زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 22236
تحميل: 3583


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22236 / تحميل: 3583
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(٥٠)

سورة ق

مكّيّة. وهي خمس وأربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ومن قرأ سورة ق هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته».

أبو حمزة الثمالي، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من أدمن في فرائضه ونوافله سورة ق وسّع الله في رزقه، وأعطاه كتابه بيمينه، وحاسبه حسابا يسيرا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ

٤٤١

عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) )

واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة الحجرات بذكر الإيمان وشرائطه للعبيد، افتتح هذه السورة بذكر ما يجب الإيمان به، من القرآن المجيد وأدلّة التوحيد، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) الكلام فيه وفي تركيبه كما مرّ في( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) . وعن ابن عبّاس: أنّه اسم من أسماء الله تعالى. وعن الضحّاك: هو اسم الجبل المحيط بالأرض، من زمرّدة خضراء، خضرة السماء منها. وقيل: معناه: قضي الأمر، أو قضي ما هو كائن. والمجيد: ذو المجد والشرف على سائر الكتب. وقيل: وصف به، لأنّه كلام المجيد، فجاز اتّصافه بصفته. أو لأنّ من علم معانيه وامتثل أحكامه مجد عند الله وعند الناس.

( بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) إنكار لتعجّبهم ممّا ليس بعجب. وهو أن ينذرهم أحد من جنسهم، قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته. ومن كان بصفته لم يكن إلّا ناصحا لقومه، مترفرفا عليهم، خائفا أن ينالهم سوء، ويحلّ بهم مكروه.

وإذا علم أنّ مخوفا أظلّهم لزمه أن ينذرهم ويحذّرهم، فكيف بما هو غاية المخاوف ونهاية المحاذير؟! ثمّ حكى عن تعجّبهم بقوله:( فَقالَ الْكافِرُونَ هذا ) أي: اختيار الله محمدا للرسالة( شَيْءٌ عَجِيبٌ ) وإضمار ذكرهم ثمّ إظهاره للإشعار بتعنّتهم بهذا المقال، ثمّ التسجيل على كفرهم بذلك. ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى إنكار تعجّبهم ممّا

٤٤٢

أنذرهم به من البعث والرجع، مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما، وعلى اختراع كلّ شيء وإبداعه، وإقرارهم بالنشأة الأولى، ومع شهادة العقل بأنّه لا بدّ من الجزاء. وللمبالغة في إنكارهم البعث وضع الظاهر موضع ضميرهم، للشهادة على أنّهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم، إذ الأوّل استبعاد لأن يفضل عليهم مثلهم، والثاني استقصار لقدرة الله عمّا هو أهون ممّا يشاهدون من صنعه. فالتعجّب هنا أدخل في الإنكار.

( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ) منصوب بمضمر معناه: أحين نموت وصرنا ترابا ونبلى نرجع؟ ويدلّ على المحذوف قوله:( ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) أي: بعيد عن الوهم، أو العادة، أو الإمكان. وقيل: ذلك جواب من الله استبعادا لإنكارهم ما أنذروا به من البعث. والرجع بمعنى المرجوع. والمعنى: ذلك الإنكار مرجوع، أي: مردود بعيد عن العقل. وحينئذ ناصب الظرف ما دلّ عليه المنذر من المنذر به، وهو البعث. وعلى هذا ؛ الوقف قبله حسن.

ثمّ ردّ استبعادهم الرجع بقوله:( قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ) ما تأكل من أجساد موتاهم. فمن لطف علمه حتّى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم، كان قادرا على رجعهم أحياء كما كانوا. وقيل: إنّه جواب القسم. واللام محذوف، لطول الكلام.

( وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) حافظ لتفاصيل الأشياء كلّها. أو محفوظ عن التغيير، أو عن الشياطين، أو عن البلى والدروس. والمراد اللوح المحفوظ، وهذا الكتاب الّذي كتب فيه جميع ما وقع ويقع إلى يوم القيامة. أو المراد صحائف أعمال العباد يكتبها الحفظة. ويجوز أن يكون المراد تمثيل علمه بتفاصيل الأشياء بعلم من عنده كتاب محفوظ يطالعه.

( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ ) إضراب أتبع الإضراب الأوّل، للدلالة على أنّهم جاءوا

٤٤٣

بما هو أفظع من تعجّبهم، وهو التكذيب بالحقّ الّذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات، أو النبيّ، أو القرآن، أو الإخبار بالغيب( لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) مضطرب. من: مرج الخاتم في إصبعه. ومنه الهرج والمرج. وذلك قولهم تارة أنّه شاعر، وتارة أنّه ساحر، وتارة أنّه كاهن، لا يثبتون على شيء واحد.

ثمّ أقام سبحانه الدليل على كونه قادرا على البعث، فقال:( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا ) حين كفروا بالبعث( إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ ) إلى آثار قدرة الله في خلق العالم العلوي، وحسن ترتيبه وانتظامه( كَيْفَ بَنَيْناها ) رفعناها بلا عمد( وَزَيَّنَّاها ) بالكواكب( وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ ) فتوق وشقوق، بأن خلقها ملساء سليمة من العيوب، لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل، كقوله:( هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ) (١) .

( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ) دحوناها وبسطناها( وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ) جبالا ثوابت، ولولا هي لتقلّبت( وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) من كل صنف يبتهج ويسرّ به، لحسنه ونضارته. عن ابن زيد: البهجة الحسن الّذي له روعة عند الرؤية، كالزهرة والأشجار النضرة والرياض الخضرة.

( تَبْصِرَةً وَذِكْرى ) هما علّتان للأفعال السابقة. والمعنى: فعلنا ما فعلنا من الأفعال المذكورة لنبصّر بها ونذكّر.( لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) كلّ عبد راجع إلى ربّه، متفكّر في بدائع صنعه.

( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ) مطرا كثير المنافع( فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ ) بهذا الماء بساتين فيها أشجار تشتمل على أنواع الثمار المستلذّة والفواكه الطيّبة( وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) وحبّ الزرع الّذي من شأنه أن يحصد. وهو ما يقتات به، من نحو البرّ والشعير وغيرهما. والإضافة كإضافة حقّ اليقين ومسجد الجامع.

( وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ ) طوالا. وقيل: حوامل، من: أبسقت الشاة إذا حملت.

__________________

(١) الملك: ٣.

٤٤٤

وإفرادها بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها.( لَها ) لهذه النخل الموصوفة بالعلوّ والارتفاع( طَلْعٌ نَضِيدٌ ) منضود بعضه فوق بعض. والمراد: تراكم الطلع، أو كثرة ما فيه من الثمر.

( رِزْقاً لِلْعِبادِ ) علّة لـ «أنبتنا» أي: أنبتناها لنرزقهم. أو مصدر، فإنّ الإنبات في معنى الرزق.( وَأَحْيَيْنا بِهِ ) بذلك الماء( بَلْدَةً مَيْتاً ) أرضا جدبة لا نماء فيها، فنمت به وأنبتت كلّ نبات( كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) الكاف في محلّ الرفع على الابتداء، أي: مثل إحياء هذه البلدة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم، فإنّ من قدر على أحدهما قدر على الآخر. وإنّما دخلت الشبهة على هؤلاء من حيث إنّهم رأوا العادة مستمرّة في إحياء الموات من الأرض بنزول المطر، ولم تجر العادة بإحياء الموتى من البشر، ولو أعملوا الفكر وأمعنوا في النظر لعلموا أنّ من قدر على أحد الأمرين قدر على الآخر.

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) )

ثمّ ذكر سبحانه الأمم المكذّبة تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتهديدا للكفّار، فقال:( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ) من الأمم الماضية( قَوْمُ نُوحٍ ) فأغرقهم الله( وَأَصْحابُ الرَّسِ ) وهم أصحاب البئر الّتي رسّوا(١) نبيّهم فيها بعد أن قتلوه. وبيان ذلك واختلاف الأقوال فيه قد مرّ سابقا.(٢)

__________________

(١) أي: دفنوا.

(٢) راجع ج ٤ ص ٥٦٩، ذيل الآية ٣٥ من سورة الفرقان.

