زبدة التفاسير الجزء ٦
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) )
( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ ) أي: رجعوا عن الإيمان إلى ما كانوا عليه من الكفر( مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) بالدلائل الواضحة، والمعجزات الظاهرة. وهم المنافقون.
وعن ابن عبّاس والسدّي والضحّاك: كانوا يؤمنون عند النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ يظهرون الكفر فيما بينهم، فتلك ردّة منهم.
وعن قتادة: هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد عرفوه ووجدوا
نعته مكتوبا عندهم.
وليس في هذا دلالة على أنّ المؤمن قد يكفر، لأنّه لا يمتنع أن يكون المراد من رجع في باطنه عن الإيمان بعد أنّ أظهره وقامت الحجّة عنده بصحّته.
( الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ ) سهّل لهم اقتراف الكبائر وركوب العظائم. من السول، وهو الاسترخاء. وقيل: حملهم على الشهوات. من السول، وهو التمنّي. وفيه: إن السول مهموز، قلبت همزته واوا لضمّ ما قبلها. ويمكن ردّه بقولهم: هما يتساولان.( وَأَمْلى لَهُمْ ) ومدّ لهم في الآمال والأماني.
وقرأ أبو عمرو: املي لهم، على البناء للمفعول. وهو ضمير الشيطان أولهم، أي: أمهلوا ومدّ في عمرهم. وقرأ يعقوب: املي لهم. والمعنى: أنّ الشيطان يغويهم وأنا أملي لهم وأنظرهم وأمهلهم، ولم أعاجلهم بالعقوبة. فتكون الواو للحال، أو الاستئناف.
ثمّ بيّن سبحانه سبب استيلاء الشيطان عليهم، فقال:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ ) أي: قال اليهود الّذين كفروا بالنبيّ بعد ما تبيّن لهم نعته في التوراة للمنافقين. أو المنافقون لقريظة والنضير، حيث قالوا لهم: لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم. أو أحد الفريقين للمشركين. والمرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهماالسلام أنّهم بنو اميّة، كرهوا ما نزّل الله في ولاية عليّ بن أبي طالبعليهالسلام .
( سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ) في بعض الأمر الّذي يهمّكم. وهو التكذيب برسول الله، أو بلا إله إلّا الله. أو في بعض ما تأمرون به، كالقعود عن الجهاد، والموافقة في الخروج معهم، والتظافر على عداوة الرسول.( وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ) ما أسرّه بعضهم إلى بعض من القول، وما أسرّوه في أنفسهم من الاعتقاد.
( فَكَيْفَ ) يعملون وما حيلتهم( إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ ) إذا قبضت الملائكة أرواحهم( يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ) تصوير لتوفّيهم بما يخافون منه
ويجتنبون عن القتال له. وعن ابن عبّاس: لا يتوفّى أحد على معصية الله إلّا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره.
( ذلِكَ ) إشارة إلى التوفّي الموصوف( بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ ) من الكفر، وكتمان نعت الرسول، وعصيان الأمر( وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ ) ما يرضاه، من الإيمان برسول الله، والجهاد، وغيرهما من الطاعات( فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) ولم يتقبّل لذلك.
( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ ) لن يظهر الله لرسوله والمؤمنين( أَضْغانَهُمْ ) أحقادهم على المؤمنين، ولا يبدي خفاياهم للنبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم .
( وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ) لعرّفناكهم بدلائل حتّى تعرفهم بأعيانهم لا يخفون عليك( فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ) بعلاماتهم الّتي يسمهم الله بها.
وعن أنس: ما خفي على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين، بل كان يعرفهم بسيماهم. ولقد كنّا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس، فناموا ذات ليلة، وأصبحوا وعلى جبهة كلّ واحد منهم مكتوب: هذا منافق.
واللام لام جواب «لو» كرّرت في المعطوف.
( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) جواب قسم محذوف. ولحن القول: أسلوبه. وعن ابن عبّاس: هو قولهم: ما لنا إن أطعنا من الثواب، ولا يقولون: ما علينا إن عصينا من العقاب.
وقيل: اللحن أن تلحن بكلامك، أي: تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك. ومنه قيل للمخطئ: لاحن، لأنّه يعدل بالكلام عن الصواب.
وعن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم عليّ بن أبي طالبعليهالسلام .
قال: وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم عليّ بن أبي طالبعليهالسلام .
وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وعن عبادة بن الصامت قال: كنّا نبور(١) أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالبعليهالسلام ، فإذا رأينا أحدهم لا يحبّه علمنا أنّه لغير رشدة(٢) .
( وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ) فيجازيكم على حسب قصدكم، إذا الأعمال بالنيّات.
( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ) ونعاملكم معاملة المختبر، بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقّة( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ ) حتّى نميّزهم عن غيرهم( وَالصَّابِرِينَ ) على مشاقّ المجاهدة عن غيرهم. أو حتّى نعلم جهادكم موجودا، لأنّ الغرض أن تفعلوا الجهاد فنثيبكم على ذلك. أو يعلم أولياؤنا. والإضافة إلى ذاته تعظيما لهم.
( وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) فنختبر ما يخبر به عن أعمالكم، فيظهر به حسنها وقبحها، لأنّ الخبر على حسب المخبر عنه، إن حسنا فحسن، وإن قبيحا فقبيح. أو أخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم المؤمنين في صدقها وكذبها.
وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها. وعن يعقوب: ونبلو بسكون الواو، على تقدير: ونحن نبلو.
وعن الفضيل: أنّه كان إذا قرأها بكى، وقال: أللّهمّ لا تبلنا، فإنّك إن تبلونا فضحتنا، وهتكت أستارنا، وعذّبتنا.
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) امتنعوا عن اتّباع دين الله، ومنعوا غيرهم عن اتّباعه بالقهر والإغواء( وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ) عاندوه وعادوه( مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى ) من بعد ما ظهر لهم أن محمدا رسول الله. وهم قريظة والنضير، أو المطعمون يوم بدر.( لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً ) بكفرهم وصدّهم. أو لن يضرّوا رسول الله بمشاقّته. وحذف المضاف لتعظيمه، وتفظيع مشاقّته.( وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ )
__________________
(١) بار الرجل يبوره: جرّبه واختبره.
(٢) الرشدة والرشدة: ضدّ الزنية. يقال: ولد لرشدة، أي: شرعيّ وليس من زنا.
وسيبطل ثواب حسنات أعمالهم الّتي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب، لكفرهم برسول الله. أو مكايدهم الّتي نصبوها في مشاقّته، فلا يصلون بها إلى مقاصدهم، ولا تثمر لهم إلّا القتل والجلاء عن أوطانهم.
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ ) بتوحيده( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) بتصديقه( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) بما أبطل به هؤلاء، كالكفر والنفاق والشكّ والعجب والرياء والمنّ والأذى ونحوها. وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر، كما قال أبو حنيفة.
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) أي: أصرّوا على الكفر حتّى ماتوا على كفرهم( فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) أبدا، لأنّ «لن» للتأبيد. وهذا عامّ في كلّ من مات على كفره، وإن صحّ نزوله في قتلى القليب، وهو بئر في بدر.
( فَلا تَهِنُوا ) فلا تضعفوا، ولا تذلّوا للعدوّ( وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) ولا تدعوا إلى السلم تذلّلا وضعفا. ويجوز نصبه بإضمار «أن». وقرأ أبو بكر وحمزة بكسر السين.( وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) الأغلبون. ونحوه قوله تعالى:( إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ) (١) .
( وَاللهُ مَعَكُمْ ) بالنصرة على عدوّكم( وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ) ولن يضيع أعمالكم، بل يثيبكم عليها. من: وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا، من ولد وأخ أو حميم.
