زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير10%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51531 / تحميل: 4100
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٩-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هكذا تُبدي التوراة عَداءه تعالى مع بني الإنسان!

هذا والقرآن يحثّ الأُمَم على الاجتماع دون التفرّق، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم؛ ليتعاونوا في الحياة دون التباغض والتباعد والاختلاف:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) .

الإنسان سرّ الخليقة

الإنسان - كما وصفه القرآن - صفوة الخليقة وفلذتها، وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.

لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتيّة الّتي جَبَله الله عليها - في جميع مناحيها وأبعادها المترامية - في سوى القرآن، يصفه بأجمل صفات وأفضل نُعوت، لم يَنعم بها أيّ مخلوق سواه، ومِن ثَمّ فقد حَظي بعناية الله الخاصّة، وحُبي بكرامته منذ بدء الوجود.

ولنُشِر إلى فهرسة تلكمُ الصفات والميزات، التي أهّلته لمثل هذه العناية والحِبَاء:

1 - خلقه الله بيديه: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) .

2 - نفخ فيه من روحه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .

3 - أودعه أمانته: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ) (5) .

4 - علّمه الأسماء كلّها: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... ) (6) .

5 - أسجد له ملائكته: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (7) .

____________________

(1) الحجرات 49: 13.

(2) الأنفال 8: 46.

(3) ص 38: 75.

(4) الحجر 15: 29، وص 38: 72، وفي سورة السجدة 32: 9: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) .

(5) الأحزاب 33: 72.

(6) البقرة 2: 31.

(7) البقرة 2: 34.

٢١

6 - منحه الخلافة في الأرض: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) .

7 - سخّر له ما في السّماوات والأرض جميعاً: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

ومِن ثَمّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3) .

ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده، فكان المخلوق المفضّل الكريم، وإليك بعض التوضيح:

مِيزات الإنسان الفطريّة

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظَ بها غيره من سائر الخلق:

فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه: ( مَا مَنَعَكَ - خطاباً لإبليس - أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) والله خالق كلّ شيء، فلا بدّ أنْ تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التّنويه هي: خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن، وإبداعه نفخةً - من روح الله - دلالةً على هذه العناية.

قال العلاّمة الطباطبائي: نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه؛ ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصُنع شيء استعمل يديه معاً عناية به (6) .

وهكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان - في أصل فطرته - بالملأ الأعلى، حتّى ولو كان متّخذاً - في جانب جسده - من عناصر تربطه بالأرض، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.

ولقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض، ثُمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) الجاثية 45: 13.

(3) المؤمنون 23: 14.

(4) ص 38: 75.

(5) الحجر 15: 29.

(6) تفسير الميزان، ج 17، ص239.

٢٢

وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى، وأَوّلها القدرة على الارتقاء في سُلَّم المدارك العُليا الخاصّة بعالم الإنسان.

هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواسّ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان (1) .

وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتيّة رفيعة، أُودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق، وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأُولى، والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.

إنّها القدرة على الإرادة والتصميم، القدرة على التفكير والتدبير، القدرة على الإبداع والتكوين، القدرة على الاكتشاف والتسخير، إنّها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير، قال سيّد قطب: إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يُسجِد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (2) .

فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنّها وأشفقنّ منها (3) .

إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الكبير القُوى، القويّ العزم.

ومِن ثَمّ كان ظلوماً لنفسه؛ حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.

____________________

(1) من إفادات سيد قطب، راجع: في ظِلال القرآن، ج 14، ص 17، المجلد 5، ص203.

(2) الإسراء 17: 70.

(3) في ظِلال القرآن، ج22، ص47، المجلد 6، ص 618.

٢٣

وهكذا علّمه الأسماء: القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصيّاتها وآثارها الطبيعيّة العاملة في تطوير الحياة، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليُسخّرها في مآربه حيث يشاء، وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها، حيث أراده الله من هذا الإنسان ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (1) .

وبذلك أصبح هذا الإنسان - بهذه الميزات - خليفة الله في الأرض، (2) حيث يتصرّف فيها وِفق إرادته وطاقاته المـُودعة فيه، ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.

وإسجاد الملائكة له في عَرْصَة الوجود، كناية عن إخضاع القوى النورانيّة برمّتها للإنسان، تعمل وِفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف، في مقابلة القوى الظلمانيّة (إبليس وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه، إلاّ مَن عَصَمه الله من شرور الشياطين ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (3) .

كما وأنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، (4) كناية عن إخضاع القوى الطبيعيّة - المودعة في أجواء السماوات والأرض - لهذا الإنسان، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور، ومعنى تسخيرها له: أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها.

فسبحانه من خالقٍ عظيم، إذ خَلَق خَلقاً بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!

هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مُشرقة من القرآن الكريم، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة والتبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير، كبرياءً ملأ الآفاق!

أتزعم أنّك جسمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!

____________________

(1) هود 11: 61.

(2) راجع: البقرة 2: 30.

(3) الإسراء 17: 65.

(4) راجع: الجاثية 45: 13.

٢٤

خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!

حديث قدسيّ معروف (1) خطاباً مع بني آدم، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة، كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان، فكما وأنّ الأشياء برمّتها - علواً وسفلاً - سخّرها الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتَتَجلّى فيها مقدرته الهائلة، كذلك خُلق الإنسان؛ ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.

ما من مخلوق - صغيراً أو كبيرً - إلاّ وهو مظهر لتجلّي جانب من سِمات الصانع الحكيم (وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد) أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال والجلال.

فإذا سئلت: ما هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعاً؟

قلت - حسب وصف القرآن -: هو الإنسان ذاته مُستودَع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!

وإذا سئلت: ما هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟

قلت: هو الله الصانع الحكيم؛ حيث الإنسان بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء والصفات، فكان وجه الله الأكمل وعين الله الأتمّ.

فكان الإنسان غاية الخليقة، وكان الله الغاية من خلق الإنسان، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف) (2) .

حيث الإفاضة - وهي تجلّي الذات المقدّسة - كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.

الحفاظ على كرامة الأنبياء

يمتاز القرآن بالحفاظ على كرامة الأنبياء، بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.

____________________

(1) راجع: علم اليقين للفيض الكاشاني، ج 1، ص 381.

