زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير3%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23797 / تحميل: 4614
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٨-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠) كَذلِكَ ) أي: الأمر مثل ذلك. والإشارة إلى تكذيبهم الرسول، وتسميتهم إيّاه ساحرا أو مجنونا. ثمّ فسّر ما أجمل بقوله:( ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) ولا يصحّ أن تكون الكاف منصوبة بـ «أتى» لأنّ «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. ولو عملت لكان المعنى: مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلّا قالوا ساحر أو مجنون.

( أَتَواصَوْا بِهِ ) أي: كأنّ الأوّلين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول، حتّى قالوه جميعا متّفقين عليه. والهمزة للتوبيخ.( بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) إضراب عن أنّ التواصي جامعهم ـ لأنّهم لم يتلاقوا في زمان واحد، لتباعد أيّامهم ـ إلى أنّ الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه. والمعنى: أنّهم لم يتواصوا به، بل جمعتهم العلّة الواحدة، وهي الطغيان.

( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) فأعرض عن مجادلتهم بعد ما كرّرت عليهم الدعوة فلم يجيبوا، وعرفت منهم العناد واللجاج( فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ ) على الإعراض بعد ما بذلت جهدك في البلاغ، بل اللائمة والذمّ عليهم من حيث لا يقبلون ما تدعوهم إليه.

روي: أنّه لـمّا نزلت( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) حزن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واشتدّ ذلك على أصحابه، ورأوا أنّ الوحي قد انقطع، وأنّ العذاب قد حضر، فأنزل الله تعالى :

٤٨١

( وَذَكِّرْ ) ولا تدع التذكير والموعظة( فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: تؤثّر في الّذين عرف الله منهم أنّهم يدخلون في الإيمان. أو يزيد الداخلين فيه إيمانا.

وعن مجاهد قال: خرج عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مغتمّا مشتملا في قميصه، فقال: لـمّا نزلت( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ ) لم يبق أحد منّا إلّا أيقن بالهلكة، حين قيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «فتولّ عنهم». فلمّا نزل( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) طابت نفوسنا.

( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) إلّا لأجل العبادة، أي: لم أرد من جميعهم إلّا إيّاها، مختارين لها لا مضطرّين إليها، لأنّه خلقهم ممكّنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم.

وخلاصة المعنى: أنّ الغرض في خلقهم تعريضهم للثواب، وذلك لا يحصل إلّا بأداء العبادات، فصاروا كأنّهم خلقهم الله للعبادة. فإن لم يعبده قوم لم يبطل الغرض، ويكون كمن هيّأ طعاما لقوم ودعاهم ليأكلوه، فحضروا ولم يأكله بعضهم، فإنّه لا ينسب إلى السفه، ويصحّ غرضه، فإنّ الأكل موقوف على اختيار الغير. فكذلك ها هنا، فإنّ الله إذا أزاح علل المكلّفين، من القدرة والآلة وإعطاء الألطاف، وأمرهم بالعبادة، فمن خالف فقد أتى من قبل نفسه لا من قبله سبحانه.

وشأن الله تعالى مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإنّ ملّاك العبيد إنّما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، فإنّ العبد إمّا مجهّز في تجارة ليفي ربحا، أو مرتّب في فلاحة ليغتلّ(١) أرضا، أو مسلّم في حرفة لينتفع

__________________

(١) اغتلّ الأرض: أخذ غلّتها.

٤٨٢

بالأجرة، أو محتطب، أو محتشّ(١) ، أو مستق، أو طابخ، أو خابز، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن الّتي هي تصرّف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق. فأمّا مالك ملك العبيد وقال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم، وأنا غنيّ عنكم وعن مرافقكم، ومتفضّل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي، فما هو إلّا أنا وحدي، حيث قال عزّ اسمه:( ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ) الّذي يرزق كلّ ما يفتقر إلى الرزق. وفيه إيماء باستغنائه عنه.( ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) شديد القوّة، أي: البليغ الاقتدار على كلّ شيء.

( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً ) أي: للّذين ظلموا رسول الله بالتكذيب نصيبا من العذاب( مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ ) مثل نصيب نظرائهم من الأمم السّالفة الّذين أهلكوا، مثل قوم نوح وعاد وثمود. وهو مأخوذ من مقاسمة السقّاء الماء بالدلاء، فإنّ الذنوب هو الدلو العظيم المملوء.( فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ) جواب لقولهم:( مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (٢) .

( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) من يوم القيامة، أو يوم بدر. والويل كلمة يقولها العرب لكلّ من وقع في الهلكة.

__________________

(١) احتشّ الحشيش: سعى في طلبه وجمعه.

(٢) يس: ٤٨.

٤٨٣
٤٨٤

(٥٢)

سورة الطور

مكّيّة. وهي تسع وأربعون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «ومن قرأ سورة الطور كان حقّا على الله أن يؤمنه من عذابه، وأن ينعّمه في جنّته».

وعن جبير بن مطعم قال: «سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ سورة الطور في المغرب». وروى محمد بن هشام، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة الطور جمع الله له خير الدنيا والآخرة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ

٤٨٥

بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الذاريات بالوعيد، افتتح هذه السورة بوقوع الوعيد، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ ) يريد طور سينين. وهو جبل بمدين، سمع فيه موسىعليه‌السلام كلام الله تعالى. أو مطلق الجبل، أقسم به لـما أودع الله فيه من أنواع نعمه. وهو لغة سريانيّة. أو مأخوذ من: طار من أوج الإيجاد إلى حضيض الموادّ، أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.

( وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ) مكتوب. والسطر ترتيب الحروف المكتوبة. والمراد به القرآن. أو ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، أو في ألواح موسىعليه‌السلام ، أو في قلوب أوليائه من المعارف والحكم. أو ما تكتبه الحفظة.

( فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ) الرقّ: الجلد الّذي يكتب فيه حقيقة، أو مستعار لـما كتب فيه الكتاب. والمنشور: المبسوط. والمعنى: مكتوب في ورق نشر لقراءة ما فيه. وتنكيرهما للتعظيم، والإشعار بأنّهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس.

( وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) الضراح(١) . وهو في السماء الرابعة بحيال الكعبة، لو سقط لسقط عليها. وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «ويدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، ثمّ لا يعودون إليه أبدا».

وعن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

__________________

(١) الضراح: بيت في السماء، وهو البيت المعمور.

٤٨٦

«البيت المعمور في السماء الدنيا، وفي السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان، يدخله جبرئيل كلّ يوم طلعت فيه الشمس، وإذا خرج انتفض انتفاضة جرت عنه سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كلّ قطرة ملكا، يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلّون فيه، فيفعلون ثمّ لا يعودون إليه أبدا».

أو المراد الكعبة، وعمارتها بالعمّار والحجّاج والمجاورين. أو قلب المؤمن، وعمارته بالمعرفة والإخلاص.

( وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) يعني: السماء، فإنّها كالسقف للأرض رفعها الله( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) أي: المملوء. وهو المحيط. أو الموقد، من قوله:( وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ) (١) .

قيل: إنّه تحمى البحار يوم القيامة فتجعل نيرانا، ثمّ تفجّر بعضها في بعض، ثمّ تفجّر إلى النار. وبرواية اخرى: أنّ الله يجعل يوم القيامة البحار نارا يسجّر بها نار جهنّم. أو المختلط، من السجير، وهو الخليط.

وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه سأل يهوديّا: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: في البحر. فقال عليّعليه‌السلام : ما أراه إلّا صادقا، لقوله تعالى:( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) .

وجواب القسم( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ) لنازل على المشركين لا محالة( ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ) يدفعه.

قال جبير بن مطعم: أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكلّمه في الأسارى، فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور، فلمّا بلغ( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ) أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب.