وحقيقته: أفردته من قريبه أو ماله. من الوتر، وهو الفرد. فشبّه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر. وهو من فصيح الكلام. ومنه قولهعليهالسلام : «من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله»، أي: أفرد عنهما قتلا ونهبا.
( إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ
__________________
(١) طه: ٦٨.
(٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨) )
ثمّ حضّ سبحانه على طلب الآخرة بقوله:( إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) لا ثبات لها( وَإِنْ تُؤْمِنُوا ) بالله( وَتَتَّقُوا ) معاصيه( يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ) ثواب إيمانكم وتقواكم( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) جميع أموالكم، بل يقتصر على جزء يسير ـ كربع العشر والعشر ـ في الزكاة الواجبة في بعض أموالكم.
( إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ ) فيجهدكم بطلب الكلّ. والإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية. يقال: إحفاء في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح. وأحفى شاربه إذا استأصله.( تَبْخَلُوا ) فلا تعطوا( وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ) ويظهر بغضكم وعداوتكم، فتضطغنوا على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم . والضمير في «يخرج» لله تعالى، أو البخل، لأنّه سبب الاضطغان.
( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ) أي: أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون. ثمّ استأنف وصفهم. كأنّهم قالوا: وما وصفنا؟ فقيل:( تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) ويجوز أن يكون صلة لـ «هؤلاء»، على أنّه بمعنى: الّذين. وهو يعمّ نفقة الغزو والزكاة وغيرهما.( فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ) ناس يبخلون به. ثمّ قال:( وَمَنْ يَبْخَلْ ) بالصدقة وأداء الفريضة( فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ) فلا يتعدّاه ضرر بخله، بل إنّما هو راجع إلى نفسه، لأنّه يحرّمها مثوبة جسيمة، ويلزمها عقوبة عظيمة. يقال: بخلت عليه وعنه.
وكذلك: ضننت عليه وعنه. وفيه إشارة إلى أنّ معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ.
ثمّ أخبر أنّه لا يأمر بذلك ولا يدعو إليه لحاجته إليه، فقال:( وَاللهُ الْغَنِيُ ) الّذي تستحيل عليه الحاجات( وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ) إلى ما عند الله من الخير. فما يأمركم به فهو لاحتياجكم وفقركم إلى الثواب. فإن امتثلتم فلكم، وإن تولّيتم فعليكم.
( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا ) وإن تعرضوا عن طاعته. وهو عطف على( وَإِنْ تُؤْمِنُوا ) .( يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ) يخلق قوما سواكم على خلاف صفتكم فيقوموا مكانكم، كقوله:( وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) (١) .( ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ) في التولّي عن الإيمان، والزهد في التقوى. وهم الفرس، لأنّهصلىاللهعليهوآلهوسلم سئل عنه، وكان سلمان إلى جنبه، فضرب فخذه وقال: «هذا وقومه. والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس». أو الأنصار، أو الملائكة.
وروى أبو بصير عن أبي جعفرعليهالسلام قال: «إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم». يعني: الموالي.
وعن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «قد والله أبدل بهم خيرا منهم». يعني: الموالي.
__________________
(١) إبراهيم: ١٩
(٤٨)
سورة الفتح
مدنيّة. وهي تسع وعشرون آية.
أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأها فكأنّما شهد مع محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم فتح مكّة».
وفي رواية اخرى: «فكأنّما كان مع من بايع محمّدا تحت الشجرة».
وأورد البخاري في الصحيح عن عمر بن الخطّاب قال: «كنّا مع رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في سفر، فقال: نزلت عليّ البارحة سورة عظيمة هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها:( إِنَّا فَتَحْنا ) ـ إلى قوله ـ( وَما تَأَخَّرَ ) »(١) .
وعن قتادة عن أنس قال: « لـمّا رجعنا من غزوة الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة إذ أنزل اللهعزوجل :( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا كلّها».
