زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579
المشاهدات: 48291
تحميل: 3435


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48291 / تحميل: 3435
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-09-4
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والكافر لا يستحقّ المزيد. روي: أنّه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله حتّى هلك.

( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) سأغشيه عقبة شاقّة المصعد. وهو مثل لـما يلقى من الشدائد الّتي لا يطاق. وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثمّ يهوي فيه كذلك أبدا».

وعنه أيضا: «يكلّف أن يصعد عقبة من النار كلّما وضع عليها يده ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت».

وعن الكلبي: هو جبل من صخرة ملساء في النار يكلّف أن يصعدها، حتّى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، تمّ يكلّف أن يصعدها، فذلك دأبه أبدا، يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة.

ثمّ علّل للوعيد المذكور، أو بيّن عناده ووصف أشكاله الّتي تشكّل بها بقوله :

( إِنَّهُ فَكَّرَ ) فيما يخيّل طعنا في القرآن( وَقَدَّرَ ) في نفسه ما يقول فيه وهيّأه( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) تعجيب من تقديره استهزاء به. أو لأنّه أصاب أقصى ما يمكن أن يقال عليه. من قولهم: قتله الله ما أشجعه، أي: بلغ في الشجاعة مبلغا يحقّ بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك.( ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) تكرير للمبالغة. و «ثمّ» للدلالة على أنّ الثانية أبلغ من الأولى. وفيما بعد على أصلها الّذي هو العطف، أعني: قوله:( ثُمَّ نَظَرَ ) معطوفا على «قدّر». والدعاء اعتراض بينهما، أي: نظر في أمر القرآن مرّة أخرى.

( ثُمَّ عَبَسَ ) قطّب وجهه لـمّا لم يجد فيه مطعنا ولم يدر ما يقول. أو نظر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقطّب في وجهه.( وَبَسَرَ ) لم يقل: ثمّ بسر، لأنّه جار مجرى التأكيد من المؤكّد، لأنّه إتباع لـ «عبس»( ثُمَّ أَدْبَرَ ) عن الحقّ، أو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَاسْتَكْبَرَ ) عن اتّباعه( فَقالَ إِنْ هذا ) ما هذا القرآن( إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) يروى

٢٤١

ويتعلّم. وقيل: معناه: تؤثره النفوس وتختاره لحلاوته فيها. والفاء للدلالة على أنّه لـمّا خطرت هذه الكلمة بباله تفوّه بها من غير تلبّث وتفكّر.

( إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) كالتأكيد للجملة الأولى، ولهذا لم يعطف عليها. ولو كان القرآن سحرا أو من كلام البشر ـ كما قاله الملعون ـ لأمكن السحرة أن يأتوا بمثله، أو قدر قريش مع فصاحتهم على الإتيان بسورة مثله.

( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) سأدخله جهنّم. هذا بدل من «سأرهقه».( وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ) تفخيم لشأنها. وقوله:( لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ) بيان لذلك، أو حال من «سقر».

والعامل فيها معنى التعظيم. والمعنى: لا تبقي شيئا يلقى فيها إلّا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكا حتّى يعاد.( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ) مسودّة لأعالي الجلد. قيل: تلفح(١) الجلد لفحة فتدعه أشدّ سوادا من الليل.( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) أي: يلي أمرها ويتسلّط على أهلها تسعة عشر ملكا. وقيل: صنفا من الملائكة.

قال فخر الدين الرازي: «الوجه في تخصيص هذا العدد أنّ اختلال النفوس البشريّة في النظر والعمل بسبب القوى الحيوانيّة. وهي تسعة عشر: خمس هي الحواسّ الظاهرة، وخمس هي الحواسّ الباطنة، واثنتان: الغضبيّة والشهويّة، وسبعة هي القوى الطبيعيّة، وهي: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولّدة. ومجموعها تسعة عشر. وهي الزبانية الواقعة على باب جهنّم البدن، وعلى وفق هذا العدد زبانية جهنّم الآخرة»(٢) .