٤٤٥

( وَثَمُودُ ) وهم قوم صالحعليه‌السلام .( وَعادٌ ) وهم قوم هود( وَفِرْعَوْنُ ) أراد إيّاه وقومه، ليلائم ما قبله وما بعده، فإنّ المعطوف عليه قوم نوح، والمعطوفات جماعات( وَإِخْوانُ لُوطٍ ) فإنّهم كانوا أصهاره ومن نسبه.

( وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ ) وهم قوم شعيب. وقد مرّ في الحجر(١) .( وَقَوْمُ تُبَّعٍ ) تبّع الحميري. وقد مرّ في(٢) الدخان.( كُلٌ ) كلّ واحد منهم، أو قوم منهم، أو جميعهم. وحينئذ إفراد الضمير في قوله:( كَذَّبَ الرُّسُلَ ) لإفراد لفظة الكلّ( فَحَقَّ وَعِيدِ ) فوجب وحلّ عليه وعيدي، وهو كلمة العذاب. فإذا كان مآل الأمم الخالية إذا كذّبوا الرسل الهلاك، وإنّكم معاشر الكفّار قد سلكتم مسالكهم في التكذيب والإنكار، فحالكم كحالهم في التباب(٣) والخسار.

( أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) )

وبعد تهديدهم بعواقب المكذّبين المنكرين، ذكر الأدلّة على إمكان البعث، فقال :

( أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ) أَفعجزنا عن الإبداء حتّى نعجز عن الإعادة؟ من: عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله. والهمزة فيه للإنكار. يعني: أنّا لم نعجز ـ كما

__________________

(١) الحجر: ٧٨.

(٢) الدخان: ٣٧.

(٣) النباب: الهلاك.

٤٤٦

علموا ـ عن الخلق الأوّل حتّى نعجز عن الثاني.( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي: هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأوّل، واعترافهم بذلك في طيّه الاعتراف بالقدرة على الإعادة، بل هم في خلط وشبهة قد لبّس عليهم الشيطان وحيّرهم.

وأصل اللبس المنع من إدراك الشيء بما هو كالستر له. والجديد: القريب الإنشاء. ومنه قول عليّعليه‌السلام : «يا حار إنّه لملبوس عليك، اعرف الحقّ تعرف أهله».

ولبس الشيطان عليهم: تسويله إليهم أنّ إحياء الموتى أمر خارج عن العادة. فتركوا لذلك القياس الصحيح المنصوص العلّة، وهو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر. والجديد بمعنى القريب.

وتنكير الخلق والجديد ليدلّ على أنّ له شأنا عظيما وحالا شديدة، حقّ من سمع به أن يهتمّ به ويخاف، ويبحث عنه، ولا يقعد على لبس في مثله. وللإشعار بأنّه على وجه غير متعارف ولا معتاد.

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) جنس البشر( وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ما تحدّثه به نفسه وما يخطر بالبال، فإنّ وسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان، ويهجس(١) في ضميره من حديث النفس. وأصل الوسوسة: الصوت الخفيّ. ومنها: وسواس الحليّ. والضمير لـ «ما» إن جعلت موصولة. والباء مثلها في قولك: صوّت بكذا وهمس(٢) به. وإن جعلت مصدريّة فالضمير لـ «الإنسان». والباء للتعدية.

( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ) إسناد القرب إلى الله مجاز. والمراد قرب علمه منه، كما يقال: الله في كلّ مكان، وقد جلّ عن الأمكنة. والمعنى: ونحن أعلم بحاله ممّن كان أقرب إليه( مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) فتجوّز بقرب الذات لقرب العلم، لأنّ الذات موجبه.

وحبل الوريد مثل في فرط القرب، كقولهم: هو منّي مقعد القابلة ومعقد الإزار. قال

__________________

(١) أي: يخطر.

(٢) همس الصوت: أخفاه.

٤٤٧

ذو الرمّة: والموت أدنى لي من الوريد. والحبل: العرق، شبّه بواحد الحبال.

وإضافته للبيان، كقولهم: بعير سانية(١) . والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدّمها، متّصلان بالوتين، يردان من الرأس إليه. وقيل: سمّي وريدا لأنّ الروح ترده.

