زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير3%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52390 / تحميل: 4244
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٩-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

بصراء بهم، فيسوقون فريقا إلى الجنّة وفريقا إلى النار.

( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) حال من أحد الضميرين. أو استئناف يدلّ على أنّ اشتغال كلّ مجرم بنفسه بحيث يتمنّى أن يفتدي من العذاب.

( بِبَنِيهِ ) بأولاده الّذين هم أعزّ الناس عليه وأحبّهم.

( وَصاحِبَتِهِ ) وزوجته الّتي كانت سكنا له، وربما آثرها على أبويه( وَأَخِيهِ ) الّذي كان ناصرا له ومعينا.

وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم يومئذ، على البناء للإضافة إلى غير متمكّن.

ومحصّل معنى الآية: أنّ كلّ مجرم يتمنّى أن يدفع عن نفسه العذاب بافتداء أقرب الناس عنده وأعلقهم بقلبه، فضلا أن يهتمّ بحاله ويسأل عنها.

( وَفَصِيلَتِهِ ) وعشيرته الأدنون الّذين فصل عنهم( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) تضمّه انتماء إليها في النسب، أو لياذا بها في النوائب والشدائد.

( وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من الثقلين، أو الخلائق كلّهم( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) عطف على «يفتدي» أي: يودّ لو يفتدي ثمّ لو ينجيه الافتداء، أو من في الأرض. و «ثمّ» لاستبعاد الإنجاء. يعني: يتمنّى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه، ثمّ ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه.

( كَلَّا ) ردع عن الودادة، ودلالة على أنّ الافتداء لا ينجيه من العذاب( إِنَّها ) الضمير للنار، وذكر العذاب دالّ عليها. أو مبهم يفسّره( لَظى ) . فهو خبر، أو بدل. أو للقصّة، و «لظى» مبتدأ خبره( نَزَّاعَةً لِلشَّوى ) وهو اللهب الخالص. وقيل: علم للنار منقول من اللظى، بمعنى اللهب.

وقرأ حفص: نزّاعة، بالنصب على الاختصاص للتهويل، أو الحال المؤكّدة، أو المتنقّلة على أنّ «لظى» بمعنى: متلظّية.

والشوى: الأطراف. أو جمع شواة. وهي جلدة الرأس. والمعنى: تنزع

١٨١

الأطراف وتقطعها، أو الجلد واللحم، فلا تترك لحما ولا جلدا، ثمّ تعاد ثمّ تنزع، وهكذا.

وقال الكلبي: يعني: تأكل الدماغ كلّه ثمّ يعود كما كان، ثمّ تأكل.

( تَدْعُوا ) أي: تدعو النار إلى نفسها. مجاز عن جذبها وإحضارها لمن فرّ عنها. والمعنى: لا يفوت هذه النار كافر، فكأنّها تدعوه فيجيبها كرها. وقيل: تدعو المنافقين والكافرين بلسان فصيح، ثمّ تلتقطهم التقاط الحبّ. فيجوز أن يخلق الله فيها كلاما، كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم، وكما خلقه في الشجرة.

وقيل: «تدعو»: تهلك، من قولهم: دعاه الله إذا أهلكه. فالمعنى: تهلك النار( مَنْ أَدْبَرَ ) عن الحقّ( وَتَوَلَّى ) عن الطاعة.

( وَجَمَعَ ) وجمع المال( فَأَوْعى ) فجعله في وعاء وكنزه حرصا وتأميلا، ولم يؤدّ الزكاة وسائر الحقوق، وتشاغل به عن الدين، وزها باقتنائه وتكبّر.

( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ

١٨٢

(٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) إِنَّ الْإِنْسانَ ) أراد به الناس، بقرينة الاستثناء بعد( خُلِقَ هَلُوعاً ) شديد الحرص، سريع الجزع عند مسّ المكروه، كثير المنع عن الخير المقدّر شرعا.

وأصل الهلع: السرعة، من قولهم: ناقة هلواع أو هلواعة، أي: سريعة السير. وفي الصحاح: «الهلع: أفحش الجزع. وقد هلع ـ بالكسر ـ فهو هلع وهلوع. وقد جاء في الحديث: «من شرّ ما أوتي العبد شحّ هالع، وجبن خالع» أي: يجزع فيه ويحزن، كما يقال: يوم عاصف وليل نائم. ثمّ قال: وقد هلوعت، أي: أسرعت.