(2) حديث قُدسي معروف، راجع: البحار، ج84، ص 199، وهامش عوالي اللآلئ، ج 1، ص 55، وكتاب كشف الخفاء للعجاوني، ج 2، ص 132.

٢٥

لم يأتِ ذِكر نبيّ من الأنبياء في القرآن إلاّ وقد أحاط بهم هالةً من التبجيل والإكرام، كما ونزّهَهم عن الأدناس على وجه الإطلاق.

خُذ مثلاً سورة الصافّات جاء فيها ذكر أنبياءٍ عِظام مُرفَقاً بعظيم الاحترام.

( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) وينتهي إلى قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشـَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... ) (2) .

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (4) وهكذا كلّما يُمرّ ذِكرُ نبيّ تَصحبه لمـّة مِن الإجلال والتكريم.

وأمّا التوراة فلا تمرّ فيها بقصّةٍ من قصص الأنبياء إلاّ وملؤها الإهانة والتحقير، وربّما بلغ إلى حدّ الابتذال والتعبير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين، هذا نوح شيخ الأنبياء تصفه التوراة: رجلاً سكّيراً مستهتراً لا يرعوي شناعةَ حال ولا فضاعة بال.

تقول عنه التوراة: إنّه بعد ما نَزل من السفينة هو ومَن معه، غرس كَرماً وصنع خمراً وشربها، حتّى إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه

____________________

(1) الصافات: 75 - 81.

(2) الصافات: 83 - 113.

(3) الصافات: 114 - 122.

(4) الصافات : 123 - 132.

٢٦

مكشوفاً عورته، فاستحى ورجع ليُخبر إخوته بذلك، ولمـّا صحا نوح وعَلِم بفضيع أمره دعا على ابنه هذا، ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان مِن أثر دعائه عليه أن كانت ذرّيته عبيداً لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين! (1) .

يا لها من مهزلة نسجتها ذهنيّة الحاقدين على أهل الدين، فما شأن التوراة وثَبتُ هكذا سفاسف حمقانيّة تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء؟!

وهذا إبراهيم خليل الرحمان وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده، نَجده في التوراة رجلاً أرضيّاً يُتاجر بزوجه الحسناء (سارة) ليَفتدي بها لا لشيءٍ؛ إلاّ ليَحظى بالحياة الدنيا على غِرار سائر المـُرابين، يفعلون الفُجور للحصول على القليل من حطام الدنيا الدنيّة! (2) .

وما هي إلاّ فِرية فاضحة يُكذّبها تأريخ حياة إبراهيم (عليه السلام):

كانت سارة عندما صَحِبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طَعنت في السنّ من السبعينيّات، وكان الدهر قد وَسَم على وجهها آثار الكُهولة والهرم، ولم يَعهد من عادة الملوك الجبابرة وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!

كان إبراهيم عندما غادر (حاران) موطن أبيه (تارَح) قاصداً بلاد كنعان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، واجتاز أرض (شكيم) ليبني هناك مَذبحاً (معبداً)، وارتحل إلى الجبل: شرقي (بيت إيل)، وهكذا تَداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح، إلى أنْ حدث جَدْبٌ عمَّ البلاد، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.

ولم يأتِ في التوراة مدّة هذا التَجوال والرحلات، لكن جاء فيها: أنّ سارة لمـّا وَهبت جاريتها (هاجر) لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين (3) ، فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى مِن عُمر إبراهيم ستٌ وثمانون عاماً (4) ، فكان إبراهيم عند مَقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين، وبما أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9/18 - 24.

(2) المصدر: 12/11 - 20.

(3) المصدر: 16/3.

(4) المصدر: 16/16.

٢٧

بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الستّ والستين وهو سنّ العجائز! (1) .

إبراهيم، لم يَكذب قطّ!

جاء في أحاديث العامّة برواية أبي هريرة - وهي أشبه بالإسرائيليّات - (أنّ إبراهيم (عليه السلام) كَذَب ثلاث كِذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وقوله: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) ، والثالثة بشأن سارة: أنّها أُخته) (4)

وفي حديث الشفاعة برواية أبي هريرة أيضاً: (أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يستشفعون منهم، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذراً: إنّي كذبت ثلاث كذبات ولستُ هناكم) (5) .

وقد وصفت لجنة مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصِحاح، وعارضت الأستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره لهذه المفتريات (6) .

قلت: وحاشا إبراهيم الخليل - الداعي إلى الحنيفيّة البيضاء - أنْ ينطق بكذب، وإنّما كُذِبَ عليه بلا ريب، والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.

ولقد أجاد الإمام الرازي حيث قال: فلأنْ يُضاف الكَذِب إلى رواة هذا الخبر أَولى من أنْ يُضاف إلى الأنبياء، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة، وأضافَ قائلاً: وإذا أمكن حَمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق (7) .

أمّا قوله: ( إِنّي سَقِيمٌ ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسديّة ممّا كان يرى قومه على عَمَه الغباء، وقد أحسّ ألماً شديداً انتاب قلبه المرهف تجاه تلكمُ الجهالات العارمة.

وأمّا قوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فقولة قالها مستهزئاً بهم

____________________

(1) المصدر: 17/17.

(2) الصافّات 37: 89.

(3) الأنبياء 21: 63.

(4) صحيح ا لبخاري، ج4، ص171 و ج7، ص7: وصحيح مسلم، ج7، ص98: ومسند أحمد، ج2، ص403 - 404.

(5) جامع الترمذي، ج4، ص623 وج5، ص321.

(6) راجع: هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص86.

(7) التفسير الكبير، ج22، ص185 وج26، ص148.

٢٨

مستخفّاً عقليّتهم الكاسدة.

والكَذِب لا يكون إلاّ لغرض التمويه، أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر، وأنّ إبراهيم لم يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفيه من عقولهم محضاً فهذا لا يُعدّ كَذِباً؛ لأنّ الكَذِب إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع، وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم، والإنشاء لا يَحتمل الصدق والكَذِب فتدبّر.

وأمّا الثالثة - بشأن سارة أنّها أُخته - فحديث خُرافة يا أُمّ عمرو!

