زبدة التفاسير الجزء ٦
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
ل «حسن مآب». وهو من الأعلام الغالبة، لقوله:( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ ) (١) . والعدن: بمعنى الإقامة والخلود. وانتصب عنها( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ) على الحال. والعامل فيها ما في معنى المتّقين من معنى الفعل. كأنّه قيل: جنّات عدن استقرّت للمتّقين، حال كونها مفتّحة لهم الأبواب، فيجدون أبوابها مفتوحة حين يرونها، ولا يحتاجون إلى الوقوف عند أبوابها حتّى يفتح. وفي «مفتّحة» ضمير الجنّات. و «الأبواب» بدل من الضمير، تقديره: مفتّحة هي الأبواب، كقولك: ضرب زيد اليد والرجل. وهو من بدل الاشتمال.
( مُتَّكِئِينَ فِيها ) مستندين فيها إلى المساند، جالسين جلسة الملوك( يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ ) أي: يتحكّمون في ثمارها وشرابها، فإذا قالوا لشيء منها: أقبل، حصل عندهم.
واعلم أنّ «متّكئين» و «يدعون» حالان متعاقبان أو متداخلان من الضمير في «لهم»، لا من «المتّقين» للفصل. والأظهر أنّ «يدعون» استئناف لبيان حالهم فيها، و «متّكئين» حال من ضمير «يدعون». والاقتصار على الفاكهة للإشعار بأنّ مطاعمهم لمحض التلذّذ، فإنّ التغذّي للتحلّل، ولا تحلّل ثمّة.
( وَعِنْدَهُمْ ) في هذه الجنان زوجات( قاصِراتُ الطَّرْفِ ) قصرن طرفهنّ على أزواجهنّ، لا ينظرن إلى غير أزواجهنّ، راضيات بهم، ما لهنّ في غيرهم رغبة. والقاصر: نقيض المادّ. يقال: فلان قاصر طرفه عن فلان، ومادّ عينه إلى فلان.( أَتْرابٌ ) لدات(٢) لأزواجهنّ، أي: يكون أسنانهنّ كأسنانهم، لأنّ التحابّ بين الأقران أثبت. واشتقاقه من التراب، فإنّه يمسّهم في وقت واحد.
وعن مجاهد: أي: متساويات في مقدار الشباب والحسن، لا يكون لواحدة
__________________
(١) مريم: ٦١.
(٢) اللدات جمع اللدة: الترب، وهو الذي ولد معك أو تربّى معك. يقال: هو لدتي، أي: تربي.
على صاحبتها فضل في ذلك، ولا تكون فيهنّ عجوز ولا صبيّة.
( هذا ) هذا الّذي ذكرنا( ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ) لأجل هذا اليوم، فإنّ الحساب علّة الوصول إلى الجزاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء(١) ليوافق ما قبله.
( إِنَّ هذا ) هذا الّذي ذكرنا( لَرِزْقُنا ) عطاؤنا( ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ) انقطاع.
ولـمّا بيّن سبحانه أحوال أهل الجنّة وما أعدّ لهم من جزيل الثواب، عقّبه ببيان أحوال أهل النار، وما لهم من أليم العقاب وعظيم العذاب، فقال:( هذا ) أي: هذا ما ذكرناه للمتّقين. أو الأمر هذا، أو هذا كما ذكر، أو خذ هذا. ثمّ ابتدأ فقال:( وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ) للّذين طغوا على الله وكذّبوا رسله عنادا( لَشَرَّ مَآبٍ ) وهو ضدّ مآب المتّقين( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها ) يدخلونها فيصيرون صلاء لها. والجملة الفعليّة حال من «جهنّم»، والعامل فيها ما في «للطاغين» من معنى الاستقرار.( فَبِئْسَ الْمِهادُ ) المهد والمفترش. فشبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الّذي يفترشه النائم. والمخصوص بالذمّ محذوف، وهو «جهنّم»، لقوله:( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ) (٢) .
( هذا ) أي: العذاب هذا( فَلْيَذُوقُوهُ ) ويجوز أن يكون «هذا» بمنزلة:( وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) (٣) أي: فليذوقوا هذا. ثمّ ابتدأ فقال:( حَمِيمٌ ) أي: هو ماء في غاية الحرارة( وَغَسَّاقٌ ) ما يغسق من صديد أهل النار. من: غسقت العين إذا سال دمعها.