وذئب هلع بلع. فالهلع من الحرص، والبلع من الابتلاع. والهالع: النعام السريع في مضيّه. والنعامة هالعة»(١) .

وعن أحمد بن يحيى أنّه قال: قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسّره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره. وهو قوله:( إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ ) ناله الضرّ من المرض والفقر( جَزُوعاً ) يظهر شدّة الجزع( وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ ) السعة من المال( مَنُوعاً ) يبالغ في المنع والإمساك.

والأوصاف الثلاثة أحوال مقدّرة. والمعنى: أنّ الإنسان لإيثاره الجزع والمنع، وتمكّنهما منه، ورسوخهما فيه، كأنّه مجبول عليهما مطبوع، وكأنّه أمر خلقيّ وضروريّ غير اختياري، كقوله تعالى:( خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ) (٢) . والدليل عليه

__________________

(١) الصحاح ٣: ١٣٠٨.

(٢) الأنبياء: ٣٧.

١٨٣

أنّه حين كان في البطن والمهد لم يكن به هلع. ولأنّه ذمّ، والله تعالى لا يذمّ فعله.

والدليل عليه أنّه سبحانه استثنى المؤمنين الكاملين الّذين جاهدوا أنفسهم، وحملوها على المكاره في الطاعات، وظلفوها(١) عن الشهوات، حتّى لم يكونوا جازعين ولا مانعين، فقال:( إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) أي: مواظبون على أدائها، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل.

( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) كالزكوات والأخماس وسائر حقوق الناس( لِلسَّائِلِ ) الّذي يسأل( وَالْمَحْرُومِ ) الّذي لا يسأل تعفّفا عنه، فيحسب غنيّا فيحرم.

( وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) بيوم الجزاء، تصديقا بأعمالهم، وهو أن يتعب نفسه في الطاعة، ويصرف ماله طمعا في المثوبة الأخرويّة، ولذلك ذكر يوم الدين.

( وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) خائفون على أنفسهم( إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ) لا يؤمن حلوله بمستحقّيه.

وقيل: معناه: يخافون أن لا تقبل حسناتهم، ويؤخذون بسيّئاتهم. وذلك لأنّ المكلّف لا يعلم هل أدّى الواجب كما أمر به؟ وهل انتهى عن المحظور على ما نهي عنه؟ فهذا اعتراض يدلّ على أنّه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله، وإن بالغ في طاعته، بل يكون بين الخوف والرجاء.

( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) المتجاوزون عن حدود الله. وقد سبق(٢) تفسير هذه الآيات الثلاث في سورة المؤمنين.

__________________

(١) ظلف نفسه عن الشيء: منعها من أن تفعله وكفّ عنه.

(٢) راجع ج ٤ ص ٤٢٦، ذيل الآية ٥ ـ ٧ من سورة المؤمنون.

١٨٤

( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ) حافظون. وقرأ ابن كثير: لأمانتهم.

( وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ ) يعني: لا يخفون ولا ينكرون ما علموه من حقوق الله وحقوق العباد. وخصّها من بينها إبانة لفضلها، لأنّ في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها، وفي صرفها تضييعها وإبطالها. وقرأ يعقوب وحفص: بشهاداتهم، لاختلاف الأنواع.

( وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) فيراعون شرائطها وأركانها، ويكملون فرائضها وسننها. فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة، والمحافظة إلى أحوالها. ووصفهم بها أوّلا وآخرا باعتبارين، للدلالة على فضلها وإنافتها على غيرها.

وروي عن أبي جعفرعليه‌السلام : «أنّ قوله:( عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) في النوافل، وهذه الآية في الفرائض والواجبات».

وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسنعليه‌السلام أنّه قال: «أولئك اصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا».

وفي نظم هذه الصلاة مبالغات لا تخفى، من الجملة الاسميّة، وتقديم الضمير، وجمع الصفات، وغير ذلك، والإتيان بما هو العلّة والسبب في البعض.

( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) معظّمون مبجّلون بما يفعل بهم من إعطاء الثواب العظيم والأجر الجزيل.

( فَما لـ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ

١٨٥

يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤) )

روي: أنّ المشركين كانوا يحتفّون حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا، يستمعون ويستهزءون بكلامه، ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنّة، كما يقول محمد فلندخلنّها قبلهم، فنزلت :

( فَما لـ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ ) حولك( مُهْطِعِينَ ) مسرعين نحوك، مادّي أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ ) فرقا شتّى. جمع عزة. وأصلها عزوة، من العزو، كأنّ كلّ فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الاخرى، فهم مفترقون. وقيل: كان المستهزؤن خمسة أرهط.

( أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ) بلا إيمان. وهو إنكار لقولهم: لو صحّ ما يقوله لنكون فيها أفضل حظّا منهم كما في الدنيا.

( كَلَّا ) ردع لهم عن هذا الطمع. ثمّ علّل ذلك بقوله:( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) أي: إنّهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس، فمن لم يستكمل بالإيمان والطاعة، ولم يتخلّق بالأخلاق المكتسبة، لم يستعدّ لدخولها. أو إنّكم مخلوقون من أجل ما تعلمون. وهو تكميل النفس بالعلم والعمل، فمن لم يستكملها لم يتبوّأ في منازل الكاملين.

( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) أي: نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم. وقيل: معناه: نعطي محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدلهم، وهو خير منهم، وهم الأنصار.( وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) بمغلوبين في كلّ ما أردنا. وهذا عطف

١٨٦

على جواب القسم.

ويفهم من هذا الكلام إنكارهم البعث، من حيث إنّه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل، وذلك قوله:( خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) أي: من النطف. وبالقدرة على أن يهلكهم ويبدّل ناسا خيرا منهم. وأنّه تعالى ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه، لا يعجزه شيء. والغرض أنّ من قدر على ذلك لم تعجزه الإعادة، وهم ينكرون ذلك عنادا ولجاجا مع علمهم بذلك.

( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ) في باطلهم( وَيَلْعَبُوا ) في دنياهم( حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) مرّ تفسيره في آخر سورة الطور(١) .

( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ) من القبور مسرعين. جمع سريع.( كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ ) شيء منصوب للعبادة، أو إلى علم نصب لهم( يُوفِضُونَ ) يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. وقرأ ابن عامر وحفص: نصب بضمّ النون والصاد. والباقون بفتح النون وسكون الصاد.

( خاشِعَةً ) ذليلة خاضعة( أَبْصارُهُمْ ) لا يرفعونها لذلّتهم( تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) تغشاهم مذلّة. وقد مرّ(٢) تفسيره أيضا.( ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) به في الدنيا فلا يصدّقون به ويجحدونه، وقد شاهدوه في تلك الحال.

__________________

(١) راجع ج ٦ ص ٤٩٧، ذيل الآية (٤٥) من سورة الطور.

(٢) راجع ص ١٥٣، ذيل الآية (٤٣) من سورة القلم.

١٨٧
١٨٨

(٧١)

سورة نوح

مكّيّة. وهي ثمان وعشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن قرأ سورة نوحعليه‌السلام ، كان من المؤمنين الّذين تدركهم دعوة نوحعليه‌السلام ».

أبو عبد اللهعليه‌السلام قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويقرأ كتابه، فلا يدع أن يقرأ سورة: «إنّا أرسلنا نوحا». فأيّ عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة، أسكنه الله مساكن الأبرار، وأعطاه ثلاث جنان مع جنّته كرامة من الله، وزوّجه مائتي حوراء وأربعة آلاف ثيّب إن شاء الله».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥)

١٨٩

فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة المعارج بوعيد أهل التكذيب، افتتح هذه السورة بذكر قصّة نوح وقومه وما نالهم بالتكذيب، تسلية لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ) بأن أنذرهم، فحذف الجارّ وأوصل الفعل. وهي «أن» الناصبة للفعل. والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له: أنذر، أي: بالأمر بالإنذار. ويجوز أن تكون مفسّرة، لتضمّن الإرسال معنى القول. والتقدير: قلنا له: أنذرهم.( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) عذاب الآخرة، أو الطوفان.

( قالَ يا قَوْمِ ) أضافهم إلى نفسه، فكأنّه قال: أنتم عشيرتي يسوءني ما يسوءكم( إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ) مرّ في الشعراء(١) نظيره. وفي «أن» يحتمل الوجهان.

__________________

(١) راجع ج ٥ ص ٣٨، ذيل الآية (١٠٨)

١٩٠

( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) بعض ذنوبكم، وهو ما سبق، فإنّ الإسلام يجبّه، فلا يؤاخذكم به في الآخرة. ولـمّا كانت ذنوبهم الّتي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق، لـما يكون في ذلك من الإغراء بالقبيح، قيّد سبحانه الغفران بـ «من» التبعيضيّة.

( وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) هو أقصى ما قدّر لكم بشرط الإيمان والطاعة.

مثل: ان قضى الله أنّ قوم نوح إن آمنوا عمّرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة. فقيل لهم: آمنوا يؤخّركم إلى وقت سمّاه الله وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه، وهو الوقت الأطول تمام الألف. وفيه دلالة على ثبوت أجلين.

ثمّ أخبر أنّه لو جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخّر كما يؤخّر هذا الوقت، ولم تكن فيه حيلة أصلا، فقال :

( إِنَّ أَجَلَ اللهِ ) أي: الأجل الأطول الأقصى الّذي قدّره الله( إِذا جاءَ ) وحلّ في الوقت المقدّر( لا يُؤَخَّرُ ) عن وقته، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير( لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك. وفيه أنّهم لانهماكهم في حبّ الحياة كأنّهم شاكّون في الموت.

( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي ) إلى عبادتك وخلع الأنداد من دونك( لَيْلاً وَنَهاراً ) أي: دائما من غير فتور، مستغرقا به الأوقات كلّها( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً ) نفارا عن الإيمان والطاعة من فرط العناد، وإدبارا عنّي. وإسناد الزيادة إلى الدعاء على السببيّة، كقوله:( فَزادَتْهُمْ إِيماناً ) (١) .

( وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ ) إلى الإيمان( لِتَغْفِرَ لَهُمْ ) أي: ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم بسببه. فذكر المسبّب الّذي هو حظّهم ليكون أقبح، لإعراضهم عنه.

__________________

(١) التوبة: ١٢٤.

١٩١

( جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ) أي: سدّوا أسماعهم عن استماع الدعوة( وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ) تغطّوا بها لئلّا يروني. والتعبير بصيغة الطلب للمبالغة، كأنّهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم أو تغشّيهم لئلّا يبصروه، كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله. وقيل: لئلّا يعرفهم. ويعضده قوله:( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ) (١) .

( وَأَصَرُّوا ) وأكبّوا على الكفر والمعاصي. مستعار من: أصرّ الحمار على العانة إذا صرّ(٢) أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها، للإقبال على المعاصي والإكباب عليها.( وَاسْتَكْبَرُوا ) عن اتّباعي( اسْتِكْباراً ) عظيما، أي: أخذتهم العزّة من اتّباعي وطاعتي. وفي ذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استكبارهم وعتوّهم.

قيل: إنّ الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح فيقول له: احذر هذا لا يغوينّك، فإنّ أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك، فحذّرني مثل ما حذّرتك.

( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ) أي: دعوتهم مرّة بعد اخرى وكرّة بعد أولى، على أيّ وجه أمكنني. وقد فعل نوحعليه‌السلام كما يفعل الّذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، في الابتداء بالأهون، والترقّي في الأشدّ فالأشدّ. فافتتح بالمناصحة في السرّ، فلمّا لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة، فلمّا لم تؤثّر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان. ومعنى «ثمّ» الدلالة على تباعد الأحوال، لأنّ الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.

و «جهارا» منصوب بـ «دعوتهم» نصب المصدر، لأنّ الدعاء أحد نوعيه

__________________

(١) هود: ٥.

(٢) العانة: القطيع من حمر الوحش. صرّ الفرس أذنه: سوّاها ونصبها للاستماع. وكدم كدما: عضّ بمقدّم فمه.

١٩٢

الجهار، فنصب به نصب القرفصاء(١) بـ: قعد، لكونها أحد أنواع القعود. أو لأنّه أراد بـ «دعوتهم» جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر: دعا، أي: دعاء جهارا، أي: مجاهرا به. أو مصدرا في موضع الحال، أي: مجاهرا.

( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) أي: اطلبوا منه المغفرة على كفركم ومعاصيكم( إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ) للتائبين. أمرهم بالاستغفار الّذي هو التوبة عن الكفر والمعاصي.

وكأنّهم لـمّا أمرهم بالعبادة قالوا: إن كنّا على حقّ فلا نتركه، وإن كنّا على باطل فكيف يقبلنا ويلطف بنا من عصيناه. فأمرهم بما يجبّ معاصيهم، ويجلب إليهم المنح.

