زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579
المشاهدات: 48298
تحميل: 3435


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48298 / تحميل: 3435
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-09-4
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بالعمل، والثاني في ترك المحارم، لاقترانه بما يجري مجرى الوعيد، وهو قوله:( إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ ) تركوا أداء حقّ الله( فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) فجعلهم ناسين لها بالخذلان حتّى لم يسمعوا ما ينفعها، ولم يفعلوا ما يخلّصها. أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم. أو حرّمهم حظوظهم من الخير والثواب.( أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) الكاملون في الفسوق. وهم الكفّار المصرّون على كفرهم.

( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤) )

ثمّ بيّن سبحانه ضعة الكافرين ورفعة المؤمنين، فقال:( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ ) أي: الّذين استمهنوا نفوسهم فاستحقّوا النار( وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ) والّذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا الجنّة. واحتجّ به أصحابنا والشافعيّة على أنّ المسلم

٢١

لا يقتل بالكافر.( أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ ) بالنعيم المقيم.

ثمّ عظّم سبحانه حال القرآن وجلالة قدره، فقال:( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ) تمثيل وتخييل، كما مرّ في قوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ) (١) . ولذلك عقّبه بقوله:( لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً ) متشقّقا( مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ ) إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله الأخر، فإنّها في مواضع من التنزيل( نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .

والمعنى: لو كان الجبل ممّا ينزل عليه القرآن ويشعر به، مع غلظه وجفاء طبعه، وكبر جسمه، لخشع لمنزله، فانصدع من خشيته تعظيما لشأنه، فالإنسان أحقّ بهذا لو عقل الأحكام الّتي فيه. والمراد توبيخ الإنسان على عدم تخشّعه عند تلاوة القرآن، لقساوة قلبه، وقلّة تدبّره.

ثمّ أخبر سبحانه بربوبيّته وعظمته، فقال:( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) أي: هو المستحقّ للعبادة الّذي لا تحقّ العبادة إلّا له( عالِمُ الْغَيْبِ ) ما غاب عن الحسّ، من الجواهر القدسيّة وأحوالها( وَالشَّهادَةِ ) وما حضر له وشاهد من الأجرام وأعراضها( هُوَ الرَّحْمنُ ) المنعم على جميع خلقه فعلا وقوّة( الرَّحِيمُ ) بالمؤمنين.

( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) كرّره للتأكيد والمبالغة( الْمَلِكُ ) السيّد المالك لجميع الأشياء الّذي له التصرّف فيها على وجه ليس لأحد منعه منه. وقيل: هو الواسع القدرة.( الْقُدُّوسُ ) البليغ في النزاهة عمّا يوجب نقصانا. ونظيره: السبّوح بناء ومعنى.( السَّلامُ ) ذو السلامة من كلّ نقص وآفة. أو الّذي سلم العباد من ظلمه. أو من عنده ترجى السلامة. ومنه: دار السلام. مصدر وصف به للمبالغة في وصف كونه سليما من النقائص، أو في إعطائه السلامة.

( الْمُؤْمِنُ ) واهب الأمن. أو الّذي أمن أولياؤه عذابه( الْمُهَيْمِنُ ) الرقيب

__________________

(١) الأحزاب: ٧٢.

٢٢

على كلّ شيء، الحافظ له. وعن ابن عبّاس والضحّاك والجبائي: الأمين الّذي لا يضيع لأحد عنده حقّ. مفيعل من الأمن، قلبت همزته هاء.( الْعَزِيزُ ) المنيع الّذي لا يرام، ولا يمتنع عليه مرام( الْجَبَّارُ ) القاهر الّذي جبر خلقه على ما أراد. أي: أجبره. أو الّذي جبر حال خلقه، بمعنى: أصلحه.( الْمُتَكَبِّرُ ) الّذي تكبّر عن كلّ ما يوجب حاجة أو نقصانا. وقيل: المتكبّر عن ظلم عباده.( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يشركون به من الأصنام، إذ لا يشاركه في شيء من ذلك.

( هُوَ اللهُ الْخالِقُ ) المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته( الْبارِئُ ) الموجد لها بريئا من التفاوت. أو المميّز بعضها من بعض بالأشكال المختلفة.( الْمُصَوِّرُ ) الموجد لصورها وكيفيّاتها كما أراد( لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) نحو: الله، الرحمن، الرحيم، القادر، العالم، الحيّ، القيّوم، وغيرها، فإنّها دالّة على محاسن المعاني( يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) أي: ينزّهه جميع الأشياء عن النقائص كلّها.

