زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير9%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23793 / تحميل: 4614
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٨-٦
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

_ ٨ _

ترك التكبير المسنون فى الصلوات

أخرج الطبراني ( وفي نيل الأوطار: الطبري ) عن أبي هريرة: إنَّ أوَّل من ترك التكبير معاوية، وروى أبو عبيد: انَّ أوَّل من تركه زياد.

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن المسيب انّه قال: أوَّل من نقّص التكبير معاوية.(١)

قال ابن حجر في فتح الباري ٢: ٢١٥: هذا لا ينافي الذي قبله، لانّ زياداً تركه بترك معاوية. وكان معاوية تركه بترك عثمان(٢) ، وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء.

وفي الوسائل الى مسامرة الأوائل ص ١٥: أوَّل من نقّص التكبير معاوية كان إذا قال: سمع الله لمن حمده. انحطّ إلى السجود فلم يكبّر، وأسنده العسكري عن الشعبي، وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم قال: اوّل من نقّص التكبير زياد.

وفي نيل الأوطار للشوكاني ٢: ٢٦٦: هذه الروايات غير متنافية، لانَّ زياداً تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان وقد حمل ذلك جماعة من اهل العلم على الإخفاء، وحكى الطحاوي: انَّ بني اميّة كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع، وما هذه بأوّل سنّة تركوها.

وأخرج الشافعي في كتابه « الامّ » ١: ٩٣ من طريق أنس بن مالك قال: صلّى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقرائة فقرأ بسم الله الرَّحمن الرَّحيم لامّ القرآن ولم يقراً بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القرائة، ولم يكبّر حين يهوي حتى قضى تلك - الصَّلاة، فلمّا سلّم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كلّ مكان: يا معاوية؟ أسرقت الصَّلاة أم نسيت؟ فلمّا صلّى بعد ذلك قرأ بسم الله الرَّحمن الرَّحيم للسورة التي بعد امّ القرآن وكبّر حين يهوي ساجداً.

وأخرج في كتاب « الامّ » ١: ٩٤. من طريق عبيد بن رفاعة: أنَّ معاوية قدم المدينة

____________________

١ - فتح البارى ٢: ٢١٥، تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ١٣٤، نيل الاوطار ٢: ٢٦٦، شرح الموطأ للزرقانى ١: ١٤٥.

٢ - أخرج حديثه أحمد فى مسنده من طريق عمران كما يأتي في المتن بعيد هذا.

٢٠١

فصلّى بهم فلم يقرأ ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم ولم يكبّر إذا خفض وإذا رفع، فناداه المهاجرون حين سلّم والأنصار: أن يا معاوية! سرقت صلاتك؟ أين بسم الله الرَّحمن الرَّحيم؟ وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟ فصلّى بهم صلاة اُخرى، فقال: ذلك فيما الذي عابوا عليه.

وأخرجه من طريق انس صاحب « الانتصار » كما في البحر الزخّار ١: ٢٤٩.

قال الأميني: تنمّ هذه الأحاديث عن أنّ البسملة لم تزل جزئاً من السورة منذ نزول القرآن الكريم، وعلى ذلك تمرّنت الاُمّة، وانطوت الضمائر، وتطامنت العقائد، و لذلك قال المهاجرون والأنصار لمـّا تركها معاوية: انَّه سرق ولم يتسنّ لمعاوية أن يعتذر لهم بعدم الجزئيَّة حتى إلتجأ إلى إعادة الصَّلاة مكلّلة سورتها بالبسملة، أوانَّه إلتزم بها في بقيَّة صلواته، ولو كان هناك يومئذ قولٌ بتجرّد السورة عنها لاحتجَّ به معاوية لكنّه قول حادث ابتدعوه لتبرير عمل معاوية ونظرائه من الأمويّين الذين اتّبعوه بعد تبيّن الرشد من الغيّ.

وأمّا التكبير عند كلِّ هويّ وانتصاب فهي سنَّة ثابتة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفها الصحابة كافَّة فانكروا على معاوية تركها، وعليها كان عمل الخلفاء الأربعة، واستقرَّ عليها إجماع العلماء وهي مندوبةٌ عندهم عدا ما يؤثر عن أحمد في إحدى الروايتين عنه من وجوبها وكذلك عن بعض أهل الظاهر، واليك جملة ممّا ورد في المسئلة:

١ - عن مطرف بن عبد الله قال: صلّيت خلف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنا وعمران بن حصين فكان إذا سجد كبّر، وإذا رفع رأسه كبّر، وإذا نهض من الركعتين كبّر، فلمّا قضى الصَّلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: قد ذكّرني هذا صلاة محمّد، أو قال: لقد صلّى بنا صلاة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي لفظ لأحمد: قال عمران: ما صلّيت منذ حين. أو قال: منذ كذا كذا أشبه بصلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الصَّلاة. صلاة عليّ.

وفي لفظ آخر له: عن مطرف عن عمران قال: صلّيت خلف عليّ صلاةً ذكّرني صلاةً صلّيتها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخليفتين قال: فانطلقت فصلّيت معه فإذا هو يكبّر كلّما سجد وكلّما رفع رأسه من الركوع فقلت: يا أبا نجيد مَن أوّل من تركه؟ قال عثمان بن عفّان رضي الله عنه حين كبر وضعف صوته تركه.

٢٠٢

صحيح البخاري ٢: ٥٧، ٧٠، صحيح مسلم ٢: ٨، سنن أبي داود ١: ١٣٣، سنن النسائي ٢: ٢٠٤، مسند أحمد ٤: ٤٢٨، ٤٢٩، ٤٣٢، ٤٤٠، ٤٤٤، البحر الزخّار ١: ٢٥٤.

٢ - عن أبي هريرة انّه كان يصلّي بهم فيكبّر كلّما خفض ورفع فإذا انصرف قال: إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله. وفي لفظ للبخاري: فلم تزل تلك صلاته حتّى لقي الله.

راجع صحيح البخاري ٢: ٥٧، ٥٨، صحيح مسلم ٢: ٧ بعدّة طرق وألفاظ، سنن النسائي ٢: ١٨١، ٢٣٥، سنن أبي داود ١: ١٣٣، سنن الدارمي ١: ٢٨٥، المدوّنة الكبرى ١: ٧٣، نصب الراية ١: ٣٧٢، البحر الزخّار ١: ٢٥٥.

٣ - عن عكرمة قال: رأيت رجلاً عند المقام يكبّر في كلّ خفض ورفع وإذا قام وإذا وضع فأخبرت ابن عبّاس رضي الله عنه قال: أوَ ليس تلك صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا اُمَّ لك.

وفي لفظ: عن عكرمة صلّيت خلف شيخ بمكّة فكبّر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لإبن عبّاس: إنّه أحمق فقال: ثكلتك اُمّك سنّة أبي القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

صحيح البخاري ٢: ٥٧، ٥٨، مسند أحمد ١: ٢١٨، البحر الزخّار ١: ٢٥٥.

قال الأميني: يظهر من هذه الرواية انّ تغيير الأمويّين هذه السنّة الشّريفة وفي مقدّمهم معاوية كان مطّرداً بين الناس حتى كادوا أن ينسوا السنّة فحسبوا مَن ناء بها أحمقاً، أو تعجّبوا منه كأنّه أدخل في الشريعة ما ليس منها، كلّ ذلكِ من جرّاء ما اقترفته يدا معاوية وحزبه الأثيمتان، وجنحت إليه ميولهم وشهواتهم، فبُعداً لأولئك القصيِّين عمّا جاء به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤ - عن عليّ وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وغيرهم: انّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكبّر عند كلِّ خفض ورفع.

صحيح البخاري ٢: ٧٠، سنن الدارمي ١: ٢٨٥، سنن النسائي ٢: ٢٠٥، ٢٣٠، ٢٣٣، المدوَّنة الكبرى ١: ٧٣، نصب الراية ١: ٣٧٢، بدايع الصنايع ١: ٢٠٧، منتقى الأخبار لابن تيميَّة، البحر الزخّار ١: ٢٥٤.

٥ - أخرج أحمد وعبد الرزّاق والعقيلي من طريق عبد الرحمن بن غنم قال: إنّ أبا

٢٠٣

مالك الأشعري [الصحابيّ الشهير بكنيته] قال لقومه: قوموا حتى اصلّي بكم صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصففنا خلفه وكبّر. إلى آخر الحديث المذكور بطوله في ج ٨: ١٨١ وفيه انّه كبّر في كلّ خفض ورفع.

٦ - عن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكبّر كلّما خفض ورفع، فلم تزل تلك صلاته حتى قبضه الله.

المدوّنة الكبرى ١: ٧٣، نصب الراية ١: ٣٧٢.

٧ - في المدوّنة الكبرى ١: ٧٢: انَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عمّاله يأمرهم أن يكبّروا كلّما خفضوا ورفعوا في الركوع والسجود إلّا في القيام من التَشهّد بَعد الركعتين لا يكبّر حتى يستوي قائماً مثل قول مالك.

هذه سنّة الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تكبير الصَّلوات عند كلِّ هويّ وانتصاب، وبها أخذ الخلفاء، وإليها ذهبت أئمّة المذاهب، وعليها استقرَّ الإجماع، غير أنّ معاوية يقابلها بخلافها ويغيرها برأيه ويتّخذ الأمويّون اُحدوثته سنّة متَّبعة تجاه ما جاء به نبيُّ الإسلام.

قال ابن حجر في فتح الباري ٢: ٢١٥ استقرَّ الأمر على مشروعيّة التكبير في الخفض والرفع لكلّ مصلٍّ، فالجمهور على ندبيّة ما عدا تكبيرة الإحرام، وعن أحمد وبعض اهل العلم بالظاهر يجب كلّه.

وقال في ص ٢١٦: أشار الطحاوي إلى أنّ الاجماع استقرّ على أنَّ مَن تركه فصلاته تامّة، وفيه نظر لما تقدّم عن أحمد، والخلاف في بطلان الصَّلاة بتركه ثابتٌ في مذهب مالك إلّا أن يريد إجماعاً سابقاً.

وقال النووي في شرح مسلم: اعلم أنّ تكبيرة الإحرام واجبةٌ وما عداها سنّة لو تركه صحّت صلاته لكن فاتته الفضيلة وموافقة السنّة، هذا مذهب العلماء كافّة إلّا أحمد بن حنبل رضي الله عنهم في إحدى الروايتين عنه انّ جميع التكبيرات واجبة.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار ٢: ٢٦٥: حكى مشروعيَّة التكبير في كلّ خفض ورفع عن الخلفاء الأربعة وغيرهم ومن بعدهم من التّابعين قال: وعليه عامّة الفقهاء والعلماء، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصدِّيق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود،

٢٠٤

وابن عمر، وجابر، وقيس بن عباد، والشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وسعيد بن عبد العزيز، وعامّة أهل العلم، وقال البغوي في شرح السنّة: اتَّفقت الاُمّة على هذه التكبيرات.