ثمّ ذكر سبحانه أنّه مع علمه به وكلّ به ملكين يحفظان عليه عمله إلزاما للحجّة، فقال :

( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ) مقدّر بـ «اذكر» أو متعلّق بـ «أقرب» أي: نحن أعلم بحاله من كلّ قريب حين يتلقّى الحفيظان ما يتلفّظ به. والتلقّي: التلقّن بالحفظ والكتبة. وفيه إيذان بأنّه غنيّ عن استحفاظ الملكين، فإنّه أعلم منهما، ومطّلع على ما يخفى عليهما، وكيف لا يستغني عنه وهو مطّلع على أخفى الخفيّات؟ لكنّه لحكمة اقتضته، وهي ما في كتبة الملكين وحفظهما، وعرض صحائف الأعمال يوم يقوم الأشهاد، وعلم العبد بذلك، مع علمه بإحاطة الله بعمله، من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيّئات والرغبة في الحسنات.

( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) أي: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد من المتلقّيين، أي: مقاعد، كالجليس بمعنى المجالس. فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، كقوله: فإنّي وقيّار بها لغريب. وقد يطلق الفعيل للواحد والمتعدّد، كقوله:( وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ) (٢) . والمراد بالقعيد الملازم الّذي لا يبرح، لا القاعد الّذي هو ضدّ القائم. وعن الحسن: الحفظة أربعة: ملكان بالنهار، وملكان بالليل.

( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ) ما يرمي به من فيه( إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ) ملك يرقب عمله( عَتِيدٌ ) معدّ حاضر. واختلف فيما يكتب الملكان، فقيل: يكتبان كلّ شيء حتّى

__________________

(١) السانية: الناقة يستقى عليها من البئر.

(٢) التحريم: ٤.

٤٤٨

أنينه في مرضه. وقيل: لا يكتبان عليه إلّا ما فيه ثواب وعقاب. ويؤيّده ما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيّئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيّئات، فإذا عمل حسنة كتبها لملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح أو يستغفر».

وعن أبي امامة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «إنّ صاحب الشمال ليرفع القلم ستّ ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلّا كتب واحدة».

وعن أنس بن مالك قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تعالى وكلّ بعبده ملكين يكتبان عليه، فإذا مات قالا: يا ربّ قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين؟ قال: سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني، وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني، اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني، فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة».

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ مقعد ملكيك على ثنيّتيك(١) ، ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك، لا تستحي من الله ولا منهما».

( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) )

ولـمّا ذكر إنكارهم البعث، واحتجّ عليهم بوصف قدرته وعلمه، أعلمهم أنّ ما أنكروه وجحدوه هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة، ونبّه على اقتراب ذلك بأن عبّر عنه بلفظ الماضي، فقال :

__________________

(١) الثنيّة وجمعها ثنايا: وهي أسنان مقدّم الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل.

٤٤٩

( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) غمرته وشدّته الذاهبة بالعقل. والباء للتعدية، كقولك: جاء زيد بعمرو. والمعنى: وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الموعود الّذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله. أو حقيقة الأمر وجليّة الحال، من سعادة المرء وشقاوته. أو الحقّ الّذي خلق له الإنسان من أنّ كلّ نفس ذائقة الموت.

أو الجزاء، فإنّ الإنسان خلق له. أو مثل الباء في( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) (١) ، أي: وجاءت ملتبسة بحقيقة الأمر. أو بالحكمة والغرض الصحيح، كقوله:( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) (٢) .

( ذلِكَ ) أي: الموت( ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) تميل وتنفر عنه. والخطاب للإنسان في قوله تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) (٣) على طريق الالتفات. أو الإشارة إلى الحقّ، والخطاب للفاجر.

( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) )

ثمّ أخبر سبحانه عن حال الناس بعد البعث، فقال:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) يعني: نفخة البعث( ذلِكَ ) إشارة إلى مصدر «نفخ» بحذف المضاف، أي: وقت ذلك النفخ( يَوْمُ الْوَعِيدِ ) يوم تحقّق الوعيد ووقوع المجازاة.

__________________

(١) المؤمنون: ٢٠.

(٢) الأنعام: ٧٣.

(٣) ق: ١٦.