وعن كعب: عين في جهنّم يسيل إليها سمّ كلّ ذات حمة. وعن ابن عبّاس وابن مسعود: الغسّاق: الزمهرير.
__________________
(١) أي: يوعدون.
(٢) الأعراف: ٤١.
(٣) البقرة: ٤١.
وقيل: الحميم يحرق لشدّة حرّه، والغسّاق يحرق لغاية برده.
وقيل: لو قطرت قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق.
وعن الحسن: الغسّاق عذاب لا يعلمه إلّا الله، إنّ الناس أخفوا لله طاعة، فأخفى لهم ثوابا في قوله:( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) (١) . وأخفوا معصية، فأخفى لهم عقوبة.
وقرأ حفص وحمزة والكسائي: وغسّاق بتشديد السين. وفيه مبالغة.
( وَآخَرُ ) أي: مذوق، أو عذاب آخر. وقرأ البصريّان: واخرى، أي: ومذوقات، أو أنواع عذاب أخر( مِنْ شَكْلِهِ ) من مثل هذا المذوق، أو العذاب في الشدّة. وتوحيد الضمير على تأويل: لـما ذكر. أو لأنّه راجع إلى الشراب الشامل للحميم والغسّاق، أو إلى الغسّاق.( أَزْواجٌ ) أجناس متشابهة في الشدّة والفظاظة.
وهذا خبر لـ «آخر». أو صفة له، أو للثلاثة. وجمعه على قراءة «أخر» ظاهر. وعلى قراءة «آخر» لأنّ المراد منه ضروب وأنواع. أو مرتفع بالجار، والخبر محذوف، مثل: لهم أزواج.
ولـمّا دخل رؤساء الطاغين وقادة الضالّين النار، ثمّ يدخلها أتباعهم، فيقول بعضهم مع بعض، أو يقول الخزنة لهم:( هذا فَوْجٌ ) المراد أتباع( مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) قد اقتحموا النار معكم، أي: دخلوا النار في صحبتكم وقرانكم. والاقتحام: ركوب الشدّة والدخول فيها. والقحمة: الشدّة. يعني: أنّهم لـمّا اقتحموا معهم الضلالة، اقتحموا معهم العذاب.
( لا مَرْحَباً بِهِمْ ) دعاء من المتبوعين على أتباعهم. أو صفة لـ «فوج». أو حال، أي: مقولا فيهم لا مرحبا، أي: لا نالوا سعة وكرامة.( إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ )
__________________
(١) السجدة: ١٧.
داخلون النار لازموها بأعمالهم مثلنا.
( قالُوا ) يقول الأتباع لهم( بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ ) لا نلتم رحبا وسعة( أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ ) قدّمتم العذاب أو الصلى( لَنا ) أي: بإغوائكم إيّانا على ما قدّم العذاب لنا، من العقائد الزائغة والأعمال القبيحة الّتي أوجبت لنا هذا العذاب( فَبِئْسَ الْقَرارُ ) فبئس المقرّ جهنّم. وعلى تقدير أن يكون «لا مرحبا بهم» من كلام الخزنة معناه: يقول الأتباع: هذا الّذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحقّ به منّا، لإغوائكم إيّانا، وتسبّبكم فيما نحن فيه من العذاب.
( قالُوا ) أي: الأتباع أيضا( رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا ) من سبّب لنا هذا العذاب بالإضلال والإغواء( فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً ) مضاعفا، أي: ذا ضعف( فِي النَّارِ ) وذلك أن يزيد على عذابه ضعفا مثله، فيصير ضعفين، أحدهما: لكفرهم بالله، والآخر: لدعائهم إيّانا إلى الكفر. ونحوه قوله تعالى:( رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ) (١) .
( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) (٢) . وقيل: عذابا ضعفا: حيّات وأفاعي.
( وَقالُوا ) أي: الطاغون( ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ) من الأراذل الّذين لا خير فيهم ولا جدوى، لأنّهم كانوا على خلاف ديننا( أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا ) صفة اخرى لـ «رجالا». يعنون فقراء المسلمين الّذين يسترذلونهم في الدنيا، ويسخرون بهم.
وقرأ الحجازيّان وابن عامر بهمزة الاستفهام، على أنّه إنكار على أنفسهم، وتقريع لها في الاستسخار منهم. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: سخريّا بالضمّ. وقد
__________________
(١) الأحزاب: ٦٨.