وعن ابن عبد البرّ في شرح الموطأ للزرقاني ١: ١٤٥: وقد اختلف في تاركه فقال ابن القاسم: إن أسقط ثلاث تكبيرات سجد لسهوه وإلّا بطلت، وواحدة أو اثنتين سجد أيضاً، فإن لم يسجد فلا شيىء عَليه، وقال عبد الله بن عبد الحكم وأصبغ: إن سها سجد فإن لم يَسجد فلا شيىء عَليه، وعَمداً أساء وصلاته صحيحة، وعلى هذا فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين واهل الحديث والمالكيّين إلّا مَن ذهب منهم مذهب ابن القاسم.

_ ٩ _

ترك التلبية خلافاً لعلىعليه‌السلام

أخرج النسائي في سننه ٥: ٢٥٣، والبيهقي في السنن الكبرى ٥: ١١٣ من طريق سعيد بن جبير قال: كان ابن عبّاس بعرفة فقال: يا سعيد! مالي لا أسمع الناس يلبّون؟ فقلت: يخافون معاوية. فخرج ابن عبّاس من فسطاطه فقال: لبِّيك أللهمّ لبيك، وإن رغم ألف معاوية، اللّهمّ العنهم فقد تركوا السنّة من بغض عليّ.

وقال السندي في تعليق سنن النسائي: ( من بغض عليّ ) أي لأجل بغضه، أي وهو كان يتقيَّد بالسنن فهؤلاء تركوها بغضاً له.

وفي كنز العمّال: عن ابن عبّاس قال: لعن الله فلاناً انّه كان ينهى عن التلبية في هذا اليوم يعني يوم عرفة، لأنَّ عليّاً كان يلبّي فيه. ابن جرير.

وفي لفظ أحمد في المسند ١: ٢١٧ عن سعيد بن جبير قال: أتيت ابن عبّاس بعرفة وهو يأكل رمّاناً فقال: أفطر رسول الله بعرفة وبعثت إليه امّ الفضل بلبن فشربه. وقال: لعن الله فلاناً عمدوا إلى أعظم أيّام الحجّ فمحوا زينته، وإنّما زينة الحجِّ التلبية. وحكاه في كنز العمّال عن ابن جرير الطبري.

وفي تاريخ ابن كثير ٨: ١٣٠ من طريق صحيح عن سفيان عن حبيب عن سعيد عن ابن عبّاس انّه ذكر معاوية وانّه لبّى عشيّة عرفة فقال فيه قولاً شديداً، ثمّ بلغه انّ

٢٠٥

عليّاً لبّى عشيَّة عرفة فتركه.

وقال ابن حزم في المحلّى ٧: ١٣٦: كان معاوية ينهى عن ذلك.

قال الأميني: إنّ السنَّة المسلّمة عند القوم استمرار التلبية إلى رمي جمرة العقبة أوّ لها أو آخرها على خلاف فيه. وإليك ما يؤثر منها عندهم:

١ - عن الفضل: أفضت مع النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عرفات فلم يزل يلبّي حتّى رمى جمرة العقبة، ويكبّر مع كلّ حصاة، ثمَّ قطع التلبية مع آخر حصاة. وفي لفظ: لم يزل يلبّي حتّى بلغ الجمرة.

صحيح البخاري ٣: ١٠٩، صحيح مسلم ٤: ٧١، صحيح الترمذي ٤: ١٥٠، قال: وفي الباب عن عليّ، وابن مسعود، وابن عبّاس، سنن النسائي ٥: ٢٦٨، ٢٧٥، ٢٧٦، سنن ابن ماجة ٢: ٢٤٤، سنن ابي داود ١: ٢٨٧، سنن الدارمي ٢: ٦٢، سنن البيهقي ٥: ١١٢، ١١٩، كتاب الامّ ٢: ١٧٤ وقال: وروى ابن مسعود عن النبيِّ مثله. ه. مسند أحمد ١: ٢٢٦، وأخرجه ابن خزيمة وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ مفسِّراً لما أبهم في الروايات الاُخرى(١) وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم.

٢ - عن جابر بن عبد الله واسامة وابن عبّاس: إنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزم التلبية و لم يقطعها حتّى رمى جمرة العقبة.

راجع صحيح البخاري ٣: ١١٤، سنن ابن ماجة ٢: ٢٤٤، المحلّى ٧: ١٣٦، بدايع الصنايع ٢: ١٥٦.

٣ - عن عبد الرَّحمن بن يزيد: انَّ عبد الله بن مسعود لبّى حين أفاض من جمع فقيل له: عن أيّ هذا؟ « وفي لفظ مسلم: فقيل: أعرابيّ هذا » فقال: أنسي الناس أم ضلّوا؟ سمعت الذي اُنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان: لبّيك أللهمّ لبّيك.

راجع صحيح مسلم ١: ٣٦٣ وفي ط ٤: ٧١، ٧٢، سنن البيهقي ٥: ١٢٢، المحلّى ٧: ١٣٥ وصحّحه، ورواه الطحاوي باسناد صحيح كما في فتح الباري ٣: ٤٢٠، بدايع الصنايع ٢: ١٥٤.

____________________

١ - نيل الاوطار ٥: ٥٥.

٢٠٦

٤ - عن كُريب مولى ابن عبّاس: إنَّ ميمونة امّ المؤمنين لبّتْ حين رَمَت الجمرة.

كتاب الاُمّ ٢: ١٧٤، سنن البيهقي ٥: ١١٣، المحلّى ٧: ١٣٦

٥ - عن ابن عبّاس: تلبِّي حتى تأتي حرمك إذا رميت الجمرة.

سنن البيهقي ٥: ١١٣.

٦ - عن ابن عبّاس أيضاً: سمعت عمر يلبِّي غداة المزدلفة.

المحلّى لابن حزم ٧: ١٣٦.

٧ - عن ابن عبّاس أيضاً: سمعت عمر بن الخطاب يهلّ وهو يرمي جمرة العقبة فقلت له: فيما الاهلال يا أمير المؤمنين؟ فقال: وهل قضينا نسكنا بعدُ؟

كتاب الاُمّ مختصراً ٢: ١٧٤، سنن البيهقي ٥: ١١٣، المحلّى، ٧: ١٣٦.

٨ - عن ابن عبّاس أيضاً: حججت مع عمر إحدى عشرة حجّة وكان يلبّي حتى يرمي الجمرة.

أخرجه سعيد بن منصور كما في فتح الباري ٣: ٤١٩.

٩ - عن ابن عبّاس أيضاً: التلبية شعار الحجِّ فإن كنت حاجّاً فلبِّ حتى بدء حلّك، وبدء حلّك أن ترمي جمرة العقبة.

أخرجه ابن المنذر باسناد صحيح كما في فتح الباري ٣: ٤١٩.

١٠ - عن ابن مسعود: لا يمسك الحاجّ عن التلبية حتّى يرمي جمرة العقبة.

المحلّى لابن حزم ٧: ١٣٦.

١١ - عن الأسود بن يزيد: انّه سمع عمر بن الخطاب يلبّي بعرفة.

سنن البيهقي ٥: ١١٣، المحلّى ٧: ١٣٦.

١٢ - أخرج ابن أبي شيبة من طريق عكرمة يقول: أهلّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى رمى الجمرة، وأبو بكر وعمر. المحلّى ٧: ١٣٦.

١٣ - عن أنس بن مالك في الجواب عن التلبية يوم عرفة: سرت هذا المسير مع النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه فمنّا المكبّر، ومنا المهلّ، ولا يعيب أحدنا على صاحبه. صحيح مسلم ٤: ٧٣.

٢٠٧

١٤ - عن عائشة، كانت تلبّي بعد عرفة. المحلّي ٧: ٣٦.

١٥ - عن عبد الرَّحمن الأسود: ان أباه صعد إلى ابن الزبير المنبر يوم عرفة فقال له: ما يمنعك أن تهلّ؟ فقد رأيت عمر في مكانك هذا يهلّ فأهلّ ابن الزبير.

المحلّى لابن حزم ٧: ١٣٦.

١٦ - عن مولانا أمير المؤمنين انّه لبّى حتى رمى جمرة العقبة. المحلّى ٧: ١٣٦.

١٧ - عن مولانا عليّ أيضاً انّه لبّى في الحجّ حتّى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية.

أخرجه مالك في الموطأ ١: ٢٤٧ وقال: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وذكره صاحب البحر الزخّار ٢: ٣٤٢.

١٨ - عن عكرمة: كنت مع الحسين بن علي « عليهما السّلام » فلبّى حتّى رمى جمرة العقبة.

هذه هي السنّة المتسالم عليها عند القوم، وبها أخذت أئمّة الفقه والفتوى قال ابن حزم في المحلّى ٧: ١٣٥: لا يقطع التلبية إلّا مع آخر حصاة من جمرة العقبة، فإنَّ مالكا قال: يقطع التلبية إذا نهض إلى عرفة، ثمَّ زيَّف أدلّة مالك، وأنت سمعت قول مالك قُبيل هذا وانّه يخالف ما عزاه إليه ابن حزم.

وقال في ص ١٣٦: لا يقطعها حتى يرمي الجمرة وهو قول أبي حنيفة والشافعي و أحمد وإسحاق وأبي سليمان.

وقال ملك العلماء في البدايع ٢: ١٥٤: لا يقطع التلبية وهذا قول عامَّة العلماء، وقال مالك: إذا وقف بعرفة يقطع التلبية والصحيح قول العامّة.

وقال ابن حجر في فتح الباري ٣: ٤١٩: وباستمرارها قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم.

وفي نيل الأوطار ٥: ٥٥: انَّ التلبية تستمرّ إلى رمي جمرة العقبة، وإليه ذهب الجمهور.

هذا ما تسالمت عليه الاُمّة سلفاً وخلفاً، لكن معاوية جاء متهاوناً بالسنّة لمحض أن عليّاًعليه‌السلام كان ملتزماً بها، فحدته بغضاءه إلى مضادّته ولو لزمت مضادّة السنّة،

_١٣_

٢٠٨

ومحو زينة الحجّ، هذه نظريّة خليفة المسلمين فيما حسبوه، وهذا مبلغه من الدين ومبوّأه من الأخذ بسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلهفي على المسلمين من متغلّب عليهم بإسم الخلافة.