وقال بعضهم: إنّ لجهنّم سبع دركات، ستّ منها لأصناف الكفّار، وكلّ صنف يعذّب بترك الاعتقاد والإقرار والعمل أنواعا من العذاب تناسبها، وعلى كلّ نوع ملك أو صنف يتولّاه. وواحدة لعصاة الأمّة، يعذّبون فيها بترك العمل تعذيبا يناسبه ،

__________________

(١) لفحت النار فلانا: أصابته وأحرقته.

(٢) التفسير الكبير ٣٠: ٢٠٣.

٢٤٢

ويتولّاه ملك أو صنف. ولا يبعد أنّهم يعذّبون بعدد الركعات اليوميّة الّتي كانوا يتركونها.

وقيل: إنّ تسعة عشر جامع لأكثر القليل من العدد وأقلّ الكثير منه، لأنّ العدد آحاد وعشرات ومئات وألوف، فأقلّ العشرات عشرة، وأكثر الآحاد تسعة. والله أعلم.

( وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) )

روي: أنّه لـمّا نزلت( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمّهاتكم ؛ أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدّهم(١) الشجعان، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم؟! فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، عشرة

__________________

(١) الدّهم: العدد الكثير.

٢٤٣

على ظهري، وسبعة على بطني، فاكفوني أنتم اثنين. فنزلت :

( وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) أي: وما جعلنا الموكّلين بالنار رجالا من جنسكم، بل ما جعلناهم إلّا ملائكة ليخالفوا جنس المعذّبين من الثقلين، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقّة، ولا يستروحون إليهم. ولأنّهم أقوى الخلق بأسا، وأشدّهم غضبا لله، وأقواهم بطشا. وعن عمرو بن دينار: واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنّم أكثر من ربيعة ومضر. وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كأنّ أعينهم البرق، وكأنّ أفواههم الصياصي(١) ، يجرّون أشعارهم، لأحدهم مثل قوّة الثقلين، يسوق أحدهم الأمّة وعلى رقبته جبل، فيرمي بهم في النار، ويرمي بالجبل عليهم».

( وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: وما جعلنا عددهم إلّا العدد الّذي اقتضى فتنتهم، أي: محنة وتشديدا لهم في التكليف، وهو التسعة عشر. فعبّر بالأثر ـ أعني: الفتنة ـ عن المؤثّر، أعني: تسعة عشر، فوضع( فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) موضع «تسعة عشر» تنبيها على أنّ الأثر لا ينفكّ منه. وافتتانهم به: استقلالهم، واستهزاؤهم به، واستبعادهم أن يتولّى هذا العدد القليل ـ الناقص واحدا من عقد العشرين ـ تعذيب أكثر الثقلين.

( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) أي: ليكتسبوا اليقين بنبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدق القرآن لـمّا رأوا ذلك موافقا لـما في كتابهم( وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ) بالإيمان به وإن خفي وجه الحكمة عليهم. كأنّه قيل: ولقد جعلنا عدّتهم عدّة من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان أهل الكتاب، لأنّ عدّتهم تسعة عشر في الكتابين، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنّه منزل من الله. ولأجل ازدياد المؤمنين إيمانا، لتصديقهم بذلك كما صدّقوا بسائر ما أنزل، ولـما رأوا من تسليم

__________________

(١) الصياصي جمع الصيصية: الحصون.

٢٤٤

أهل الكتاب وتصديقهم أنّه كذلك.

( وَلا يَرْتابَ ) ولئلّا يرتاب( الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ) أي: في ذلك.

وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإيمان، ونفي لـما يعرض المتيقّن حيثما عراه شبهة، وتعريض بحال من عداهم. كأنّه قال: ولتخالف حالهم حال الشاكّين المرتابين من أهل النفاق والكفر.

( وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) شكّ ونفاق. فيكون إخبارا بمكّة عمّا سيكون في المدينة بعد الهجرة، كسائر الإخبارات بالغيوب. فالآية لا تخالف كون السورة مكّيّة.