ووجه دلالة هذه الأمور المقسم بها على ذلك أنّها أمور تدلّ على كمال قدرة الله وحكمته، وصدق أخباره، وضبطه أعمال العباد للمجازاة.

__________________

(١) التكوير: ٦.

٤٨٧

ثمّ بيّن سبحانه أنّه متى يقع، فقال:( يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ) تضطرب. من المور بمعنى التردّد في المجيء والذهاب. وقيل: هو تحرّك في تموّج. والمائر: الشيء الّذي يتردّد في العرض، كالداغصة. وهي لحمة تكون فوق ركبة البعير.

وقيل: العظم المدوّر يتحرّك على رأس الركبة. والمعنى: يتموّج بالدوران. و «يوم» ظرف لـ «واقع».( وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) أي: تسير عن وجه الأرض، فتصير هباء حتّى تستوي الأرض.

( فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) ذكر الفاء لأنّ في الكلام معنى المجازاة، والتقدير: إذا وقع ذلك فويل لهم( الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ ) أي: الخوض في الباطل، فإنّه غلب استعماله في الاندفاع في الباطل والكذب. ومنه قوله:( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) (١) ( يَلْعَبُونَ ) يلهون بذكره. وهو إنكار البعث وتكذيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) يدفعون إليها بعنف. وذلك أنّ الخزنة يغلّون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، فيدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم، وزخّا(٢) في أقفيتهم.

و «يوم» بدل من «يوم تمور»، أو ظرف لقول مقدّر مقوله:( هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ) أي: حين يدفعون إلى النار قال لهم خزنتها هذا القول. وفي حديث أبي موسى: من يتّبع القرآن يهبط به على رياض الجنّة، ومن يتّبعه القرآن يزخّ في قفاه حتّى يقذف به في نار جهنّم.

ثمّ وبّخوهم لـمّا عاينوا العذاب فقالوا لهم:( أَفَسِحْرٌ هذا ) أي: كنتم تقولون للوحي: هذا سحر، أَفهذا المصداق أيضا سحر؟ ودخول الفاء لإفادة هذا المعنى.

وتقديم الخبر لأنّه المقصود بالإنكار والتوبيخ.( أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ) هذا أيضا ،

__________________

(١) المدّثر: ٤٥.

(٢) زخّة: دفعه.

٤٨٨

كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ما يدلّ عليه؟ أم سدّت أبصاركم، كما سدّت في الدنيا على زعمكم حين قلتم: إنّما سكّرت أبصارنا؟

( اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ) أي: ادخلوها على أيّ وجه شئتم من الصبر وعدمه، فإنّه لا محيص لكم عنها( سَواءٌ عَلَيْكُمْ ) مبتدأ محذوف خبره، أي: سواء عليكم الأمران الصبر وعدمه.

ثمّ علّل استواء الأمرين بقوله:( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي: لـمّا كان الجزاء واجب الوقوع كان الصبر وعدمه سيّين في عدم النفع. وتحقيق المعنى: أنّ الصبر إنّما يكون له مزيّة على الجزع لنفعه في العاقبة، بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير، فأمّا الصبر على العذاب الّذي هو الجزاء ـ ولا عاقبة له ولا منفعة ـ فلا مزيّة له على الجزع.

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا

٤٨٩

إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) )

ولـمّا أوعد سبحانه الكافرين وعد المؤمنين عقيبه، فقال:( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ) في أيّة جنّات وأيّ نعيم، بمعنى الكمال في الصفة. أو في جنّات ونعيم مخصوصة.

( فاكِهِينَ ) ناعمين متلذّذين( بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ) بما أعطاهم من أنواع النعيم( وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) عطف على «في جنّات» أو «آتاهم» إن جعل «ما» مصدريّة. والمعنى: فاكهين بإيتائهم ربّهم ووقايتهم عذاب الجحيم. أو حال بإضمار «قد» من المستكن في الظرف أو الحال، أو من فاعل «آتى» أو مفعوله أو منهما.

( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً ) أي: يقال لهم: كلوا واشربوا أكلا وشربا هنيئا، أو طعاما وشرابا هنيئا، وهو الّذي لا تنغيص فيه( بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) بسببه أو بدله.

وقيل: الباء زائدة، كما في( كَفى بِاللهِ ) (١) ، و «ما» فاعل «هنيئا». والمعنى: هنيئا لكم ما كنتم تعملون، أي: جزاؤه.

( مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ) مصطفّة، أي: موصول بعضها ببعض( وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) بنساء بيض نقيّات في حسن وكمال، واسعات الأعين في صفاء وبهاء. والباء للسببيّة، إذ المعنى: صيّرناهم أزواجا بسببهنّ. أو لـما في التزويج من معنى الوصلة والإلصاق والقرن. ولذلك عطف قوله:( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) على «حور» أي: قرنّاهم بأزواج حور وبالرفقاء والجلساء من المؤمنين، كقوله :

__________________

(١) النساء: ٦، وغيرها.

٤٩٠

( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (١) . فيتمتّعون تارة بملاعبة الحور، وتارة بمؤانسة الإخوان من المؤمنين.

وعن زيد بن أرقم: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله فقال: يا أبا القاسم إنّ أهل الجنّة يأكلون ويشربون؟ فقال: والّذي نفسي بيده إنّ الرجل منهم ليؤتى قوّة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع. قال: فإنّ الّذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة. فقال: عرق يفيض مثل ريح المسك، فإذا كان ذلك ضمر بطنه.

وقيل: الموصول مبتدأ خبره: «ألحقنا بهم».

وقوله:( وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) اعتراض للتعليل. وقرأ ابن عامر ويعقوب: ذرّيّاتهم بالجمع وضمّ التاء، للمبالغة في كثرتهم والتصريح، فإنّ الذريّة تقع على الواحد والكثير. وقرأ أبو عمرو: وأتبعناهم ذرّيّاتهم، أي: جعلناهم تابعين لهم في الايمان. وقيل: «بإيمان» حال من الضمير، أو من الذرّيّة، أو منهما. وتنكيره للتعظيم، أي: بسبب إيمان عظيم رفيع الشأن، وهو إيمان الآباء. ويجوز أن يراد إيمان الذرّيّة الداني المحلّ. كأنّه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهّلهم لدرجة الآباء ألحقناهم. أو الاشعار بأنّه يكفي للإلحاق المتابعة في أصل الإيمان.

( أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الصغار والكبار في دخول الجنّة أو الدرجة. أمّا الكبار فيتّبعون الآباء بإيمان منهم. وأمّا الصغار فيتّبعونهم بإيمان من الآباء، فإنّ الولد يحكم له بالإسلام تبعا لوالده، لـما روي مرفوعا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «إنّ الله يرفع ذرّيّة المؤمن في درجته وإن كانوا دونه، لتقرّبهم عينه، ثمّ تلا هذه الآية».

وعن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: «أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة».

وروى زادان عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المؤمنين وأولادهم في الجنّة، ثمّ قرأ هذه الآية».

__________________

(١) الحجر: ٤٧.

٤٩١

فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعاداتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم، وإن كانوا لا يستأهلونها، تفضّلا عليهم وعلى آبائهم، ليتمّ سرورهم ويكمل نعيمهم.

وقرأ نافع وابن عامر والبصريّان: ذرّيّاتهم.

( وَما أَلَتْناهُمْ ) وما نقصناهم( مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) بهذا الإلحاق، أي: ما نقصنا من ثواب عملهم شيئا نعطيه الأبناء حتّى يلحقوا بهم، بل إنّما ألحقناهم بهم على سبيل التفضّل. وقرأ ابن كثير بكسر اللام، من: ألت يألت. والمعنى واحد.

( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) بعمله، مرهون عند الله. كأنّ نفس العبد رهن عند الله بالعمل الّذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحا فكّها وخلّصها، وإلّا أوبقها.

( وَأَمْدَدْناهُمْ ) وزدناهم( بِفاكِهَةٍ ) بجنس الفاكهة، فإنّ الإمداد الإتيان بالشيء بعد الشيء( وَلَحْمٍ ) وجنس اللحوم( مِمَّا يَشْتَهُونَ ) من أنواع النعم الشهيّة اللذيذة.

( يَتَنازَعُونَ فِيها ) يتعاطون هم وجلساؤهم ـ من ذرّيّاتهم وإخوانهم ـ بتجاذب( كَأْساً ) خمرا. سمّاها باسم محلّها.( لا لَغْوٌ فِيها ) لا يتكلّمون بلغو الحديث وما لا طائل تحته في أثناء شربها( وَلا تَأْثِيمٌ ) ولا يفعلون ما يؤثّم به فاعله، أي: ينسب إلى الإثم، كما هو عادة الشاربين في الدنيا ذلك، من الكذب والشتم والفواحش، مثل قوله تعالى:( لا فِيها غَوْلٌ ) (١) . وإنّما يتكلّمون بالحكم والكلام الحسن متلذّذين بذلك، لأنّ عقولهم ثابتة غير زائلة، وهم حكماء علماء. وقرأ ابن كثير والبصريّان بالفتح.

( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ) أي: بالكأس( غِلْمانٌ لَهُمْ ) مماليك مخصوصون بهم.

__________________

(١) الصافّات: ٤٧.

٤٩٢

وقيل: هم أولادهم الّذين سبقوهم.( كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) مصون في الصدف، من بياضهم وصفائهم، لأنّه رطبا أحسن وأصفى وأصبح. أو مخزون، لأنّه لا يخزن إلّا الثمين الغالي القيمة. وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والّذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

وعنهعليه‌السلام : «إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة من ينادي الخادم من خدّامه، فيجيبه ألف ببابه: لبّيك لبّيك».

وقيل: إنّه ليس على الغلمان مشقّة في خدمة أهل الجنّة، بل لهم في ذلك اللذّة والسرور، إذ ليس تلك الدار دار محنة.

( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) يتحادثون، ويسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله وما استوجب به نيل ما عند الله.

( قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) أرقّاء القلوب من خشية الله، خائفين من عصيان الله، معتنين بطاعته. أو وجلين من العاقبة.

( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا ) بالرحمة والتوفيق( وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ) عذاب النار النافذة في المسامّ نفوذ السموم. وهو الريح الحارّة الّتي تدخل المسامّ. فسمّيت بها نار جهنّم، لأنّها بهذه الصفة.

( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ ) من قبل ذلك في الدنيا( نَدْعُوهُ ) نعبده، أو نسأله الوقاية( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ ) المحسن. وقرأ نافع والكسائي: أنّه بالفتح.( الرَّحِيمُ ) الكثير الرحمة، الّذي إذا عبد أثاب، وإذا سئل أجاب.

( فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ

٤٩٣

(٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) )

( فَذَكِّرْ ) فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم، ولا تكترث بقولهم( فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ) بحمد الله وإنعامه( بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) كما يقولون: ولا تبال به، فإنّه قول باطل متناقض، لأنّ الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقّة نظر، والمجنون مغطّى على عقله. وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوّة ورجاحة العقل أحد هذين.

( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) ما يقلق النفوس من حوادث الدهر. وقيل: المنون الموت. فعول من: منّه إذا قطعه. يعني: فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء، كزهير والنابغة وغيرهما.

٤٩٤

( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ) أتربّص هلاككم كما تتربّصون هلاكي. والمراد بالأمر التهديد، نحو:( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (١) .

( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ ) عقولهم( بِهذا ) التناقض في القول، فإنّ الكاهن يكون ذا فطنة ودقّة نظر، والمجنون مغطّى عقله، والشاعر يكون ذا كلام موزون متّسق مخيّل، ولا يتأتّى ذلك من المجنون. وأمر الأحلام به مجاز عن أدائها إليه، كقوله تعالى:( أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ) (٢) . وفي ذكرها إزراء بعقولهم، حيث لم تثمر لهم معرفة الحقّ من الباطل، مع أنّهم معروفون بأهل الأحلام والنهى.( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحقّ لهم.

( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ) اختلقه من تلقاء نفسه( بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ) فيرمونه بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم، مع علمهم ببطلان قولهم وأنّه ليس بمتقوّل، لعجز العرب عنه.

( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ) مثل القرآن وما يقاربه في نظمه وفصاحته، وحسن بيانه وبراعته( إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) في زعمهم أنّ محمّدا تقوّله، إذ فيهم كثير ممّن عدّوا فصحاء. فهذا ردّ للأقوال المذكورة بالتحدّي.

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ) أم أحدثوا وقدّروا من غير محدث ومقدّر، فلذلك لا يعبدونه. أو من أجل لا شيء، من عبادة ومجازاة. وقوله:( أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ) يؤيّد الأوّل، فإنّ معناه: أم خلقوا أنفسهم. ولذلك عقّبه بقوله:( أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) و «أم» في هذه الآيات منقطعة. ومعنى الهمزة فيها الإنكار.( بَلْ لا يُوقِنُونَ ) إذا سئلوا من خلقكم؟ ومن خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، إذ لو أيقنوا ذلك لـما أعرضوا عن عبادته.

__________________

(١) فصّلت: ٤٠.

(٢) هود: ٨٧.

٤٩٥

( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ ) خزائن رزقه حتّى يرزقوا النبوّة من شاؤا. أو خزائن علمه حتّى يختاروا للنبوّة من اختارته حكمته.( أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ) أي: الأرباب المسلّطون الغالبون على الأشياء حتّى يدبّروا أمر الربوبيّة، ويبثّوا الأمور على إرادتهم كيف شاؤا. وقرأ قنبل وحفص بخلاف عنه وهشام بالسين. وحمزة بخلاف عن خلّاد بين الصاد والزاء. والباقون بالصاد الخالصة.

( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ ) مرقى ومصعد إلى السماء( يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب، حتّى يعلموا ما هو كائن، من تقدّم هلاكه على هلاكهم، وظفرهم في العاقبة دونه، كما يزعمون( فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) بحجّة واضحة تصدّق استماعه.

( أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ) فيه تسفيه لأحلامهم، إذ أضافوا إلى الله سبحانه ما أنفوا منه. وهذا غاية في جهلهم، إذ جوّزوا عليه سبحانه الولد، ثمّ ادّعوا أنّه اختار الأدون على الأعلى. وإشعار بأنّ من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، فضلا أن بترقّى بروحه إلى عالم الملكوت فيتطلّع على الغيوب.

( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ) على تبليغ الرسالة( فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ ) من التزام غرم( مُثْقَلُونَ ) محمّلون الثقل، فزهّدهم ذلك في اتّباعك.

( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ ) اللوح المحفوظ المثبتة فيه المغيّبات( فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) حتّى يقولوا لا نبعث، وإن بعثنا لا نعذّب.

( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ) مكرا بك، وتدبير سوء في بابك سرّا، كما دبّروه في دار الندوة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمؤمنين( فَالَّذِينَ كَفَرُوا ) يحتمل العموم والخصوص. فيكون وضعه موضع الضمير للتسجيل على كفرهم، والدلالة على أنّه الموجب للحكم المذكور( هُمُ الْمَكِيدُونَ ) المجزيّون بكيدهم، فإنّ ضرر ذلك يحيق بهم ويعود عليهم. وهو قتلهم يوم بدر. أو المغلوبون في الكيد، من: كايدته فكدته.