(٢) الأعراف: ٣٨.
سبق مثله في المؤمنين(١) .
( أَمْ زاغَتْ ) مالت( عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ) فلا نراهم. و «أم» متّصلة معادلة لـ «ما لنا لا نرى» على أنّ المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم. كأنّهم قالوا: أَليسوا هاهنا، أم زاغت عنهم أبصارنا. أو لـ «اتّخذناهم»(٢) على القراءة الثانية، بمعنى: أيّ الأمرين فعلنا بهم؟
الاستسخار منهم أم تحقيرهم؟ فإنّ زيغ الأبصار كناية عنه، على معنى إنكارهما على أنفسهم.
وعن الحسن: كلّ ذلك قد فعلوا، اتّخذوهم سخريّا، وزاغت عنهم أبصارهم محقّرة لهم.
أو منقطعة(٣) . والمراد الدلالة على أنّ استرذالهم والاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم وقصور أنظارهم على رثاثة حالهم.
عن مجاهد: نزلت في أبي جهل والوليد بن المغيرة ونظرائهما، يقولون: ما نرى عمّارا وخبابا وصهيبا وبلالا، الّذين كنّا نعدّهم في الدنيا من جملة الّذين يفعلون الشرّ والقبيح، ولا يفعلون الخير.
وروى العيّاشي بالإسناد عن أبي جعفرعليهالسلام أنّه قال: «إنّ أهل النار يقولون:( ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ) يعنونكم لا يرونكم في النار، لا يرون والله أحدا منكم في النار».
( إِنَّ ذلِكَ ) الّذي حكيناه عنهم( لَحَقٌ ) لا بدّ أن يتكلّموا به. ثمّ بيّن ما هو، فقال:( تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) وهو بدل من «لحقّ». أو خبر محذوف، أي: هو تخاصمهم. شبّه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين
__________________
(١) المؤمنون: ١١٠.
(٢) عطف على قوله: معادلة لـ «ما لنا لا نرى» قبل سطرين، أي: معادلة لـ «اتّخذناهم».
(٣) عطف على قوله: متّصلة معادلة، قبل سبعة أسطر.
المتخاصمين من نحو ذلك. ولأنّ قول الرؤساء: «لا مرحبا بهم» وقول أتباعهم: «بل أنتم لا مرحبا بكم» من باب الخصومة. فسمّى التقاول كلّه تخاصما لأجل اشتماله على ذلك.
( قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) )
ثمّ خاطب نبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال تقريرا لألوهيّته ووحدانيّته:( قُلْ ) يا محمّد للمشركين( إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ) أنذركم عذاب الله( وَما مِنْ إِلهٍ ) يحقّ العبادة( إِلَّا اللهُ الْواحِدُ ) الّذي لا يقبل الشركة والكثرة في ذاته( الْقَهَّارُ ) لكلّ شيء.
( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ) منه خلقها، وإليه أمرها( الْعَزِيزُ ) الّذي لا يغلب إذا عاقب. وهو مع ذلك( الْغَفَّارُ ) الّذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن التجأ إليه. يعني: أنذركم عقوبة من هذه صفته، فإنّ مثله حقيق بأن يخاف عقابه، كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه. وفي الآية تقرير للتوحيد، ووعد ووعيد للموحّدين والمشركين.
( قُلْ هُوَ ) أي: ما أنبأتكم به من أنّي أنذر من عقوبة من كان موصوفا بهذه الصفات، وأنّه واحد في الوهيّته. وقيل: ما بعده من نبأ آدم.( نَبَأٌ عَظِيمٌ ) لا يعرض عن مثله إلّا غافل شديد الغفلة( أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) لتمادي غفلتكم، فإنّ العاقل لا يعرض عن مثله، كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة. أمّا على التوحيد فما مرّ. وأمّا على النبوّة فقوله:( ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) فإنّ الإخبار عن تقاول الملائكة وما جرى بينهم، على ما ورد في الكتب المتقدّمة، من غير سماع ومطالعة كتب، لا يتصوّر إلّا بالوحي.
و «إذ» متعلّق بـ «علم». أو بمحذوف، إذ التقدير: ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم.
( إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أي: لأنّما أنا نذير. يعني: ما يوحى إليّ إلّا للإنذار، فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه. كأنّه لـمّا نبّه على أنّ الوحي يأتيه، بيّن بذلك ما هو المقصود به تحقيقا لقوله: إنّما أنا منذر. ويجوز أن يرتفع «أنّما» بإسناد «يوحى» إليه، أي: ما يوحى إليّ إلّا أن أنذر وأبلّغ، ولا أفرط في ذلك، أي: ما اومر إلّا بهذا الأمر وحده، وليس إليّ غير ذلك.
( إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) بدل من( إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) مبيّن له، فإنّ القصّة الّتي دخلت عليها «إذ» مشتملة على تقاول الملائكة وإبليس في خلق آدم، واستحقاقه للخلافة والسجود، على ما مرّ في سورة البقرة(١) . غير أنّها اختصرت اكتفاء بذلك، واقتصارا على ما هو المقصود منها، وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ، بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم.
ومن الجائز أن يكون مقاولة الله إيّاهم بواسطة ملك، فكأنّ المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسّط، فصحّ أنّ التقاول كان بين الملائكة وآدم وإبليس، وهم الملأ الأعلى. والمراد بالاختصام التقاول، على ما سبق. وأن يفسّر الملأ الأعلى بما يعمّ الله والملائكة.
( فَإِذا سَوَّيْتُهُ ) عدّلت خلقته، بأن تمّمت أعضاءه، وصوّرته على وجه الكمال( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) وأحييته بنفخ الروح فيه. وإضافته إلى نفسه لشرفه وطهارته.( فَقَعُوا لَهُ ) فخرّوا له( ساجِدِينَ ) تكرمة وتبجيلا له. وقد مرّ الكلام فيه في البقرة(٢) .
__________________
(١) راجع ج ١ ص ١٢٠ ـ ١٣٠.
(٢) راجع ج ١ ص ١٢٠ ـ ١٤٢، ذيل الآيات ٣٠ ـ ٣٨ من سورة البقرة.
( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) ذكر «كلّ» للإحاطة، و «أجمعون» للاجتماع. فأفادا معا أنّهم سجدوا عن آخرهم، ما بقي منهم ملك إلّا سجد، وأنّهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات.
( إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ ) تعظّم( وَكانَ ) وصار( مِنَ الْكافِرِينَ ) باستنكاره أمر الله، واستكباره عن المطاوعة. أو كان منهم في علم الله. وإبليس وإن لم يكن من الملائكة بل من الجنّ، إلّا أنّه قد أمر بالسجود معهم، فغلّبوا عليه في قوله:( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ ) . ثمّ استثني كما استثني الواحد منهم استثناء متّصلا. وتفصيل ذلك أيضا قد مرّ في البقرة.
( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) تولّيت خلقه بنفسي من غير توسّط، كأب وأمّ. والتثنية لـما في خلقه من مزيد القدرة. وقد سبق أنّ ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلّب العمل باليدين على سائر الأعمال الّتي تباشر بغيرهما، حتّى قيل في عمل القلب: هو ممّا عملت يداك، وحتّى قيل لمن لا يدين له: فعلت يداك كذا وكذا، وحتّى لم يبق فرق بين قولك: هذا ممّا عملته يداك، وهذا ممّا عملته. وإطلاق لفظ اليد على القدرة والقوّة والقوّة في كلام العرب شائع.
وترتيب الإنكار على قوله:( لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) للإشعار بأنّه المستدعي للتعظيم، أو بأنّه الّذي تشبّث به في تركه، وهو لا يصلح مانعا، إذ للسيّد أن يستخدم بعض عبيده لبعض، سيّما وله مزيد اختصاص.
( أَسْتَكْبَرْتَ ) تكبّرت من غير استحقاق( أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) ممّن علا واستحقّ التفوّق. وقيل: استكبرت الآن، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين؟
( قالَ ) أي: أجاب إبليس بإظهار المانع( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) ثمّ استدلّ على المانع بقوله:( خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) أي: لو كان مخلوقا من نار
لما سجدت له، لأنّه مثلي، فكيف أسجد لمن هو أدنى؟ لأنّه من طين، والنار تغلب الطين وتأكله. وأيضا النار جسم لطيف نورانيّ، والطين جسم كثيف ظلماني. وهذه الجملة جرت مجرى عطف البيان من الجملة الأولى.