وإنّي لست أدري أكان من السائغ الجائز لعن ابن عبّاس وهو محرمٌ في ذلك الموقف العظيم، في مثل يوم عرفة اليوم المشهود معاوية باغض عليّ أمير المؤمنين ومناوئه تارك سنّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ هلّا كان حبر الاُمّة يعلم أنَّ الصحابة كلّهم عدول؟ أو انّ الصحابيّ كائناً من كان لا يجوز سبّه؟ أو انّ معاوية مجتهدٌ وللمخطأ من المجتهدين أجرٌ واحد؟ أنا لا أدري، غير أنَّ ابن عبّاس لا يقول بالتافه ولا يخبت إلى الخرافة.

وما أظلم معاوية الجاهل بأحكام الله؟ فانّه يخالف هاهنا عليّاًعليه‌السلام وهو بكلّه حاجة وافتقار إلى علم الإمام الناجع، قال سعيد بن المسيّب: إنَّ رجلاً من أهل الشام وجد رجلاً مع امرأته فقتله وقتلها فأشكل على معاوية الحكم فيه فكتب إلى أبي موسى ليسأل له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم فقال له عليٌّ رضي الله عنه: هذا شيىءُ ما وقع بأرضي عزمت عليك لتخبرنِّي.

فقال له أبو موسى: إنَّ معاوية كتب إليّ به أن أسألك فيه. فقال عليٌّ رضي الله عنه: أنا أبو الحسن إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمّته(١) .

أخرجه مالك في الموطأ ٢: ١١٧، سنن البيهقي ٨: ٢٣١، تيسير الوصول ٤: ٧٣

لفت نظر

هذه النزعة الأمويّة الممقوتة بقيت موروثة عند من تولّى معاوية جيلاً بعد جيل فترى القوم يرفعون اليد عن السنّة الثابتة خلافاً لشيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أو احياء لما سنّته يد الهوى تجاه الدين الحنيف. كما كان معاوية يفعل ذلك احياءً لما أحدثه خليفة بيته الساقط تارة، كما مرَّ في الإتمام في السَّفر ومواضع اُخرى، وخلافاً للامام آونةً كما في التلبية وغيرها.

قال الشيخ محمّد بن عبد الرّحمن الدمشقي في كتاب « رحمة الامَّة في اختلاف الأئمَّة » المطبوع بهامش الميزان للشعراني ١: ٨٨: السنّة في القبر التسطيح، وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: التسنيم أولى لأنَّ التسطيح

____________________

١ - الرمة: الحبل الذى يقاد به الجانى.

٢٠٩

صار شعاراً للشيعة.

وقال الغزالي والماوردي: إنَّ تسطيح القبور هو المشروع لكن لمـّا جعلته الرافضة شعاراً لهم عدلنا عنه إلى التسنيم.

وقال مصنِّف « الهداية » من الحنفيّة: إنَّ المشروع التختّم في اليمين ولكن لمـّا اتَّخذته الرافضة جعلناه في اليسار. ه.

وأوَّل من اتّخذ التختّم باليسار خلاف السنّة هو معاوية كما في ربيع الأبرار للزمخشري.

وقال الحافظ العراقي في بيان كيفيّة اسدال طرف العمامة: فهل المشروع إرخاؤه من الجانب الأيسر كما هو المعتاد أو الأيمن لشرفه؟ لم أر ما يدلّ على تعيين الأيمن إلّا في حديث ضعيف عند الطبراني، وبتقدير ثبوته فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن ثمّ يردُّها إلى الجانب الأيسر كما يفعله بعضهم، إلّا أنّه صار شعاراً للإمامية فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم. شرح المواهب للزرقاني ٥: ١٣.

وقال الزمخشري في تفسيره ٢: ٤٣٩: القياس جواز الصَّلاة على كلِّ مؤمن لقوله تعالى:( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ) . وقوله تعالى:( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) . وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى. ولكن للعلماء تفصيلاً في ذلك وهو: انّها إن كانت على سبيل التبع كقولك صلّى الله على النبيِّ وآله فلا كلام فيها، وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصَّلاة كما يفرد هو فمكروهٌ لأنَّ ذلك شعار لذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأنّه يؤدّي إلى الإتِّهام بالرفض، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يقفن مواقف التّهم.

وقال ابن تيميّة في منهاجه ٢: ١٤٣ عند بيان التشبّه بالروافض: ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات إذا صارت شعاراً لهم، فانّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم فلا يتميّز السنّي من الرافضي، و مصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحبّ.

ثمّ جعل هذا كالتشبّه بالكفّار في وجوب التجنّب عن شعارهم، وسيوافيك التفصيل في بيان هذه كلّها ونظراؤها عند الكلام عن الفتاوى الشاذَّة عن الكتاب والسنّة إن

٢١٠

شاء الله تعالى.

وقال الشيخ اسماعيل البروسوي في تفسيره [روح البيان] ٤: ١٤٢: قال في عقد الدرر واللئالي:(١) المستحبّ في ذلك اليوم - يعني يوم عاشوراء - فعل الخيرات من الصَّدقة والصوم والذكر وغيرهما، ولا ينبغي للمؤمن أن يتشبّه بيزيد الملعون في بعض الأفعال، وبالشيعة والروافض والخوارج أيضاً. يعني لا يجعل ذلك اليوم يوم عيد أو يوم مأتم، فمن اكتحل يوم عاشوراء فقد تشبّه بيزيد الملعون وقومه، وإن كان للاكتحال في ذلك اليوم أصلٌ صحيحٌ، فإنَّ ترك السنّة سنّةٌ إذا كان شعاراً لأهل البدعة كالتختّم باليمين فانّه في الأصل سنّة لكنّه لمـّا كان شعار أهل البدعة والظلمة صارت السنّة أن يجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى في زماننا كما في شرح القهستاني.

ومن قرأ يوم عاشوراء وأوائل المحرّم مقتل الحسين رضي الله عنه، فقد تشبّه بالروافض، خصوصاً إذا كان بألفاظ مخلّة بالتعظيم لأجل تحزين السامعين، وفي كراهية القهستاني: لو أراد ذكر مقتل الحسين ينبغي أن يذكر أوَّلاً مقتل سائر الصحابة لئلّا يشابه الروافض.

وقال حجّة الإسلام الغزالي: يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين و حكايته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم، فانّه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم وهم أعلام الدين، وما وقع بينهم من المنازعات فيحمل على محامل صحيحة، ولعلّ ذلك لخطأ في الإجتهاد لا لطلب الرياسة والدنيا كما لا يخفى.اهـ.

وقال ابن حجر في فتح الباري ١١: ١٤٢: تنبيهٌ: اختلف في السَّلام على غير الأنبياء بعد الإتفاق على مشروعيّته في تحيّة الحيّ، فقيل: يشرع مطلقاً. وقيل: بل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة. ونقله النووي عن الشيخ أبي محمّد الجويني.

_ ١٠ _

احدوثة تقديم الخطبة على الصلاة

قال الزرقاني في شرح الموطأ ١: ٣٢٤ في بيان كون الصَّلاة قبل الخطبة في العيدين:

____________________

١ - فى فضل الشهور والايام والليالى للشيخ شهاب الدين احمد بن ابى بكر الحموى الشهير بالرسّام.

٢١١

ففي الصحيحين عن ابن عبّاس شهدت العيد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر فكلّهم كانوا يصلّون قبل الخطبة، واختلف في أوَّل من غيَّر ذلك، ففي مسلم عن طارق بن شهاب: أوَّل مَن بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصَّلاة مروان، وفي رواية ابن المنذر بسند صحيح عن الحسن البصري: أوَّل من خطب قبل الصَّلاة عثمان صلّى بالناس ثمّ خطبهم أي على العادة فرأى ناساً لم يدركوا الصَّلاة ففعل ذلك أي صار يخطب قبل الصّلاة، وهذه العلة غير التي اعتلّ بها مروان لأنَّ عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصّلاة، وأمّا مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنّهم في زمنه كانوا يتعمّدون ترك سماعهم لما فيها مِن سبّ مَن لا يستحقّ السبّ والافراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنَّما راعى مصلحة نفسه، ويحتمل انّ عثمان، فعل ذلك أحياناً بخلاف مروان فواظب عليه فلذا نسب إليه، وعن عمر مثل فعل عثمان، قال عياض ومن تبعه: لا يصحّ عنه. وفيه نظر لأنّ عبد الرزّاق وابن أبي شيبة روياه جميعاً عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن يوسف بن عبد الله بن سلام، وهذا إسنادٌ صحيح، لكن يعارضه حديثا ابن عبّاس وابن عمر، فإن جمع بوقوع ذلك منه نادراً و إلّا فما في الصحيحين أصحّ.

وأخرج الشافعي عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عبّاس وزاد حتّى قدم معاوية فقدَّم الخطبة، وهذا يشير إلى أنَّ مروان إنَّما فعل ذلك تبعاً لمعاوية، لأنّه كان أمين المدينة من جهته، وروى عبد الرزّاق عن ابن جريج عن الزهري: أوَّل مَن أحدث الخطبة قبل الصَّلاة في العيد معاوية، وروى ابن المنذر عن ابن سيرين: أوَّل مَن فعل ذلك زياد بالبصرة. قال عياض: ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان لأنَّ كلًّا من مروان وزياد كان عاملاً لمعاوية فيحمل على أنّه إبتدأ ذلك وتبعه عمّاله.اهـ.

وقال السكتواري في محاضرة الأوائل ص ١٤٤: أوّل من بدأ بالخطبة قبل الصّلاة معاوية، وجرى ذلك في الاُمراء المروانيَّة كمروان وزياد وهو فعله بالعراق، و معاوية بالمدينة شرَّفها الله تعالى.

قال الأميني: مرَّ في الجزء الثامن ص ١٦٤ - ١٧١ بيان السنَّة الثابتة في خطبة العيدين، وانَّها بعد الصّلاة كما مضى عليه الرَّسول الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّبعه الشيخان و

٢١٢

عثمان ردحاً من أيّامه ثمّ حداه عيُّه عن تلفيق الخطبة بصورة مرضيّة، فكانت الناس تتفرّق عن استماعها، إلى تقديمها على الصّلاة ليمنعهم انتظارهم لها عن الانجفال، ثمّ اقتصَّ أثره عمّاله والمتغلّبون على الاُمّة من بعدُ من بني أبيه وإن افترقت العلّة فيهم عنها فيه، فإنَّهم لمـّا طغوا في البلاد طفقوا يسبّون أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام في خطبهم، فكان الحضور لا يستبيحون ذلك فيتفرَّقون، فبدا لهم تقديمها لإسماع الناس.