عن عبد الله بن مسعود قال: «أقبل رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم من الحديبية فجعلت ناقته تثقل، فتقدّمنا فأنزل عليه( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) ، فأدركنا رسول الله وبه من السرور ما شاء الله، فأخبر أنّها أنزلت عليه».
عبد الله بن بكير، عن أبيه قال: قال أبو عبد اللهعليهالسلام : «حصّنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) ، فإنّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها ناداه مناد يوم القيامة حتّى يسمع الخلائق: أنت من عبادي المخلصين، ألحقوه بالصالحين من عبادي، فأسكنوه جنّات النعيم، واسقوه الرحيق المختوم بمزاج الكافور».
__________________
(١) صحيح البخاري ٦: ١٦٨ ـ ١٦٩.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) )
ولـمّا ختم الله سبحانه سورة محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله:( وَاللهُ الْغَنِيُ ) ، افتتح هذه السورة بأنّه فتح لنبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم ما احتاج إليه في دينه ودنياه، ليشعر على غناه المطلق، وكمال جبروته وغالبيّته، وافتقار العباد إليه، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) وعد بفتح مكّة. والتعبير عنه بالماضي لتحقّقه وتيقّنه بمنزلة الكائنة الموجودة. وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علوّ شأن المخبر ما لا يخفى.
وقيل: هذا إخبار عن صلح الحديبية. وإنّما سمّاه فتحا، لأنّه كان بعد ظهوره على المشركين حتّى سألوا الصلح، وتسبّب لفتح مكّة، وأدخل في الإسلام خلقا عظيما. وظهر له في الحديبية آية عظيمة، وهي أنّه نزح ماؤها حتّى لم يبق فيها قطرة. فتمضمض رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ مجّه فيها، فدرّت بالماء حتّى شرب جميع من كان معه. وقيل: فجاش الماء حتّى امتلأت، ولم ينفد ماؤها بعد.
وعن عروة ـ وقد ذكر خروج النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم عام الحديبية ـ قال: وخرجت قريش من مكّة، فسبقوه إلى بلدح(١) وإلى الماء، فنزلوا عليه. فلمّا رأى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قد سبق نزل على الحديبية، وذلك في حرّ شديد ليس فيها إلّا بئر واحدة، فأشفق القوم من الظمأ، والقوم كثير، فنزل فيها رجال يمتحنوها. ودعا رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بدلو من ماء، فتوضّأ من الدلو، ومضمض فاه ثمّ مجّ فيه، وأمر أن يصبّ في البئر. ونزع سهما من كنانته وألقاه في البئر، فدعا الله تعالى ففارت بالماء، حتّى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتها.
وروى سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر: كم كنتم يوم الشجرة؟ قال: كنّا ألفا وخمسمائة. وذكر عطشا أصابهم. قال: فأتي رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بماء في تور(٢) ، فوضع يده فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنّه العيون، فشربنا ووسعنا وكفانا.
وعن موسى بن عقبة: أقبل رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم من الحديبية راجعا، فقال رجل من أصحابه: «ما هذا بفتح، لقد صدّونا عن البيت، وصدّ هدينا. فبلغ النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم فقال: «بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح(٣) ، ويسألوكم القضيّة ـ أي: رجوعكم عنهم ـ ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا».
__________________
(١) بلدح: واد قبل مكّة من جهة المغرب.
(٢) التّور: إناء يشرب فيه.
(٣) الراح: الخمر. والراح جمع راحة، وهي: الكفّ. والراح: الارتياح والنشاط. ولعلّ الظاهر هنا المعنى الثالث.
وعن الشعبي: نزلت هذه السورة بالحديبية، وأصاب رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة. أصاب: أن بويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وظهرت الروم على فارس، وبلغ الهدي محلّه بعد الصلح، وأطعموا نخل خيبر.
وعن جابر: ما كنّا نعلم فتح مكّة إلّا يوم الحديبية.