( قالَ فَاخْرُجْ مِنْها ) من الجنّة، أو من السماء. وقيل: من الخلقة الّتي أنت فيها، لأنّه كان يفتخر بخلقته، فغيّر الله خلقته فاسودّ بعد ما كان أبيض، وقبح بعد أن كان حسنا، وأظلم بعد ما كان نورانيّا.( فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) مرجوم مطرود من الرحمة ومحلّ الكرامة. وأصل الرجم: الرمي بالحجارة.
( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ ) ليس معناه: أنّ لعنة إبليس غايتها يوم الدين ثمّ تنقطع. وكيف تنقطع، وقد قال الله سبحانه:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (١) . بل المعنى: أنّ عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة الدنيويّة، فكأنّها انقطعت.
( قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) فأخّرني إلى يوم يحشرون للحساب.
وهو يوم القيامة.( قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) المؤخّرين( إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) الوقت الّذي تقع فيه النفخة الأولى. ويومه: اليوم الذي وقتها جزء من أجزائه.
فالإضافة هي إضافة الكلّ إلى جزئه. ومعنى «المعلوم» أنّه معلوم عند الله معيّن لا يستقدم ولا يستأخر.
( قالَ فَبِعِزَّتِكَ ) فبسلطانك وقهرك على جميع خلقك( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يعني: بني آدم كلّهم( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) الّذين أخلصوا قلوبهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح اللام، أي: الّذين أخلصهم الله تعالى لطاعته، وعصمهم من الضلالة.
__________________
(١) الأعراف: ٤٤.
( قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) أي: فأحقّ الحقّ وأقوله. وقيل: الحقّ الأوّل اسم الله تعالى، كما في قوله تعالى:( أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) (١) . أو الحقّ الّذي هو نقيض الباطل. ونصبه بحذف حرف القسم. وعلى هذا قوله:( وَالْحَقَّ أَقُولُ ) معترض بين القسم وجوابه، وهو قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ) أي: من جنسك، ليتناول الشياطين( وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ) من الناس، إذ الكلام فيهم. أو من الثقلين.( أَجْمَعِينَ ) تأكيد لضمير «منهم»، أو الكاف في «منك»، أولهما معا.
ومعناه: لأملأنّ جهنّم من الشياطين المتبوعين أجمعين. أو التابعين من الناس أو الثقلين جميعا. أو من جميع المتبوعين وجميع التابعين. والجملة تفسير للحقّ المقول.
وقرأ عاصم وحمزة برفع الأوّل على الابتداء، أي: الحقّ يميني أو قسمي، أو الخبر، أي: أنا الحقّ.
( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨) )
ثمّ خاطب النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم فقال:( قُلْ ) يا محمّد لكفّار مكّة( ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ ) أي: على القرآن أو تبليغ الوحي( مِنْ أَجْرٍ ) من مال تعطونيه( وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) المتّصفين بما ليسوا من أهله. وما عرفتموني قطّ متصنّعا، ولا مدّعيا ما ليس عندي، حتّى أنتحل النبوّة وأتقوّل القرآن.
وعن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «للمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم».
__________________
(١) النور: ٢٥.
وروى البخاري في الصحيح عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: «يا أيّها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإنّ من العلم أن يقول لـما لا يعلم: الله أعلم، فإنّ الله تعالى قال لنبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم :( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (١) .
( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ) عظة ونصيحة من الله( لِلْعالَمِينَ ) للثقلين، أوحي إليّ فأنا أبلّغه. وقيل: ما القرآن إلّا شرف لمن آمن به.( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ ) أي: صدق خبر ما فيه من الوعد والوعيد بإتيان ذلك( بَعْدَ حِينٍ ) بعد الموت، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام. وفيه تهديد.
__________________
(١) صحيح البخاري ٦: ١٥٦.
(٣٩)
سورة الزمر
وتسمّى أيضا سورة الغرف. وهي مكّيّة كلّها. وقيل: سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة:( قُلْ يا عِبادِيَ ) إلى آخرهنّ، كما سيجيء.
وقيل: غير آية( قُلْ يا عِبادِيَ ) . وآيها خمس وسبعون آية.
أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه، وأعطاه ثواب الخائفين الّذين خافوا الله تعالى».