وأوَّل من أحدث اُحدوثة السبِّ هو معاوية، فالشنعة عليه في المقام أعظم ممّن بدَّل السنّة قبله، فانّه وإن تابع البادي على البدعة غير انّه قرنها باُخرى شوهاء شنعاء، فأمعن النظرة في تطبيق هذه البدعة بصورتها الأخيرة على ما صحَّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله: من سبَّ عليّاً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبَّ الله(١) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسبّوا عليّاً فإنّه ممسوسٌ بذات الله(٢) ثمَّ ارجع البصر كرّتين إلى أنّه هل يُباح لأيّ مسلم أن يجتهد بجواز سبّ مولانا أمير المؤمنين تجاه نصّ الكتاب العزيز في تطهيره وولايته ومودَّته وكونه نفس النبيِّ الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تجاه هذا النصِّ الجليِّ الخاص لهعليه‌السلام والنصوص العامّة الواردة في سباب المؤمن مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سباب المسلم فسوق؟!(٣) وهل يشكّ مسلمٌ انَّ أمير المؤمنين أوَّل المسلمين وأولاهم بهم من أنفسهم وهو أميرهم وسيّدهم؟!

_ ١١ _

حدّ من حدود الله متروك

ذكر الماوردي وآخرون: إنَّ معاوية أتى بلصوص فقطعهم حتى بقي واحدُ من بينهم فقال:

يميني أمير المؤمنين اُعيذها

بعفوك أن تلقى نكالاً يبينها

يدي كانت الحسناء لو تمَّ سترها

ولا تعدم الحسناء عيناً يشينها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة

إذا ما شمالي فارقتها يمينها

فقال معاوية: كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك. فقالت امّ السارق: يا أمير

____________________

١ - أخرجه الحفاظ باسناد رجاله كلهم ثقات صححه الحاكم والذهبى.

٢ - حلية الاولياء ١: ٦٨.

٣ - أخرجه البخارى ومسلم والترمذى وابن ماجة والنسائى والحاكم والدارقطنى وغيرهم فى الصحاح والمسانيد.

٢١٣

المؤمنين إجعلها في ذنوبك الّتي تتوب منها. فخلّى سبيلها، فكان أوّل حدّ ترك في الإسلام(١) .

قال الأميني: أفهل عرف معاوية من هذا اللّصّ خصوصيّة إستثنته من حكم الكتاب النهائيِّ العامّ « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » ؟! أم أنّ الرأفة بامّه تركت حدّاً من حدود الله لم يُقم؟! وفي الذكر الحكيم:( وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (٢) ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٣) ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا ) (٤) أم أنّه كان لمعاوية مؤمِّنٌ مِن العقاب غداً وإن تعمّد اليوم بإلغاء حدّ من حدود الله؟ وهل نيّة التوبة عن المعصية تبيح إجتراح تلك السيّئة؟ إنّ هذا لشيىءٌ عجابٌ، ومَن ذا الذي طمَّنه بأنّه سيوفّق للتوبة عنها ولا يحول بينه وبينها ذنوبٌ تسلبه التوفيق، أو عظائم تسلبه الإيمان، أو استخفافٌ بالشريعة ينتهي به إلى نار الخلود؟ ويظهر منه أنّ التعمّد باقتراف الذنوب بأمل التوبة كان مطرداً عند معاوية، وهذا ممّا يخلّ بأنظمة الشريعة، ونواميس الدين، وطقوس الإسلام، فانّ النفوس الشريرة إنمّا تترك أكثر المعاصي خوفاً مِن العقوبة الفعليّة، فإن زُحزحت عنها بأمثال هذه التافهات لم يبق محظورٌ - يُفسد النفوس، ويقلق السّلام، ويعكّر صفو الاسلام - إلّا وقد عمل به، و هذا نقصٌ لغاية التشريع، وإقامة الحدود الكابحة لجماح الجرأة على الله ورسوله.

وهب أنَّ التوبة مكفّرةٌ للعصيان في الجملة، ولكن مَن ذا الذي أنبأه إنّها من تلك التوبة المقبولة؟( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (٥) .

____________________

١ - الاحكام السلطانية ص ٢١٩، تاريخ ابن كثير ٨: ١٣٦، محاضرة السكتوارى ص ١٦٤

٢ - سورة الطلاق: ١.

٣ - سورة البقرة: ٢٢٩.

٤ - سورة النساء: ١٤.

٥ - سورة النساء: ١٧، ١٨.

٢١٤

_ ١٢ _

معاوية ولبسه ما لا يجوز

أخرج أبو داود من طريق خالد قال: وفد المقدام بن معدي كرب وعمرو بن الأسود ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان فقال معاوية للمقدام: أعلمت انّ الحسن بن علي توفّي؟ فرجع المقدام فقال له رجلٌ(١) أتراها مصيبة؟ فقال: ولِمَ لا أراها مصيبة؟ وقد وضعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجره فقال: هذا منّي وحسينٌ من علي.

فقال الأسدي: جمرةٌ اطفأها الله عزَّ وجلّ قال فقال المقدام: أمّا أنا فلا أبرح اليوم حتى اغيظك واسمعك ما تكره ثمّ قال: يا معاوية! إن أنا صدقت فصدّقني. وإن أنا كذبت فكذِّبني، قال: أفعل. قال فانشدك بالله هل تعلم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن لبس الحرير؟ قال: نعم. قال: فانشدك بالله هل سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن لبس الذَّهب؟ قال نعم. قال: فانشدك بالله هل تعلم انَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن لبس جلود السّباع والركوب عليها؟ قال: نعم. قال فوالله لقد رأيت هذا كلّه في بيتك يا معاوية! فقال معاوية: قد علمت أنّي لن أنجو منك يا مقدام!(٢)

قال الأميني: هل يُرجى خيرٌ ممّن اعترف بكلِّ ما قيل له من المحظورات المتسالم عليها التي ارتكبها؟ فهلّا اقلع عنها لمـّا ذكر بحكمها الذي نسيه أو لم يعبأ به؟ لكنَّ الرّجل طاغوتٌ يعمل عمل الفراعنة ولم يكترث لمغبّته، ولم يبالي بمخالفة السنّة الثابتة، فزَهٍ به من خَليفة تولّى أمر الاُمّة بغير مرضاتها، وتغلّب على إمرتها مِن دون أيّ حنكة.

قد جاء في كتاب لأمير المؤمنينعليه‌السلام إلى عمرو بن العاص قوله: فإنّك قد جعلت دينك تبعاً لدينا امرئ ظاهرٍ غيّه، مهتوك ستره. إلخ.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٤: ٦٠: فأمّا قولهعليه‌السلام في معاوية « ظاهر غيُّه » فلا ريب في ظهور ضلاله وبغيه وكلّ باغٍ غاوٍ. وأمّا « مهتوكٌ ستره » فانّه كان كثير الهزل والخلاعة صاحب جلساء وسمار، ومعاوية لم يتوقّر ولم يلزم قانون الرياسة

____________________

١ - فى مسند أحمد ٤ ص ١٣٠: فقال له معاوية: أتراها مصيبة. انظر الى امانة أبى داود.

٢ - سنن أبى داود ٢: ١٨٦.

٢١٥

إلّا منذ خرج على أمير المؤمنين، واحتاج إلى الناموس والسكينة وإلّا فقد كان في أيّام عثمان شديد الهتك موسوماً بكلِّ قبيح، وكان في أيّام عمر يستر نفسه قليلاً خوفاً منه إلّا انّه كان يلبس الحرير والديباج، ويشرب في آنية الذهب والفضة ويركب البغلات ذوات السروج المحلاّة بهما جلال الديباج والوشي، وكان حينئذ شابّاً، وعنده نزق الصبا، وأثر الشبيبة، وسكر السلطان والإمرة، ونقل الناس عنه في كتب السيرة انّه كان يشرب الخمر في أيّام عثمان في الشام، وأمّا بعد وفاة أمير المؤمنين واستقرار الأمر له فقد اختلف فيه، فقيل: انّه شرب الخمر في ستر. وقيل: انّه لم يشرب. ولا خلاف في أنّه سمع الغناء وطرب عليه وطرب عليه وأعطى ووصل إليه أيضاً. إقرأ وتبصّر.

_ ١٣ _

مأسأة الاستلحاق

سنة أربع وأربعين

كان من ضروريّات الاسلام إلى هذه السنة ٤٤، إلى هذا اليوم الأشنع الذي تقدّم فيه ابن آكلة الأكباد ببدعته الخرقاء على ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بملأ فمه المبارك، و اتَّخذته الاُمّة أصلاً مسلّماً في باب الأنساب: الولد للفراش وللعاهر الحجَر.

جاء هذا الحديث من طريق ابي هريرة في الصحاح الست: صحيح البخارى ٢: ١٩٩ في - الفرائض، صحيح مسلم ١: ٤٧١ في الرضاع، صحيح الترمذي ١: ١٥٠، و ج ٢: ٣٤، سنن النسائي ٢: ١١٠، سنن أبي داود ١: ٣١٠، سنن البيهقى ٧: ٤٠٢، ٤١٢.

ومن طريق عائشة أخرجه الحفاظ المذكورون إلا الترمذي كما في نصب الراية للزيلعي ٣: ٢٣٦. ومن طريق عمر وعثمان في سنن البيهقي ٧: ٤١٢، ومن طريق عبد الله بن عمرو، أخرجه أبو داود في اللعان ١: ٣١٠، وأخرجه أحمد في مسنده من غير طريق ج ١: ١٠٤، ج ٢: ٤٠٩، ج ٥: ٣٢٦ وغيرها.

وصحّ عند الاُمّة قول نبيّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ادّعى أباً في الإسلام غير أبيه فالجنّة عليه حرام(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبة له بمنى: لعن الله من ادّعى إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه،

____________________

١ - مسند احمد ٥: ٣٨، ٤٦، سنن البيهقى ٧: ٤٠٣.

٢١٦

الولد للفراش وللعاهر الحجَر. وفي لفظ:

الولد للفراش وللعاهر الحجَر، ألا ومن ادّعى إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من رجل ادّعى بغير أبيه وهو يعلم إلّا كفر، ومن ادّعى ما ليس له فليس منّا(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ادَّعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنَّة وإنَّ ريحها ليوجد من قدر سبعين عاماً. أو: مسيرة سبعين عاماً(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلم انّه غير أبيه فالجنّة عليه حرام(٤) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ادّعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة(٥) .