وقيل: المراد فتح خيبر. وقيل: فتح الروم. وقيل: الفتح القضاء، من الفتاحة، وهي الحكومة، أي: قضينا لك أن تدخل مكّة من قابل.
( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ) علّة للفتح من حيث إنّه مسبّب عن جهاد الكفّار، والسعي في إزالة الشرك، وإعلاء الدين، وتكميل النفوس الناقصة قهرا، ليصير ذلك التكميل بالتدريج اختيارا، وتخليص الضعفة عن أيدى الظلمة( ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) . قد قيل فيه أقوال، كلّها غير موافق لـما يذهب إليه أصحابنا أنّ الأنبياء معصومون من الذنوب كلّها، صغيرها وكبيرها، قبل النبوّة وبعدها.
فمنها: أنّهم قالوا: معناه: ما تقدّم من معاصيك قبل النبوّة، وما تأخّر عنها.
ومنها: قولهم: ما تقدّم الفتح، وما تأخّر عنه.
ومنها: قولهم: ما وقع وما لم يقع، على الوعد بأنّه يغفر له إذا وقع.
ومنها: قولهم ما تقدّم من ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك، وما تأخّر من ذنوب أمّتك بدعوتك.
والكلام في ذنب آدم كالكلام في ذنب نبيّناصلىاللهعليهوآلهوسلم ومن حمل ذلك على الصغائر الّتي تقع محبطة عندهم، فالّذي يبطل قولهم أنّ الصغائر إذا سقط عقابها وقعت مكفّرة، فكيف يجوز أن يمنّ الله سبحانه على نبيّه بأن يغفرها له؟ وإنّما يصحّ الامتنان والتفضّل منه سبحانه بما يكون له المؤاخذة به، لا بما لو عاقب به لكان ظالما عندهم. فوضح فساد قولهم.
ولأصحابنا فيه وجهان من التأويل: أحدهما: أنّ المراد: ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنب أمّتك وما تأخّر بشفاعتك. وأراد بذكر التقدّم والتأخّر ما تقدّم زمانه وما تأخّر، كما يقول القائل لغيره: صفحت عن السالف والآنف من ذنوبك. وحسنت إضافة ذنوب أمّته إليه، للاتّصال والسبب بينه وبين أمّته.
ويؤيّد هذا الجواب ما رواه المفضّل بن عمر عن الصادقعليهالسلام قال: «سأله
رجل عن هذه الآية، فقال: والله ما كان له ذنب، ولكنّ الله سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة عليّ بن أبي طالبعليهالسلام ، ما تقدّم من ذنبهم وما تأخّر».
وروى عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي عبد اللهعليهالسلام : قول الله سبحانه:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) . قال: ما كان له ذنب ولا همّ بذنب، ولكنّ الله حمّله ذنوب شيعته ثمّ غفرها له».
والثاني: ما ذكره المرتضى قدّس سّره: أنّ الذنب مصدر، والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا، فيكون هنا مضافا إلى المفعول. والمراد: ما تقدّم من ذنبهم إليك في منعهم إيّاك عن مكّة، وصدّهم لك عن المسجد الحرام. ويكون معنى المغفرة على هذا التأويل: الإزالة والنسخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه، أي: يزيل الله تعالى ذلك عنك، ويستر عليك تلك الوصمة بما يفتح الله لك من مكّة، فستدخلها فيما بعد. ولذلك جعله جزاء على جهاده، وغرضا في الفتح، ووجها له.
قال: ولو أنّه أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ) معنى معقول، لأنّ المغفرة للذنوب لا تعلّق لها بالفتح، فلا يكون غرضا فيه.
وأمّا قوله: «ما تقدم وما تأخر» فلا يمتنع أن يريد به ما تقدّم زمانه من فعلهم القبيح بك وبقومك.
وقيل أيضا في ذلك وجوه أخر :
منها: أنّ معناه: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك.