فالحيّ يصفه بالتنزيه، والجماد يدلّ على تنزيهه.( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الجامع للكمالات بأسرها، فإنّها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.

عن أبي هريرة: سألت حبيبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اسم الله الأعظم، فقال: «عليك بآخر الحشر، فأكثر قراءته».

فأعدت عليه فأعاد عليّ، فأعدت عليه فأعاد عليّ.

وروى أيضا سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسم الله الأعظم في ستّ آيات في آخر سورة الحشر».

٢٣
٢٤

(٦٠)

سورة الممتحنة

مدنيّة. وهي ثلاث عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ سورة الممتحنة، كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة».

أبو حمزة الثمالي، عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه ونوافله، امتحن الله قلبه للإيمان، ونوّر له بصره، ولا يصيبه فقر أبدا، ولا جنون في بدنه ولا في ولده».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ

٢٥

بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) )

ولـمّا ذكر سبحانه في سورة الحشر الكفّار والمنافقين، افتتح هذه السورة بذكر تحريم موالاتهم، وإيجاب معاداتهم، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) توصلون إليهم المودّة بالمكاتبة. والباء مزيدة مؤكّدة للتعدّي، مثلها في( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (١) . أو ثابتة على أنّ مفعول «تلقون» محذوف، معناه: تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة الّتي بينكم وبينهم.

والجملة حال من فاعل «لا تتّخذوا». أو صفة لـ «أولياء» جرت على غير من هي له.

ولا حاجة فيها إلى إبراز الضمير، لأنّه مشروط في الاسم دون الفعل.

روي: أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة، أتت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة وهو يتجهّز لفتح مكّة، فقال لها: أمسلمة جئت؟

قالت: لا.

قال: أفمهاجرة جئت؟

قالت: لا.

قال: فما جاء بك؟

قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي ـ يعني: قتلوا يوم بدر ـ فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني.

قال: فأين أنت من شبّان مكّة؟ وكانت مغنّية نائحة.

__________________

(١) البقرة: ١٩٥.

٢٦

قالت: ما طلب منّي بعد وقعة بدر.

فحثّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها بني عبد المطّلب، فكسوها وحمّلوها وزوّدوها.

فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بردا، واستحملها كتابا إلى أهل مكّة، نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة: اعلموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريدكم، فخذوا حذركم.

فخرجت سارة. ونزل جبرئيل بالخبر، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاعليه‌السلام وعمّارا والمقداد وأبا مرثد وعمر وطلحة والزبير، وكانوا فرسانا، وقال: انطلقوا حتّى تأتوا روضة(١) خاخ، فإنّ بها ظعينة(٢) معها كتاب من حاطب إلى أهل مكّة، فخذوه منها وخلّوها، فإن أبت فاضربوا عنقها. فأدركوها فجحدت وحلفت. فهمّوا بالرجوع، فقال عليّعليه‌السلام : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله. وسلّ سيفه وقال: أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك. فأخرجته من عقاص(٣) شعرها.

وروي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّن جميع الناس يوم الفتح إلّا أربعة، هي أحدهم.

فاستحضر رسول الله حاطبا وقال: ما حملك عليه؟

فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن كنت امرءا ملصقا في قريش، وروي: غريرا فيهم ـ أي: غريبا ـ ولم أكن من أنفسها، وكلّ من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكّة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي، فأردت أن اتّخذ عندهم يدا، وقد علمت أنّ الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدّقه

__________________

(١) خاخ: موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة. معجم البلدان ٢: ٣٣٥.

(٢) الظعينة: الزوجة أو المرأة ما دامت في الهودج أو عموما.

(٣) عقاص جمع عقيصة، وهي ضفيرة الشعر، أي: ما شدّته من شعرها في قفاها.

٢٧

وقبل عذره.

فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق.

فقال: وما يدريك يا عمر، لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

فقال عمر: الله ورسوله أعلم.

فنهى الله سبحانه المؤمنين عن موالاتهم الكافرين، وأوجب معاداتهم إيّاهم، بقوله:( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) .

( وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ ) وهو حال من فاعل أحد الفعلين. والحقّ الإسلام.

( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ) أي: من مكّة. وهو حال من «كفروا».