قصّة الطوفان في التوراة

جاءت قصّة الطوفان في سِفر التكوين (1) بصورة تفصيليّة، تشبه أن تكون أساطيريّة، وفيها ما ترفضه العقول وتأباه واقعيّة الحياة، فضلاً عن منافاتها لأُصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود.

جاء فيه: أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب اللّهُ عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبأوا بذلك وظلّوا يعبثون ويَعثون في البلاد.

ولمـّا بلغ نوح من العمر ستمِئة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراعاً عرضاً و30 في الارتفاع).

فجاء الطوفان، وجُعلت ينابيع الأرض تتفجّر، والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً، والماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها، حتّى بلغ قِمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض، وارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً؛ وبذلك هلك الحرث والنسل، ومات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبّابات والزحّافات، وحتّى الطير في السماء.

ودام الطوفان مئة وخمسين صباحاً، يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في الفلك على وجه الماء، حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9 - 6.

٢٩

سفينته على جبل (آرارات) بأرمينيّة، فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين عاماً، فكان كلّ أيّام نوح تسعمِئة وخمسين سنة، على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة - غير أهله وذويه - أزواجاً (ذكراً وأُنثى) من كلّ أنواع الحيوانات؛ لئلاّ ينقرض نسلها وتبيد من الوجود (من جميع البهائم والطيور ذكراً وأُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض) (1) .

وهذا يعنى: أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق (فما كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكلّ الزحّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات) (2) ؛ وذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها، وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض (وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض، فتغطّت جميعُ الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال) (3) .

حادث الطوفان في القرآن

وحاشا القرآن أنْ يساير التوراة (المـُتداولة) في سرد أقاصيص أسطوريّة واهية، وإنّما هي الواقعيّة ينتقيها ويَنبذ الأوهام الخرافيّة والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.

وإليك الحادث على ما جاء في سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ (4) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ

____________________

(1) المصدر: 7/4.

(2) المصدر: 7/21.

(3) المصدر: 7/19.

(4) كلمة أعجميّة وتطلق في كلام العرب على مفجر المياه، جاء في القاموس: التنّور كل ّمفجر الماء.

٣٠

مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (1) وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2) .

مواضع عِبر أغفلتها التوراة

جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.

وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!

ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين (3) .

قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (4) .

____________________

(1) قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي كلّ جبلٍ وأرضٍ صلبة.

(2) هود 11: 40 - 48.

(3) راجع: سعد السعود لابن طاووس، ص239، وبحار الأنوار، ج11، 342.

(4) التحريم 66: 10.

٣١

وكانت خيانَتُهما هي المـُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.

وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.

وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!

أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.

هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟

صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.

وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.

جاء في سورة الأعراف: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.

____________________

(1) الأعراف 7: 59 - 64.

٣٢

ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.

هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.

الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!

نقض فرضية الشمول

يقول (ولتر) - الكاتب الناقد الفرنسي (1694 - 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة -: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!

ويزيد - مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه) -: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.

ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!

يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً - كما هو نصّ التوراة - لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين - على صغرها - فكيف بغمر وجه الأرض

٣٣

وأنْ يعلو قمم الجبال؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟! (1) .

الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله

نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.

كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.

وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (2) ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المـُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن - وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم -:

أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم (برهوشع) و

____________________

(1) راجع: ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينيّة.

(2) القمر 54: 11 و 12.

٣٤

(يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم - ممّن كان يعيش هناك طبعاً - فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.

وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).

ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس - ممّن عمروا البلاد في المنطقة - وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.

وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل - الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل -، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .

وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس (2) .

وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء):

وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام..

ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي

____________________

(1) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج 12، ص 105.

(2) في ترجمتها الفرنسيّة. راجع: الميزان للطباطبائي، ح 10، ص 267.

٣٥

التوراة، و (مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.

وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المـُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمـّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر. ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته (1) .

فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.

وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 46 - 47.

٣٦

أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) .

أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.

لا شاهد على شمول الطوفان

لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.

بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.

أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (2) .

وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً...

ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى - حكايةً عن نوح - ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) تفسير المنار، ج 12، ص1 08.

٣٧

الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) وقوله: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (2) وقوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (3) .

قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، (4) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة - أرض العراق كما هو معروف - لم تكن حاجة إلى ذلك (5) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.

آثار جيولوجيّة

لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المـُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.

قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (6) .

____________________

(1) نوح 71: 26.

(2) هود 11: 43.

(3) الصافّات 37: 77.

(4) راجع: سورة هود 11: 40 والمؤمنون 23: 27.

(5) راجع: تفسير الميزان، ج 10، ص 272 و 274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان، ج 12، ص 316 - 317.

(6) تفسير المنار، ج 12، ص 108.

٣٨

( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ) (1) .

أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.

قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (2) يعني أرض مصر، وقوله: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) (3) فالمراد بها مكّة، وقوله: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (4) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.

قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المـُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه - (وهو في أوّليات حياة البشر) - وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.

فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (5) .

وبذلك ظهر عدم دلالة الآية ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (6) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.

قال تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ

____________________

(1) نوح 71: 26،

(2) يونس 10: 87.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) الإسراء 17: 4.

(5) تفسير المنار، ج 12، ص 106.

(6) الصافّات 37: 77.

٣٩

ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) .

في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:

1 - التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.

2 - محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.

لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم - والذي في عرضة الطوفان - وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.

ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه - وهو راكبٌ في السفينة - لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المـُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.

وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.

وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (2) .

____________________

(1) هود 11: 42 و 43.

(2) معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 11، ص 144).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم، فكأنّه قيل: يعبس فيه وجوه الأشقياء. وروي: أنّ الكافر يعبس يومئذ حتّى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران. وأن يشبّه في شدّته وضرره بالأسد العبوس، أو بالشجاع الباسل.

( قَمْطَرِيراً ) شديد العبوس، كالّذي يجمع ما بين عينيه. من: اقمطرّت الناقة إذا رفعت ذنبها، وجمعت قطريها(١) . مشتقّ من القطر، والميم مزيدة.

( فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ) بسبب خوفهم وتحفّظهم عنه( وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ) أي: أعطاهم بدل عبوس الفجّار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب. وهذا يدلّ على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله.

( وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا ) بصبرهم على أداء الواجبات، واجتناب المحرّمات، وإيثار الأموال، وما يؤدّي إليه من الجوع والعري( جَنَّةً ) بستانا يأكلون منه هنيئا( وَحَرِيراً ) يلبسونه بهيّا.

( مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ ) حال من ضمير «جزاهم»، أو صفة لـ «جنّة».

والأرائك جمع الأريكة، وهي السرير.( لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ) يحتملهما، وأن يكون حالا من المستكن في «متّكئين». والمعنى: أنّه يمرّ عليهم فيها هواء معتدل، لا حرّ شمس يحمي، ولا شدّة برد تؤذي. وفي الحديث: «هواء الجنّة سجسج(٢) ، لا حرّ ولا قرّ».

وعن ثعلب: الزمهرير: القمر في لغة طيء.

وأنشد :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزمهرير ما زهر(٣)

__________________

(١) القطر: الناحية والجانب.

(٢) يوم سجسج: إذا لم يكن فيه حرّ مؤذ ولا برد شديد.

(٣) أي: وربّ ليلة قد تراكم ظلامها واختلط، قطعتها بالسير، والحال أنّ الزمهرير ما ظهر وما أضاء.

٢٨١

والمعنى: أنّ الجنّة ضياء، فلا يحتاج فيها إلى شمس ولا قمر.

( وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها ) حال أيضا من ضمير «جزاهم». ودخلت الواو للدلالة على أنّ الأمرين مجتمعان لهم، كأنّه قيل: وجزاهم جنّة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ والقرّ، ودنوّ الضلال عليهم. أو صفة اخرى لـ «جنّة» معطوفة على ما قبلها. أو عطف على «جنّة» أي: وجنّة اخرى دانية، على أنّهم وعدوا جنّتين، كقوله:( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) (١) لأنّهم وصفوا بالخوف في قولهم:( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا ) (٢) . والمعنى: أفياء أشجار الجنّة قريبة منهم.

( وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً ) معطوفة على «دانية». والمعنى: ودانية عليهم ظلالها، ومذلّلة قطوفها. أو حال من «دانية» أي: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم، بأن تجعل ذللا سهل التناول لا يمتنع على قطّافها كيف شاؤا. أو تجعل خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصيرا.

( وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ ) وأباريق بلا عروة. جمع كوب.

( كانَتْ قَوارِيرَا * قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ ) هو من «يكون» في قوله:( كُنْ فَيَكُونُ ) (٣) أي: تكوّنت قوارير بتكوين الله، تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين، وهما: صفاء الزجاجة وشفيفها، وبياض الفضّة ولينها.

والمعنى: أنّ أصلها مخلوق من فضّة، وهي مع بياض الفضّة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها، فاجتمع لها بياض الفضّة وصفاء القارورة، فيرى من خارجها ما في داخلها.

وقيل: معنى( قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ ) مع أنّها من زجاج: أنّ الشيء إذا قاربه شيء

__________________

(١) الرحمن: ٤٦.

(٢) الإنسان: ١٠.

(٣) البقرة: ١١٧.

٢٨٢

واشتدّت ملابسته له قيل: إنّه من كذا، وإن لم يكن منه في الحقيقة.

و «قوارير» الثانية بدل من الأولى. وقد نوّن «قوارير» من نوّن «سلاسلا».

وابن كثير الأولى، لأنّها رأس الآية.

( قَدَّرُوها تَقْدِيراً ) صفة لـ «قوارير» أي: قدّروها في أنفسهم، فجاءت مقاديرها وأشكالها كما تمنّوه. أو قدّروها بأعمالهم الصالحة، فجاءت على حسبها.

أو قدّر الطائفون بها ـ المدلول عليهم بقوله:( وَيُطافُ عَلَيْهِمْ ) ـ شرابها على قدر اشتهائهم. وهو ألذّ للشارب، لكونه على قدر حاجته، لا يفضل عنها ولا ينقص.

وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض.

( وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ) ما يشبه الزنجبيل في الطعم.

وكانت العرب يستلذّون ويستطيبون الشراب الممزوج به.

( عَيْناً فِيها ) نصبه إمّا على البدل من «زنجبيلا»، أو «كأسا» بتقدير المضاف، كأنّه قيل: ويسقون فيها كأسا كأس عين في الجنّة. أو على الاختصاص.

( تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) لسلاسة انحدارها في الحلق، وسهولة مساغها. يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل. ولذلك حكم بزيادة الباء حتّى صارت الكلمة خماسيّة.

ودلّت على غاية السلاسة، كما قال الزجّاج: السلسبيل في اللغة صفة لـما كان في غاية السلاسة. والمعنى: أنّها في طعم الزنجبيل، وليس فيه لذعه(١) ، ولكن نقيض اللذع، وهو السلاسة.

وقيل: أصله: سل سبيلا، فسمّيت به، كتأبّط شرّا، لأنّه لا يشرب منها إلّا من سأل الله إليها سبيلا بالعمل الصالح.

( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) دائمون( إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ) من صفاء ألوانهم، وانبثاثهم في مجالسهم للخدمة، وانعكاس شعاع بعضهم

__________________

(١) أي: حدّته.

٢٨٣

إلى بعض. وقيل: شبّهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه، لأنّه أحسن وأكثر ماء.

( وَإِذا رَأَيْتَ ) ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدّر، لأنّه عامّ. والمعنى: وإذا أوجدت الرؤية، وإذا رميت ببصرك أينما وقع.( ثَمَ ) أي: في الجنّة( رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ) واسعا. وفي الحديث: «أدنى أهل الجنّة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه».

وعن الصادقعليه‌السلام : «معناه: رأيت نعيما لا يزول ولا يفنى».

وقيل: الملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم وتحيّتهم بالسلام. وقيل: هو أنّهم لا يريدون شيئا إلّا قدروا عليه. هذا، وللعارف أكبر من ذلك، وهو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك وخفايا الملكوت، فيستضيء بأنوار قدس الجبروت.

( عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ) أي: يعلوهم ثياب الحرير الخضر مارقّ منها وما غلظ. وإستبرق معرّب، وأصله: استبره. ونصب «عاليهم» على الحال من «هم» في «عليهم» أو في «حسبتهم» أي: يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب. أو من «ملكا كبيرا» على تقدير مضاف، أي: وأهل ملك كبير، أي: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب.