وقيل: لـمّا طالت دعوتهم، وتمادى إصرارهم، حبّس الله عنهم القطر أربعين سنة، وروي سبعين، وأعقم أرحام نسائهم، فوعدهم بالمطر والخصب على الاستغفار عمّا كانوا عليه، فقال :

( يُرْسِلِ السَّماءَ ) المظلّة، لأنّ المطر منها ينزل إلى السحاب. أو السحاب.

أو المطر، من قوله: إذا نزل السماء بأرض قوم(٢) .

( عَلَيْكُمْ مِدْراراً ) كثير الدرور. ويستوي في مفعال المذكّر والمؤنّث، كقولهم: رجل أو امرأة معطار ومتفال. والآية سبب مشروعيّة الاستغفار في الاستسقاء.

( وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ ) بساتين من أنواع الثمار( وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) قدّم نوحعليه‌السلام إليهم الموعد بما هو أبلغ وأوقع في نفوسهم وأحبّ إليهم، من المنافع الحاضرة والفوائد العاجلة، ترغيبا في الإيمان وبركاته ،

__________________

(١) القرفصاء: هي أن يجلس الرجل على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه، أو يجلس على ركبتيه ويلصق بطنه بفخذيه. يقال: قعد القرفصاء، أي: قعد على الهيئة المذكورة.

(٢) وعجزه: رعيناه وإن كانوا غضابا

١٩٣

والطاعة ونتائجها من خير الدارين. كما قال:( وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ ) (١) .

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ ) (٢) .( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ) (٣) .( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ) (٤) .

وعن الحسن: أنّ رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر الله. وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلّة النسل، وآخر قلّة ريع أرضه. فأمرهم كلّهم بالاستغفار. فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا، فأمرتهم كلّهم بالاستغفار. فتلا هذه الآية.

وروى عليّ بن مهزيار، عن حمّاد بن عيسى، عن محمد بن يوسف، عن أبيه، قال: «سأل رجل أبا جعفرعليه‌السلام وأنا عنده فقال له: جعلت فداك إنّي كثير المال، وليس يولد لي ولد، فهل من حيلة؟ قال: نعم، استغفر ربّك سنة في آخر الليل مائة مرّة، فإن ضيّعت ذلك بالليل فاقضه بالنهار، فإنّ الله يقول:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) إلى آخره».

ثمّ قال نوح لقومه على وجه التبكيت:( ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ) أي: لا تأملون له توقيرا، أي: تعظيما لمن عبده وأطاعه، فتكونوا على حال تأملون فيها تعظيمه إيّاكم في دار الثواب. و «لله» بيان للموقّر، ولو تأخّر لكان صلة للوقار. أو لا تعتقدون له عظمة، فتخافوا عصيانه. والمعنى: لا تعظّمون الله حقّ تعظيمه، فتعبدوه حقّ عبادته. وإنّما عبّر عن الاعتقاد بالرجاء التابع لأدنى الظنّ مبالغة. وعن ابن

__________________

(١) الصفّ: ١٣.

(٢) الأعراف: ٩٦.

(٣) المائدة: ٦٦.

(٤) الجنّ: ١٦.

١٩٤

عبّاس: لا تخافون لله عاقبة، لأنّ العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب. من: وقر إذا ثبت واستقرّ.

( وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً ) حال مقرّرة للإنكار، من حيث إنّها موجبة للرجاء.

كأنّه قال: مالكم لا تؤمنون بالله والحال هذه، فإنّها حال موجبة للإيمان به، لأنّه خلقكم تارات، أي: تارة بعد تارة وحالة بعد حالة، بأن خلقكم أوّلا عناصر، ثمّ مركّبات تغذّى بها الإنسان، ثمّ نطفا، ثمّ علقا، ثمّ مضغا، ثمّ عظاما ولحما، ثمّ أنشأكم خلقا آخر، وهو إيلاج الروح إلى البدن، فإنّه يدلّ على أنّه يعيدكم تارة اخرى فيعطيكم الثواب، وعلى أنّه تعالى عظيم القدرة تامّ الحكمة.

وقيل: معناه: خلقكم صبيانا، ثمّ شبّانا، ثمّ شيوخا.

وقيل: خلقكم مختلفين في الصفات، أغنياء وفقراء، وزمنى وأصحّاء، وطوالا وقصارا. والآية محتملة للجميع.

( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) )

ثمّ أتبع ذلك ما يؤيّده من آيات الآفاق، فقال:( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ) طبقا فوق طبق( وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ) أي: في السماوات. وهو في السماء الدنيا، وإنّما نسب إليهنّ لـما بينهنّ من الملابسة، من حيث إنّها طباق، فجاز أن يقال: فيهنّ كذا، وإن لم يكن في جميعهنّ، كما يقال: في المدينة كذا، وهو

١٩٥

في بعض نواحيها.

( وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) يبصر أهل الدنيا في ضوئها، كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره. فمثّلها به لأنّها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض، كما يزيلها السراج عمّا حوله. والقمر ليس كذلك، وإنّما هو نور لم يبلغ قوّة ضياء الشمس. ومثله قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ) (١) . والضياء أقوى من النور.

وعن ابن عبّاس وابن عمر: أنّ الشمس والقمر وجوههما ممّا يلي السماء، وظهورهما ممّا يلي الأرض.

( وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) أنشأكم منها. فاستعير الإنبات للإنشاء، كما يقال: زرعك الله للخير. وكانت هذه الاستعارة أدلّ على الحدوث والتكوّن من الأرض، لأنّهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات. ومنه قيل للحشويّة: النابتة والنوابت، لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير أوّليّة لهم فيه.

وأصله: أنبتكم إنباتا فنبتّم نباتا، فاختصر اكتفاء بالدلالة الالتزاميّة.

( ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها ) مقبورين( وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً ) بالحشر. وأكّده بالمصدر كما أكّد به الأوّل، دلالة على أنّ الإعادة محقّقة كالإبداء. فكأنّه قال: يخرجكم حقّا ولا محالة.

( وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ) مبسوطة تتقلّبون عليها كما يتقلّب الرجل على بساطه( لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً ) واسعة. جمع فجّ. و «من» لتضمّن الفعل معنى الاتّخاذ.

عدّد الله سبحانه هذه الضروب من النعم، فنبّههم سبحانه أوّلا على النظر في أنفسهم، لأنّها أقرب منظور فيه منهم. ثمّ على النظر في العالم وما سوّى فيه من

__________________

(١) يونس: ٥.

١٩٦

العجائب الشاهدة على الصانع الباهر قدرته وعلمه، من السماوات والأرض والشمس والقمر، امتنانا عليهم، وتنبيها لهم على استحقاق خالقها للعبادة خالصة من كلّ شرك وندّ، ودلالة لهم على أنّه عالم بمصالحهم، ومدبّر لهم على ما تقتضيه الحكمة، فيجب أن لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر والجحود.

( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨) )

( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ) فيما أمرتهم به( وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً ) واتّبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترّين بأولادهم، بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم وهلاكهم في الآخرة. وفيه أنّهم إنّما اتّبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال والأولاد، وأدّت إلى الخسار. وأجرى ذلك مجرى

١٩٧

صفة لازمة لهم وسمة يعرفون بها، تحقيقا له وتثبيتا، وإبطالا لـما سواه.

وقرأ ابن كثير والكسائي والبصريّان: وولده بالضمّ والسكون، على أنّه لغة، كالحزن والحزن، أو جمع كالأشد.

( وَمَكَرُوا ) عطف على «لم يزده». والضمير لـ «من». وجمعه للمعنى.( مَكْراً كُبَّاراً ) كبيرا في الغاية، فإنّه أبلغ من: كبار، وهو أكبر من: كبير. ونحوه: طوال وطوّال. ومكرهم: احتيالهم في الدين، وكيدهم لنوح، وتحريش السفلة على أذاه، وصدّهم عن الميل إليه.

( وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) أي: عبادتها( وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا ) كانت هذه أكبر أصنامهم، وأعظمها عندهم، وأشهرها بينهم، فخصّوها بعد قولهم:( لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) . ثمّ قالوا:( وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ) أي: لا تذرنّ هؤلاء أيضا خصوصا. وقرأ نافع: ودّا بالضمّ. ومنع صرف «يغوث» و «يعوق» للعلميّة والعجمة.

قيل: هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح، فلمّا ماتوا قال إبليس لمن بعدهم: لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة، ففعلوا. فلمّا مات أولئك قال لمن بعدهم: إنّهم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم، وقد انتقلت إلى العرب.

وكان ودّ لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير.

ولهذا سمّيت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث.

وقال الواقدي: كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر.

وروى ابن عبّاس: كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند، ويحول بينه وبين الكفّار لئلّا يطوفوا بقبره. فقال لهم إبليس: إنّ هؤلاء يفخرون عليكم، ويزعمون أنّهم بنو آدم دونكم، وإنّما هو جسد، وأنا أصوّر لكم مثله تطيفون به.