( وَالْكافِرُونَ ) الجازمون في التكذيب. واللام هاهنا لام العاقبة، أي: عاقبة أمر المنافقين والكافرين أن يقولوا:( ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً ) أيّ شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟ والمعنى: أيّ شيء أراد بهذا العدد العجيب؟ وأيّ غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين ومرادهم إنكاره من أصله، وأنّه ليس من عند الله، وأنّه لو كان من عند الله لـما جاء بهذا العدد الناقص.

( كَذلِكَ ) مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى( يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) يعني: يفعل فعلا حسنا مبنيّا على الحكمة والصواب، فيراه المؤمنون حكمة ويذعنون له، لاعتقادهم أنّ أفعال الله كلّها حسنة وحكمة، فيزيدهم إيمانا، وينكره الكافرون ويشكّون فيه، فيزيدهم كفرا وضلالا، وأضاف الهدى والضلال إلى نفسه، لأنّ سبب ذلك التكليف، وهو من جهته. كأنّه قال: يكلّف الخلق بهذه المحنة والاختبار ليظهر الضلال والهدى.

( وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ ) جموع خلقه، وما عليه كلّ جند من العدد الخاصّ، بأن يكون بعضها على عقد كامل، وبعضها على عدد ناقص، وما في اختصاص كلّ جند بعدده من الحكمة( إِلَّا هُوَ ) إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والاطّلاع

٢٤٥

على حقائقها وصفاتها، وما يوجب اختصاص كلّ واحد منها بما يخصّه من كمّ وكيف واعتبار ونسبة، فإنّه لا يعرف الحكمة في أعداد السماوات والأرضين، وأيّام السنة والشهور، والبروج والكواكب، وأعداد النصب والحدود والكفّارات والصلوات في الشريعة إلّا هو.

والمعنى: وما يعلم جنود ربّك لفرط كثرتها إلّا هو، فلا يعزّ عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن له في هذا العدد حكمة لا تعلمونها وهو يعلمها.

وقيل: هذا جواب لقول أبي جهل: أما لربّ محمّد أعوان إلّا تسعة عشر.

( وَما هِيَ ) متّصل بوصف سقر. وهي ضميرها، أو ضمير الآيات الّتي ذكرت فيها، أو ضمير عدّة الزبانية أو السورة، أي: وما سقر، أو وما الآيات المذكورة، أو وما عدّة الخزنة أو السورة.( إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ ) أي: تذكرة لهم.

( كَلَّا ) ردع لمن أنكرها، أو إنكار أن يتذكّر الكفّار بها( وَالْقَمَرِ ) أقسم به لـما فيه من الآيات العجيبة في طلوعه وغروبه ومسيره وزيادته ونقصانه( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) أي(١) : أدبر، كـ: قبل بمعنى: أقبل. وقيل: هو من: دبر الليل النهار إذا خلفه.

وقرأ نافع ويعقوب وحمزة وحفص: إذ أدبر.( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) أضاء وأنار.

( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) لإحدى البلايا والدواهي الكبر. وإنّما جمع كبرى على كبر إلحاقا لفعلى بفعلة، تنزيلا للألف منزلة التاء، كما ألحقت قاصعاء بقاصعة فجمعت على قواصع، كأنّها جمع فاعلة. ومعنى كونها إحداهنّ: أنّها من بينهنّ واحدة في العظم لا نظيرة لها، كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء.

والجملة جواب القسم، أو تعليل لـ «كلّا». والقسم معترض للتأكيد.

( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) أي: لإحدى الكبر إنذارا لهم. ونصبه بالتمييز، كما تقول: هي إحدى النساء عفافا. وقيل: هي حال عمّا دلّت عليه الجملة، أي: كبرت منذرة.

__________________

(١) هذا التفسير على قراءة: دبر.

٢٤٦

( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) بدل من «للبشر» أي: نذيرا للمتمكّنين من السبق إلى الخير والتخلّف عنه، الّذين إن شاؤا تقدّموا ففازوا، وإن شاؤا تأخّروا فهلكوا. أو «أن يتقدّم» في موضع الرفع بالابتداء، و «لمن شاء» خبر مقدّم عليه، كقولك: لمن توضّأ أن يصلّي. ومعناه: لمن شاء التقدّم والسبق إلى الخير أو التأخّر والتخلّف عنه أن يتقدّم أو يتأخّر. وهو كقوله:( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (١) .

وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسنعليه‌السلام أنّه قال: «كلّ من تقدّم إلى ولايتنا تأخّر عن سقر، وكلّ من تأخّر عن ولايتنا تقدّم إلى سقر».

( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ

__________________

(١) الكهف: ٢٩.

٢٤٧

(٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦) )

( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) من طاعة أو معصية( رَهِينَةٌ ) مرهونة عند الله غير مفكوك. مصدر، كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنّه قال: كلّ نفس بما كسبت رهن، أي: مرهونة محبوسة مطالبة. ولو كانت صفة لقيل: رهين، لمساواة فعيل بمعنى المفعول في التذكير والتأنيث.

( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) فإنّهم فكّوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم، كما يخلّص الراهن رهنه بأداء الحقّ. وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه فسّرهم بالأطفال، لأنّهم لا أعمال لهم يرتهنون بها.

وعن ابن عبّاس: هم الملائكة. وعن الباقرعليه‌السلام : «هم نحن وشيعتنا».

( فِي جَنَّاتٍ ) لا يكتنه وصفها. وهي حال من( أَصْحابَ الْيَمِينِ ) أو من ضميرهم في قوله:( يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ) أي: يسأل بعضهم بعضا حال كونهم ساكنين في جنّات عن حال المجرمين وعن ذنوبهم الّتي استحقّوا بها النار. أو يسألون غيرهم عن حالهم، كقولك: تداعيناه، أي: دعوناه.

وقوله:( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) بجوابه حكاية قول المسؤولين عنهم، لأنّ المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم في سقر( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) إلّا أنّ الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه. فلا يقال: كيف طابق قوله: «ما سلككم» وهو سؤال للمجرمين قوله:( يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ) وهو سؤال عنهم، وإنّما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين ما سلككم؟ والمراد بالصلاة الصلاة الواجبة كما لا يخفى.

٢٤٨

( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) ما يجب إعطاؤه من الزكوات والأخماس والكفّارات. وفيه دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع.

( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) نشرع في الباطل مع الشارعين فيه، فإنّ الخوض هو الشروع في الباطل وما لا ينبغي.

( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) أخّره لتعظيمه، أي: وكنّا بعد ذلك كلّه مكذّبين بالقيامة، كقوله:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) (١) الآية.

( حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) الموت ومقدّماته. والغرض من هذا التساؤل ـ مع أنّ المؤمنين عالمون بذلك ـ توبيخ لهم وتحسير. وأيضا ليكون حكاية ذلك في كتابه تذكرة للسامعين.

( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) لو شفعوا لهم جميعا من الملائكة والنبيّين وغيرهم، لأنّ الشفاعة لمن ارتضاه، وهم مسخوط عليهم، فما تنفعهم شفاعة الملك والجنّ والإنس كما نفعت الموحّدين. وقد صحّت الرواية عن عبد الله بن مسعود قال: يشفع نبيّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رابع أربعة: جبرئيل، ثمّ إبراهيم، ثمّ موسى أو عيسى، ثمّ نبيّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يشفع أحد أكثر ممّا يشفع فيه نبيّكم، ثمّ النبيّون، ثمّ الصدّيقون، ثمّ الشهداء. ويبقى قوم في جهنّم فيقال لهم:( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) إلى قوله:( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) . قال ابن مسعود: فهؤلاء الّذين يبقون في جهنّم.

وعن الحسن عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «يقول الرجل من أهل الجنّة يوم القيامة: أي ربّ عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا فشفّعني فيه. فيقول: اذهب فأخرجه من النار. فيذهب فيتجسّس في النار حتّى يخرجه منها».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ من أمّتي سيدخل الله بشفاعته الجنّة أكثر من مضر».

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) أي: معرضين عن التذكير، وهو العظة.

