَلا تَمْتَرُنَّ بِها ) فلا تشكّنّ فيها. من المرية، وهي الشكّ.( وَاتَّبِعُونِ ) واتّبعوا هداي، أو شرعي، أو رسولي. وقيل: هو قول الرسول، أمر أن يقول: اتّبعوني( هذا ) أي: هذا الّذي أدعوكم إليه. أو هذا القرآن إن جعل الضمير في «وإنّه» للقرآن.( صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) لا يضلّ سالكه. وقرأ أبو عمرو: فاتّبعوني.
( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ ) عن المتابعة( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) بانت عداوته لكم، إذ أخرج أباكم من الجنّة، ونزع عنه اللباس، وعرّضكم للبليّة.
( وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) )
ثمّ أخبر سبحانه عن حال عيسىعليهالسلام حين بعثه الله نبيّا، فقال:( وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ ) بالمعجزات، أو بآيات الإنجيل، أو بالشرائع الواضحات( قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ ) بالإنجيل، أو بالشريعة( وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) وهو ما يكون من أمر الدين، لا ما يتعلّق بأمر الدنيا، فإنّ الأنبياء لم يبعثوا لبيانه، ولذلك قالصلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنتم أعلم بأمر دنياكم»( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) فيما أبلغه عنه.
ثمّ بيّن ما أمرهم بالطاعة فيه بقوله:( إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) كأنّه قال: ما أمركم هو اعتقاد التوحيد والتعبّد بالشرائع( هذا ) إشارة إلى مجموع
الأمرين( صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) يفضي بكم إلى الجنّة. وهذا من تتمّة كلام عيسى، أو استئناف من الله يدلّ على ما هو المقتضي للطاعة في ذلك.
( فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ ) الفرق المتحزّبة بعد عيسى( مِنْ بَيْنِهِمْ ) من بين النصارى، أو اليهود والنصارى من بين قومه المبعوث هو إليهم( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ) من المتحزّبين( مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) هو يوم القيامة.
( هَلْ يَنْظُرُونَ ) هل ينظر قريش، أو الّذين ظلموا( إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ ) بدل من «الساعة». والمعنى: ما ينظرون إلّا إتيان الساعة( بَغْتَةً ) فجأة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) غافلون عنها، لاشتغالهم بأمور الدنيا، وإنكارهم لها.
( الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) )
( الْأَخِلَّاءُ ) الأحبّاء( يَوْمَئِذٍ ) متعلّق بـ «عدوّ» في قوله:( بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) أي: يتعادون يومئذ، لأنّه ينقطع فيه كلّ خلّه بين المتخالّين في غير ذات الله، وينقلب عداوة ومقتا، لأنّه ظهر عليهم في ذلك اليوم أنّ ما كانوا يتخالّون له صار
سببا للعذاب( إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) إلّا خلّة المتصادقين في الله، فإنّها لـمّا كانت في الله تبقى نافعة أبد الآباد، بل تصير زائدة إذا رأوا ثواب التحابّ في الله والتباغض في الله.
وقيل: «إلّا المتّقين» إلّا المجتنبين أخلّاء السوء. وقيل نزلت: في أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط.
ثمّ حكى عمّا ينادى به المتّقون المتحابّون في الله يومئذ بقوله:( يا عِبادِ ) أي: يقال لهم: يا عبادي( لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) من فوات الثواب. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بحذف الياء من: عباد.
ثمّ وصف المنادون بقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا ) صدّقوا بدلائلنا وحججنا واتّبعوها. وهو منصوب المحلّ، لأنّه صفة منادى مضاف.( وَكانُوا مُسْلِمِينَ ) حال من الواو، أي: الّذين آمنوا مخلصين وجوههم لنا، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا. غير أنّ هذه العبارة آكد وأبلغ.
قيل: إذا بعث الله الناس فزع كلّ أحد، فينادي مناد: يا عبادي، فيرجوها الناس كلّهم. ثمّ يتبعها: الّذين آمنوا، فييأس الناس منها غير المسلمين.
( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ ) نساؤكم المؤمنات( تُحْبَرُونَ ) تسرّون سرورا بحيث يظهر حباره ـ أي: أثره ـ على وجوهكم، كقوله:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) (١) . أو تزيّنون، من الحبر، وهو حسن الهيئة. قال الزجّاج: تكرمون إكراما يبالغ فيه. والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل.
( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ ) بقصاع ـ جمع صحفة ـ مأخوذة( مِنْ ذَهَبٍ ) فيها ألوان الأطعمة( وَأَكْوابٍ ) كيزان لا عرى لها. جمع كوب. وهو كوز لا عروة له.( وَفِيها ) وفي الجنّة( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ) من أنواع النعم المشروبة
__________________
(١) المطفّفين: ٢٤.
والمطعومة والمشمومة والملبوسة وغيرها. وقرأ نافع وابن عامر وحفص: تشتهيه على الأصل.
( وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) ما تلذّه العيون بالنظر إليه. وإنّما أضاف الالتذاذ إلى الأعين، وإنّما المتلذّذ في الحقيقة هو الإنسان، لأنّ المناظر الحسنة سبب من أسباب اللذّة، فإضافة اللّذة إلى الموضع الّذي يلتذّ الإنسان به أحسن، لـما في ذلك من البيان مع الإيجاز. وقد جمع الله تعالى بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلائق كلّهم على أن يصفوا ما في الجنّة من أنواع النعم لم يزيدوا على ما انتظمتاه.
( وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ ) فإنّ كلّ نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال، ومستعقب للتحسّر في ثاني الحال.
( وَتِلْكَ ) الإشارة إلى الجنّة المذكورة وقعت مبتدأ، خبره( الْجَنَّةُ ) . وقوله:( الَّتِي أُورِثْتُمُوها ) صفتها. أو «الجنّة» صفة «تلك» و «الّتي» خبرها، أو صفة «الجنّة» والخبر( بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) . وعلى هذا تتعلّق الباء بمحذوف لا بـ «أورثتموها» كما في الظروف الّتي تقع أخبارا، تقديره: حاصلة بما كنتم. وعلى الوجه الأوّل تتعلّق بـ «أورثتموها». وشبّهت الجنّة في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. وعن ابن عباس: الكافر يرث نار المؤمن، والمؤمن يرث جنّة الكافر. وهذا كقوله:( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ) (١) .
( لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها ) بعضها( تَأْكُلُونَ ) لكثرتها ودوام نوعها. ولعلّ تخصيص التنعّم بالمطاعم والملابس، وتكريره في القرآن، وهو حقير بالإضافة إلى سائر نعائم الجنّة، لـما كان بهم من الشدّة والفاقة في الدنيا. وعن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا ينزع رجل في الجنّة من ثمرها إلّا نبت مكانها مثلاها».
__________________
(١) المؤمنون: ١٠.
( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) )
ثمّ أخبر سبحانه عن أحوال أهل النار، فقال:( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ) الكاملين في الإجرام. وهم الكفّار، لأنّه جعل قسيم المؤمنين بالآيات، وحكى عنهم ما يخصّ بالكفّار، وهو قوله:( فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ ) . خبر «إنّ». أو «خالدون» خبر، والظرف متعلّق به.
( لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ) لا يخفّف. من: فترت عنه الحمّى إذا سكنت قليلا. والتركيب للضعف.( وَهُمْ فِيهِ ) في العذاب( مُبْلِسُونَ ) آيسون من النجاة. وعن الضحّاك: يجعل المجرم في تابوت من نار، ثمّ يردم عليه، فيبقى فيه خالدا لا يرى ولا يرى.
ولـمّا بيّن سبحانه ما يفعله بالمجرمين، بيّن أنّه لم يظلمهم بذلك، فقال:( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) على أنفسهم بما جنوا عليها من العذاب. مرّ مثله غير مرّة. و «هم» فصل عند البصريّين، عماد عند الكوفيّين.
( وَنادَوْا يا مالِكُ ) هو خازن جهنّم( لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ) أي: سل ربّك أن يقضي علينا، أي: يميتنا حتّى نتخلّص من هذا العذاب. مأخوذ من: قضى عليه إذا
أماته. ومنه قوله تعالى:( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (١) . وهو لا ينافي إبلاسهم، لأنّهم معذّبون أزمنة متطاولة وأحقابا ممتدّة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنّه لا فرج لهم، ويغوّثون(٢) أوقاتا لشدّة ما بهم.
وعن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «يلقى على أهل النار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون: ادعوا مالكا. فيدعون: يا مالك ليقض علينا ربّك».
( قالَ ) أي: قال الله، أو مالك( إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ) لا خلاص لكم بموت ولا غيره.
( لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ ) بالإرسال والإنزال. وهو تتمّة الجواب إن كان في «قال» ضمير الله، وإلّا فجواب منه. فكأنّه تعالى تولّى جوابهم بعد جواب مالك.
( وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ ) معاشر الخلق( لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) لـما في اتّباعه من إتعاب النفس وإدءاب(٣) الجوارح، ولألفتكم بالباطل فكرهتم مفارقته. عن ابن عبّاس: إنّما يجيبهم بهذا الجواب بعد ألف سنة.
( أَمْ أَبْرَمُوا ) إضراب عن الكلام السابق، أي: ما سمعوا هذا القول بسمع القبول، بل أحكموا( أَمْراً ) من كيدهم ومكرهم بالرسول، ولم يقتصروا على كراهة الحقّ( فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) كيدنا بهم في مجازاة ما أبرموا من كيدهم، كقوله:( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ) (٤) .
( أَمْ يَحْسَبُونَ ) بل أَيظنّ هؤلاء الكفّار( أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ) حديث أنفسهم بذلك، أو تحديثهم غيرهم في مكان خال( وَنَجْواهُمْ ) وتناجيهم، أي: ما تكلّموا به فيما بينهم( بَلى ) نسمعهما ونطّلع عليهما( وَرُسُلُنا ) والحفظة مع ذلك
__________________
(١) القصص: ١٥.
(٢) أي: يقولون: وا غوثاه.
(٣) أدأب إدآبا: أتعب.
(٤) الطور: ٤٢.
( لَدَيْهِمْ ) ملازمة لهم( يَكْتُبُونَ ) ذلك.
وعن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر من الناس ذنوبه، وأبداها للّذي لا يخفى عليه شيء في السماوات، فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من علامات النفاق.
( قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩) )
( قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ ) أي: صحّ ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه، وحجّة واضحة تدلون بها( فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ) أي: أنا أوّل من يعظّم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظّم الرجل ولد الملك، فإنّ النبيّ يكون أعلم بالله.
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد على أبلغ الوجوه. وذلك أنّه علّق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان المعلّق بها محالا مثلها. فهو في صورة إثبات كينونة الولد والعبادة، وفي معنى نفيهما، على أبلغ الوجوه وأقواها. ونظيره أن يقول العدليّ للمجبّر: إن كان الله خالقا للكفر في القلوب، ومعذّبا عليه عذابا سرمدا، فأنا أوّل من يقول: هو شيطان وليس بإله.
فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه: نفي أن يكون الله خالقا للكفر، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه، على طريق المبالغة فيه من الوجه الّذي ذكرنا. مع الدلالة على سماجة المذهب وضلاله الذاهب إليه، والشهادة القاطعة بإحالته، والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه.
وقد تمحّل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف، المليء بالنكت والفوائد المستقلّة بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه. فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم، فأنا أوّل الآنفين من أن يكون له ولد. من: عبد يعبد إذا اشتدّ أنفه، فهو عبد وعابد.
وقيل: «إن» نافية، أي: ما كان للرحمن ولد، فأنا أوّل من قال بذلك وعبد ووحّد.
وقرأ حمزة والكسائي: ولد، بالضمّ وسكون اللام.
ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن ذلك فقال:( سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) عن كونه ذا ولد، فإنّ هذه الأجسام لكونها أصولا ذات استمرار تبرّأت عمّا يتّصف به سائر الأجسام من توليد المثل، فما ظنّك بمبدعها وخالقها؟! ثمّ خاطب نبيّه على وجه التهديد للكفّار، فقال:( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ) في
باطلهم( وَيَلْعَبُوا ) في دنياهم( حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) وهو دلالة على أنّ قولهم هذا جهل واتّباع هوى، وأنّهم مطبوع على قلوبهم خذلانا وتخلية، كقوله:( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (١) . وإيعاد بالشقاء الأبدي في العاقبة.
ولـمّا بيّن سبحانه وحدانيّته عقّبه تأكيدا لها قوله:( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) أي: مستحقّ لأن يعبد فيهما. والظرف متعلّق به، لأنّه بمعنى المعبود، أو متضمّن معناه، كقولك: هو حاتم في البلد، على تضمين معنى الجواد الّذي شهر به، كأنّك قلت: هو جواد في البلد.