لكن سياسة معاوية المتجهِّمة تجاه الهتافات النبويّة أصمته عن سماعها وجعلت للعاهر كلّ النصيب، فوهبت زياداً كلّه لأبي سفيان العاهر، بعد ما بلغ أشدّه لمـّا وجد فيه من اُهبة الوقيعة في أضداده وهم أولياء عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وُلد زياد على فراش عُبيد مولى ثقيف، وربّي في شرّ حجر، ونشأ في أخبث نشء، فكان يقال له قبل الاستلحاق: زياد بن عبيد الثقفي، وبعده زياد بن أبي سفيان، ومعاوية نفسه كتب إليه في أيّام الحسن السبط سلام الله عليه: من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عُبيد، أمّا بعد: فإنّك عبدٌ قد كفرت النعمة، واستدعيت النقمة، ولقد كان الشكر اُولى بك من الكفر، وإنَّ الشجرة لتضرب بعرقها، وتتفرّع من أصلها، انّك لا اُمَّ لك، بل لا أب لك، يقول فيه: أمس عبدٌ واليوم أميرٌ، خطّةٌ

____________________

١ - رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى راجع مسند أحمد ٤: ١٨٦، ١٨٧، مسند ابى داود الطياسى ص ١٦٩، الترغيب والترهيب ٣: ٢١.

٢ - أخرجه البخارى ومسلم وعنهما البيهقى فى السنن ٧: ٤٠٣، وابن المنذر فى الترغيب والترهيب ٣: ٢١.

٣ - سنن ابن ماجة ٢: ١٣١، تاريخ بغداد ٢: ٣٤٧، الترغيب والترهيب ٣: ٢١.

٤ - رواه البخارى ومسلم وأبو داود وابن ماجة كما فى سنن البيهقى ٧: ٤٠٣، والترغيب والترهيب ٣: ٢١.

٥ - الترغيب والترهيب ٣: ٢٢ عن أبى داود.

٢١٧

ما ارتقاها مثلك يا بن سميّة، وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة وأسرع الإجابة فإنّك إن تفعل فدمك حقنت، ونفسك تداركت، وإلّا اختطفتك بأضعف ريش ونلتك بأهون سعي، واُقسم قسماً مبروراً أن لا أوتى بك إلّا في زمارة تمشي حافياً من أرض فارس إلى الشام حتى اُقيمك في السوق وأبيعك عبداً، واردُّك إلى حيث كنت فيه و خرجت منه. والسّلام(١) .

ثمّ لمـّا انقضت الدولة الأمويّة صار يُقال له: زياد بن أبيه، وزياد بن امّه، وزياد بن سميّة، اُمّه « سميّة » كانت لدهقان من دهاقين الفرس بزندرود بكسكر، فمرض الدهقان فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي فعالجه فبرأ فوهبه سميّة وزوّجها الحارث غلاماً له روميّاً يقال له: عبيد. فولدت زياداً على فراشه، فلمّا بلغ أشدّه اشترى أباه عُبيداً بألف درهم فأعتقه، كانت امّه من البغايا المشهورة بالطائف ذات راية.

أخرج أبو عمرو ابن عساكر قالا: بعث عمر بن الخطاب زياداً في اصلاح فساد وقع باليمن فرجع من وجهه وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها، فقال عمرو بن العاصي: أما والله لو كان هذا الغلام قرشيّاً لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان: والله إنّي لأعرف الذي وضعه في رحم امّه، فقال له عليُّ بن أبي طالب: ومَن هو يا أبا سفيان؟ قال: أنا. قال: مهلاً يا أبا سفيان.

وفي لفظ ابن عساكر: فقال له عمرو: اسكت يا أبا سفيان! فانّك لتعلم أنِّ عمر إن سمع هذا القول منك كان سريعاً إليك بالشرِّ فقال أبو سفيان:

أما والله لولا خوف شخص

يراني عليّ من الأعادي

لأظهر أمره صخر بن حرب

ولم يكن المقالة عن زياد

وقد طالت مجاملتي ثقيفاً

وتركي فيهمُ ثمر الفؤادِ

فذلك الذي حمل معاوية على ما صنع بزياد(٢) .

وفي العقد الفريد ٣: ٣: أمر عمر زياداً أن يخطب فأحسن في خطبته وجوَّد وعند أصل المنبر أبو سفيان بن حرب وعليّ بن أبي طالب فقال أبو سفيان لعليّ: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما انّه ابن عمّك. قال: وكيف ذلك؟ قال:

____________________

١ - شرح ابن الحديد ٤: ٦٨.

٢ - الاستيعاب ١: ١٩٥، تاريخ ابن عساكر ٥: ٤١٠.

٢١٨

أنا قذفته في رحم امّه سميّة. قال: فما يمنعك أن تدّعيه؟ قال: أخشى هذا القاعد على المنبر - يعني عمر - أن يفسد عليَّ أهابي. فبهذا الخبر استلحق معاوية زياداً وشهد له الشهود بذلك. وهذا خلاف حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله: الولد للفراش وللعاهر الحجَر.

قال الأميني: لو كان معاوية استلحق زياداً بهذا الخبر لكان استلحاقه عمرو بن العاص أولى. إذ ادَّعاه أبو سفيان يوم ولادته قائلاً: أما انّي لا أشكّ انّي وضعته في رحم اُمّه.

واختصم معه العاص، غير أنّ النابغة أبت إلّا العاص لما زعمت من الشحّ في أبي سفيان وفي ذلك قال حسّان بن ثابت:

أبوك أبو سفيان لا شكّ قد بدت

لنا فيك منه بيّنات الدلايلِ

ففاخر به إمّا فخرت ولا تكن

تفاخر بالعاص الهجين بن وائلِ

إلى آخر ما مرَّ في الجزء الثَّاني ص ١٢٣ ط ٢.

نعم: لكلّ بغيّ كان يتّصل بسميّة امّ زياد، والنابغة امّ عمرو، وهند امّ معاوية، وحمامة اُمّ أبي سفيان، والزرقاء امّ مروان، وأضرابهنّ من مشهورات البغاء ويأتيهنّ أن يختصم في ولايدهنّ.

كتب معاوية إلى زياد يوم كان عامل عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام : أمّا بعد فإنّ العشَّ الذي ربِّيت به معلومٌ عندنا فلا تدع أن تأوي إليه كما تأوي الطيور إلى أوكارها، ولولا شيىءٌ والله أعلم به لقلت كما قال العبد الصالح: فلنأتينّهم بجنود لا قبَل لهم بها، ولنخرجنَّهم منها أذلّة وهم صاغرون. وكتب في آخر كتابه:

لِلّه درّ زياد أيّما رجل

لو كان يعلم ما يأتي وما يذرُ

تنسى أباك وقد حقّت مقالته

إذ تخطب الناس والوالي لنا عمرُ

فافخر بوالدك الأدنى ووالدنا

إنَّ ابن حرب له في قومه خطرُ

إنّ انتهازك قوماً لا تناسبهم

عدّ الأنامل عار ليس يغتفرُ

فانزل بعيداً فإنّ الله باعدهم

عن كلِّ فضل به يعلو الورى مضرُ

فالرأي مطرف والعقل تجربة

فيها لصاحبها الايراد والصدرُ

فلمّا ورد الكتاب على زياد قام في الناس فقال: العجب كلّ العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يخوّفني بقصده إيّاي وبيني وبينه ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

٢١٩

المهاجرين والأنصار، أما والله لو أذن في لقاءه أعرف الناس بضرب السيف. واتّصل الخبر بعليّ رضي الله عنه، فكتب إلى زياد:

أمّا بعد: فقد ولّيتك الذي ولّيتك وأنا لا أزال له أهلاً، وانّه قد كانت من أبي سفيان فلتة من أمانيِّ الباطل، وكذب النفس، لا يوجب له ميراثاً، ولا يحلّ له نسبا - وفي لفظ: لا تستحقُّ بها نسباً ولا ميراثاً - وإنَّ معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فأحذر ثمّ احذر، والسّلام.

فلمّا بلغ أبا بكرة أخا زياد لامِّه سميّة: انّ معاوية استلحقه وانّه رضي ذلك آلى يميناً أن لا يكلّمه أبداً وقال: هذا زنا امّه وانتفى من أبيه، ولا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان قطّ، ويله ما يصنع باُمِّ حبيبة زوج النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ( بنت أبي سفيان ) أيريد أن يراها؟ فإن حجبته؟ فضحته، وإن رآها؟ فيالها مصيبة؟ يهتك مِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمة عظيمة. وحجَّ زياد في زمن معاوية ودخل المدينة فأراد الدخول على اُمِّ حبيبة ثمَّ ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك. وقيل: إنّ امّ حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها.

قال أبو عمر: لما ادَّعى معاوية زياداً دخل عليه بنو اميّة وفيهم عبد الرّحمن بن الحكم فقال: يا معاوية! لو لم تجد إلّا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلّة وذلّة. فأقبل معاوية على مروان وقال: أخرج عنّا هذا الخليع. فقال مروان: والله انّه لخليع ما يطاق. فقال معاوية: والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنّه يطاق، ألم يبلغني شعره فيَّ وفي زياد ثمَّ قال لمروان: اسمعينه. فقال:

ألا ابلغ معاوية بن صخر

لقد ضاقت بما تأتي اليدانِ

أتغضب أن يُقال: أبوك عفٌّ؟

وترضى أن يقال: أبوك زانِ؟!

فأشهد انّ رحمك من زياد

كرحم الفيل من وُلد الاتانِ

وأشهد انّها حملت زياداً

وصخرٌ من سميّة غير دانِ

هذه الأبيات تُروى لزياد(١) بن ربيعة بن مفرغ الحميري الشاعر ومَن رواها له جعل أوَّلها:

____________________

١ - هو يزيد بن ربيعة الشاعر الشهير توجد ترجمته فى الاغانى ١٧: ٥١ - ٧٣.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

والله كمن استشهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فسطاطه. وفيكم آية من كتاب الله. قلت: وأيّ آية جعلت فداك. قال: قول اللهعزوجل :( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) . ثمّ قال: صرتم والله صادقين شهداء عند ربّكم».

( لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) لهم مثل أجر الصدّيقين والشهداء ومثل نورهم، ولكنّه من غير تضعيف، ليحصل التفاوت. أو الأجر والنور الموعودان لهم.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) فيه دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفّار، من حيث إنّ التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدلّ على الملازمة عرفا.

( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) )

ولـمّا ذكر حال الفريقين في الآخرة حقّر أمور الدنيا، تزهيدا للمؤمنين في أمور الدنيا وركونهم إلى لذّاتها، فقال :

( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ) أي: الحياة في هذه الدار الدنيّة والأمور

٦٠١

المتعلّقة بها أمور خياليّة قليلة النفع سريعة الزوال، لأنّها لعب يتعب الناس فيه أنفسهم جدّا، إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة( وَلَهْوٌ ) يلهون به أنفسهم عمّا يهمّهم من الأمور الأخرويّة( وَزِينَةٌ ) يتزيّنون بها، كالملابس الحسنة، والمراكب البهيّة، والمنازل الرفيعة( وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ ) بالأنساب والعدد والعدد( وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ) .