٤٥٠

( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) ملكان أحدهما يسوقه، والآخر يشهد بعمله. أو ملك جامع للوصفين، كأنّه قيل: معها ملك يسوقها ويشهد عليها.

وقيل: السائق نفسه أو قرينه، والشهيد جوارحه أو أعماله، فلا يجد إلى الهرب ولا إلى الجحود سبيلا. ومحلّ «معها» النصب على الحال من «كلّ»، لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة، للاستغراق الّذي يفيد التخصيص.

( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ) على إضمار القول. والخطاب لكلّ نفس، إذ ما من أحد إلّا وله اشتغال مّا عن الآخرة.( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ ) حاجبك لأمور المعاد وخاسئك(١) عنها. وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات، والألف بها، وقصور النظر عليها. فإذا كان يوم القيامة تيقّظ وزالت عنه هذه الغفلة وغطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحقّ، ويرجع بصره الكليل عن الإبصار ـ لغفلته ـ حديدا لتيقظّه، كما قال:( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) حادّ نافذ لا يدخل عليه شبهة، لزوال المانع للإبصار. ولا شبهة أنّ الأمور العقليّة والسمعيّة لا تكون كالمشاهد المحسوس، فشبّه الله تعالى الغفلة الموصوفة بغطاء غطّى الإنسان جسده كلّه، أو بغشاوة غطّى بها عينيه، فهو لا يبصر شيئا.

وقيل: الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والمعنى: كنت في غفلة من أمر الديانة، فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن، فبصرك اليوم حديد، ترى ما لا يرون، وتعلم ما لا يعلمون.

وعن ابن عبّاس: هو خاصّ بالكافر، أي: فأنت اليوم عالم بما كنت تنكره في الدنيا.

ويؤيّد الأوّل سوق الكلام السابق، وقراءة من كسر التاء والكافات على خطاب النفس.

__________________

(١) خسئ: بعد. وخسأ البصر: كلّ وأعيا.

٤٥١

( وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) )

( وَقالَ قَرِينُهُ ) وقال الملك الموكّل عليه( هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) هذا ما هو مكتوب عندي حاضر لديّ. أو قال الشيطان الّذي قيّض له ـ في قوله:( نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) (١) ـ: إنّ هذا شيء لديّ وفي ملكتي(٢) عتيد لجهنّم. وتلخيص المعنى على هذا التقدير: أنّ ملكا يسوقه، وآخر شهيد عليه، وشيطانا مقرونا به يقول: قد اعتدته لجهنّم، وهيّأته لها بإغوائي وإضلالي. والقول الأوّل مرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام ، منقول عن جمع كثير من المفسّرين.

ثمّ خاطب الله سبحانه السائق والشهيد، أو ملكين من خزنة النار، بقوله:( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ ) ويجوز أن يكون الخطاب لواحد على وجهين :

الأوّل: قول المبرّد: إنّ تثنية الفاعل بمنزلة تثنية الفعل وتكريره، كأنّه قيل :

__________________

(١) الزخرف: ٣٦.

(٢) الملكة: الملك.

٤٥٢

الق ألق، كقوله: فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر(١) .

والثاني: الألف بدل من نون التأكيد، على إجراء الوصل مجرى الوقف. ويؤيّده أنّه قرئ في الشواذّ: ألقين بالنون الخفيفة. والأوّل أظهر.

وروى أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن الأعمش أنّه قال: حدّثنا ابو المتوكّل الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى لي ولعليّ: ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا الجنّة من أحبّكما، وذلك قوله: ألقيا في جهنّم( كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) »(٢)

معاند، مجانب للحقّ، معاد لأهله.

( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ) كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة. وجعل ذلك عادة له، فلا يبذل منه شيئا قطّ. وقيل: المراد بالخير الإسلام، لـما روي أنّ الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لـمّا منع بني أخيه عن الإسلام، وكان يقول: من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت.( مُعْتَدٍ ) متعدّ، ظالم، متخطّ عن الحقّ( مُرِيبٍ ) شاكّ في الله وفي دينه.

( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) مبتدأ متضمّن معنى الشرط، وخبره( فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ ) أو بدل «كلّ كفّار». فيكون «فألقياه» تكريرا للتوكيد، أو مفعولا لمضمر يفسّره: فألقياه.