__________________

(١) البلد: ١٧.

٢٤٩

يعني: القرآن، أو ما يعمّه من المواعظ. و «معرضين» حال، كقولك: مالك قائما. والمعنى: لا شيء لهم في الآخرة إذا أعرضوا عن القرآن ونفروا عنه.

( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ) شديدة النفار، كأنّها تطلب النفار من نفوسها في جمعها للنفار وحملها عليه. وقرأ ابن عامر بفتح الفاء. والمعنى: يطلب منها النفار.( فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) شبّههم في إعراضهم ونفارهم عن استماع الذكر بحمر نافرة فرّت من قسورة، أي: أسد. فعولة من القسر، وهو القهر والغلبة. وفي وزنه حيدرة من أسماء الأسد. وعن الضحّاك ومجاهد: القسورة الرماة الّذين يتصيّدونها.

وفي تشبيههم بالحمر مذمّة ظاهرة، وتهجين لحالهم بيّن، كما في قوله:( كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ) (١) وشهادة عليهم بالبله وقلّة العقل. ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطّرادها في العدو إذا رابها رائب، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل وشدّة سيرها بالحمر وعدوها إذا وردت ماء حال شدّة العطش.

روي: أنّهم اقترحوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنادا: لن نتّبعك حتّى تأتي كلّا منّا بكتب من السماء عنوانها: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان اتّبع محمدا. فنزلت :

( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قراطيس تنشر وتقرأ، كالكتب الّتي يتكاتب بها. أو كتبا كتبت في السماء، ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشّرة على أيديها، غضّة رطبة لم تطو بعد. ونحوه قوله تعالى:( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) (٢) . وقوله:( وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ) (٣) الآية.

وقيل: قالوا: إن كان محمد صادقا فلتصبح عند رأس كلّ رجل منّا صحيفة

__________________

(١) الجمعة: ٥.

(٢) الإسراء: ٩٣.

(٣) الأنعام: ٧.

٢٥٠

فيها براءته وأمنه من النار.

وقيل: كانوا يقولون: بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفّارته، فأتنا بمثل ذلك. وهذا من الصحف المنشّرة بمعزل، إلّا أن يراد بالصحف المنشّرة الكتابات الظاهرة المكشوفة.

( كَلَّا ) ردع عن اقتراحهم الآيات( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) فلذلك أعرضوا عن التذكرة، لا لامتناع إيتاء الصحف.

( كَلَّا ) ردع عن إعراضهم عن التذكرة( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) وأيّ تذكرة، أي: تذكرة بليغة كافية. والضمير للتذكرة. وتذكيره لأنّها في معنى التذكير والذكر. أو القرآن.

( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) فمن شاء أن يذكره ويجعله نصب عينه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه.

( وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) ذكرهم، بأن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه، لأنّهم مطبوع على قلوبهم، معلوم لله تعالى أنّهم لا يؤمنون اختيارا.

وقيل: معناه: إلّا أن يشاء الله من حيث أمر به ونهى عن تركه، ووعد الثواب على فعله، وأوعد العقاب إن لم يفعله، فكانت مشيئته سابقة، أي: لا تشاءون إلّا والله قد شاء ذلك. وقرأ نافع: تذكرون بالتاء.

( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى ) حقيق بأن يتّقيه عباده، ويخافوا عقابه، فيؤمنوا ويطيعوا( وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) حقيق بأن يغفر لهم إذا آمنوا وأطاعوا.

وروي مرفوعا عن أنس قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هذه الآية فقال: «قال الله سبحانه: أنا أهل أن اتّقى فلا يجعل معي إله، فمن اتّقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له».

وقيل: معناه: هو أهل أن يتّقى عقابه، وأهل أن يعمل له بما يؤدّي مغفرته.

