زبدة التفاسير الجزء ٦
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
البياض، شديدة سواد السواد، وبذلك يتمّ حسن العين.( مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ) قصرن في خدورهنّ. يقال: امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة، أي: مخدّرة. أو مقصورات الطرف على أزواجهنّ. قيل: إنّ كلّ خيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة.
وعن ابن عبّاس قال: الخيمة درّة مجوّفة فرسخ في فرسخ، فيها أربعة آلاف مصراعه من ذهب.
وعن أنس، عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «مررت ليلة أسري بي بنهر حافّتاه قباب المرجان، فنوديت منه: السلام عليك يا رسول الله. فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء جوار من الحور العين، استأذنّ ربّهنّعزوجل أن يسلّمن عليك، فأذن لهنّ.
فقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نيأس، أزواج رجال كرام. ثمّ قرأ:( حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ) .
وروي عنهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «الخيمة درّة واحدة طولها في السماء ستّون ميلا، في كلّ زاوية منها أهل للمؤمن لا يراه الآخرون».
وروي: أنّ نساء أهل الجنّة يأخذ بعضهنّ بأيدي بعضهنّ، ويتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها: نحن الراضيات فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نظعن، ونحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام. وإذا قلن هذه المقالة أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا: نحن المصلّيات وما صلّيتنّ، ونحن الصائمات وما صمتنّ، ونحن المتوضّئات وما توضّأتنّ، ونحن المتصدّقات وما تصدّقتنّ. فغلبتهنّ والله.
( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .
( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ ) كحور الأوليين. وهم أصحاب الجنّتين، فإنّهما يدلّان عليهم.( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .
( مُتَّكِئِينَ ) نصب على الاختصاص( عَلى رَفْرَفٍ ) فرش مرتفعة، أو
وسائد، أو نمارق. جمع رفرفة. وقيل: الرفرف ضرب من البسط، أو ذيل الخيمة. وقد يقال لكلّ ثوب عريض.( خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ ) العبقريّ منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنّه اسم بلد للجنّ، فينسبون إليه كلّ شيء عجيب. وقيل: هو ثوب الديباج. وقيل: كلّ ثوب موشى(١) . والمراد به الجنس، ولذلك جمع حسان حملا على المعنى.( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .
( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ) تعالى اسمه من حيث إنّه مطلق على ذاته، فما ظنّك بذاته؟ وقيل: الاسم بمعنى الصفة، أو مقحم.( ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) . وقرأ ابن عامر بالرفع صفة للاسم.
__________________
(١) وشى الثوب ووشّاه: حسّنه بالألوان ونمنمه ونقشه.
(٥٦)
سورة الواقعة
مكّيّة. وهي ستّ وتسعون آية.
أبيّ بن كعب، عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ سورة الواقعة كتب: ليس من الغافلين».
وعن مسروق قال: من أراد أن يعلم نبأ الأوّلين والآخرين، ونبأ أهل الجنّة، ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا، ونبأ الآخرة، فليقرأ سورة الواقعة.
وروي: أنّ عثمان بن عفّان دخل على عبد الله بن مسعود يعوده في مرضه الّذي مات فيه، فقال له: ما تشتكي؟
قال: ذنوبي.
قال: ما تشتهي؟
قال: رحمة ربّي.
قال: أَفلا ندعو الطبيب؟
قال: الطبيب أمرضني.
قال: أَفلا نأمر بعطائك؟
قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغن عنه.
قال: يكون لبناتك.
قال: لا حاجة لهنّ فيه، فقد أمرتهنّ أن يقرأن سورة الواقعة، فإنّي سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كلّ يوم وليلة لم تصبه فاقة أبدا».
وروى العيّاشي بالإسناد عن زيد الشحّام، عن أبي جعفرعليهالسلام قال: «من قرأ سورة الواقعة قبل أن ينام لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر».