ثمّ مثّل لها في سرعة تقضّيها وقلّة جدواها بقوله:( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ) أي: نبات أنبته المطر فاستوى بحيث أعجب الحرّاث. أو الكافرون بالله، لأنّهم أشدّ إعجابا بزينة الدنيا. ولأنّ المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، والكافر لا يتخطّى فكره عمّا أحسّ به، فيستغرق فيه إعجابا( ثُمَّ يَهِيجُ ) ييبس بعاهة وآفة( فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ) يتحطّم ويتكسّر بعد يبسه. وشرح هذا المثل قد تقدّم في سورة يونس(١) .

( وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ ) لأعداء الله، تنفيرا عن الانهماك في الدنيا، وحثّا على ما يوجب كرامة العقبى. ثمّ أكّد ذلك بقوله:( وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ) لأولياء الله( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) أي: لمن أقبل عليها، ولم يطلب بها الآخرة.

ثمّ رغّب سبحانه في المسابقة لطلب الجنّة، فقال:( سابِقُوا ) وسارعوا مسارعة السابقين في المضمار( إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) إلى موجباتها من الأعمال الصالحة( وَجَنَّةٍ ) وسابقوا إلى استحقاق ثواب جنّة هذه صفتها( عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) وإذا كان العرض كذلك فما ظنّك بالطول؟! وقيل: طولها لا يعلمه إلّا الله.

وقيل: المراد به البسطة، كقوله:( فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ) (٢) .

__________________

(١) راجع ج ٣ ص ٢٠٢، ذيل الآية ٢٤. من سورة يونس.

(٢) فصّلت: ٥١.

٦٠٢

وقيل: إنّ الله قال:( عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) ، والجنّة المخلوقة في السماء السابعة، فلا تنافي بينهما.

( أُعِدَّتْ ) ادّخرت وهيّئت( لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) فيه دليل على أنّ الجنّة مخلوقة، وأنّ الإيمان وحده كاف في استحقاقها، لأنّه ذكر أنّ الجنّة معدّة للمؤمنين، ولم يذكر معه شيئا آخر، وهذا أعظم رجاء لأهل الإيمان.

( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) ذلك الموعود يتفضّل به على من يشاء، فإنّه يجزي الدائم الباقي على القليل الفاني. ولو اقتصر في الجزاء على قدر ما يستحقّ بالأعمال، كان عدلا منه، لكنّه تفضّل بالزيادة.

وقيل: معناه: إنّ أحدا منّا لا ينال خيرا في الدنيا والآخرة إلّا بفضل الله، فإنّه سبحانه لو لم يدعنا إلى الطاعة، ولم يبيّن لنا الطريق، ولم يوفّقنا للعمل الصالح، لـما اهتدينا إليه، فذلك كلّه من فضل الله. وأيضا فإنّه سبحانه تفضّل بالأسباب الّتي يفعل بها الطاعة، من التمكين والألطاف وكمال العقل، وعرض المكلّف للثواب، فالتكليف أيضا تفضّل.

( وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) فلا يبعد منه التفضّل بذلك وإن عظم قدره.

( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) )

ولـمّا بيّن الثواب على الطاعة، عقّبه ببيان الأعواض على مقاساة المصائب، فقال:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ) كالجدب والعاهة( وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ )

٦٠٣

كالمرض، والآفة، وموت الأولاد، وسائر الأقارب والأحباب( إِلَّا فِي كِتابٍ ) إلّا مكتوبة في اللوح، مثبتة في علم الله( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) والمعنى: أنّه تعالى أثبتها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الأنفس والأرض، ليستدلّ ملائكته به على أنّه عالم لذاته يعلم الأشياء بحقائقها( إِنَّ ذلِكَ ) أن يثبته في الكتاب على كثرته( عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) لاستغنائه عن العدّة والمدّة.

( لِكَيْلا تَأْسَوْا ) أي: أثبت وكتب ذلك لئلّا تحزنوا( عَلى ما فاتَكُمْ ) من نعم الدنيا( وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) بما أعطاكم الله منها، فإنّ من علم أنّ الكلّ مقدّر هان عليه الأمر. وأيضا إذا علم الإنسان أنّ ما فات منها ضمن الله تعالى العوض عليه في الآخرة، فلا ينبغي أن يحزن لذلك. وإذا علم أنّ ما ناله منها كلّف الشكر عليه والحقوق الواجبة فيه، فلا ينبغي أن يفرح به. وإذا علم أنّ شيئا منها لا يبقى، فلا ينبغي أن يهتمّ له، بل يجب أن يهتمّ لأمر الآخرة الّتي تدوم ولا تبيد.

وقرأ أبو عمرو: «بما أتاكم» من الإتيان، ليعادل «ما فاتكم». وعلى الأوّل فيه إشعار بأنّ فواتها يلحقها إذا خلّيت وطباعها، وأمّا حصولها وبقاؤها فلا بدّ لهما من سبب يوجدها ويبقيها.

والمراد به نفي الأسى المانع عن التسليم لأمر الله، والفرح الموجب للبطر والاختيال. ولذلك عقّبه بقوله:( وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) إذ قلّ من يثبت نفسه في حالي الضرّاء والسرّاء.

وقيل لبزرجمهر الحكيم: مالك أيّها الحكيم لا تأسف على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟

فقال: لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالخبرة.

واعلم أنّ في هذه الآية إشارة إلى أربعة أشياء :

الأوّل: حسن الخلق، لأنّ من استوى عنده وجود الدنيا وعدمها، لا يحسد، ولا يعادي، ولا يشاحّ، فإنّ هذه من أسباب سوء الخلق، وهي من

٦٠٤

نتائج حبّ الدنيا.

وثانيها: استحقار الدنيا وأهلها، إذا لم يفرح بوجودها، ولم يحزن لعدمها.

وثالثها: تعظيم الآخرة، لـما ينال من الثواب الدائم الخالص من الشوائب.

ورابعها: الافتخار بالله دون أسباب الدنيا.

ويروى أنّ عليّ بن الحسينعليه‌السلام جاءه رجل فقال له: ما الزهد؟ فقال: «الزهد عشرة أجزاء. فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع. وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين. وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا. وإنّ الزهد كلّه في آية من كتاب الله:( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) ».

( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) بدل من «كلّ مختال» فإنّ المختال بالمال يضنّ به غالبا. أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله:( وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) لأنّ معناه: ومن يعرض عن الإنفاق، فإنّ الله غنيّ عنه وعن إنفاقه، محمود في ذاته، لا يضرّه الإعراض عن شكره، ولا ينتفع بالتقرّب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأنّ الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق. وقرأ نافع وابن عامر: «فإنّ الله الغنيّ».

( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا

٦٠٥

فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) )

ثمّ بيّن سبحانه بعث الأنبياء على عباده إرشادا لهم إلى الطاعات البدنيّة، المثمرة للخضوع والخشوع، الزاجرين عن البطر والاختيال، وإلى العبادات الماليّة المنتجة للإحسان على المحتاجين، المانعة عن البخل المذموم عند ربّ العالمين، فقال :

( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا ) أي: الملائكة إلى الأنبياء، أو الأنبياء إلى الأمم( بِالْبَيِّناتِ ) بالحجج والمعجزات( وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ ) المكتوب الّذي يتضمّن الأحكام، وما يحتاج إليه الخلق من الحلال والحرام، كالتوراة والإنجيل والقرآن، ليبيّن الحقّ، ويميّز صواب العمل( وَالْمِيزانَ ) ذا الكفّتين الّذي يوزن به لتسوى به الحقوق، ويقام به العدل، كما قال:( لِيَقُومَ النَّاسُ ) في معاملاتهم( بِالْقِسْطِ ) . وإنزاله إنزال أسبابه، والأمر بإعداده.

٦٠٦

وروي: أنّ جبرئيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به.

ويجوز أن يراد به العدل لتقام به السياسة، ويدفع به الأعداء، كما قال:( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) أي: يمتنع به، ويحارب به في القتال. والمعنى: أنّه يتّخذ منه آلتان: آلة للدفع وآلة للضرب، فإنّ آلات الحروب متّخذة منه.

قيل: نزل آدم من الجنّة ومعه خمسة أشياء من الحديد: السندان، والكلبتان، والميقعة(١) ، والمطرقة(٢) ، والإبرة. وروي: ومعه المرّ(٣) والمسحاة.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح».

وعن الحسن:( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) : خلقناه، كقوله تعالى:( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ) (٤) . وذلك أنّ أوامره تنزل من السماء.

( وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ) في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم، إذ ما من صنعة إلّا والحديد آلتها، أو ما يعمل بالحديد.

( وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ ) باستعمال الأسلحة في مجاهدة الكفّار. والعطف على محذوف دلّ عليه ما قبله، فإنّه حال يتضمّن تعليلا. كأنّه قال:( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) ليكون أسلحة للحرب ومنافع للعباد، وليعلم الله نصرة من ينصره ورسله نصرة موجودة، وجهاد من جاهد مع رسوله موجودا. أو اللام صلة لمحذوف، أي: أنزله ليعلم الله من ينصره ورسله.( بِالْغَيْبِ ) حال من المستكن في «ينصره». كما قال ابن عبّاس معناه: ينصرونه ولا يبصرونه. يعني: ينصرونه بالعلم الواقع

__________________

(١) الميقعة: خشبة القصّار ـ أي: محوّر الثياب ومبيّضها ـ يدقّ عليها.

(٢) المطرقة: آلة من حديد ونحوه يضرب بها الحديد ونحوه.

(٣) المر: المسحاة.

(٤) الزمر: ٦.

٦٠٧

بالاستدلال والنظر من غير مشاهدة بالبصر.

( إِنَّ اللهَ قَوِيٌ ) على إهلاك من أراد إهلاكه( عَزِيزٌ ) لا يفتقر إلى نصرة أحد. وإنّما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به، ويستوجبوا ثواب الامتثال فيه.

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ ) خصّهما بالذكر لفضلهما، ولأنّهما أبوا الأنبياء( وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب. وعن ابن عبّاس: المراد بالكتاب الخطّ بالقلم. يقال: كتب كتابا وكتابة.( فَمِنْهُمْ ) فمن الذرّيّة. أو من المرسل إليهم، وقد دلّ عليهم «أرسلنا».( مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) خارجون عن الطريق المستقيم. والعدول عن سنن المقابلة للمبالغة في الذمّ، والدلالة على أنّ الغلبة للضلال.

( ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا ) ثمّ أتبعنا بالإرسال على آثار من ذكرناهم من الأنبياء برسل آخرين إلى قوم آخرين( وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) أي: أرسلنا رسولا بعد رسول حتّى انتهى إلى عيسىعليه‌السلام . والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم، أو من عاصرهما من الرسل، لا للذرّيّة، فإنّ الرسل المقفّى بهم من الذرّيّة.

( وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) في دينه، يعني: الحواريّين وأتباعهم، اتّبعوا عيسى( رَأْفَةً ) هي أشدّ الرقّة والرحمة( وَرَحْمَةً ) وإنّما أضافهما إلى نفسه، لأنّه سبحانه جعلهما في قلوبهم بالأمر بهما، والترغيب فيهما، ووعد الثواب عليهما.

( وَرَهْبانِيَّةً ) انتصابها بفعل مضمر يفسّره ما بعده، تقديره: وابتدعوا رهبانيّة( ابْتَدَعُوها ) وهي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس، واتّخاذ الصوامع لها في البراري والجبال. منسوبة إلى الرهبان، وهو المبالغ في الخوف، من: رهب، كالخشيان من: خشي. والمعنى: ترهّبهم في الجبال فارّين من الجبابرة أن يفتنوهم في دينهم مخلصين أنفسهم للعبادة، كما سيجيء تفصيله.

٦٠٨

( ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ) ما فرضناها عليهم( إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ ) استثناء منقطع، أي: ولكنّهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، وألزموها على أنفسهم، كما أنّ الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفرض عليه لزمه أن يتمّه.

وقيل: متّصل، و «رهبانيّة» معطوفة على ما قبلها، و «ابتدعوها» صفة لها في محلّ النصب، أي: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانيّة مبتدعة من عندهم. بمعنى: وفّقناهم للتراحم بينهم، ولابتداع الرهبانيّة واستحداثها، والإتيان بها أولا، لا أنّهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم. ما كتبناها عليهم إلّا ليبتغوا رضوان الله، ويستحقّوا بها الثواب. على أنّه كتبها عليهم وألزمها إيّاهم ليتخلّصوا من الفتن، ويبتغوا بذلك رضا الله تعالى وثوابه.

( فَما رَعَوْها ) فما رعوا جميعا( حَقَّ رِعايَتِها ) كما يجب على الناذر رعاية نذره، لأنّه عهد مع الله لا يحلّ نكثه. وذلك بضمّ التثليث، والقول بالاتّحاد، وقصد السمعة، والكفر بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحوها، إلى الابتداع.

( فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا ) أتوا بالإيمان الصحيح. وهم أهل الرحمة والرأفة الّذين اتّبعوا عيسى، وحافظوا حقوقه، ومن ذلك الإيمان بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( مِنْهُمْ ) من المتّسمين باتّباعه( أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) خارجون عن الاتّباع، غير حافظين على نذرهم.

وعن ابن مسعود قال: «دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها اثنتان، وهلك سائرهنّ. فرقة قاتلوا الملوك على دين عيسىعليه‌السلام فقتلوهم. وفرقة لم تكن لهم طاقة لموازاة الملوك، ولا أن يقيموا بين ظهرانيّهم يدعونهم إلى دين الله تعالى ودين عيسىعليه‌السلام ، فساحوا في البلاد وترهّبوا. وهم الّذين قال الله فيهم:( وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ) . ثمّ قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من آمن بي وصدّقني واتّبعني فقد رعاها حقّ

٦٠٩

رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون».

وأيضا عن ابن مسعود قال: «كنت رديف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حمار، فقال: يا ابن أمّ عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانيّة؟

فقلت: الله ورسوله أعلم.

قال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسىعليه‌السلام ، يعملون بمعاصي الله، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرّات، فلم يبق منهم إلّا القليل.

فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا، ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبيّ الّذي وعدنا عيسىعليه‌السلام ، يعنون محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فتفرّقوا في غيران(١) الجبال، وأحدثوا رهبانيّة، فمنهم من تمسّك بدينه، ومنهم من كفر. ثمّ تلا هذه الآية:( وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ) إلى آخرها.

ثمّ قال: يا ابن أمّ عبد أَتدري ما رهبانيّة أمّتي؟

قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: الهجرة، والجهاد، والصلاة، والصوم، والحجّ، والعمرة».

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بتوحيد الله، وصدّقوا موسى وعيسى وسائر الرسل المتقدّمة( اتَّقُوا اللهَ ) فيما نهاكم عنه( وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ) محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ) نصيبين( مِنْ رَحْمَتِهِ ) لإيمانكم بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبمن قبله من الأنبياء. ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق ـ وإن كان منسوخا ـ ببركة الإسلام( وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) يريد المذكور في قوله:( يَسْعى نُورُهُمْ ) (٢) . أو الهدى الّذي يسلك به إلى جناب القدس.( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) ما أسلفتم من الكفر والمعاصي( وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

__________________

(١) جمع: غار.

(٢) الحديد: ١٢.

٦١٠

روي عن سعيد بن جبير: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه ودعاه، فاستجاب له وآمن به. فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلا: ائذن لنا في الوفادة على رسول الله، فأذن لهم. فقدموا مع جعفر وقد تهيّأ لوقعة أحد، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله، وقالوا: يا نبيّ الله إنّ لنا أموالا، ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا، فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم. فانصرفوا فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين. فأنزل الله فيهم:( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) إلى قوله:( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) (١) .

فلمّا سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله:( يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ) (٢) فخروا على المسلمين وقالوا: أمّا من آمن منّا بكتابكم وبكتابنا فله أجره مرّتين، وأمّا من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم، فما فضلكم علينا؟ فأنزل الله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ) الآية. فجعل لهم أجرين، وزادهم النور والمغفرة.

ثمّ قال:( لِئَلَّا يَعْلَمَ ) «لا» مزيدة. وعن الفرّاء: إنّما تدخل «لا» صلة في كلّ كلام دخل في أواخره أو أوائله جحد، وإن لم يكن مصرّحا به، نحو قوله:( ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) (٣) .( وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) (٤) .( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) (٥) .

__________________

(١) القصص: ٥٢ ـ ٥٤.

(٢) القصص: ٥٢ ـ ٥٤.

(٣) الأعراف: ١٢.

(٤) الأنعام: ١٠٩.

(٥) الأنبياء: ٩٥.

٦١١

والمعنى: ليعلم( أَهْلُ الْكِتابِ ) الّذين لم يؤمنوا بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ) . «أن» هي المخفّفة. والمعنى: أنّ الشأن لا ينالون شيئا ممّا ذكر من فضله، من الكفلين والنور والمغفرة، ولا يتمكّنون من نيله، لأنّهم لم يؤمنوا برسوله، وهو مشروط بالإيمان به. أو لا يقدرون على شيء من فضله، فضلا عن أن يتصرّفوا في أعظمه، وهو النبوّة، فيخصّوها بمن أرادوا. ويؤيّده قوله:( وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ) في ملكه وتصرّفه( يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) يتفضّل على من يشاء من عباده المؤمنين.

وقال الكلبي: كان الوافدون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اليمن أربعة وعشرين رجلا، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة، لم يكونوا يهودا ولا نصارى، وكانوا على دين الأنبياء، فأسلموا. فقال لهم أبو جهل: بئس القوم أنتم، والوفد لقومكم. فردّوا عليه:( وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ ) (١) الآية. فجعل الله لهم ولمؤمني أهل الكتاب ـ عبد الله بن سلام وأصحابه ـ أجرين اثنين. فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول الله ويقولون: نحن أفضل منكم، لنا أجران، ولكم أجر واحد. فنزلت:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ) إلى قوله:( لِئَلَّا يَعْلَمَ ) إلى آخرها.

وقيل: «لا» غير مزيدة. والمعنى: لئلّا يعتقد أهل الكتاب أنّهم لا يقدرون أن يؤمنوا، لأنّ من لا يعلم أنّه لا يقدر يعلم أنّه يقدر.

وقيل: معناه: لئلّا يعلم اليهود والنصارى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين لا يقدرون على ذلك، بل علموا أنّهم يقدرون عليه، أي: إن آمنتم كما أمركم الله آتاكم الله من فضله، فعلم أهل الكتاب ذلك، ولم يعلموا خلافه. وعلى هذا فالضمير في «يقدرون» ليس لأهل الكتاب.

وقال أبو سعيد السيرافي: معناه: إنّ الله يفعل بكم هذه الأشياء لئلّا يعلم ـ أي: ليتبيّن ـ جهل أهل الكتاب، وأنّهم لا يعلمون أنّ ما يؤتيكم الله من فضله لا يقدرون على تغييره وإزالته عنكم.

__________________

(١) المائدة: ٨٤.

٦١٢

(٥٨)

سورة المجادلة

أبيّ بن كعب، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ومن قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) )

٦١٣

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الحديد بذكر فضله على من يشاء من عباده، افتتح هذه السورة بذكر بيان فضله في إجابة دعاء خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة، رآها زوجها ساجدة في صلاتها، وكانت حسنة الجسم عظيمة الأليتين، فلمّا سلّمت راودها فأبت، فغضب، وكان به خفّة ولمم(١) ، فظاهر منها.

وهذا أوّل ظهار في الإسلام، وكان طلاق أهل الجاهليّة. فأتت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت: إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابّة، غانية(٢) ، ذات جمال ومال وأهل، حتّى إذا أكل مالي، وأفنى شبابي، وتفرّق أهلي، وخلا سنّي، ونثرت بطني ـ أي: كثر ولدي ـ جعلني عليه كأمّه.

وروي أنّها قالت له: إنّ لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا.

فقال: ما عندي في أمرك شيء.

وروي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها: حرمت عليه.

فقالت: يا رسول الله، ما ذكر طلاقا، وإنّما هو أبو ولدي، وأحبّ الناس إليّ.

فقال: حرمت عليه.

فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي. كلّما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حرمت عليه، هتفت وشكت إلى الله فقالت: أللّهمّ فأنزل على لسان نبيّك.

فقامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر. فقالت: انظر في أمري جعلني الله فداك يا نبيّ الله.

فقالت عائشة: اقصري حديثك ومجادلتك، أما ترين وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه شيء أخذه مثل السبات.

__________________

(١) اللمم: جنون خفيف، أو طرف من الجنون يلمّ بالإنسان.

(٢) الغانية: المرأة الغنيّة بحسنها وجمالها عن الزينة.

٦١٤

فلمّا قضي الوحي قال: ادعي زوجك. فقرأصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ) تراجعك في شأنه سؤالا وجوابا( وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ) وتظهر شكواها وما بها من المكروه، فتقول: أللّهمّ إنّك تعلم حالي فارحمني، فإنّ لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. ومعنى «قد» التوقّع، لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمجادلة كانا يتوقّعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرّج عنها كربها. وأدغم حمزة والكسائي وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر دالها في السين.

( وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ) تراجعكما الكلام. وهو على تغليب الخطاب.( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) للأقوال والأحوال.

ولـمّا كان الظهار من عادة الجاهليّة، ومن أيمانهم خاصّة دون سائر الأمم، وبّخهم الله تعالى وهجّنهم في ذلك، فقال :

( الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ) أي: يقولون لهنّ: أنتنّ كظهور أمّهاتنا. مشتقّ من الظهر. وأصل «يظّهّرون»: يتظهّرون. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: يظّاهرون، من: اظّاهر. وعاصم: يظاهرون، من: ظاهر.( ما هُنَ ) ما الزوجات اللاتي يظاهرونهنّ( أُمَّهاتِهِمْ ) على الحقيقة، فإنّ إلحاق الزوجة بالأمّ، وجعلها مثلها بقول: أنت عليّ كظهر أمّي، تشبيه باطل، لتباين الحالين.

( إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ) فلا تشبّه بهنّ في الحرمة إلّا من ألحقها الله بهنّ كالمرضعات، لأنّهنّ لـمّا أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمّهات شرعا، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وكذلك أزواج الرسول، لأنّ الله تعالى حرّم نكاحهنّ على الأمّة، فدخلن بذلك في حكم الأمّهات، بخلاف الزوجات، فإنّهنّ أبعد شيء من الأمومة، لأنّهنّ لسن بأمّهات حقيقة، ولا بداخلات

٦١٥

في حكم الأمّهات. فكان قول المظاهر منكرا، كما قال عزّ اسمه:( وَإِنَّهُمْ ) أي: المظاهرين( لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ ) إذ الشرع أنكره( وَزُوراً ) وكذبا منحرفا عن الحقّ. وعن عاصم: أمّهاتهم بالرفع، على اللغة الحجازيّة والتميميّة.( وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) لـما سلف منه مطلقا، أو إذا تيب عنه.

وهل يقع الظهار لو شبّهها بغير الظهر، كالبطن والفخذ وغير ذلك من الأعضاء؟ الأقوى عندنا عدم الوقوع. وكذا لو شبّه عضوا من زوجته بظهر أمّه، الأقرب عدم الوقوع أيضا، اقتصارا على منطوق النصّ، وجمودا في التحريم على ما أبلغ عليه. قال الفقهاء: إذا شبّهها بجزء يحرم النظر إليه ـ كالبطن والفخذ ـ وقع.

والآية تدلّ على أنّ الظهار حرام، لوصفه بالمنكر. نعم، لا عقاب فيه، لتعقيبه بذكر المغفرة والرحمة. وهو ملحق بالصغائر الّتي تقع مكفّرة.

ثمّ بيّن حكم الظهار، فقال:( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) يتداركون ما قالوا، لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه. وقال الفرّاء: يعودون لـما قالوا، وإلى ما قالوا، وفيما قالوا. معناه: يرجعون عمّا قالوا. يقال: عاد لـما فعل، أي: نقض ما فعل. ومنه المثل: عاد الغيث على ما أفسد، أي: تداركه بالإصلاح. وذلك عندنا وعند مالك بإرادة الوطء. وإضمار الإرادة في العود كإضمارها في قوله:( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ) (١) . وعند الشافعي بإمساك المظاهر عنها في النكاح زمانا يمكنه مفارقتها فيه. وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة.

( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) أي: فعليهم، أو فالواجب إعتاق رقبة. والفاء للسببيّة. ومن فوائدها الدلالة على تكرّر وجوب التحرير بتكرّر الظهار. والرقبة مقيّدة بالأيمان عندنا وعند الشافعي.

__________________

(١) النحل: ٩٨.

٦١٦

( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) أن يجامعها، لشهرة المسيس بمعنى الجماع في الكتاب والسنّة. وعند الشافعي: من قبل أن يستمتع كلّ من المظاهر والمظاهر عنها بالآخر، لعموم اللفظ. وفيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير.

( ذلِكُمْ ) أي: ذلكم الحكم بالكفّارة( تُوعَظُونَ بِهِ ) لأنّه يدلّ على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة الرادعة عنها، فيجب أن تتّعظوا بهذا الحكم لتنزجروا عن أن تعودوا إلى الظهار( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) لا تخفى عليه خافية.

( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ) أي: الرقبة( فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) فإن أفطر لغير عذر لزمه الاستئناف. وإن أفطر لعذر بنى. وعند أصحابنا أنّه إذا اصام شهرا، ومن الثاني شيئا ولو يوما واحدا، ثمّ أفطر لغير عذر صحّ، ولا يلزمه الاستئناف. وإن أفطر قبل ذلك استأنف. ومتى بدأ بالصوم وصام بعض ذلك، ثمّ وجد الرقبة، لا يلزمه الرجوع إليها. وإن رجع كان أفضل. وعند جماعة يلزمه الرجوع إلى العتق.

( فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ) أي: الصوم، لهرم أو لعلّة( فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) لكلّ مسكين نصف صاع عند أصحابنا، فإن لم يقدر فمدّ. وإنّما لم يذكر التماسّ مع الطعام اكتفاء بذكره مع الآخرين.

( ذلِكَ ) أي: ذلك البيان، أو التعليم للأحكام. ومحلّه النصب بفعل معلّل بقوله:( لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) أي: فرض ذلك لتصدّقوا بالله ورسوله في قبول شرائعه، ورفض ما كنتم عليه في جاهليّتكم.

( وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ) لا يجوز تعدّيها( وَلِلْكافِرِينَ ) الّذين لا يقبلونها( عَذابٌ أَلِيمٌ ) وهو نظير قوله:( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (١) .

روي: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول آيات الظهار خيّر الأوس بين الطلاق والإمساك.

__________________

(١) آل عمران: ٩٧.

٦١٧

فاختار الإمساك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: كفّر بعتق رقبة.

فقال: مالي غيرها. وأشار إلى رقبته.

فقال: صم شهرين متتابعين.

فقال: لا طاقة لي بذلك.

فقال: أطعم ستّين مسكينا.

فقال: والله ما بين لابتيها أشدّ مسكنة منّي. فأمر له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء من مال الصدقة، وأمره أن يطعمه عن كفّارته. فشكا خصاصة حاله، وأنّه أشدّ فاقة وضرورة ممّن أمر بدفعه إليهم. فضحك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلّم وأمره بالاستغفار، وأباح له العود إليها.

وفيها دلالة على أنّه مع العجز عن الكفّارة يستغفر الله ويعود. ويؤيّده رواية إسحاق بن عمّار موثّقا عن الصادقعليه‌السلام : «أنّ الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفّارة فيستغفر ربّه».

وبواقي أحكام الظهار والشرائط المعتبرة فيه مذكورة في كتب الأصحاب، فليطالع ثمّة.

( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) )

( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) يعادونهما، فإنّ كلّا من المتعاديين في حدّ غير حدّ الآخر. أو يضعون، أو يختارون حدودا غير حدودهما.( كُبِتُوا ) أخزوا وأهلكوا. وأصل الكبت الكبّ.( كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يعني: كفّار الأمم

٦١٨

الماضية. قيل: أريد كبتهم يوم الخندق.( وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ ) تدلّ على صدق الرسول وصحّة ما جاء به( وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ) يذهب عزّهم وتكبّرهم.

( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ ) منصوب بـ «مهين». أو بإضمار: اذكر، تعظيما لليوم.

( جَمِيعاً ) كلّهم لا يدع أحدا غير مبعوث. أو مجتمعين في حال واحدة.

( فَيُنَبِّئُهُمْ ) الله، أي: يخبرهم( بِما عَمِلُوا ) على رؤوس الأشهاد، تشهيرا لحالهم، وتقريرا لعذابهم، وتوبيخا لهم( أَحْصاهُ اللهُ ) أحاط به عددا، لم يغب منه شيء( وَنَسُوهُ ) لكثرته، أو تهاونهم به( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) لا يغيب عنه شيء.

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) )

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يعلم ما يكون في العالم فقال:( أَلَمْ تَرَ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد جميع المكلّفين( أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) كلّا وجزءا( ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ ) من «كان» التامّة. وتذكير الفعل على أنّ النجوى تأنيثها غير حقيقيّ، و «من» فاصلة. أو على أنّ المعنى: ما يقع شيء من النجوى. والنجوى: التناجي. فلا تخلو: إمّا أن تكون مضافة إلى ثلاثة، أي: من نجوى ثلاثة نفر، أو موصوفة بها على حذف المضاف، أي: من أهل نجوى ثلاثة، أو جعلوا نجوى في أنفسهم مبالغة، كقوله تعالى:( خَلَصُوا نَجِيًّا ) (١) . واشتقاقها من

__________________

(١) يوسف: ٨٠.

٦١٩

النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض، فإنّ السرّ أمر مرفوع إلى الذهن، لا يتيسّر لكلّ أحد أن يطّلع عليه.

( إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ) إلّا الله يجعلهم أربعة، من حيث إنّه يشاركهم في الاطّلاع.

والاستثناء من أعمّ الأحوال.( وَلا خَمْسَةٍ ) ولا نجوى خمسة( إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ) .

وتخصيص هذين العددين إمّا لخصوص الواقعة، فإنّ الآية نزلت في تناجي قوم من المنافقين مغايظة للمؤمنين على هذين العددين: ثلاثة وخمسة. وروي عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن اميّة، كانوا يوما يتحدّثون، فقال أحدهم: أَترى أنّ الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا، ولا يعلم بعضا. وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كلّه.

أو لأنّ الله وتر يحبّ الوتر، والثلاثة أوّل الأوتار. أو لأنّ التشاور لا بدّ له من اثنين يكونان كالمتنازعين، وثالث يتوسّط بينهما، إلى خمسة إلى ستّة، ولا يتجاوزون عن الستّة غالبا عرفا عندهم.

( وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ) ولا أقلّ ممّا ذكر، كالواحد والاثنين( وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ) ومعنى كونه معهم: أنّه يعلم ما يجري بينهم من التناجي، ولا يخفى عليه ما هم فيه، فكأنّه مشاهدهم ومحاضرهم، وقد تعالى عن المكان. وقرأ يعقوب: ولا أكثر بالرفع، عطفا على محلّ «من نجوى»، أو محلّ «ولا أدنى»، بأن جعلت «لا» لنفي الجنس.( أَيْنَ ما كانُوا ) فإنّ علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتّى يتفاوت باختلاف الأمكنة.

( ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ) تفضيحا لهم، وتقريرا لـما يستحقّونه من الجزاء( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) لأنّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكلّ على سواء.

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ

٦٢٠

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645