فنحت خمسة أصنام، وحملهم على عبادتها. وهي: ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق ،

١٩٨

ونسر. فلمّا كان أيّام الغرق دفن الطوفان تلك الأصنام، فطمّها التراب، فلم تزل مدفونة حتّى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. فاتّخذت قضاعة ودّا، فعبدوها بدومة الجندل، ثمّ توارثها بنوه الأكابر حتّى صارت إلى كلب، فجاء الإسلام وهو عندهم. وأخذ بطنان من طيّ يغوث، فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثمّ إنّ بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم، ففرّوا به إلى بني الحرث بن كعب. وأمّا يعوق فكان لكهلان، ثمّ توارثه بنوه الأكبر فالأكبر حتّى صار إلى همدان. وأمّا نسر فكان لخثعم يعبدونه. وأمّا سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه.

وروي عن عطاء وقتادة والثمالي: أنّ أوثان قوم نوح صارت إلى العرب، فكان ودّ بدومة الجندل، وسواع برهاط لهذيل. وكان يغوث لبني غطيف من مراد، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير، وكان اللات لثقيف. وأمّا العزى فلسليم وغطفان وجشم ونضر وسعد بن بكر. وأمّا مناة فكانت لقديد. وأمّا أساف ونائلة وهبل فلأهل مكّة. وكان أساف حيال الحجر الأسود. وكانت نائلة حيال الركن اليماني. وكان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعا.

( وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ) الضمير للرؤساء، أو للأصنام، كقوله تعالى:( إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً ) (١) ( وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً ) عطف على( رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ) على حكاية كلام نوحعليه‌السلام بعد: «قال». ومعناه: قال: ربّ إنّهم عصوني، وقال: لا تزد الظالمين إلّا ضلالا، أي: قال هذين القولين. وهما في محلّ النصب، لأنّهما مفعولا «قال». كقولك: قال زيد: نودي للصلاة وصلّ في المسجد، تحكي قوليه معطوفا أحدهما على صاحبه.

وأراد نوح بالضلال أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف، لتصميمهم على الكفر، ووقوع اليأس من إيمانهم. وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به، بل لا يحسن الدعاء

__________________

(١) إبراهيم: ٣٦.

١٩٩

بخلافه. فكأنّه قال: إلّا منعا من الطاعات، عقوبة لهم على رسوخهم في الكفر وعتوّهم وعنادهم.

ويجوز أنّهعليه‌السلام أراد الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم، لا في أمر دينهم. أو الضياع والهلاك، كقوله:( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) (١) .

فاستجاب الله سبحانه دعاءه، وأهلكهم جميعا بالإغراق، كما حكاه سبحانه عنه بقوله:( مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ ) من أجل خطيئاتهم الكثيرة وذنوبهم العظيمة. و «ما» مزيدة للتأكيد والتفخيم. وقرأ أبو عمرو: ممّا خطاياهم.( أُغْرِقُوا ) بالطوفان( فَأُدْخِلُوا ناراً ) عذاب الآخرة. وتقديم( مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ ) لبيان أنّه لم يكن إغراقهم بالطوفان فإدخالهم النار إلّا من أجل خطيئاتهم. ولهذا أكّد هذا المعنى بزيادة «ما».

والفاء التعقيبيّة لبيان عدم الاعتداد بما بين الإغراق والإدخال، لاقترابه، ولأنّه كائن لا محالة. أو لأنّ المسبّب كالمتعقّب للسبب وإن تراخى عنه، لفقد شرط أو وجود مانع. أو أريد عذاب القبر، فإنّ من مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع والطير أصابه ما يصيب المقبور من العذاب. وعن الضحّاك: وكانوا يغرقون من جانب، ويحترقون من جانب.

وتنكير النار للتعظيم، أو لأنّ الله أعدّ لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النيران.

( فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً ) تعريض لهم باتّخاذ آلهة من دون الله لا تقدر على نصرهم. وتهكّم بهم، كأنّه قال: فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، كقوله:( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا ) (٢) .

( وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) نازل دار، أي: لا تدع منهم أحدا إلّا أهلكته. وهو من الأسماء المستعملة في النفي العامّ. يقال: ما بالدار

__________________

(١) القمر: ٤٧.

(٢) الأنبياء: ٤٣.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579