وعن أبي بصير، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «من قرأ في كلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه الله، وحبّبه إلى الناس أجمعين، ولم ير في الدنيا بؤسا أبدا، ولا فقرا ولا آفة من آفات الدنيا، وكان من رفقاء أمير المؤمنين».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) )
واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة الرحمن بصفة الجنّة، افتتح سورة الواقعة أيضا بصفة القيامة والجنّة، فاتّصلت إحداهما بالأخرى اتّصال النظير بالنظير، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي: إذا حدثت القيامة، كقولك: إذا حدثت الحادثة، وكانت الكائنة. وسمّاها واقعة لتحقّق وقوعها، فكأنّه قيل: إذا وقعت الساعة الّتي لا بدّ من وقوعها. وفيه حثّ على الاستعداد لها.
وانتصاب «إذا» بمحذوف، مثل: اذكر، أو كان كيت وكيت. أو بقوله:( لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ) أي: لا تكون حين وقوع الواقعة نفس تكذب على الله، أو تكذب في نفيها كما تكذب الآن، لأنّ كلّ نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذّبات، كقولك:( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ) (١) . وقوله :
__________________
(١) غافر: ٨٤.
( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) (١) . وقوله:( وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ) (٢) . واللام مثلها في قوله:( قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) (٣) أي: ليس لأجل وقعتها نفس تكذّبها، فإنّ من أخبر عنها صدق.
أو ليس لها حينئذ نفس تحدّث صاحبها بإطاقة شدّتها واحتمالها، وتغريه عليها. من قولهم: كذّبت فلانا نفسه في الخطب العظيم، إذا شجّعته على مباشرته وقالت له: إنّك تطيقه وما فوقه، فتعرّض له ولا تبال به. على معنى: أنّها
وقعة لا تطاق شدّة وفظاعة، وأن لا نفس حينئذ تحدّث صاحبها بما تحدّثه به عند عظائم الأمور، وتزيّن له احتمالها وإطاقتها، لأنّهم يومئذ أضعف من ذلك وأذلّ. ألا ترى إلى قوله:( كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) (٤) ، والفراش مثل في الضعف.
وقيل: كاذبة مصدر ـ كالعاقبة ـ بمعنى التكذيب.
( خافِضَةٌ رافِعَةٌ ) أي: هي تخفض قوما، وترفع قوما آخرين. وهو تقرير لعظمتها، ووصف لها بالشدّة، فإنّ الوقائع العظام يرتفع فيها ناس ويتّضع ناس. أو بيان لـما يكون حينئذ من خفض أعداء الله إلى الدركات، ورفع أوليائه إلى الدرجات. والمعنى: أنّها تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين، وتجعلهم أذلّة بإدخالهم النار، وترفع رجالا كانوا في الدنيا أذلّة، وتجعلهم أعزّة بإدخالهم الجنّة. أو إزالة الأجرام عن مقارّها، بنثر الكواكب وتسيير الجبال في الجوّ.
( إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ) حرّكت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل. والظرف متعلّق بـ «خافضة» أي: تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبسّ الجبال، لأنّ عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض. أو
__________________
(١) الشعراء: ٢٠١.
(٢) الحجّ: ٥٥.
(٣) الفجر: ٢٤.
(٤) القارعة: ٤.
بدل من «إذا وقعت».
( وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ) وفتّت(١) حتّى صارت كالسويق الملتوت. من: بسّ السويق إذا لتّه. أو سيقت وسيّرت. من: بسّ الغنم إذا ساقها، كقوله:( وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ ) (٢) .( فَكانَتْ هَباءً ) غبارا( مُنْبَثًّا ) منتشرا.
( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) )
__________________
(١) فتّ الشيء: كسره بالأصابع كسرا صغيرة.
(٢) النبأ: ٢٠.
ثمّ وصف سبحانه أحوال الناس، بأن قال:( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ) أصنافا( ثَلاثَةً ) فإنّه يقال للأصناف الّتي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض: أزواج.