أو استئناف لبيان كفرهم وعتوّهم.( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ ) تعليل لـ «يخرجون» أي: يخرجونكم لإيمانكم بالله. وفيه تغليب المخاطب، والالتفات من التكلّم إلى الغيبة، للدلالة على ما يوجب الإيمان.

( إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ ) متعلّق بـ «لا تتّخذوا» يعني: تتولّوا أعدائي إن كنتم خرجتم عن أوطانكم( جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي ) علّة للخروج، وعمدة للتعليق. وجواب الشرط محذوف دلّ عليه «لا تتّخذوا». والمعنى: إن كان غرضكم في خروجكم وهجرتكم الجهاد وطلب رضائي، فأوفوا خروجكم حقّه من معاداتهم، ولا تلقوا إليهم بالمودّة، ولا تتّخذوهم أولياء.

( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) بدل من «تلقون» أو استئناف. ومعناه: أيّ طائل لكم في إسرار المودّة، أو الإخبار بسبب المودّة.( وَأَنَا أَعْلَمُ ) منكم( بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ ) أي: وقد علمتم أنّ الإخفاء والإعلان سيّان في علمي لا تفاوت بينهما، وأنا مطلع رسولي على ما تسرّون. وقيل: «أعلم» مضارع، والباء مزيدة، و «ما» مصدريّة.

٢٨

( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ ) أي: يفعل الاتّخاذ والإسرار( فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ) أخطأ طريق الحقّ والصواب.

( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ ) يظفروا بكم( يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ) خالصي العداوة، ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم، ولا ينفعكم إلقاء المودّة إليهم( وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ) بما يسوؤكم، كالقتل والشتم( وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) وتمنّوا ارتدادكم. فإذن مودّة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم، ومغالطة لأنفسكم.

ومجيئه بلفظ الماضي للإشعار بأنّهم ودّوا أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا والدين جميعا، من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض، وردّكم كفّارا.

( لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ ) قراباتكم( وَلا أَوْلادُكُمْ ) الّذين توالون المشركين لأجلهم، وتتقرّبون إليهم محاماة عليهم( يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ) يفرّق بينكم وبين أقاربكم وأولادكم( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) (١) الآية. فما لكم ترفضون حقّ الله اليوم لمن يفرّ منكم غدا.( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

وقرأ حمزة والكسائي بالتشديد وكسر الصاد وفتح الفاء. وابن عامر: يفصّل على البناء للمفعول مع التشديد، وهو «بينكم». وعاصم: يفصل.

__________________

(١) عبس: ٣٤.

٢٩

( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) )

ثمّ ضرب سبحانه لهم إبراهيمعليه‌السلام مثلا في ترك موالاة الكفّار، فقال:( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ ) قدوة( حَسَنَةٌ ) وهو اسم لـما يؤتسى به، أي: ما تأتسون به وتتّخذونه سنّة تستنّون بها. والمعنى: قد كان فيهم مذهب حسن وطريق مرضيّ بأن يؤتسى به ويتبع أثره.( فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) صفة ثانية. أو خبر «كان» و «لكم» لغو. أو حال من المستكن في «حسنة». أو صلة لها، لا لـ «أسوة» لأنّها وصفت.

( إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ ) ظرف لخبر «كان»( إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ ) فلا نواليكم. جمع بريء، كظريف وظرفاء.( وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ ) أي: بدينكم أو بمعبودكم، أو بكم وبه، فلا نعتدّ بشأنكم وآلهتكم( وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ) أي: سبب العداوة والبغضاء بيننا وبينكم ليس إلّا كفركم بالله، فما دام هذا السبب قائما كانت العداوة قائمة، حتّى إن أزالوه بالإيمان بالله وحده انقلبت العداوة والبغضاء ألفة ومحبّة.

( إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ) لعمّه الّذي بمنزلة أبيه في التربية( لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) استثناء من قوله: «أسوة حسنة» فإنّ استغفاره لأبيه ـ أي: عمّه ـ الكافر ليس ممّا ينبغي أن يأتسوا به، فإنّه كان لموعدة وعدها إيّاه، فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله تبرّأ منه( وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ) إذا أراد عقابك، ولا يمكنني دفع ذلك عنك. وهذا من تمام الاستثناء، ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أجزائه.

( رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا ) فوّضنا أمرنا إليك( وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ) وإلى طاعتك مرجعنا

٣٠

( وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) وإلى حكمك المرجع. وهذا المنادي متّصل بما قبل الاستثناء، أو أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه تتميما لـما وصّاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفّار.

( رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) بأن تسلّطهم علينا تخلية، فيفتنونا بعذاب لا نتحمّله( وَاغْفِرْ لَنا ) ما فرط منّا( رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ) الّذي لا يغالب( الْحَكِيمُ ) الّذي لا يفعل إلّا الحكمة والصواب. ومن كان كذلك كان حقيقا بأن يجير المتوكّل، ويجيب الداعي ولا يخيبه.

( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) كرّره للمبالغة، ولمزيد الحثّ على التأسّي بإبراهيم وأتباعه. وأبدل قوله:( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) إبدالا من «لكم»، فإنّه يدلّ على أنّه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسّي بهم، وأنّ تركه مؤذن بسوء العقيدة. ولذلك عقّبه بقوله:( وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) فإنّه جدير بأن يوعد به الكفرة، فإنّ معناه: ومن يعرض عن هذا الاقتداء بإبراهيم والأنبياء والمؤمنين، فإنّ الله هو الغنيّ عن ذلك، المحمود في جميع أفعاله، فلا يضرّه تولّيه، ولكنّه ضرّ نفسه.

( عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) )

٣١

ولـمّا نزل «لا تتّخذوا» تشدّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين ومقاطعتهم، فلمّا راى الله منهم الجدّ والصبر على الوجه الشديد، وطول التمنّي للسبب الّذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة، رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنّوه، فقال :

( عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ) بتوفيق الإسلام.

وذلك حين يسّر فتح مكّة أظفرهم الله بأمنيّتهم، فأسلم قومهم، وتمّ بينهم التحابب والتصافي. و «عسى» وعد من الله على عادات الملوك، حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعلّ، فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك. أو قصد به إطماع المؤمنين.

وروي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج أمّ حبيبة، فعند ذلك لانت عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة. وكانت أمّ حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبد الله بن أبي جحش إلى الحبشة، فتنصّر وأرادها على النصرانيّة، فأبت وصبرت على دينها. ومات زوجها، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشي، فخطبهاعليه‌السلام ، وساق عنه إليها المهر أربعمائة دينار. وبلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يقدع(١) أنفه.

( وَاللهُ قَدِيرٌ ) على تقليب القلوب من العداوة إلى المحبّة، وتسهيل أسباب المودّة( وَاللهُ غَفُورٌ ) لذنوب عباده( رَحِيمٌ ) بهم إذا تابوا وأسلموا. أو غفور رحيم لـما فرط منكم من موالاتهم من قبل، ولما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.

( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ) أي: لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء، لأنّ قوله:( أَنْ تَبَرُّوهُمْ ) بدل من «الّذين».

( وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) وتفضوا إليهم بالقسط، أي: العدل. والمعنى: لا ينهاكم الله

__________________

(١) أي: لا يضرب أنفه ولا يكفّ.

٣٢

عن مبرّة هؤلاء، وإنّما ينهاكم عن تولّي هؤلاء.( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) العادلين.

وهذا أيضا رحمة لهم، لتشدّدهم وجدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته، بتيسير إسلام قومهم، حيث رخّص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم.

وقيل: أراد بهم خزاعة، وكانوا صالحوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه.

وعن مجاهد: هم النساء والصبيان.

وقيل: قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزّى وهي مشركة بهدايا، فلم تقبلها، ولم تأذن لها بالدخول، فنزلت. فأمرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تدخلها، وتقبل منها، وتكرمها، وتحسن إليها.

وقيل: إنّ المسلمين استأمروا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يبرّوا أقرباءهم من المشركين، وذلك قبل أن يؤمروا بقتال جميع المشركين، فنزلت هذه الآية.

وعن مجاهد: هي منسوخة بآية(١) القتال.

والّذي عليه الإجماع أنّ برّ الرجل من يشاء من أهل الحرب ـ قرابة كان أو غير قرابة ـ ليس بمحرّم. وإنّما الخلاف في إعطائهم مال الزكاة والفطرة والكفّارات، فلم يجوّزه أصحابنا، والعامّة اختلفوا فيه. وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به، ويتحاموا ظلمهم، مترجمة عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم.

( إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ ) كمشركي مكّة، فإنّ رؤساءهم سعوا في إخراج المؤمنين، وأتباعهم عاونوا رؤساءهم على الإخراج( أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ) بدل من «الّذين» بدل الاشتمال ،

__________________

(١) التوبة: ٥.

٣٣

أي: ينهاكم الله عن أن تولّوهم وتوادّوهم بالمكاتبة وغيرها من أسباب التوادّ.

( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ ) وينصرهم( فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) لوضعهم الولاية في غير موضعها.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) )

عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا صالح بالحديبية مشركي مكّة، على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم، ومن أتى أهل مكّة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو لهم ولم يردّوه عليه، وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلميّة مسلمة بعد الفراغ من الكتاب والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحديبية. فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم ـ وقال مقاتل: هو صيفي بن الراهب ـ في طلبها، وكان كافرا، فقال: يا محمّد اردد عليّ امرأتي، فإنّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا، وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد. فنزلت الآية بيانا لأنّ الشرط إنّما كان

٣٤

في الرجال دون النساء.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ ) فاختبروهنّ بما يغلب على ظنّكم موافقة قلوبهنّ لسانهنّ في الإيمان( اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ ) فإنّه المطّلع على ما في قلوبهنّ، فلا سبيل لكم إلى ما تطمئنّ به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهنّ، فإنّ ذلك ممّا استأثر به علّام الغيوب، وأنّ ما يؤدّي إليه الامتحان من العلم كاف لكم في ذلك، وأنّ تكليفكم لا يعدوه.

( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ) العلم الّذي يمكنكم تحصيله، وهو الظنّ الغالب بالحلف وظهور الأمارات. وإنّما سمّاه علما إيذانا بأنّه كالعلم في وجوب العمل به.

( فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) أي: إلى أزواجهنّ الكفرة، لقوله:( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ ) والتكرار للمبالغة. أو الأولى لحصول الفرقة، والثانية للمنع عن استئناف العقد. وفيه دلالة على وقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة، وإن لم يطلّق المشرك.

( وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ) ما دفعوا إليهنّ من المهور. وذلك لأنّ صلح الحديبية جرى على أنّ من جاءنا منكم رددناه، فلمّا تعذّر عليه ردّهنّ لورود النهي عنه لزمه ردّ المهر. فاستحلفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، وتزوّجها عمر.

( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) أيّها المسلمون( أَنْ تَنْكِحُوهُنَ ) فإنّ الإسلام حال بينهنّ وبين أزواجهنّ الكفّار( إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) شرط إيتاء المهر في نكاحهنّ إيذانا بأنّ ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر، وإشعارا بأنّ المهر أجر البضع، ووجب على الامام أو نائبه أن يدفع إلى أزواجهنّ من بيت المال ما سلّموهنّ من المهور.

ثمّ نهى المؤمنين عن نكاح الكافرات بقوله:( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ )

٣٥

بما يعتصم به الكافرات من عقد وسبب. جمع عصمة. والمعنى: لا تكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجيّة. وفيه دلالة على عدم جواز العقد على الكافرة، سواء كانت حربيّة أو ذمّيّة، لعموم لفظ الكوافر.( وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ ) من مهور نسائكم اللاحقات بالكفّار( وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ) من مهور أزواجهم المهاجرات.

( ذلِكُمْ ) إشارة إلى جميع ما ذكر في الآية( حُكْمُ اللهِ ) وأمره( يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ) استئناف، أو حال من الحكم على حذف الضمير، أي: يحكمه الله. أو جعل الحكم حاكما على المبالغة.( وَاللهُ عَلِيمٌ ) بجميع الأشياء( حَكِيمٌ ) فيما يفعل، ومن ذلك شرع ما تقتضيه حكمته.

قال الحسن: كان في صدر الإسلام تكون المسلمة تحت الكافر، والكافرة تحت المسلم، فنسخته هذه الآية.

وروي: أنّه لـمّا نزلت الآية أدّى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ المشركين، وأبى المشركون أن يؤدّوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهنّ المسلمين، فنزلت :

( وَإِنْ فاتَكُمْ ) وإن سبقكم وانفلت منكم( شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) أحد من أزواجكم. وإيقاع «شيء» موقعه للتحقير والمبالغة في التعميم. أو شيء من مهورهنّ.( إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ ) فجاءت عقبتكم: أي: نوبتكم من أداء المهر. شبّه الحكم بأداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء اخرى، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره.( فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ ) فآتوا أيّها الحكّام من فاتته امرأته من بيت المال أو الغنيمة( مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ) مثل مهر المهاجرة، ولا تؤتوه زوجها الكافر.

وقيل: معناه: إن غزوتم فأصبتم من الكفّار عقبى ـ هي الغنيمة ـ فأتوا الزوج الّذي فاتته امرأته إلى الكفّار من رأس الغنيمة ما أنفقه من مهرها.