( قالَ قَرِينُهُ ) أي: الشيطان المقيّض له. وإنّما أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الأولى، لأنّها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون.

وبيان التقاول هنا: أنّه لـمّا قال قرينه:( هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) . وتبعه قوله:( قالَ

__________________

(١) وعجزه: وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا.

(٢) شواهد التنزيل ٢: ٢٦١ ـ ٢٦٢ ح ٨٩٥.

٤٥٣

قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ) . وتلاه( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) علم أنّ ثم مقاولة بين الكافر والشيطان، لكنّها طرحت لـما يدلّ عليها( رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ) . كأنّ الكافر قال: ربّ هو أطغاني. فقال قرينه: ربّنا ما أطغيته. بخلاف الجملة الأولى، فإنّها واجبة العطف على ما قبلها، للدلالة على الجمع بين معناها وبين معنى ما قبلها. والمعنى: ما جعلته طاغيا، وما أوقعته في الطغيان( وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) ولكن طغى واختار الضلالة على الهدى، فأعنته عليه، فإنّ إغواء الشيطان إنّما يؤثّر فيمن كان مائلا إلى الفجور، كما قال:( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (١) .

( قالَ ) أي: الله تعالى( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ ) استئناف مثل قوله:( قالَ قَرِينُهُ ) .

كأنّ قائلا قال: فما ذا قال الله؟ فقيل: قال لا تختصموا لديّ، أي: في موقف الحساب، فإنّه لا فائدة في اختصامكم( وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي، فما تركت لكم حجّة عليّ. والجملة حاليّة، فيها تعليل للنهي، أي: لا تختصموا عالمين بأنّي أوعدتكم. والباء مزيدة، مثلها في:( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٢) . أو معدّية على أنّ «قدّم» بمعنى: تقدّم. ولـمّا كان قوله: «لا تختصموا إلخ» معناه: لا تختصموا عندي وقد صحّ عندكم أنّي قدّمت إليكم بالوعيد، وصحّة ذلك عندهم يكون في الآخرة. فلا يقال: إنّ قوله: «وقد قدّمت» واقع موقع الحال من «لا تختصموا». والتقديم بالوعيد في الدنيا، والخصومة في الآخرة، واجتماعهما في زمان واحد واجب.

( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ ) أي: بوقوع الخلف في أنّي أعاقب من جحدني وكذّب رسلي. فلا تطمعوا أن أبدّل وعيدي، فأعفيكم عمّا أوعدتكم به. ويجوز أن يقع

__________________

(١) إبراهيم: ٢٢.

(٢) البقرة: ١٩٥.

٤٥٤

قوله:( وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ ) على قوله: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ إلخ». ويكون «بالوعيد» حالا من المفعول أو الفاعل، أي: قدّمت إليكم هذا القول ونثبت لكم مضمونه ملتبسا بالوعيد. أو قدّمته إليكم موعدا لكم به.

( وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) فأعذّب من ليس بمستوجب للعذاب. وفي إيراد نفي الظلم في صورة بناء المبالغة وجهان: أن يكون مثل قولك: هو ظالم لعبده، وظلّام لعبيده. وأن يراد: لو عذّبت من لا يستحقّ العقاب لكنت ظلّاما مفرط الظلم، فنفى ذلك.

وقوله:( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ ) منصوب بـ «ظلّام» أو بمضمر نحو: اذكر وأنذر حين نقول لجهنّم هل امتلأت؟ من كثرة ما ألقي فيك من العصاة( وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) . ويجوز أن ينتصب بـ «نفخ» كأنّه قيل: ونفخ في الصور يوم نقول لجهنّم. وعلى هذا( ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) إشارة إلى «يوم نقول» فلا يفتقر إلى تقدير مضاف.

وسؤال جهنّم وجوابها من باب التخييل الّذي يقصد به تصوير المعنى في القلب وتثبيته. والمعنى: أنّها مع اتّساعها تطرح فيها الجنّ والإنس فوجا فوجا حتّى تمتلئ، لقوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) (١) . أو أنّها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيما بعد فراغ وموضع للمزيد. أو أنّها من شدّة زفيرها وحدّتها وتشبّثها بالعصاة وغيضها عليهم، كالمستكثرة لهم، والطالبة لزيادتهم.