ثمّ فسّرها بقوله:( فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ) فأصحاب المنزلة السنيّة. من قولك: فلان منّي باليمين، إذا وصفته بالرفعة عندك، لتيمّنهم بالميامن، وتفأّلهم بالسانح(١) ، ولذلك اشتقّوا لليمين الاسم من اليمن. أو الّذين يعطون صحائفهم بأيمانهم. أو الّذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنّة. أو اصحاب اليمن والبركة، فإنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم.( ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ) أي: أيّ شيء هم. وفي إقامة الظاهر مقام الضمير تفخيم لشأنهم العظيم، وتعجيب لرسولهم من حالهم الفخيمة في الجنّة، كما يقال: هم ما هم.
( وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ) وأصحاب المنزلة الدنيّة. من قولهم: فلان منّي بالشمال، إذا وصفوه بالضعة عندهم، لتشاؤمهم بالشمائل، وتطيّرهم بالبارح(٢) .
ولذلك سمّوا الشمائل: لشؤمى. أو الّذين يعطون صحائفهم بشمائلهم. أو الّذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. أو أصحاب الشؤم، لأنّ الأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم.( ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ) أيّ شيء هم. تفخيم لخطبهم في العقوبات الشديدة، وتعجيب لرسوله من حالهم الوضيعة.
( وَالسَّابِقُونَ ) والّذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه من الإيمان والطاعة بعد ظهور الحقّ، وشقّوا الغبار في طلب مرضاته من غير تلعثم وتوان. أو سبقوا في حيازة الفضائل والكمالات. أو الأنبياء، فإنّهم مقدّمو أهل الأديان.( السَّابِقُونَ ) هم الّذين عرفت حالهم ومآلهم، كقول أبي النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري.
كأنّه قال: وشعري ما انتهى إليك، وسمعت بفصاحته وبراعته.
__________________
(١) السانح: الّذي يأتي من جانب اليمين، أو ما مرّ من يسارك إلى يمينك من ظبي أو طائر.
(٢) البارح: الّذي يأتي من جانب اليسار.
( أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) أي: السابقون إلى أنواع الطاعات هم الّذين يقربون إلى رحمة الله في أعلى مراتب الجنّة، وإلى جزيل ثواب الله في أعظم الكرامة.
وعن أبي جعفرعليهالسلام قال: «السابقون أربعة: ابن آدم المقتول، وسابق في أمّة موسى، وهو مؤمن آل فرعون، وسابق في أمّة عيسى، وهو حبيب النجّار، والسابق في أمّة محمدصلىاللهعليهوآلهوسلم عليّ بن أبي طالبعليهالسلام ».
( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ) أي: هم كثير من الأوّلين. يعني: الأمم السابقة من لدن آدم إلى سيّدنا محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم .( وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) يعني: أمّة محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم . ولا يخالف ذلك قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ أمّتي يكثرون سائر الأمم».
لجواز أن يكون سابقوا سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمّة، وتابعوا هذه أكثر من تابعيهم. ولا يردّه قوله في أصحاب اليمين:( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) (١) ، لأنّ كثرة الفريقين لا تنافي أكثريّة أحدهما.
وقيل: إنّ الأوّلين من متقدّمي هذه الأمّة، والآخرين من متأخّريها، لـما روي مرفوعا عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «الثلّتان جميعا من أمّتي».
واشتقاقها من الثلّ، وهو القطع والكسر، كما أنّ الأمّة من الأمّ، وهو الشجّ، كأنّها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم. فكلّ واحد من الفريقين المذكورين في الآية يقطع من الآخر.
( عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ) خبر آخر للضمير المحذوف. والموضونة: المنسوجة بالذهب مشبّكة بالدرّ والياقوت، قد دوخل بعضها في بعض، كما توضن حلق الدرع. من الوضن، وهو نسج الدرع. قال المفسّرون: منسوجة بقضبان الذهب، مشبّكة بالدرّ والجواهر. وقيل: متواصلة أدنى بعضها من بعض.
__________________
(١) الواقعة: ٣٩ ـ ٤٠.
( مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ ) حالان من الضمير في «على سرر». وهو العامل فيها، أي: استقرّوا عليها متّكئين على السرر متقابلين، لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض. وصفوا بحسن العشرة، وتهذيب الأخلاق والآداب.
( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ) للخدمة( وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) مبقون أبدا على شكل الولدان وطراوتهم، لا يتحوّلون عنه. قيل: مقرّطون. من الخلدة، وهي: القرط(١) . قيل: هم أولاد أهل الدنيا، لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيّئات فيعاقبوا عليها. وروي ذلك عن عليّعليهالسلام . وفي الحديث: «أولاد الكفّار خدّام أهل الجنّة».
( بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ ) حال الشرب وغيره. والكوب: إناء لا عروة ولا خرطوم له. والإبريق: إناء له ذلك. وعن قتادة: هي القداح الواسعة الرؤوس لا خراطيم لها.( وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) من خمر ظاهر للعيون جار.
( لا يُصَدَّعُونَ عَنْها ) بالخمار(٢) . وحقيقته: لا يصدر صداعهم عنها.( وَلا يُنْزِفُونَ ) ولا تنزف عقولهم ـ أي: لا تذهب ـ بالسكر. أو لا ينفد شرابهم. وقرأ الكوفيّون بكسر الزّاء.
( وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ) يأخذون خيره وأفضله( وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) يتمنّون، فإنّ أهل الجنّة إذا اشتهوا لحم الطير خلق الله تعالى لهم لحم الطير نضيجا، حتّى لا يحتاج إلى ذبح الطير وإيلامه. وقال ابن عبّاس: يخطر على قلبه الطير، فيصير ممثّلا بين يديه على ما اشتهى.
( وَحُورٌ عِينٌ ) عطف على «ولدان». أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: وفيها، أو ولهم حور. وقرأ حمزة والكسائي بالجرّ عطفا على «جنّات»، أي: هم في جنّات وفاكهة ولحم وحور. أو على «أكواب» لأنّ معنى «يطوف عليهم ولدان مخلّدون
__________________
(١) القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة ونحوها.
(٢) الخمار: صداع الخمر.
بأكواب»: ينعّمون بأكواب.( كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ) المصون عمّا يضرّ به في الصفاء والنقاء.
( جَزاءً ) يجزون جزاء( بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً ) كلاما باطلا( وَلا تَأْثِيماً ) ولا نسبة إلى الإثم، فلا يقال لهم( إِلَّا قِيلاً ) قولا( سَلاماً سَلاماً ) بدل من «قيلا»، كقوله:( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً ) (١) . أو صفته، أو مفعوله، بمعنى: إلّا أن يقولوا سلاما. أو مصدر. والتكرير للدلالة على فشوّ السلام بينهم.
( وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) )
( وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ ) شجر نبق( مَخْضُودٍ ) منزوع الشوكة، أي: لا شوك له. من: خضد الشوك إذا قطعه، فكأنّه خضد شوكه. أو مثنيّ أغصانه من كثرة حمله. من: خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب.
قال الضحّاك: نظر المسلمون إلى وج، وهو واد مخصب بالطائف، فأعجبهم
__________________
(١) مريم: ٦٢.
سدره، وقالوا: ليت لنا مثل هذا. فنزلت الآية.
( وَطَلْحٍ ) وشجر موز، أو أمّ غيلان، وله أنوار كثيرة طيّبة الرائحة. وعن السدّي: شجر يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل.( مَنْضُودٍ ) نضد حمله من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق بارزة.
( وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ) دائم منبسط لا يتقلّص، كظلّ ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وقد ورد في الخبر: «أنّ في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة سنة لا يقطعها».
وروي أيضا: «أنّ أوقات الجنّة كغدوات الصيف، لا يكون فيه حرّ ولا برد».
( وَماءٍ مَسْكُوبٍ ) يسكب لهم أين شاؤوا، وكيف شاؤوا بلا تعب. أو مصبوب سائل، دائم الجرية، لا ينقطع. وقيل: مصبوب يجري على الأرض في غير أخدود(١) . كأنّه لـمّا شبّه حال السابقين في التنعّم بأكمل ما يتصوّر لأهل المدن، شبّه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتمنّاه أهل البوادي، إشعارا بالتفاوت بين الحالين.
( وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ) كثيرة الأجناس. والوجه في تكرير ذكر الفاكهة بيان اختلاف صفاتها، فذكرت أوّلا بأنّها متخيّرة، وذكرت هاهنا بأنّها كثيرة.
( لا مَقْطُوعَةٍ ) دائمة لا تنقطع في وقت( وَلا مَمْنُوعَةٍ ) لا تمنع عن متناولها بوجه، كما يحظر على بساتين الدنيا.
( وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ) رفيعة القدر. أو منضّدة مرتفعة، أي: نضّدت حتّى ارتفعت. وقيل: الفرش النساء، لأنّ المرأة يكنّى عنها بالفراش، ومنه قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «الولد للفراش، وللعاهر الحجر».
وارتفاعها أنّها على الأرائك. قال الله تعالى:( هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ) (٢) . أو مرتفعات القدر في عقولهنّ
__________________
(١) الأخدود: الحفرة المستطيلة.
(٢) يس: ٥٦.
وحسنهنّ وكمالهنّ. ولذلك عقّبه بقوله:( إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ) أي: ابتدأنا خلقهنّ ابتداء جديدا من غير ولادة، إبداء أو إعادة.
وعن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ أمّ سلمة سألته عن قول اللهعزوجل ( إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ ) .
فقال: يا أمّ سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا(١) ، جعلهنّ الله بعد الكبر أترابا، على ميلاد واحد في الاستواء(٢) ، كلّما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا. فلمّا سمعت عائشة ذلك من رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم قالت: وأوجعاه. فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : ليس هناك وجع».
وقالت عجوزة لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : ادع الله أن يدخلني الجنّة. فقال: «إنّ الجنّة لا تدخلها العجائز. فولّت وهي تبكي. فقالعليهالسلام : أخبروها أنّها ليست يؤمئذ بعجوز».
( فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً ) عذارى( عُرُباً ) متحبّبات إلى أزواجهنّ. جمع عروب. وقيل: العروب اللعوب مع زوجها. وسكّن راءه حمزة وأبو بكر.( أَتْراباً ) مستويات في السنّ، فإنّ كلّهنّ بنات ثلاث وثلاثين. وكذا أزواجهنّ. وعن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «يدخل أهل الجنّة جردا، مردا، بيضا، جعادا، مكحّلين، أبناء ثلاث وثلاثين».
( لِأَصْحابِ الْيَمِينِ ) متعلّق بـ «أنشأنا» أو «جعلنا». أو صفة لـ «أبكارا». أو خبر لمحذوف، مثل: هنّ، أو لقوله:( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) . وهي على الوجوه الأول خبر محذوف. وإنّما نكّر سبحانه الثلّة ليدلّ على أنّه ليس لجميع الأوّلين والآخرين، وإنّما هو لجماعة منهم، كما يقال: رجل من جملة الرجال.
__________________
(١) الشمط جمع الشمطاء، وهي: الّتي خالط بياض رأسها سواد. والرمص جمع الرمصاء، وهي: الّتي سال منها الرمص. والرمص: وسخ أبيض في مجرى الدمع من العينين.
(٢) لعلّ المراد: أنّهنّ في استواء الخلقة كأنّهنّ ولدن على ميلاد واحد.
روى نقلة الأخبار بالإسناد عن ابن مسعود قال: كنّا نتحدّث عند رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى أكثرنا الحديث، ثمّ رجعنا إلى أهلنا، فلمّا أصبحنا غدونا إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال: «عرضت عليّ الأنبياء الليلة بأتباعها من أممها، فكان النبيّ تجيء معه الثلّة من أمّته، والنبيّ معه العصابة من أمّته، والنبيّ معه النفر من أمّته، والنبيّ معه الرجل من أمّته، والنبيّ ما معه من أمّته أحد. حتّى إذا أتى أخي موسى في كبكبة من بني إسرائيل، فلمّا رأيتهم أعجبوني، فقلت: أي ربّ من هؤلاء؟
قال: هذا أخوك موسى بن عمران، ومن معه من بني إسرائيل.