والراجع إلى الموصول مبتدأ محذوف، لطول الصلة بمتعلّق الخبر والعطف عليه. ويجوز أن يكون «في السماء» صلة «الّذي» و «إله» خبر مبتدأ محذوف، على أنّ الجملة بيان للصلة، وأنّ كونه في السماء على سبيل الإلهيّة والربوبيّة، لا على معنى الاستقرار. وفيه نفي الآلهة السماويّة والأرضيّة، واختصاصه باستحقاق الألوهيّة.
وكرّر لفظ «إله» لأمرين، أحدهما: التأكيد، ليتمكّن المعنى في النفس. والثاني: لأنّ المعنى: هو إله في السماء يجب على الملائكة عبادته، وإله في الأرض يجب على الإنس والجنّ عبادته.
( وَهُوَ الْحَكِيمُ ) في جميع أفعاله( الْعَلِيمُ ) بمصالح عباده. وهذا كالدليل على وحدانيّته في الألوهيّة.
ثمّ نزّه ذاته عن الشركة بقوله:( وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) كالهواء، أي: جلّ عن أن يكون له ولد أو شبيه من له التصرّف في السماوات والأرض وفيما بينهما، بلا دافع ولا منازع. أو دامت بركته.( وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) العلم بالساعة الّتي تقوم القيامة فيها، لأنّه لا يعلم وقته على التعيين غيره
__________________
(١) فصّلت: ٤٠.
( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يوم القيامة، فيجازي كلّا على قدر عمله. وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم بالتاء، على الالتفات للتهديد.
( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ ) كما زعموا أنّهم شفعاؤهم عند الله. وهي مسألة الطالب العفو عن غيره وإسقاط العقاب عنه.( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ ) وهو توحيد الله( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإخلاص.
وتوحيد الضمير ثمّ جمعه باعتبار اللفظ والمعنى. والاستثناء متّصل إن أريد بالموصول كلّ ما عبد من دون الله، لاندراج الملائكة والمسيح فيه. ومنفصل إن خصّ بالأصنام.
روي: أنّ النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقوله محمد حقّا فنحن نتولّى الملائكة، وهم أحقّ بالشفاعة لنا منه. فنزلت الآية.
فالمعنى: أنّهم يشفعون للمؤمنين بإذن الله. وفيه دلالة على أنّ حقيقة الإيمان هو الاعتقاد بالقلب والمعرفة.
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) سألت العابدين، أو المعبودين( مَنْ خَلَقَهُمْ ) من أخرجهم من العدم إلى الوجود( لَيَقُولُنَّ اللهُ ) لتعذّر المكابرة فيه من فرط ظهوره( فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟!( وَقِيلِهِ ) وقول الرسول. عن الأخفش: أنّ نصبه للعطف على( سِرَّهُمْ ) (١) أي: أم يحسبون أنّا لا نسمع قوله. وعنه أيضا: أنّه منصوب بإضمار فعله، أي: وقال قيله. وعن الزجّاج: أنّه معطوف على محلّ( السَّاعَةِ ) (٢) كما تقول: عجبت من ضرب زيد وعمرا. وجرّه عاصم وحمزة عطفا على لفظ «الساعة».( يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) .
قال صاحب الكشّاف بعد نقل هذه الأقوال: «والّذي قالوه ليس بقويّ في
__________________
(١) الزخرف: ٨٠ و٨٥.
(٢) الزخرف: ٨٠ و٨٥.
المعنى، مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا، ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجرّ والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه. ويكون قوله:( إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) جواب القسم. كأنّه قيل: وأقسم بقيله يا ربّ إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون وإقسام الله بقيله رفع منه، وتعظيم لدعائه والتجائه إليه»(١) .
( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ) فأعرض عن دعوتهم آيسا عن إيمانهم، وودّعهم(٢) وتاركهم( وَقُلْ سَلامٌ ) تسلّم(٣) منكم ومتاركة. وقيل: معناه: قل ما تسلم به من شرّهم وأذاهم.( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) وعيد من الله لهم، وتسلية للرسول. وقرأ نافع وابن عامر بالتاء، على أنّه من المأمور بقوله.
وهذه الآية منسوخة بآية السيف(٤) . وقيل: معناه: فاصفح عن سفههم، ولا تقابلهم بمثله. فلا يكون منسوخا.
__________________
(١) الكشّاف ٤: ٢٦٨.
(٢) ودّع فلانا: هجره.
(٣) تسلّم منه: تبرّأ.
(٤) التوبة: ٥ و٢٩.
(٤٤)
سورة الدخان
مكّيّة. وهي تسع وخمسون آية.
أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة غفر له».
أبو هريرة عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ حم الدخان في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك».