٣٦

( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) فإنّ الإيمان به يقتضي التقوى منه.

قيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعات عن الإسلام ستّ نسوة: أمّ الحكم بنت أبي سفيان، كانت تحت عياض بن شدّاد الفهري. وفاطمة بنت أبي أميّة، كانت تحت عمر بن الخطّاب، وهي أخت أمّ سلمة.

وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان. وعبدة بنت عبد العزّى بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبد ودّ. وهند بنت أبي جهل، كانت تحت هشام بن العاص.

وكلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر. فأعطاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهور نسائهم من الغنيمة.

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) )

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة بيعة النساء، بعد أخذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيعة من الرجال، فقال :

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً ) من الأصنام وغيرها( وَلا يَسْرِقْنَ ) مال الأزواج وغيرهم( وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ ) يريد وأد البنات والإسقاط( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ ) .

قيل: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. فكنّى

٣٧

بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الّذي تلصقه بزوجها كذبا، لأنّ بطنها الّذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الّذي تلده به بين الرجلين.

( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) في حسنة تأمرهنّ بها. والتقييد بالمعروف ـ مع أنّ الرسول لا يأمر إلّا به ـ تنبيه على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقّي والاجتناب.

قيل: هذا نهي عن النوح، وتمزيق الثياب، وجزّ الشعر، وشقّ الجيب، وخمش الوجه، والدعاء بالويل. والأصل أنّ المعروف كلّ ما دلّ العقل والسمع على وجوبه أو ندبه. وسمّي معروفا، لأنّ العقل يعترف به من جهة عظم حسنه.

( فَبايِعْهُنَ ) إذا بايعنك بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء.( وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ ) صفوح عنهنّ( رَحِيمٌ ) منعم عليهنّ.

روي: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا فرغ يوم فتح مكّة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا، وكان عمر أسفل منه، وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة مع النساء خوفا أن يعرفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئا.

فقالت هند: إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال. وذلك أنّه بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولا تسرقن.

فقالت هند: إنّ أبا سفيان رجل ممسك، وإنّي أصبت من ماله هنات، فلا أدري أيحلّ لي أم لا؟

فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال.

فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرفها، فقال لها: فإنّك لهند بنت عتبة؟

قالت: نعم، فاعف عمّا سلف يا نبيّ الله، عفا الله عنك.

٣٨

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولا تزنين.

فقالت: أو تزني الحرّة؟

فتبسّم عمر بن الخطّاب لـما جرى بينه وبينها في الجاهليّة.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولا تقتلنّ أولادكنّ.

فقالت: ربّيناهم صغارا، وقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يوم بدر.

فضحك عمر حتّى استلقى. وتبسّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولـمّا قال: ولا تأتين ببهتان.

قالت هند: والله إنّ البهتان قبيح، وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق.

ولـمّا قال: ولا يعصينك في معروف.

قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

وروى الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: أن لا يشركن بالله شيئا، وما مسّت يد رسول الله يد امرأة قطّ إلّا يد امرأة يملكها. رواه البخاري في الصحيح(١) .

وروي: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده، ثمّ غمسن أيديهنّ فيه.

وقيل: إنّه كان يبايعهنّ من وراء الثوب. عن الشعبي.

والوجه في بيعة النساء مع أنّهنّ لسن من أهل النصرة بالمحاربة: هو أخذ العهد عليهنّ بما يصلح من شأنهنّ في الدين والأنفس والأزواج، وكان ذلك في صدر الإسلام، ولئلّا ينفتق بهنّ فتق لـما وضع من الأحكام، فبايعهنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسما لذلك.

__________________

(١) صحيح البخاري ٩: ٩٩.

٣٩

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣) )

روي: أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزلت :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) يعني: اليهود. وقيل: عامّة الكفّار.

( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ ) قد يئسوا من أن يكون لهم حظّ في الآخرة، لكفرهم بها، أو لعلمهم بأنّه لا حظّ لهم فيها، لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة، المؤيّد بالآيات( كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ) من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء، أو يثابوا، أو ينالهم خير منهم. وعلى الثاني وضع الظاهر فيه موضع الضمير، للدلالة على أنّ الكفر آيسهم.

وقيل:( مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ) بيان للكفّار، أي: كما يئس الكفّار الّذين قبروا من خير الآخرة، لأنّهم تبيّنوا قبح حالهم وسوء منقلبهم.

٤٠