ومنها: أنّ المراد بالذنب هنا ترك المندوب. وحسن ذلك لأنّ من المعلوم أنّهصلىاللهعليهوآلهوسلم ممّن لا يخالف الأوامر الواجبة، فجاز أن يسمّى ذنبا منه ما لو وقع من غيره لم يسمّ ذنبا، لعلوّ قدره ورفعة شأنه.
ومنها: أنّ القول خرج مخرج التعظيم وحسن الخطاب، كما قيل في قوله :
( عَفَا اللهُ عَنْكَ ) (١) .
وهذا ضعيف، لأنّ العادة جرت في مثل هذا أن يكون على لفظ الدعاء.
( وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) بإعلاء دينك على سائر الأديان، وبقاء شرعك، وضمّ الملك إلى النبوّة. وقيل بفتح خيبر ومكّة والطائف.( وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرئاسة. أو تثبيتك على صراط يؤدّي بسالكه إلى الجنّة.
( وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) أي: نصرا فيه عزّ ومنعة. أو يعزّ به المنصور.
فهو وصف بصفة المنصور مبالغة إسنادا مجازيّا. أو عزيزا صاحبه. وقد فعل ذلك بنبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، إذ صيّر دينه أعزّ الأديان، وسلطانه أعظم السلطان.
( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) هي اسم السكون، كالبهيتة للبهتان، أي: أنزل الثبات والطمأنينة( فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: يفعل بهم اللطف الّذي يحصل لهم عنده، من البصيرة بالحقّ ما تسكن إليه نفوسهم. وذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلّة الهادية إليه، ومن جملتها ها هنا أن يقع الصلح بينهم وبين المعاندين، ويأمنوا منهم لذلك، بعد أن قلقت نفوسهم، ودحضت أقدامهم، لفرط الدهشة والخوف، ويروا من الفتوح وعلوّ كلمة الإسلام على وفق ما وعدوا.
( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) يقينا مع يقينهم، بمزيّة رسوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها، لمشاهدتهم وعرفانهم. أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به الرسول من الشرائع، ليزدادوا بها إيمانا مقرونا إلى إيمانهم بالله واليوم الآخر.
وعن ابن عبّاس: إنّ أوّل ما أتاهم به النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم التوحيد، فلمّا آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة، ثمّ الحجّ، ثمّ الجهاد، فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم.
أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله ولرسوله، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى
__________________
(١) التوبة: ٤٣.
إيمانهم. يعني: يزدادوا معارف على المعرفة الحاصلة عندهم.
وقيل: أنزل فيها الرحمة ليتراحموا، فيزدادوا إيمانهم.
( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) يدبّر أمرها، فيسلّط بعضها على بعض تارة، ويوقع فيما بينهم السّلم اخرى، كما تقتضيه حكمته.
وقيل: معناه: أنّ الله تعالى لو شاء لأعانكم بجنوده الّذين هم الملائكة والجنّ والإنس.
وفيه بيان أنّه لو شاء لأهلك المشركين، لكنّه عالم بهم وبما يخرج من أصلابهم، فأمهلهم لعلمه وحكمته، ولم يأمر بالقتال عن عجز واحتياج، ولكن ليعرض المجاهدين لجزيل الثواب.
( وَكانَ اللهُ عَلِيماً ) بالمصالح( حَكِيماً ) فيما يقدّر ويدبّر، فدبّر ما دبّر من تسليط المؤمنين.
( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) فهذا مع ما بعده علّة لـما دلّ عليه قوله:( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) من معنى التدبير. فكأنّه قال: سلّط المؤمنين على الكافرين ليعرفوا نعمة الله فيه ويشكروها، فيدخل المؤمنين الجنّة، ويعذّب الكفّار والمنافقين لـما غاضهم من ذلك. وقيل: علّة لقوله: فتحنا، أو أنزل، أو جميع ذلك، أو ليزدادوا. وقيل: إنّه بدل منه بدل الاشتمال.
( وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) يغطّيها ولا يظهرها. والمعنى: لم يعذّبهم بها.
( وَكانَ ذلِكَ ) أي: الإدخال والتكفير( عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) لأنّه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضرر. و «عند» حال من الفوز.
( وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ) عطف على «يدخل»، إلّا إذا جعلته بدلا، فيكون عطفا على المبدل منه، لا البدل، لفساد المعنى
( الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) ظنّ الأمر السوء، وهو أن لا ينصر رسوله والمؤمنين( عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ) ما يظنّونه ويتربّصونه بالمؤمنين، من الذلّ والهلاك وغنيمة الأموال.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: دائرة السّوء. وهما لغتان، غير أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه، ولذلك أضيف الظنّ إليه، لكونه مذموما. والمضموم جرى مجرى الشرّ، وهو مطلق المكروه والشدّة. وكلاهما في الأصل مصدر، من: ساء، كالكرة والكره، والضعف والضعف.
( وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ) عطف لـما استحقّوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا. والواو في الأخيرين، والموضع موضع الفاء ـ إذ اللعن سبب للإعداد، والغضب سبب له ـ لاستقلال الكلّ في الوعيد بلا اعتبار السببيّة.( وَساءَتْ مَصِيراً ) جهنّم.
( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً ) في قهره وانتقامه من أعدائه( حَكِيماً ) في فعله وقضائه. كرّره للتأكيد. أو الأوّل متّصل بذكر المؤمنين، أي: فله الجنود الّتي يقدر أن يعينكم بها. والثاني متّصل بذكر الكافرين، أي: فله الجنود الّتي يقدر على الانتقام منهم بها.
( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) )
( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ) تشهد على ما عملت أمّتك، كقوله:( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (١) .( وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) على الطاعة والمعصية.
( لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) الخطاب للنبيّ والأمّة( وَتُعَزِّرُوهُ ) وتقوّوه بتقوية دينه ورسوله( وَتُوَقِّرُوهُ ) وتعظّموه( وَتُسَبِّحُوهُ ) وتنزّهوه، أو تصلّوا له( بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) غدوة وعشيّا، أو دائما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الأربعة بالياء، والضمير للناس.
وفي الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر أنّ الله يريد من الكفّار الكفر، لأنّه صرّح هنا أنّه يريد من جميع المكلّفين الإيمان والطاعة.
( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) لأنّه المقصود ببيعته( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) حال، أو استئناف مؤكّد له على سبيل التخييل. يريد أنّ يد رسول الله الّتي تعلو أيدي المبايعين في حكم يد الله في هذه البيعة. ولـمّا كان الله تعالى منزّها عن الجوارح وعن سائر صفات الأجسام، فالغرض تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما، كقوله:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (٢) .
وقيل: معناه: قوّة الله في نصرة نبيّه فوق نصرتهم إيّاه، أي: ثق بنصرة الله لك، لا بنصرتهم وإن بايعوك.
وقيل: نعمة الله عليهم بنبيّه فوق أيديهم بالطاعة والمبايعة.
( فَمَنْ نَكَثَ ) نقض العهد( فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ) فلا يعود ضرر نكثه إلّا عليه( وَمَنْ أَوْفى ) ومن ثبت على الوفاء( بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ ) أي: أوفى بمبايعته.
يقال: وفيت بالعهد وأوفيت به. وهي لغة تهامة. ومنها:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٣) ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ) (٤) .( فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) هو الجنّة.
__________________
(١) البقرة: ١٤٣.
(٢) النساء: ٨٠.
(٣) المائدة: ١.
(٤) البقرة: ١٧٧.
وقرأ حفص: عليه بضمّ الهاء. وابن كثير ونافع وابن عامر وروح: فسنؤتيه بالنون.