وقرأ حمزة ونافع: عاليهم بالرفع على أنّه خبر و «ثياب» مبتدأ، أي: ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو برفع «خضر» وجرّ «إستبرق». وقرأ ابن كثير وحفص بالعكس. وقرأ حمزة والكسائي: خضر وإستبرق بالجرّ.

( وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ) عطف على( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ) . ولا يخالفه قوله:( أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) (١) لإمكان أنّهم يسوّرون بالجنسين، إمّا على المعاقبة، وإمّا على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحليّ وتجمع بينها. وما أحسن بالمعصم أن

__________________

(١) الكهف: ٣١.

٢٨٤

يكون فيه سواران: سوار من ذهب، وسوار من فضّة. ويجوز أن يكون بالتبعيض، فإنّ حليّ أهل الجنّة تختلف باختلاف أعمالهم، فلعلّه تعالى يفيض عليهم جزاءلـما عملوه بأيديهم حليّا وأنوارا تتفاوت تفاوت الذهب والفضّة. ويمكن أن تكون الجملة حالا من الضمير في «عاليهم» بإضمار «قد». وعلى هذا يجوز أن يكون هذا للخدم، وذلك للمخدومين.

( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) نوعا آخر من الشراب يفوق على النوعين المتقدّمين، ولذلك أسند سقيه إلى اللهعزوجل . ووصفه بالطهور مبالغة، ليدلّ على أنّه ليس برجس كخمر الدنيا، لأنّ كونها رجسا بالشرع لا بالعقل، وليست الدار دار تكليف. أو لأنّه لم يعصر فتمسّه الأيدي الوضرة(١) ، وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان والأباريق الّتي لم يعن بتنظيفها. أو لأنّه لا يئول إلى النجاسة، لأنّه يرشّح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك.

وقيل: طهوريّته من حيث إنّه يطهّر شاربه عن الرذائل الخسيسة، والميل إلى اللذّات الحسيّة، والركون إلى ما سواه، فيتجرّد شاربه بالتوجّه التامّ إليه، ملتذّا به فارغا عن غيره. وهذا منتهى درجات الصدّيقين، ولأجل أنّ هذا أعظم نعم الجنّة ختم به ثواب الأبرار.

( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً ) على إضمار القول، أي: يقال لأهل الجنّة: إنّ هذا.

وهذا إشارة إلى ما عدّ من ثوابهم.( وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) أي: مجازى عليه غير مضيّع، فإنّ الشكر هاهنا مجاز عن الإثابة التامّة.

( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ

__________________

(١) أي: الوسخة. من: وضر وضرا، كان وسخا، فهو: وضر.

٢٨٥

اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١) )

ثمّ أمر سبحانه نبيّه بالصبر عن التأذّي من أقوال الكفّار وأفعال الأشرار، فقال:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ) مفرّقا منجّما لحكمة اقتضته. وتكرير الضمير مع «أنّ» فيه تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل، ليتقرّر في نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه إذا كان هو المنزّل لم يكن تنزيله على أيّ وجه إلّا حكمة وصوابا. كأنّه قيل: ما نزّل عليك القرآن تنزيلا مفرّقا منجّما إلّا أنا لا غيري، وقد عرفتني حكيما فاعلا لكلّ ما أفعله بدواعي الحكمة. ولقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافّة والمصابرة، وسأنزل عليك الأمر بالانتقام والقتال بعد حين.

( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) الصادر عن الحكمة الّتي من جملتها تعليقه الأمور بالمصالح، وتأخير نصرك على كفّار مكّة وغيرهم( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) أي: كلّ واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه، ومن الغالي في الكفر الداعي لك إليه، فإنّهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر، أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن لا يساعدهم على الاثنين دون الثالث.

٢٨٦

وروي: أنّهم مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه، يدعونه إلى أنّه يرجع عن أمره، ويبذلون له أموالهم، وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم. فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر على الإيذاء، ونهي عن إطاعة الكفرة فيما يرتكبون من المآثم ويدعونه إليه.

وقيل: الآثم: عتبة، والكفور: الوليد، لأنّ عتبة كان ركّابا للمآثم، متعاطيا لأنواع الفسوق. وكان الوليد غاليا في الكفر، شديد الشكيمة في العتوّ. وإنّما قال: «أو» ولم يقل بالواو العاطفة، ليكون نهيا عن إطاعتهما جميعا، لأنّه لو قال: ولا تطعهما، لجاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل: ولا تطع أحدهما، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما عن طاعتهما جميعا أنهى، كما إذا نهي أن يقول لأبويه: أفّ، علم أنّه منهيّ عن ضربهما على طريق الأولى.

( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً ) أوّل النهار( وَأَصِيلاً ) وعشيّا، وهو أصل الليل.

والمعنى: أقبل على شأنك من ذكر الله والدعاء إليه وتبليغ الرسالة صباحا ومساء، أي: دائما، فإنّ الله ناصرك ومؤيّدك ومعينك. أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر، فإنّ الأصيل يتناول وقتيهما.

( وَمِنَ اللَّيْلِ ) للتبعيض، لأنّه لم يأمره بقيام الليل كلّه. والمعنى: وبعض الليل( فَاسْجُدْ لَهُ ) فصلّ له. يعني: صلاة المغرب والعشاء. وتقديم الظرف لـما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص.

( وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) وتهجّد له طائفة طويلة من الليل: ثلثيه، ونصفه، وثلثه. وقيل: يريد التطوّع بعد المكتوبة. ويؤيّد الأوّل ما روي عن الرضاعليه‌السلام أنّه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية وقال: «ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل».

( إِنَّ هؤُلاءِ ) الكفرة( يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) يؤثرون اللذّات والمنافع العاجلة في دار الدنيا، كقوله:( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) (١) ( وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ ) أمامهم، أو

__________________

(١) الأعلى: ١٦.

٢٨٧

خلف ظهورهم، لا يعبئون به( يَوْماً ثَقِيلاً ) عسيرا، وشديدا هوله. مستعار من الشيء الثقيل الشاقّ الباهظ لحامله. ونحوه:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (١) . وهو كالتعليل لـما أمر به ونهى عنه. والمعنى: أنّهم لا يؤمنون به ولا يعملون له.

( نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ ) وأحكمنا ربط مفاصلهم وعظامهم بالأعصاب الّتي توصل بعضها ببعض، فإنّ الأسر الربط والتوثيق. ومنه: أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ(٢) ، وهو الإسار. وفرس مأسور الخلق، وترس مأسور بالعقب، أي: مربوط. ولو لا إحكامه إيّاها على هذا النظام لـما أمكن العمل بها والانتفاع منها.

وقيل: معناه: كلّفناهم وشددناهم بالأمر والنهي كيلا يجاوزوا حدود الله، كما يشدّ الأسير بالقيد لئلّا يهرب.

( وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً ) وإذا أردنا أهلكناهم وبدّلنا أمثالهم في الخلقة وشدّة الأسر. يعني: النشأة الثانية، ولذلك جيء بـ «إذا». أو بدّلنا غيرهم ممّن يطيع، ولكن نبقيهم إتماما للحجّة. وعلى هذا ؛ حقّه أن يجيء بـ «إن» لا بـ «إذا» لأنّه غير محقّق، كقوله:( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ) (٣) ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) (٤) ، لكن جيء بـ «إذا» لتحقّق القدرة والقوّة الداعية.

( إِنَّ هذِهِ ) إشارة إلى السورة أو الآيات القريبة( تَذْكِرَةٌ ) تذكير يتذكّر به أمر الآخرة( فَمَنْ شاءَ ) فمن اختار الخير لنفسه( اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ ) إلى رضا ربّه( سَبِيلاً ) تقرّب إليه بالطاعة والتوسّل إليه بالعبادة.

( وَما تَشاؤُنَ ) أيّها المعاندون المكذّبون اتّخاذ الطريق إلى مرضاة الله

__________________

(١) الأعراف: ١٨٧.

(٢) القدّ: السير يقدّ من جلد.

(٣) محمد: ٣٦.

(٤) إبراهيم: ١٩.

٢٨٨

اختيارا( إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) إلّا وقت مشيئة الله أن يقسركم ويجبركم، ولا ينفعكم ذلك حينئذ، لزوال التكليف الاختياري المنوط به الثواب والعقاب. وقرأ ابن كثير وابن عامر: يشاؤن بالياء. وليس المعنى: أنّه سبحانه يشاء كلّ ما يشاء العباد من المعاصي والمباحات وغيرها، لأنّ الدلائل الواضحة قد دلّت على أنّه سبحانه لا يجوز أن يريد القبائح، ويتعالى عن ذلك، وقد قال سبحانه:( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (١) .

( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً ) بأحوالهم وما يكون منهم( حَكِيماً ) حيث خلقهم مع علمه بهم.

( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ ) من الطالبين سبيل الخير( فِي رَحْمَتِهِ ) في جنّته بالهداية والتوفيق للطاعة( وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) نصب «الظالمين» بفعل يفسّره «أعدّ لهم» مثل: أوعد وكافأ، فيطابق الجملة المعطوف عليها. وهذه القراءة المتواترة أولى من قراءة ابن مسعود: وللظّالمين، وقراءة ابن الزبير: والظّالمون بالابتداء، لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف عليها فيها، مع مخالفتها للمصحف.

__________________

(١) غافر: ٣١.

٢٨٩
٢٩٠

(٧٧)

سورة المرسلات

مكّيّة. وهي خمسون آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن قرأ سورة والمرسلات كتب أنّه ليس من المشركين».

وروي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأها عرّف الله بينه وبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) )

٢٩١

ولـمّا ختم سبحانه سورة هل أتى بذكر القيامة وما أعدّ فيها للظالمين، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْمُرْسَلاتِ ) أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهنّ( عُرْفاً ) نصب على العلّة، أي: للأمر بالمعروف الحسن عقلا وشرعا. أو على الحال، بمعنى المتتابعة، من عرف الدابّة والضبع. يقال: جاؤا عرفا واحدا. وهم عليه كعرف الضبع، إذا تألّبوا عليه، أي: اجتمعوا عليه.( فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ) فعصفن في امتثال أمره عصف الرياح في الهبوب.

( وَالنَّاشِراتِ نَشْراً ) وبطوائف منهنّ نشرن أجنحتهنّ في الجوّ عند انحطاطهنّ بالوحي. أو نشرن الشرائع في الأرض. أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين من العلم.( فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ) ففرقن بين الحقّ والباطل.

( فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ) فألقين إلى الأنبياء ذكر الأحكام الشرعيّة.

أو أقسم بآيات القرآن المرسلة بكلّ معروف إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعصفن سائر الكتب والأديان بالنسخ، ونشرن آثار الهدى والحكم في المشرق والمغرب، ففرقن بين الحقّ والباطل، فألقين ذكر الحقّ فيما بين العالمين.

أو بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها، فعصفن ما سوى الحقّ، ونشرن أثر ذلك الاستكمال في جميع الأعضاء، ففرقن بين الحقّ بذاته والباطل في نفسه، فيرون كلّ شيء هالكا إلّا وجهه، فألقين ذكرا بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلّا ذكر الله.

أو برياح عذاب أرسلن متتابعة فعصفن، ورياح رحمة نشرن السحاب في الجوّ ففرقن بينه، كقوله:( وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ) (١) . أو بسحائب أو أمطارها نشرن الموات، ففرقن بين من يشكر لله وبين من يكفر، كقوله :

__________________

(١) الروم: ٤٨.

٢٩٢

( لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) (١) . فألقين ذكرا، أي: تسبّبن له، فإنّ العاقل إذا شاهد هبوب الرياح ومنافعها، أو السحائب وآثارها، ذكر الله تعالى وتذكّر كمال قدرته.

( عُذْراً أَوْ نُذْراً ) مصدران لـ: عذر إذا محا الإساءة، وأنذر إذا خوّف، كالكفر والشكر. أو جمعان لعذير بمعنى المعذرة، ونذير بمعنى الإنذار. أو بمعنى العاذر والمنذر. ونصبهما على الأوّلين بالعلّيّة، أي: عذرا للمحقّين الّذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم، أو نذرا للمبطلين الّذين يغفلون عن شكر منعهم ويجحدونه.

أو بالبدل من «ذكرا» على أنّ المراد به الوحي، أو ما يعمّ التوحيد والشرك والإيمان والكفر. وعلى الأخير بالحاليّة، بمعنى: عاذرين أو منذرين. وقرأهما حمزة وأبو عمرو والكسائي وحفص بالتخفيف.