وروى هارون بن خارجة عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «من قرأ سورة الزمر أعطاه الله شرف الدنيا والآخرة، وأعزّه بلا مال ولا عشيرة، حتّى يهابه من يراه، وحرّم جسده على النار. ويبني له في الجنّة ألف مدينة، في كلّ مدينة ألف قصر، في كلّ قصر مائة حوراء، وله مع ذلك عينان تجريان، وعينان نضّاختان، وجنّتان مدهامّتان، وحور مقصورات في الخيام».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ
أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) )
واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة «ص» بذكر القرآن، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) خبر محذوف. أو مبتدأ، خبره( مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) وهو على الأوّل صلة التنزيل، كما تقول: نزل من عند الله.
أو خبر ثان، تقديره: هذا تنزيل الكتاب، هذا من الله. أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة. والظاهر أنّ الكتاب على الأوّل السورة. والمعنى: هذا إنزال السورة على محمّد شيئا فشيئا. وعلى الثاني القرآن، أي: إنزال القرآن على التدريج من الله المتعالي عن المثل والشبه، الحكيم في أفعاله وأقواله. وصف نفسه هنا بالعزّة تحذيرا من مخالفة كتابه، وبالحكمة إعلاما بأنّه يحفظه حتّى يصل إلى المكلّفين من غير تغيير لشيء منه.
( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ ) ملتبسا بالأمر الحقّ، أي: بالدين الصحيح.
أو بسبب إثبات الحقّ وإظهاره وتفصيله.
( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً ) ممحّضا( لَهُ الدِّينَ ) من الشرك، بالتوحيد وتصفية السرّ. وتقديم الجارّ لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام، كما في قوله:( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) أي: ألا هو الّذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة، فإنّه المتفرّد بصفات الألوهيّة، والاطّلاع على الأسرار والضمائر.
( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) يحتمل المتّخذين، وهم الكفرة. والضمير راجع إلى الموصول. والمتّخذين، وهم الملائكة وعيسى والأصنام. والضمير راجع
إلى المشركين. ولم يجر ذكرهم لدلالة الميثاق عليهم. والراجع إلى «الّذين» محذوف. والمعنى: والّذين اتّخذهم المشركون أولياء.
وعلى الأوّل الموصول مبتدأ، خبره( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) بإضمار القول، أو( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ) وهو متعيّن على الثاني. وعلى هذا يكون القول المضمر بما في حيّزه حالا، أي: قائلين ذلك. أو بدلا من الصلة، فلا يكون له محلّ من الإعراب، كما أنّ المبدل منه كذلك.
( فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) من الدين، بإدخال المحقّين الجنّة، والمبطلين النار، مع الحجارة الّتي نحتوها وعبدوها من دون الله، فيعذّبهم بها حيث يجعلهم وإيّاها حصب جهنّم. والضمير للكفرة ومقابليهم، أعني: المسلمين. وقيل: لهم ولمعبوديهم، فإنّهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونهم.
وقيل: كان المسلمون إذا قالوا لهم: من خلق السماوات والأرض؟ أقرّوا وقالوا: الله. فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى. فالضمير في «بينهم» عائد إليهم وإلى المسلمين. والمعنى: أنّ الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين.
( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ ) على الله وعلى رسوله( كَفَّارٌ ) جاحد للوحدانيّة عنادا ولجاجا. والمراد بمنع الهداية: منع اللطف، تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم، وأنّهم في علم الله من الهالكين. أو المراد عدم هدايتهم إلى طريق الجنّة، أو عدم الحكم بهدايته إلى الحقّ.
ومن جملة كذبهم على الله قولهم: الملائكة بنات الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، وقول اليهود: عزير ابن الله. ولذلك عقّبه محتجّا عليهم بقوله:( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ) كما زعموا( لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) إذ لا موجود سواه إلّا وهو مخلوقه، لقيام الدلالة على امتناع وجود واجبين، ووجوب استناد ما عدا الواجب إليه. ومن البيّن أنّ المخلوق لا يماثل الخالق، فيقوم مقام الولد له.
ثمّ قرّر ذلك بقوله:( سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) فإنّ الألوهيّة الحقيقيّة تتبع الوجوب المستلزم للوحدة الذاتيّة، وهي تنافي المماثلة فضلا عن التوالد الّذي يتوقّف على التجانس، لأنّ كلّ واحد من المثلين مركّب من الحقيقة المشتركة
والتعيين المخصوص، والقهّاريّة المطلقة تنافي قبول الزوال المحوج إلى الولد.