والآية نزلت في بيعة الحديبية. وهي بيعة الرضوان. سمّيت بها لأنّهم باعوا أنفسهم بالجنّة، بسبب اتّفاقهم على محاربة أعداء الله ونصرة دينه، ورضي لهم تلك البيعة.
قال جابر بن عبد الله: بايعنا رسول الله تحت الشجرة على الموت، وعلى أن لا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة إلّا جد بن قيس، وكان منافقا اختبأ تحت إبط بعيره، ولم يسر مع القوم.
( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) )
روي: أنّهصلىاللهعليهوآلهوسلم حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمرا، وكان في ذي القعدة من سنة ستّ من الهجرة، استنفر من حول المدينة من أسلم وجهينة ومزينة وأشجع وغفار، ليخرجوا معه، حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو
يصدّوه عن البيت، وأحرم هوصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وساق معه الهدي، ليعلم أنّه لا يريد حربا. فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا: يذهب محمّد إلى قوم قد غزوه في عقر داره ـ أي: أصلها ـ بالمدينة وقتلوا أصحابه، فيقاتلهم. وظنّوا أنّه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة. واعتلّوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم، وأنّه ليس لهم من يقوم بأشغالهم. فأخبر الله عن تخلّفهم قبل وقوع ذلك، فقال :
( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا ) عن الخروج معك، إذ لم يكن لنا من يقوم بأشغالنا. والأهلون جمع أهل. ويقال: أهلات على تقدير تاء التأنيث، فإنّه قد جاء أهلة، كأرض وأرضين وأرضة وأرضات. وأمّا أهال فاسم جمع.( فَاسْتَغْفِرْ لَنا ) من الله على التخلّف.
فكذّبهم الله في الاعتذار والاستغفار بقوله:( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) أي: الّذي خلّفهم ليس بما يقولون، وإنّما هو الشكّ في الله والنفاق. وطلبهم الاستغفار أيضا ليس بصادر عن حقيقة.
( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ) فمن يمنعكم من مشيئته وقضائه( إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا ) ما يضرّكم، كقتل أو هزيمة أو خلل في المال والأهل، عقوبة على التخلّف. وقرأ حمزة والكسائي بالضمّ.( أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ) ما يضادّ ذلك من ظفر وغنيمة. وهذا تعريض بردّ قولهم.( بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) فيعلم تخلّفكم وقصدكم فيه.
( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ) لا يرجعون إلى من خلّفوا بالمدينة من الأهل والمال، لظنّكم أن المشركين يستأصلونهم( وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ) أي: زيّن الشيطان ذلك الظنّ المتمكّن في قلوبكم( وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ ) الظنّ المذكور، وهو التسجيل عليه بالسوء. أو هو وسائر ما يظنّون بالله ورسوله من الأمور الزائغة.( وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ) هالكين مستوجبين لسخطه وعقابه
عند الله، لفساد عقيدتكم، وسوء نيّتكم. من: بار، كالهلك من: هلك، بناء ومعنى. ولذلك وصف به الواحد والجمع، والمذكّر والمؤنّث. ويجوز أن يكون جمع بائر، كعائذ وعوذ.
وقيل: معناه: فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونيّاتكم، لا خير فيكم. وكان ذلك من الغيب الّذي لا يطّلع عليه أحد إلّا الله، وصار معجزا لنبيّناصلىاللهعليهوآلهوسلم .
( وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً ) وضع «الكافرين» موضع الضمير إيذانا بأنّ من لم يجمع بين الإيمان بالله ورسوله فهو كافر، وأنّه مستوجب للسعير بكفره. وتنكير «سعيرا» للتهويل، أو لأنّها نار مخصوصة.
( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) يدبّره كيف يشاء( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) مشيئته تابعة لحكمته، وحكمته المغفرة للتائب، وتعذيب المصرّ( وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) رحمته سابقة لغضبه، حيث يكفّر السيّئات باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة. وقد جاء في الحديث الإلهي: «سبقت رحمتي غضبي».
( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