فقلت: ربّ فأين أمّتي؟
قال: انظر عن يمينك. فإذا ظراب(١) مكّة قد سدّت بوجوه الرجال.
فقلت: من هؤلاء؟
فقيل: هؤلاء أمّتك، أرضيت؟
قلت: ربّ رضيت.
قيل: انظر عن يسارك. فإذا الأفق قد انسدّ بوجوه الرجال.
فقلت: ربّ من هؤلاء؟
قيل: هؤلاء أمّتك، أرضيت؟
قلت: ربّ رضيت.
فقيل: إنّ مع هؤلاء سبعين ألفا من أمّتك يدخلون الجنّة لا حساب عليهم.
قال: فأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد من خزيمة، فقال: يا نبيّ الله ادع ربّك أن يجعلني منهم.
فقال: أللّهمّ اجعله منهم.
ثمّ أنشأ رجل آخر فقال: يا نبيّ الله ادع ربّك أن يجعلني منهم.
__________________
(١) الظراب: الروابي الصغار، أي: ما ارتفع من الأرض، وهي التلّة. وواحدها: الظرب.
فقال: سبقك بها عكاشة.
فقال نبيّ الله: فداكم أبي وأمّي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا.
وإن عجزتم وقصّرتم فكونوا من أهل الظراب. فإن عجزتم وقصّرتم فكونوا من أهل الأفق. وإنّي قد رأيت ثمّ ناسا كثيرا يتهاوشون(١) كثيرا. فقلت: هؤلاء السبعون ألفا.
فاتّفق رأينا على أنّهم ناس ولدوا في الإسلام، فلم يزالوا يعملون به حتّى ماتوا عليه.
فانتهى حديثهم إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فقال: ليس كذلك، ولكنّهم الّذين لا يسرفون، ولا يتكبّرون، ولا يتطيّرون، وعلى ربّهم يتوكّلون.
ثمّ قال النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّي لأرجو أن يكون من تبعني ربع أهل الجنّة.
قال: فكبّرنا.
ثمّ قال: إنّي لأرجو أن يكونوا ثلث أهل الجنّة. فكبّرنا.
ثمّ قال: إنّي لأرجو أن يكونوا شطر أهل الجنّة. ثمّ تلا رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم :( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) ».
( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ
__________________
(١) تهاوش القوم: اختلطوا واضطربوا، ووقعت بينهم الفتنة.
(٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) )
( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ ) في حرّ نار ينفذ في المسامع( وَحَمِيمٍ ) وماء حارّ متناه في الحرارة( وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) من دخان أسود. يفعول من الحممة.( لا بارِدٍ ) كسائر الظلّ( وَلا كَرِيمٍ ) ولا نافع. نفى بذلك ما أوهم الظلّ من الاسترواح.
( إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ) منهمكين في الشهوات، مشتغلين بها عن الاعتبار، تاركين الواجبات، طلبا لراحة أبدانهم.
( وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ) الذنب العظيم. يعني: الشرك. ومنه: بلغ الغلام الحنث، أي: الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب. ومنه: حنث في يمينه، خلاف: برّ فيها. ويقال: تحنّث إذا تأثّم.
( وَكانُوا يَقُولُونَ ) إنكارا للبعث( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) كرّرت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقا، وخصوصا في هذا الوقت. كما دخلت العاطف في قوله:( أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ) للدلالة على أنّ ذلك أشدّ إنكارا في حقّهم، لتقادم زمانهم، أي: أو يبعث آباؤنا الّذين ماتوا قبلنا، إنّ هذا لبعيد جدّا. وللفصل بالهمزة حسن العطف على المستكن في «لمبعوثون» من غير
تأكيد بـ: نحن، كما حسن في قوله:( ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا ) (١) للفصل بـ «لا» المؤكّدة للنفي. وقرأ نافع وابن عامر: «أو» بالسكون. وقد سبق مثله(٢) . والعامل في الظرف ما دلّ عليه «مبعوثون»، لا هو، للفصل بـ «إنّ» والهمزة.
( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) إلى ما وقّتت به الدنيا ـ أي: حدّت ـ من يوم معيّن عند الله معلوم له. وهو يوم القيامة. ومنه: مواقيت الإحرام. وهي الحدود الّتي لا يتجاوزها من يريد دخول مكّة إلّا محرما. والإضافة بمعنى «من» كخاتم فضّة.
( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ ) عن طريق الحقّ( الْمُكَذِّبُونَ ) بتوحيد الله ونبوّة نبيّه وبالبعث. والخطاب لأهل مكّة وأضرابهم.( لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ) «من» الأولى للابتداء، والثانية للبيان( فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) من شدّة الجوع.
( فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ) لغاية العطش. وتأنيث الضمير في «منها» وتذكيره في «عليه» على معنى الشجر ولفظه.( فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ) الإبل الّتي بها الهيام. وهو داء يشبه الاستسقاء، فلا تزال تشرب الماء حتّى تموت. والمعنى: كشرب الإبل الّتي لا تروى بالماء. جمع أهيم وهيماء.
وقيل: الرمال، على أنّه جمع هيام بالفتح. وهو الرمل الّذي لا يتماسك. جمع على هيم، كسحاب وسحب، ثمّ خفّف وفعل به ما فعل بجمع أبيض. والمعنى: أنّه يسلّط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقّوم الّذي هو كالمهل، فإذا ملئوا منهم البطون يسلّط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الّذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم.
والمعطوف أخصّ من الآخر، من حيث إنّ كونهم شاربين للحميم على ما هو
__________________
(١) الأنعام: ١٤٨.
(٢) راجع ج ٥ ص ٥٤٥، ذيل الآية ١٧ من سورة الصافّات.
عليه من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضا، فكانتا صفتين مختلفتين، فلا اتّحاد بين المعطوف والمعطوف عليه ليلزم عطف الشيء على نفسه.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة: شرب، بضمّ الشين.
( هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) يوم الجزاء، فما ظنّك بما يكون لهم بعد ما استقرّوا في الجحيم؟ وفيه تهكّم، كما في قوله:( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) (١) ، لأنّ النزل ما يعدّ للنازل تكرمة له.
( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) )
ثمّ احتجّ سبحانه عليهم في البعث، فقال:( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ ) ولم تكونوا شيئا( فَلَوْ لا ) فهلّا( تُصَدِّقُونَ ) تحضيض على التصديق. إمّا بالخلق، لأنّهم وإن كانوا مصدّقين به، إلّا أنّهم لـمّا كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق، فكأنّهم مكذّبون
__________________
(١) التوبة: ٣٤.
به. وإمّا بالبعث، لأنّ من خلق أوّلا لم يمتنع عليه أن يخلق ثانيا.
ثمّ نبّههم سبحانه على وجه الاستدلال على صحّة ما ذكره، فقال:( أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ) أي: ما تقذفونه وتصبّونه في الأرحام من النطف.
( أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ ) تقدّرونه وتصوّرونه بشرا سويّا( أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) فإذا لم تقدروا أنتم وأمثالكم على ذلك فاعلموا أنّ الله سبحانه هو الخالق لذلك، وإذا ثبت أنّه قادر على خلق الولد من النطفة، وجب أن يكون قادرا على إعادته بعد موته، لأنّه ليس بأبعد منه.
ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما هو قادر على إبداء الخلق قادر على إماتتهم، فقال:( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ) قسّمناه عليكم، وأقّتنا موت كلّ بوقت معيّن كما تقتضيه مشيئتنا. وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال.( وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) لا يسبقنا أحد، فيهرب من الموت أو يغيّر وقته. أو لا يغلبنا أحد، من: سبقته على كذا إذا غلبته عليه ولم تمكّنه منه.