٢٥١
٢٥٢

(٧٥)

سورة القيامة

مكّيّة. وهي أربعون آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرئيل له يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بيوم القيامة، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من أدمن قراءة لا أقسم، وكان يعمل بها، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره في أحسن صورة، تبشّره وتضحك في وجهه حتّى يجوز الصراط والميزان».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ

٢٥٣

الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة المدّثّر بذكر القيامة وأنّ الكافر لا يؤمن بها، افتتح هذه السورة بذكر القيامة وذكر أهوالها، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) قد شاع في كلام العرب إدخال «لا» النافية على فعل القسم للتأكيد.

وقيل: «لا» ردّ على الّذين أنكروا البعث والنشور، فكأنّه قال: لا كما تظنّون، ثمّ ابتدأ القسم فقال: أقسم بيوم القيامة إنّكم مبعوثون.

وقيل: معناه: لا أقسم بيوم القيامة، لظهورها بالدلائل العقليّة والسمعيّة. وقد سبق الكلام في ذلك في قوله:( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) (١) .

وقرأ قنبل: لأقسم بغير ألف بعد اللام. وكذلك روي عن البزّي، على أنّ اللام لتأكيد القسم، أو على تقدير: لأنا أقسم، فخفّف.

( وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) بالنفس المتّقية الّتي تلوم النفوس المقصّرة في التقوى يوم القيامة على تقصيرها. أو النفس الّتي تلوم نفسها في الدنيا وتقول له: ماذا فعلت؟ ولم قصّرت؟ وإن اجتهدت في الطاعة، فتكون مفكّرة في العواقب أبدا، والفاجر لا يفكّر في أمر الآخرة. أو النفس المطمئنّة اللائمة للنفس الأمّارة. أو بالجنس، لـما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلّا وتلوم نفسها

__________________

(١) الواقعة: ٧٥.

٢٥٤

يوم القيامة، إن عملت خيرا قالت: كيف لم أزدد، وإن عملت شرّا قالت: ليتني لم أفعل».

أو نفس آدمعليه‌السلام ، فإنّها لم تزل تتلوّم على ما خرجت به من الجنّة. وضمّها إلى يوم القيامة، لأنّ المقصود من إقامتها مجازاتها.

وجواب القسم محذوف، تقديره: إنّكم تبعثون، أو لتبعثنّ. ويدلّ على حذفه قوله:( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) صورته الاستفهام، ومعناه الإنكار. والمراد الجنس.

وإسناد الفعل إليه لأنّ فيهم من يحسب. أو الّذي نزل فيه، لـما روي أنّ عديّ بن أبي ربيعة ختن(١) الأخنس بن شريق ـ وهما اللّذان كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيهما: أللّهمّ اكفني جاري السّوء ـ سال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمر القيامة، وقال: يا محمّد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره؟ فأخبره به، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك يا محمد، ولم أرض به أو يجمع الله العظام. فنزلت فيه( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) .

( أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) بعد تفرّقها، أي: لن نعيده إلى ما كان أوّلا عليه خلقا جديدا بعد أن صار رفاتا مختلطا بالتراب، وبعد ما سفّتها الرياح وطيّرتها في أباعد الأرض. فكنّى عن البعث بجمع العظام.

( بَلى ) إيجاب بعد النفي، وهو الجمع. فكأنّه قال: بلى نجمعها.( قادِرِينَ ) حال من فاعل الفعل الّذي قدّرناه بعد «بلى»( عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) بجمع سلامياته(٢) ، وضمّ بعضها إلى بعض كما كانت أوّلا، مع صغرها ولطافتها، فكيف بكبار العظام؟! أو على أن نسوّي بنانه. أي: أصابعه الّتي هي أطرافه، وآخر ما يتمّ به خلقه.

وعن ابن عبّاس وقتادة معناه: بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوّي أصابع يديه ورجليه، أي: نجعلها مستوية شيئا واحدا، كخفّ البعير وحافر الحمير ،

__________________

(١) الختن: زوج الابنة، أو كلّ من كان من قبل المرأة مثل الأب والأخ.

(٢) السلاميات جمع السلامى: كلّ عظم مجوّف من صغار العظام، مثل عظام الأصابع.