وجواب القسم( إِنَّما تُوعَدُونَ ) أي: إنّ الّذي توعدونه من مجيء القيامة( لَواقِعٌ ) كائن لا محالة.

( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) محيت ومحقت ذواتها، أي: ذهب بنورها، ثمّ تنشر ممحوقة النور.

( وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ) صدعت وفتحت فكانت أبوابا.

( وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) قلعت من أماكنها، كالحبّ ينسف بالمنسف. ونحوه قوله تعالى:( وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ) (٢) ( وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً ) (٣) . وقيل: أخذت بسرعة من أماكنها. من: انتسفت الشيء إذا اختطفته.

( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) عيّن وقت حضورهم فيه للشهادة على الأمم. أو بلغوا ميقاتهم الّذي كانوا ينتظرونه، وهو يوم القيامة. وقرأ أبو عمرو: وقّتت على الأصل.

__________________

(١) الجنّ: ١٦ ـ ١٧.

(٢) الواقعة: ٥.

(٣) المزّمّل: ١٤.

٢٩٣

( لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ) أي: يقال: لأيّ يوم أخّرت الرسل، وضرب الأجل لجمعهم؟ وفيه تعظيم لليوم، وتعجيب من هوله. ويجوز أن يكون ثاني مفعولي «أقّتت» على أنّه بمعنى: أعلمت.

( لِيَوْمِ الْفَصْلِ ) بيان ليوم التأجيل، أي: اليوم الّذي يفصل فيه بين الخلائق( وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ ) ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله؟

( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) أي: بذلك اليوم. و «ويل» في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعله، عدل به إلى الرفع للدلالة على إثبات الهلاك ودوامه للمدعوّ عليه. ونحوه:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) (١) . و «يومئذ» ظرفه أو صفته. وإنّما خصّ الوعيد بمن جحد يوم القيامة وكذّب به، لأنّ التكذيب به يتبعه خصال المعاصي كلّها وإن لم تذكر معه.

( أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ

__________________

(١) الأنعام: ٥٤.

٢٩٤

تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) )

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بالمكذّبين الأوّلين تهديدا لمشركي مكّة، فقال:( أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ) بالعذاب في الدنيا، كقوم نوح وعاد وثمود حين كذّبوا رسلهم( ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ) أي: ثمّ نحن نتبعهم نظراءهم، ككفّار مكّة( كَذلِكَ ) مثل ذلك الفعل الشنيع( نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) بكلّ من أجرم. يعني: نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأوّلين، ونسلك بهم سبيلهم، لأنّهم كذّبوا مثل تكذيبهم.

( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) بآيات الله وأنبيائه، فليس بتكرير. وكذا إن أطلق التكذيب، لأنّ الويل الأول لعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا. مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب، كما مرّ في سورة الرحمن.

( أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) نطفة قذرة ذليلة( فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ) هو الرحم( إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) إلى مقدار معلوم من الوقت قدّره الله للولادة وحكم به، وهو تسعة أشهر أو ما دونها أو ما فوقها( فَقَدَرْنا ) على خلقته كيف يكون، قصيرا أم طويلا، ذكرا أم أنثى. أو فقدّرناه. ويدلّ عليه قراءة نافع والكسائي بالتشديد ،

٢٩٥

وقوله:( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) (١) .( فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ) نحن عليه. ولا يخفى أنّ في خلق الإنسان على هذا الكمال من الحواسّ الصحيحة والعقل الشريف والتمييز والنطق من ماء ضعيف، أعظم الاعتبار وأبين الحجّة على أنّ له صانعا قادرا مدبّرا حكيما، والجاحد لذلك كالمكابر لبداهة العقول.( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) بقدرتنا على ذلك، أو على الإعادة.

( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ) كافتة. اسم لـما يكفت، أي: يضمّ ويجمع، كالضمام والجماع لـما يضمّ ويجمع. يقال: هذا الباب جماع الأبواب. أو مصدر نعت به. أو جمع كافت، كصائم وصيام. أو جمع كفت، وهو الوعاء.

( أَحْياءً وَأَمْواتاً ) منتصبان على المفعوليّة، كأنّه قيل: كافتة أحياء وأمواتا، أي: جامعة إيّاهما. أو بفعل مضمر يدلّ عليه «كفاتا»، وهو: تكفت. والمعنى: تكفت أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها. وتنكيرهما للتفخيم، كأنّه قيل: تكفت أحياء لا يعدّون، وأمواتا لا يحصرون. أو لإفادة التبعيض، لأنّ أحياء الإنس وأمواتهم بعض الأحياء والأموات. أو على الحاليّة من مفعول «كفاتا» المحذوف، وهو الإنس، لأنّه قد علم أنّها كفات الإنس. أو منتصبان بـ «نجعل» على المفعوليّة، و «كفاتا» حال. والمعنى: نجعلها ما ينبت وما لا ينبت حال كونها كافتة لهما.

( وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ) جبالا ثوابت طوالا( وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ) بخلق الأنهار والمنابع فيها. وتنكير الثلاثة للتفخيم، وإشعارا بأنّ فيها ما لم يعرف ولم ير، لأنّ في السماء جبالا، قال الله تعالى:( مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ) (٢) . وفيها ماء فرات أيضا، بل هي معدنه ومصبّه.( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) بأمثال هذه النعم.

__________________

(١) عبس: ١٩.

(٢) النور: ٤٣.

٢٩٦

( انْطَلِقُوا ) أي: يقال لهم: انطلقوا( إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) من العذاب( انْطَلِقُوا ) خصوصا. وعن يعقوب: انطلقوا، على الإخبار من امتثالهم للأمر، لأنّهم مضطرّون إليه لا يستطيعون امتناعا منه.( إِلى ظِلٍ ) أي: ظلّ دخان جهنّم، كقوله :

( وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) (١) .( ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) يتشعّب لعظمه، كما ترى الدخان العظيم يتفرّق تفرّق الذوائب.

وقيل: يخرج لسان من النار فيحيط بالكفّار كالسّرادق، ويتشعّب من دخانها ثلاث شعب، فتظلّهم حتّى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظلّ العرش.