وعنه عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأها في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له».
أبو امامة عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة ويوم الجمعة، بنى الله له بيتا في الجنّة».
وروى أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفرعليهالسلام قال: «من قرأ سورة الدخان في فرائضه ونوافله، بعثه الله من الآمنين يوم القيامة، وأظلّه تحت ظلّ عرشه، وحاسبه حسابا يسيرا، و أعطي كتابه بيمينه».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) )
ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الزخرف بالوعيد والتهديد، افتتح هذه السورة أيضا بمثل ذلك في الإنذار بالعذاب الشديد، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ) القرآن. والواو للقسم إن جعلت «حم» تعديدا للحروف، أو اسما للسورة، مرفوعا على خبر الابتداء المحذوف. وللعطف إن كانت «حم» مقسما بها. والجواب قوله:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) أي: في ليلة القدر. وقيل: هي ليلة النصف من شعبان. ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصكّ، وليلة الرحمة. وقيل: في تسميتها بها: إنّ البندار ـ أي: من في يده الخراج ـ إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك اللهعزوجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة.
ومعنى إنزال القرآن فيها: أنّ الله سبحانه ابتدأ فيها إنزاله، أو أنزل فيها جملة
إلى السماء الدنيا من اللوح الّذي يكون في السماء السابعة، ثمّ أنزله على رسول الله نجوما نجوما.
ومعنى المباركة: الكثيرة الخير. ومن بركتها إنزال القرآن فيها، فإنّ نزوله سبب للمنافع الدينيّة والدنيويّة. ولو لم يوجد فيها إلّا إنزاله لكفى به بركة. قيل: بدأ في استنساخ القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ووقع الفراغ في ليلة القدر.
( إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) استئناف يبيّن المقتضي للإنزال. وكذا قوله:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) فإنّ كونها مفرّق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة، يستدعي أن ينزّل فيها القرآن الّذي هو من عظائمها. ويجوز أن يكون صفة( لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) وما بينهما اعتراض.
وقيل: في ليلة القدر تدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
وقيل: يعطى كلّ عامل بركات أعماله، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، وعلى القلوب هيبته.
وقيل: بركة هذه الليلة في أنّها مختصّة بخمس خصال: تفريق كلّ أمر حكيم.
وفضيلة العبادة فيها.
قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «من صلّى في هذه الليلة مائة ركعة، أرسل الله إليه مائة ملك: ثلاثون يبشّرونه بالجنّة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكائد الشيطان». ونزول الرحمة.
قالصلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله يرحم أمّتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب».
وحصول المغفرة. قالعليهالسلام : «إنّ الله يغفر لجميع المسلمين في هذه الليلة، إلّا لكاهن، أو ساحر، أو مشاحن(١) ، أو مدمن خمر، أو عاقّ للوالدين، أو مصرّ على الزنا».
وما أعطي فيها رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم من تمام الشفاعة. وذلك أنّه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمّته، فأعطي الثلث منها. ثمّ سأل ليلة الرابع عشر، فاعطي الثلثين. ثمّ سأل ليلة الخامس عشر، فاعطي الجميع، إلّا من شرد عن الله شراد البعير. ومن عادة الله في هذه الليلة أن يزيد ماء زمزم زيادة ظاهرة.
والقول الأكثر أنّ المراد بالليلة المباركة ليلة القدر، لقوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (٢) . ولمطابقة قوله:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) لقوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (٣) . وقوله:( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) (٤) . وليلة القدر في أكثر الأقوال في شهر رمضان.
وهذا أصحّ القولين، لأنّه منقول عن ابن عبّاس وقتادة وابن زيد، ومرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام .
( أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ) نصب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا. وهو مزيد تفخيم للأمر. ويجوز أن يكون حالا من «كلّ»، أو «أمر»، أو من ضميره المستكن في «حكيم»، لأنّه موصوف. أو حالا من أحد ضميري «أنزلناه»، يعني: آمرين أو مأمورا. وأن يراد به ما يقابل النهي، وقع مصدرا لـ «يفرق»، لأنّ الأمر والفرقان واحد، من حيث إنّه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه. أو مصدر لفعله مضمرا، من حيث إنّ الفرق به، أي: أمرنا أمرا
__________________
(١) المشاحن: المباغض الشديد العداوة.
(٢) القدر: ١ و٤.
(٣) القدر: ١ و٤.
(٤) البقرة: ١٨٥.