٤٩٦

( أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ ) يعينهم ويحرسهم من عذابه( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) عن إشراكهم، أو شركة ما يشركون به.

( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩) )

ثمّ ذكر سبحانه عنادهم وقسوة قلوبهم، فقال:( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً ) قطعة( مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا ) من فرط طغيانهم وعنادهم( سَحابٌ مَرْكُومٌ ) هذا سحاب تراكم بعضه على بعض يمطرنا، ولم يصدّقوا أنّه كسف ساقط للعذاب. وهو جواب قولهم:( فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) (١) .

( فَذَرْهُمْ ) اتركهم يا محمّد( حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) يهلكون بوقوع الصاعقة عليهم. وهذا عند النفخة الأولى الّتي تسمّى نفخة الصعق، يهلك جميع الناس عندها. وقرأ ابن عامر وعاصم: يصعقون على المبنيّ للمفعول، من: صعقه أو أصعقه.

( يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ ) حيلتهم( شَيْئاً ) أي: شيئا من الإغناء في ردّ

__________________

(١) الشعراء: ١٨٧.

٤٩٧

العذاب( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) لا يمنعون من عذاب الله.

( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ) يحتمل العموم والخصوص( عَذاباً دُونَ ذلِكَ ) دون عذاب الآخرة. وهو عذاب القبر، أو المؤاخذة في الدنيا، كقتلهم ببدر، والقحط سبع سنين.( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ما هو نازل بهم.

( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) بإمهالهم وإبقائك في عنائهم وأذاهم حتّى يرد أمر الله بتخليصك( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ) في حفظنا بحيث نراك ونكلؤك، فلا يصلون إلى شيء ممّا أرادوا عليك. وجمع العين لجمع الضمير، والمبالغة بكثرة أسباب الحفظ.

( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) من أيّ مكان تقوم، أو من مكان قومك. أو حين تقوم إلى الصلاة، فقل: سبحانك أللّهمّ وبحمدك. أو من مجلسك فقل: سبحانك أللّهمّ وبحمدك، لا إله إلّا أنت، اغفر لي وتب عليّ. وهو المرويّ عن عطاء وسعيد بن جبير. وقد روي مرفوعا: أنّه كفّارة المجلس.

وعن عليّعليه‌السلام : «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه:( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ) (١) إلى آخر السورة»(٢) .

( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) فإنّ العبادة فيه أشقّ على النفس وأبعد من الرياء، ولذلك أفرده بالذكر، وقدّمه على الفعل.

وروى زرارة وحمران ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام في هذه الآية، قالا: «إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقوم من الليل ثلاث مرّات، فينظر في آفاق السماء، ويقرأ الخمس من آل عمران الّتي آخرها( إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ) (٣) ، ثمّ يفتتح صلاة الليل».

__________________

(١) الصافّات: ١٨٠.

(٢) هذه الرواية في فضائل سورة الصافّات، ولعلّ المؤلّف نقلها لمناسبتها للمقام.

(٣) آل عمران: ١٩٤.

٤٩٨

وقيل: معناه: قبل المغرب والعشاء الآخرة.

( وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل، أي: تغيب بضوء الصبح. والمراد: الأمر بقول: سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات.

وقيل: المراد بالتسبيح: الصلاة إذا قام من نومه، ومن الليل: صلاة العشاءين، وإدبار النجوم: صلاة الفجر المفروضة.

وهذا منقول عن ابن عبّاس وقتادة، ومرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام .

وقيل: المراد بإدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر.

وقيل: المعنى: لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا ومساء، ونزّهه في جميع أحوالك ليلا ونهارا، فإنّه لا يغفل عنك وعن حفظك.

وفي هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه قد ضمن حفظه وكلاءته حتّى يبلّغ رسالته.

٤٩٩
٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645