ثمّ استدلّ على ذلك بقوله:( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) أي: لم يخلقهما باطلا لغير غرض صحيح، بل خلقهما للغرض الحكمي.
( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ) أي: يغشي كلّ واحد منهما الآخر، بأن يجعلهما خلفة يذهب هذا ويغشي مكانه هذا، وإذا غشى مكانه كأنّه يلفّه عليه لفّ اللباس على اللابس. يقال: كار العمامة على رأسه إذا لفّه ولواه. أو يغيّبه به، كما يغيّب الملفوف باللفافة عن مطامح الأبصار. أو يجعله كارّا عليه كرورا متتابعا، تتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض.
( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) بأن أجراهما على وتيرة واحدة وفق المشيئة، لوقت معلوم في الشتاء والصيف. وهو منتهى دورهما، أو منقطع حركته.
( أَلا هُوَ الْعَزِيزُ ) القادر على كلّ ممكن، الغالب على كلّ شيء( الْغَفَّارُ ) حيث لم يعاجل بالعقوبة، ولم يسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة.
فسمّى الحلم مغفرة. ومن قدر على خلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وإدخال الليل في النهار، فهو منزّه عن اتّخاذ الولد والشريك، فإنّ ذلك من صفة المحتاجين.
( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) )
ثمّ استدلّ استدلالا آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوءا به من خلق الإنسان، لأنّه أقرب وأكثر دلالة وأعجب، فقال :
( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) وهو آدمعليهالسلام ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) يعني: حوّاء، من ضلع من أضلاعه. وقيل: من فضل طينته. وفي خلق الإنسان ثلاث دلالات: خلق آدم أوّلا من غير أب وأمّ. ثمّ خلق حوّاء من ضلعه الأسفل الّذي هو أقصر الأضلاع. ثمّ تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما.
و «ثمّ» للعطف على محذوف هو صفة «نفس»، مثل: خلقها. أو على معنى «واحدة» أي: من نفس وحدت، ثمّ جعل منها زوجها، فشفّعها بها. أو على «خلقكم» لتفاوت ما بين الآيتين، فإنّ الأولى عادة مستمرّة دون الثانية. فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود.
وقيل: أخرج من ظهره ذرّيّته كالذرّ، ثمّ خلق حوّاء منه. وهذا ضعيف.
( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ) وقضى لكم أو قسم، فإنّ قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح كلّ كائن يكون. أو أحدث لكم بأسباب نازلة، كأشعّة الشمس والأمطار، فإنّها لا تعيش إلّا بالنبات، والنبات لا يقوم إلّا بالماء، وهو نازل من السماء، فكأنّه أنزل الأنعام منها. وهذا كقوله:( قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً ) (١) ولم ينزل اللباس، ولكن أنزل الماء الّذي هو سبب القطن والصوف، واللباس يكون منهما. فكذلك الأنعام تكون بالنبات، والنبات يكون بالماء.
( ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) ذكر أو أنثى، من الإبل والبقر والضأن والمعز. والزوج: اسم لواحد يكون معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد ووتر.( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ) بيان لكيفيّة خلق ما ذكر من الأناسيّ والأنعام، إظهارا لـما فيها من عجائب القدرة، غير أنّه غلّب أولي العقل، أو خصّهم بالخطاب، لأنّهم المقصودون( خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) حيوانا سويّا، من بعد عظام مكسوّة لحما، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من
__________________
(١) الأعراف: ٢٦.
بعد علق، من بعد نطف( فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ) ظلمة البطن، والرحم، والمشيمة. وقيل: الصلب، والرحم، والبطن.
( ذلِكُمُ ) أي: الّذي هذه أفعاله( اللهُ رَبُّكُمْ ) هو المستحقّ لعبادتكم، الّذي يملك التصرّف فيكم( لَهُ الْمُلْكُ ) على جميع المخلوقات( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) إذ لا يشاركه في الخلق غيره( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك.
( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) )
( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ) عن إيمانكم، فإنّكم المحتاجون إليه، لاستضراركم بالكفر، واستنفاعكم بالإيمان( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) فكيف يخلق الكفر، كما زعمت الأشاعرة( وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) أي: يرض الشكر لكم، لأنّه سبب فلا حكم. فإذن ما كره كفركم ولا رضي شكركم إلّا لكم ولصلاحكم، لا لأنّ منفعة ترجع إليه، فإنّه الغنيّ الّذي لا يجوز عليه الحاجة.
وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمّة الهاء، لأنّها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرّك، فصارت مثل: له. وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها. وهو لغة فيها.
واعلم أنّ منطوق هذا أوضح دلالة على أنّه سبحانه لا يريد الكفر الواقع من العباد، لأنّه لو أراده لوجب متى وقع أن يكون راضيا به لعبده، لأنّ الرضا بالفعل ليس إلّا ما ذكرناه. ألا ترى أنّه يستحيل أن نريد من غيرنا شيئا، ويقع منه على ما نريده، فلا نكون راضين به! أو أن نرضى شيئا، ولم نرده البتّة. ولقد تمحّل بعض
الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر، فقال: هذا من العامّ الّذي أريد به الخاصّ، وما أراد إلّا عباده الّذين عناهم في قوله:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) (١) .
وتفصيل المبحث ذكره النيشابوري في تفسيره بهذه العبارة: «قال المعتزلة في قوله:( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) دليل على أنّ الكفر ليس بقضائه، وإلّا لكان راضيا به. وأجاب الأشاعرة: بأنّه قد علم من اصطلاح القرآن أنّ العباد المضاف إلى الله أو إلى ضميره هم المؤمنون. قال:( وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ ) (٢) .( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ ) (٣) . فمعنى الآية: ولا يرضى لعباده المخلصين الكفر، وهذا ممّا لا نزاع فيه. أو نقول: سلّمنا أنّ كفر الكافر ليس برضا الله تعالى، بمعنى أنّه لا يمدحه عليه، ولا يترك اللوم والاعتراض، إلّا أنّا ندّعي أنّه بإرادته، وليس في الآية دليل على إبطاله»(٤) . انتهى كلامه.
وأقول: ضعف الجوابين ظاهر :
أما أولا: فلأنّ النيشابوري قال بعد هذا القول بورقة في آية( ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ ) (٥) : «إنّه قد مرّ أنّ العباد في القرآن إذا كان مضافا إلى ضمير الله اختصّ بأهل الإيمان عند أهل السنّة. وعندي لا مانع من التعميم هاهنا»(٦) . فظهر من كلامه القدح في الاصطلاح، والتعميم في العباد.
وذكر بعد هذا الكلام بورقتين في تفسير الآية الكريمة:( يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) (٧) ما يعضده، حيث جوّز التعميم، وقدّم
__________________
(١) الحجر: ٤٢.
(٢) الفرقان: ٦٣.
(٣) الإنسان: ٦.
(٤) غرائب القرآن ٥: ٦١٦.
(٥) الزمر: ١٦ و٥٣.
(٦) غرائب القرآن ٥: ٦١٦.
(٧) الزمر: ١٦ و٥٣.
ما حقّه التقديم، قائلا: «ثمّ إن قلنا: العباد عامّ، فالإسراف على النفس يعمّ الشرك.
ولا نزاع أنّ عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطا بالتوبة والإيمان. وإن قلنا: العباد المضاف في عرف القرآن مختصّ بالمؤمنين، فالإسراف إمّا بالصغائر، ولا خلاف في أنّها مكفّرة ما اجتنب الكبائر. وإمّا بالكبائر، وحينئذ يبقى النزاع بين الفريقين، فالمعتزلة شرطوا التوبة، والأشاعرة العفو»(١) .
وأمّا ثانيا: فلأنّه لا معنى لإرادة الله شيئا لا يرضى به كما مضى، فثبت أنّ الكفر ليس بقضائه، وأنّه أراد الإيمان من كلّ عباده. والحمد لله على حسن التوفيق وهداية الطريق.
( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) ولا تحمل حاملة ثقل اخرى، أي: لا يؤاخذ بالذنب إلّا من يرتكبه ويفعله( ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ ) مصيركم( فَيُنَبِّئُكُمْ ) فيخبركم( بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ما عملتموه بالمحاسبة والمجازاة( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.
( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) )
__________________
(١) غرائب القرآن ٦: ١٠.