٢٥٥

لا نفرّق بينها، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا ممّا يعمل بأصابعه المفرّقة ذات المفاصل والأنامل، من فنون الأعمال والقبض والبسط والتأتّي لـما يريد من الحوائج، ولكنّا مننّا عليه بالأنامل ليكمل بها المنفعة، ويتهيّأ له القبض والبسط والارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة وغيرها.

( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ ) عطف على «أيحسب». فيجوز أن يكون مثله استفهاما، وأن يكون إيجابا، على أن يكون للإضراب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو إلى موجبه.( لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وفيما يستقبله من الزمان، لا ينزع عنه.

وعن سعيد بن جبير: يقدّم الذنب ويؤخّر التوبة، يقول: سوف أتوب سوف أتوب، حتّى يأتيه الموت على شرّ أحواله وأسوأ أعماله.

( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) استبعادا لقيام الساعة. أو استهزاء. ونحوه:( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ) (١) .

ثمّ قال سبحانه ردّا عليه:( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ) تحيّر فزعا. من: برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره. وقرأ نافع بالفتح. وهو لغة. أو من البريق. يعني: لمع من شدّة شخوصه.( وَخَسَفَ الْقَمَرُ ) وذهب ضوؤه، أو ذهب بنفسه( وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) حيث يطلعهما الله من المغرب. ولا ينافيه الخسوف، فإنّه مستعار للمحاق.

وقيل: وجمعا في ذهاب الضوء. وقيل: يجمعان أسودين مكوّرين(٢) ، كأنّهما ثوران عقيران(٣) في النار. وقيل: يجمعان ثمّ يقذفان في البحر، فيكون نار الله

__________________

(١) الملك: ٢٥.

(٢) كوّرت الشمس: جمع ضوؤها ولفّ كما تلفّ العمامة، أو اضمحلّت وذهبت.

(٣) أي: معقوران قطعت قوائمهما بالسيف.

٢٥٦

الكبرى.

ولمن حمل ذلك على أمارات الموت أن يفسّر الخسوف بذهاب ضوء البصر، والجمع باستتباع الروح ـ الّتي هي بمنزلة القمر ـ الحاسّة ـ الّتي هي بمنزلة الشمس ـ في الذهاب. أو بوصوله إلى من كان يقتبس منه نور العقل من سكّان القدس.

وتذكير الفعل لتقدّمه، وتغليب المعطوف.

( يَقُولُ الْإِنْسانُ ) المكذّب بالقيامة( يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أين الفرار؟ أو مكان الفرار. وقال الزجّاج: المفرّ بالفتح: الفرار، والمفرّ بالكسر: مكان الفرار. والمعنى: يقول ذلك قول الآيس من وجدانه المتمنّي.

( كَلَّا ) ردع عن طلب المفرّ( لا وَزَرَ ) لا ملجأ ولا مهرب لهم. وكلّ ما التجأت إليه من جبل أو غيره وتخلّصت به فهو وزرك. ومنه: الوزير الّذي يلجأ إليه في الأمور. واشتقاقه من الوزر، وهو الثقل.

( إِلى رَبِّكَ ) إليه وحده( يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) استقرار العباد، أي: لا يقدرون أن يستقرّوا إلى غيره. أو إلى حكمه استقرار أمرهم، لا يحكم فيها غيره، كقوله :

( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) (١) . أو إلى مشيئته موضع قرارهم من جنّة أو نار، فيدخل من يشاء الجنّة ومن يشاء النار، على وفق حكمته.

( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) بما قدّم من عمل عمله، وبما أخّر منه لم يعمله. أو بما قدّم من عمل الخير والشرّ، وبما أخّر من سنّة حسنة أو سيّئة عمل بها بعده. أو بما قدّم من مال تصدّق به، وبما أخّر فخلّفه. وعن ابن عبّاس: بما قدّم من المعاصي، وبما أخّر من الطاعات. وعن مجاهد: بأوّل عمله وآخره. ونحوه:( فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ ) (٢) .

__________________

(١) غافر: ١٦.

(٢) المجادلة: ٦.