وقوله:( عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ) على الأوّل حال، أو علّة لـ «قدّرنا»، و «على» بمعنى اللام، و( ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) اعتراض. وعلى الثاني صلة. والمعنى: لا يغلبني أحد على أن يخلق بدلكم أشباهكم. ويجوز أن يكون الأمثال جمع مثل.
والمعنى: على أن نغيّر صفاتكم الّتي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم.
( وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ ) في خلق أو صفات لا تعلمونها. يعني: أنّا نقدر على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟!( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ) حين خلقتم من نطفة وعلقة ومضغة( فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) فهلّا تعتبرون وتستدلّون بأنّ من قدر عليها قدر على النشأة الاخرى، فإنّها أقلّ صنعا، لحصول الموادّ، وتخصيص الأجزاء، وسبق المثال. وهذا قياس منصوص العلّة لا مطلقا.
( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ) تبذرون حبّه، وتعملون في أرضه( أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ ) تنبتونه، بأن تردّوه نباتا ينمى إلى أن يبلغ الغاية( أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) المنبتون، وقد اعترفتم بأنّا نحن الزارعون. فمن قدر على إنبات الزرع من الحبّة الصغيرة ويجعلها حبوبا كثيرة، قدر على إعادة الخلق إلى ما كانوا عليه. وعن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يقولنّ أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت».
( لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ ) جعلنا ذلك الزرع( حُطاماً ) هشيما لا ينتفع به. من: حطم إذا تفتّت، كالفتات والجذاذ من: فتّ وجذّ.( فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) تعجبون. وعن الحسن: تندمون على تعبكم واجتهادكم فيه، وإنفاقكم عليه. أو على ما اقترفتم من المعاصي الّتي أصبتم بذلك من أجلها، فتتحدّثون فيه. والتفكّه: التنقّل بصنوف الفاكهة. وقد استعير للتنقّل بالحديث.
( إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ) أي: يقولون: إنّا لملزمون غرامة ما أنفقنا. أو مهلكون، لهلاك رزقنا. من الغرام، وهو الهلاك. وقرأ أبو بكر: أَإنّا على الاستفهام. ثمّ يستدركون فيقولون:( بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) حرمنا رزقنا. أو محدودون لا حظّ لنا ولا بخت، لا مجدودون، ولو كنّا مجدودين لـما جرى علينا هذا.
( أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) )
ثمّ نبّه سبحانه على دلالة اخرى على إمكان البعث ووقوعه، فقال:( أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ) أي: العذب الصالح للشرب.
( أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ) من السحاب. واحده مزنة. وقيل: المزن السحاب الأبيض خاصّة، وهو أعذب ماء.( أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) بقدرتنا، نعمة منّا عليكم. والرؤية إن كانت بمعنى العلم فمتعلّقة بالاستفهام.
( لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ) ملحا شديد الملوحة لا يقدر أحد على شربه. من الأجيج، فإنّه يحرق الفم. أو مرّا شديد المرارة. وحذفت اللام في جواب «لو» لعلم السامع بمكانها.
وتحقيقه: أنّ «لو» لـمّا كانت داخلة على جملتين، معلّقة ثانيتهما بالأولى تعلّق الجزاء بالشرط، ولم تكن مخلصة للشرط كـ: إن، ولا عاملة مثلها، وإنّما سرى في «لو» معنى الشرط اتّفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأوّل، افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلّق، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه، فلأنّ الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به، لم يبال بإسقاطه عن الألفاظ استغناء بمعرفة السامع. ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنّه كان يقول: خير، لمن قال له: كيف أصبحت؟ فيحذف الجارّ لعلم كلّ أحد بمكانه.
ويجوز أن يقال: إنّ هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب، للدلالة على أنّ أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب، وأنّ الوعيد بفقده أشدّ وأصعب، من قبل أنّ المشروب إنّما يحتاج إليه تبعا للمطعوم. ألا ترى أنّك إنّما تسقي ضيفك بعد أن تطعمه. ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب.
( فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ ) أمثال هذه النعم الضروريّة الّتي لا يقدر عليها غير الله.
( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) )