وقيل: الجواب والسؤال على الحقيقة، لأنّ الله سبحانه يخلق لجهنّم آلة الكلام فتتكلّم. وهذا غير منكر، لأنّ من أنطق الأيدي والجوارح والجلود قادر على أن ينطق جهنّم.

وعن الحسن: هذا خطاب لخزنة جهنّم على وجه التقرير لهم. والمعنى: هل

__________________

(١) الأعراف: ١٨.

٤٥٥

امتلأ جهنّم؟ فيقولون: بلى لم يبق موضع لمزيد، ليعلم الخلق صدق وعده. ومعنى( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) على هذا: ما من مزيد، أي: لا مزيد، كقوله:( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ) (١) .

وقرأ نافع وأبو بكر: يوم يقول بالياء. والمزيد إمّا مصدر كالمحيد، أو مفعول كالمبيع.

( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) )

ولـمّا أخبر سبحانه عمّا أعدّه للكافرين والعصاة، عقّبه بذكر ما أعدّه للمتّقين، فقال :

( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ) أدنيت( لِلْمُتَّقِينَ ) حتّى يروها قريبة لهم( غَيْرَ بَعِيدٍ ) نصب على الظرف، أي: مكانا غير بعيد. ويجوز أن يكون حالا. وتذكيره لأنّه صفة محذوف، أي: شيئا غير بعيد. أو على أنّه مصدر، كالزئير والصليل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكّر والمؤنّث. وقيل: معناه: ليس ببعيد مجيء ذلك، لأنّ كلّ آت قريب. أو لأنّ الجنّة بمعنى البستان الّذي يجمع كلّ لذّة، من الأنهار والأشجار وطيّب الثمار، ومن الأزواج الكرام والحور الحسان والخدم من الولدان ،

__________________

(١) فاطر: ٣.

٤٥٦

ومن الأبنية الفاخرة المزيّنة بالدرّ واليواقيت والزمرّد والعقيان(١) . وذكر «غير بعيد» بعد الإزلاف للتأكيد، كما تقول: هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل.

( هذا ما تُوعَدُونَ ) على إضمار القول. والإشارة إلى الثواب، أو مصدر «أزلفت». وقرأ ابن كثير بالياء.( لِكُلِّ أَوَّابٍ ) رجّاع إلى ذكر الله. بدل من «المتّقين» بإعادة الجارّ، كقوله:( لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ) (٢) .( حَفِيظٍ ) حافظ لحدود الله، متحفّظ من الخروج إلى ما لا يجوز، من سيّئة تدنّسه أو خطيئة تشينه.

( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) بدل بعد بدل. أو بدل من موصوف «أوّاب» أي: شخص أوّاب. ولا يجوز أن يكون في حكم «أوّاب»، لأنّ «من» لا يوصف به، فإنّه لا يوصف من بين الموصولات إلّا بـ «الّذي» وحده. أو مبتدأ خبره( ادْخُلُوها ) على تأويل: يقال لهم: ادخلوها، فإنّ «من» بمعنى الجمع.

ويجوز أن يكون منادى، كقولهم: من لا يزال محسنا أحسن إليّ. وحذف حرف النداء للتقريب.

و «بالغيب» حال من المفعول، أي: خشيه وهو غائب لم يعرفه وكونه معاقبا إلّا بطريق الاستدلال. أو من الفاعل، أي: خشيه حال كونه لم يره. أو صفة لمصدر، أي: خشيه خشية ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه وهو غائب. أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد.

وتخصيص «الرحمن» للثناء البليغ على الخاشي، وهو خشيته مع علمه أنّه الواسع الرحمة، كما أثنى عليه بأنّه خاش مع أنّ المخشيّ منه غائب. ونحوه:( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) (٣) . فوصفهم بالوجل مع كثرة الطاعات.

__________________

(١) العقيان: الذهب الخالص.

(٢) الأعراف: ٧٥.

(٣) المؤمنون: ٦٠.

٤٥٧

ووصف القلب بالإنابة، إذ الاعتبار بما ثبت منها في القلب، من رجوعه إلى الله.