وخصوصيّة الثلاث إمّا لأنّ حجاب النفس عن أنوار القدس: الحسّ، والخيال، والوهم. أو لأنّ المؤدّي إلى العذاب هو القوّة الواهمة الحالّة في الدماغ، والغضبيّة الّتي في يمين القلب، والشهويّة الّتي في يساره. ولذلك قيل: شعبة تقف فوق الكافر، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن يساره.

( لا ظَلِيلٍ ) أي: غير مانع من الأذى بستره عنه. ومثله: الكنين. فالظليل من الظلّة، وهي السترة، والكنين من الكنّ(٢) . وفيه تهكّم بهم وتعريض بأن ظلّهم غير ظلّ المؤمنين، وردّ لـما أوهم لفظ الظلّ.( وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ) في محلّ الجوّ، أي: غير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئا. وهو ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر. يعني: أنّهم إذا استظلّوا بذلك الظلّ لم يدفع عنهم حرّ اللهب.

ثمّ وصف النار بقوله:( إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ) وهو ما يتطاير من النار في الجهات، أي: كلّ شرارة كالقصر من القصور في عظمها. وقيل: هو جمع قصرة، وهي الشجرة العظيمة الغليظة، نحو: جمرة وجمر.( كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ ) جمع

__________________

(١) الواقعة: ٤٣.

(٢) الكنّ: البيت، وقاء كلّ شيء وستره.

٢٩٧

جمال. أو جمالة جمع جمل، فإنّ الشرار بما فيه من الناريّة يكون أصفر. وقيل: سود، لأنّ سواد الإبل يضرب إلى الصفرة. والأوّل تشبيه في العظم، وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط وسرعة الحركة.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص: جمالة. وعن يعقوب: جمالات بالضمّ، جمع جمالة، وهي الحبل الغليظ من حبال السفينة، شبّهه بها في امتداده والتفافه.

( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) بأمثال هذه العقوبات.

( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) أي: بما يستحقّ، فإنّ النطق بما لا ينفع كلا نطق. أو بشيء أصلا من فرط الدهشة والحيرة. وهذا في بعض المواقف، فإنّ يوم القيامة طويل ذو مواطن ومواقيت، ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت، ولذلك ورد الأمران في القرآن.

وعن قتادة قال: جاء رجل إلى عكرمة فقال: أرأيت قول الله تعالى:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) وقوله:( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) (١) . فقال: إنّها مواقف، فأمّا موقف منها فتكلّموا واختصموا، ثمّ ختم على أفواههم وتكلّمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون.

( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) عطف على «يؤذن» منخرط في سلك النفي.

والمعنى: ولا يكون لهم إذن واعتذار عقيبه. ولو نصب لكان مسبّبا عنه لا محالة.

ويدلّ هذا على أنّ عدم اعتذارهم لعدم الإذن. وأوهم ذلك أنّ لهم عذرا لكن لا يؤذن لهم فيه.( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) بهذا الخبر.

( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ) بين المحقّ والمبطل( جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ) تقرير وبيان للفصل، لأنّه إذا كان يوم الفصل بين السعداء والأشقياء وبين الأنبياء وأممهم، فلا بدّ

__________________

(١) الزمر: ٣١.

٢٩٨

من جمع الأوّلين والآخرين حتّى يقع ذلك الفصل بينهم.

( فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) إن كانت لكم حيلة. وهذا تقريع على كيدهم لدين الله وللمؤمنين في الدنيا، وتسجيل عليهم بعجزهم واستكانتهم.( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) إذ لا حيلة لهم في التخلّص من العذاب.

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) )

ثمّ ذكر سبحانه أحوال المؤمنين، فقال:( إِنَّ الْمُتَّقِينَ ) عن الشرك، لأنّهم في مقابلة المكذّبين( فِي ظِلالٍ ) من أشجار الجنّة( وَعُيُونٍ ) جارية بين أيديهم في غير أخدود(١) ، لأنّ ذلك أمتع لهم( وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) يتمنّون. يعني: مستقرّون في أنواع الترفّه.

( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً ) خالصا من التكدّر والأذى( بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) والأمر في موضع الحال من ضمير المتّقين، في الظرف الّذي هو «في ظلال» أي: هم مستقرّون في ظلال، مقولا لهم ذلك. وهذا الأمر للإباحة.

( إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) في العقيدة. هذا ابتداء إخبار من الله تعالى. أو يقال لهم ذلك أيضا.

( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) بأنّه يمحّض لهم العذاب المخلّد، ولخصومهم الثواب المؤبّد.

__________________

(١) الأخدود: الحفرة المستطيلة.

٢٩٩

( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠) )

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر المكذّبين، فقال:( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا ) في الدنيا( قَلِيلاً ) أي: تمتّعا قليلا، أو زمانا قليلا، فإنّ الموت كائن لا محالة( إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) حال من المكذّبين، أي: الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك في الآخرة، إيذانا بأنّهم كانوا في الدنيا أحقّاء بأن يقال لهم ذلك، تذكيرا لهم بحالهم السمجة، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم. ويجوز أن يكون ذلك كلاما مستأنفا خطابا للمكذّبين في الدنيا، دلالة على أنّ كلّ مجرم ما له إلّا الأكل والتمتّع أيّاما قلائل، ثمّ البقاء في الهلاك أبدا.( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) بما ذكر.

( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا ) اخشعوا لله وتواضعوا له واخضعوا، بقبول وحيه واتّباع دينه، واطرحوا هذا الاستكبار والنخوة( لا يَرْكَعُونَ ) لا يمتثلون ذلك، ويصرّون على استكبارهم.

وقيل: المراد الأمر بالصلاة أو بالركوع فيها، إذ روي أنّها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصلاة، فقالوا: لا ننحني، أي: لا نركع، فإنّها مسبّة علينا. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود. واستدلّ به على أنّ الأمر للوجوب، وأنّ الكفّار مخاطبون بالفروع.

وقيل: هو يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون.( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) بذلك.

( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ ) بعد القرآن( يُؤْمِنُونَ ) إذا لم يؤمنوا به. يعني: أنّ القرآن من بين الكتب المنزلة آية مبصرة ومعجزة باهرة، مشتملة على الحجج الواضحة والمعاني الشريفة، فحين لم يؤمنوا به فبأيّ كتاب بعده يؤمنون؟!

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579