٢٥٧

( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) حجّة بيّنة على أعمالها، لأنّه شاهد بها. وصفت بالبصارة على المجاز، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله :

( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً ) (١) . أو عين بصيرة بها، فلا يحتاج إلى الإنباء، لأنّه شاهد عليها بما عملت، لأنّ جوارحه تنطق بذلك:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) . فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه عليه.

روى العيّاشي بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيّئا؟ أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ والله سبحانه يقول:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية».

وعن عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه تلا هذه الآية ثمّ قال: «ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس خلاف ما يعلم الله منه؟».

وعن زرارة سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام : «ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ».

( وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ) ولو جاء بكلّ ما يمكن أن يعتذر به لمن ينفعه ذلك. جمع معذار، وهو العذر. أو جمع معذرة على غير قياس، فإنّ قياسه: معاذر. أو ليس بجمع معذرة، وإنّما هو اسم جمع لها. ونحوه: المناكير في المنكر. وعن الضحّاك: ولو أرخى ستوره. وقال: المعاذير الستور، واحدها معذار. وهي لغة طائيّة، لأنّه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. والمعنى على هذا القول: وإن أسبل الستور ليخفي ما يعمل، فإنّ نفسه شاهدة.

__________________

(١) النمل: ١٣.

(٢) النور: ٢٤.

٢٥٨

( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) )

عن ابن عبّاس: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه القرآن عجّل بتحريك لسانه، ولم يصبر إلى أن يتمّه جبرئيل، لحبّه إيّاه، وحرصه على أخذه وضبطه مخافة أن ينفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه وسمعه، حتّى يقضى إليه وحيه، ثمّ يقفّيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه، فقال:( لا تُحَرِّكْ بِهِ )

بالقرآن( لِسانَكَ ) قبل أن يتمّ وحيه( لِتَعْجَلَ بِهِ ) لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك، فإنّ معاذيرك في هذا غير مسموعة، لأنّ نفسك بصيرة على أنّ علينا أن نؤيّدك في حفظ القرآن، ونحفظك أن ينفلت منك شيء منه.

ثمّ قال معلّلا للنهي عن العجلة والاعتذار فيها بقوله:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ ) في صدرك حتّى تحفظه( وَقُرْآنَهُ ) وإثبات قراءته في لسانك، فلا تخف فوت شيء منه.

( فَإِذا قَرَأْناهُ ) بلسان جبرئيل عليك( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) قراءته مقفّيا له فيها.

وطمأن نفسك أنّه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه.

( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) بيان ما أشكل عليك شيء من معانيه. كأنّه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا، كما ترى بعض الحراص على العلم. ونحوه:( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) (١) . عن ابن عبّاس قال: كان

__________________

(١) طه: ١١٤.

٢٥٩

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هذا إذا نزل عليه جبرئيل أطرق، فإذا ذهب قرأ.

وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، واعتراض بما هو تأكيد للتوبيخ على حبّ العجلة، لأنّ العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهمّ الأمور الدينيّة، ففي الأمور الدنياويّة الموجبة لترك الاهتمام بالآخرة بطريق الأولى.

( كَلَّا ) ردع للرسول عن عادة العجلة، وإنكار لها عليه، وحثّ على الأناة والتؤدة. وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله:( بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) فعمّم الخطاب إشعارا بأنّ بني آدم لفرط عجلتهم كأنّهم مطبوعون على الاستعجال. والمعنى: بل أنتم يا بني آدم تعجلون في كلّ شيء، ومن ثمّ تحبّون العاجلة.

( وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) فتعملون للدنيا لا للآخرة، جهلا منكم. وقيل: «كلّا» ردع للإنسان المذكور في صدر السورة عن الاغترار بالعاجل. والمراد به الجنس. فجمع الضمير للمعنى. ويؤيّده قراءة ابن كثير وابن عامر والبصريّين بالياء في الفعلين. والمعنى: لا تتدبّرون القرآن وما فيه من البيان، بل تحبّون الدنيا الدنيّة السريعة الزوال، وتذرون الآخرة الّتي هي دار القرار من غير زوال ولا انتقال.

( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١)

٢٦٠