( بِسَلامٍ ) سالمين من العذاب وزوال النعم. أو مسلّما عليكم من الله وملائكته.( ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) يوم تقدير الخلود، كقوله:( فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) أي: مقدّرين الخلود.

( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ ) وهو: ما لا يخطر ببالهم ممّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وقيل: إنّ السحاب تمرّ بأهل الجنّة فتمطرهم الحور، فتقول الحور: نحن المزيد الّذي قال اللهعزوجل :( وَلَدَيْنا مَزِيدٌ ) .

( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ

__________________

(١) الزمر: ٧٣.

٤٥٨

تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥) )

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة فقال:( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ ) قبل قومك( مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً ) قوّة، كعاد وفرعون( فَنَقَّبُوا ) فخرقوا(١) ( فِي الْبِلادِ ) وتصرّفوا فيها. والفاء للتسبيب، أي: شدّة بطشهم أبطرتهم وأقدرتهم على التنقيب.

وقيل: معناه: جالوا في الأرض كلّ مجال حذر الموت.( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) أي: هل لهم من الله أو من الموت مهرب حتّى يتوقّعوا مثله لأنفسهم؟

وقيل: الضمير لأهل مكّة. ومعناه: فنقّب أهل مكّة في أسفارهم ومسايرهم في البلاد والقرى، وحين نزول آجالهم أو عقوباتهم، فهل رأوا لهم مهربا منها؟

والدليل على صحّته قراءة من قرأ: فنقّبوا على الأمر، كقوله:( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ) (٢) . وعلى الثاني والثالث ؛ الفاء للتعقيب.

( إِنَّ فِي ذلِكَ ) فيما ذكر في هذه السورة( لَذِكْرى ) لتذكرة( لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) أي: قلب واع يتفكّر في حقائقه، لأنّ من لا يعي قلبه فكأنّه لا قلب له( أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ) أي: أصغى لاستماعه( وَهُوَ شَهِيدٌ ) حاضر بذهنه ليفهم معانيه، لأنّ من لا يحضر ذهنه فكأنّه غائب. أو شاهد يصدّقه بأنّه وحي، فيتّعظ بظواهره، وينزجر بزواجره. وفي تنكير القلب وإبهامه تفخيم وإشعار بأنّ كلّ قلب لا يتفكّر ولا يتدبّر كلا قلب.

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) مرّ تفسيره(٣) مرارا

__________________

(١) خرق الأرض: جابها وقطعها حتّى بلغ أقصاها.

(٢) التوبة: ٢.

(٣) راجع تفسير الآية ٥٤ من سورة الأعراف، يونس: ٣، هود: ٧، الفرقان: ٥٩، السجدة: ٤.

٤٥٩

( وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ) من تعب وإعياء. وهو ردّ لـما زعمت اليهود من أنّه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش.

( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) ما يقول اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه. أو ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإنّ من قدر على خلق العالم بلا إعياء، قدر على بعثهم والانتقام منهم. وقيل: هي منسوخة بآية السيف(١) . وقيل: الصبر مأمور به في كلّ حال.

( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) ونزّهه عن العجز عمّا يمكن، والوصف بما يوجب التشبيه، حامدا له على ما أنعم عليك من إصابة الحقّ وغيرها( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) .

روي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه سئل عن هذا فقال: «تقول حين تصبح وحين تمسي عشر مرّات: لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كلّ شيء قدير».

والأكثر على أنّ المراد بالتسبيح قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل الغروب صلاة الظهر والعصر. فيعبّر عن الصلاة بالتسبيح، كما يعبّر بالركوع والسجود عنها، تسمية للشيء باسم معظم أركانه.

( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) فسبّحه بعض الليل، يعني: العشاءين. وقيل: التهجّد.

( وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) يعني: التسبيح في أعقاب الصلوات. جمع دبر. وقيل: النوافل بعد المكتوبات.

وعن عليّعليه‌السلام : «الركعتان بعد المغرب». وروي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من صلّى بعد المغرب قبل أن يتكلّم كتبت صلاته في علّيّين».

__________________

(١) التوبة: ٥ و٢٩.

٤٦٠