زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير10%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51583 / تحميل: 4109
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٩-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

ورد في كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان )(١) ثلاث حكايات وقعت ببركة صاحب المقام عجل الله تعالى فرجه الشريففي القرن الثامن الهجري ، لم تقتري الحكاية الأولى بتاريخ لكن الحكايتين التاليتين ورد فيهما تاريخ صريح ، فلنورد الحكاية الأولى ثم الثانية والثالثة تباعاً

وقبل أن ننقل الحكايات الثلاث ، تذكر ترجمة صاحب الكتاب ، وثناء العلماء عليه حتى يتبين لنا صدقه في النقل.

أقول : إن مؤلف كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان ) ، هو السيد بهاء الدين علي ابن السيد غياث الدين عبد الكريم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي غياث الدين(٢) ابن السيد جلال الدين عبد الحميد(٣) بن عبد الله بن أسامة(٤) بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر(٥) بن يحيى ( القائم

__________________

١ ـ نقلاً عن بحار الأنوار / للعلامة المجلسي ( أعلى الله مقامه ).

٢ ـ الذي خرج عليه جماعة من العرب بشط سوراء بالعراق وحملوا عليه وسلبوه فمانعهم عن سلب سراويله فضربه أحدهم فقتله وكان عالماً تقياً.

٣ ـ الذي يروي عنه محمد بن جعفر المشهدي في المزار الكبير وقال فيه : أخبرني السيد الأجل العالم عبد الحميد بن التقي عبد الله بن أسامة العلوي الحسيني رَضيَ اللهُ عَنه في ذي القعدة نم سنة ثمانين وخمسمائة قراءة عليه بحلة الجامعين.

٤ ـ متولّي النقابة بالعراق.

٥ ـ الوئيس الجليل الذي رد الله على يده الحجر الأسود لما نهبت القرامطة مكة في سنة

٦٢

٦٣

بالكوفة ) ابن الحسين ( النقيب الطاهر ابن أبي عاتقة أحمد الشاعر المحدث ) ابن أبي علي عمر بن أبي الحسين يحيى(١) ابن أبي عاتقة الزاهد العابد الحسين(٢) بن زيد الشهيد ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب: النيلي(٣) النجفي النسابة.

وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد المجاز منه في ٧٩١ هـ أدرك أواخر عهد فخر المحققين تـ ٧٧١ هـ والسيدين العلمين عميد الدين وضياء الدين والشهيد محمد بن مكي العاملي ويروي عنهم جميعاً ، كما يروي عن الشيخ المقريء والحافظ شمس الدين محمد بن قارون وغيرهم.

وأما كتابه هذا فقد نقل عنه الشيخ حسن ين سليمان الحلي ( من علماء القرن التاسع ) في كتابه ( مختصر بصائر الدرجات ) ص ١٧٦ ، والعلامة المجلسي; في ( بحار الأنوار ) ، والميرزا الافندي; في ( رياض العلماء ) والبهبهاني; في ( الدمعة الساكبة ).

__________________

ثلاث وعشرين وثلاثمائة وأخذوا الحجر وأتو به إلى الكوفة وعلقوه في السارية السابعة من المسجد التي كان ذكرها أمير المؤمنين7 فإنه قال ذات يوم بالكوفة : لا بد أن يسلب في هذه السارية وأومى إلى السارية السابعة والقصة طويلة وبنى قبة جده أمير المؤمنين7 من خالص ماله.

١ ـ من أصحاب الكاظم7 المقتول سنة خمسين ومثتين الذي حمل رأسه في قوصرة إلى المستعين.

٢ ـ الملقب بذي الدمعة الذي رباه الإمام الصادق7 وأورثه علماً جمّا.

٣ ـ النيل : بلدة تقع على نهر النيل ، وهو يتفرع من نهر الفرات العظمى احتفره الحجاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٢ هـ وهي مركز الإمارة المزيدية قبل تأسيس الحلة.

٦٤

ويظهر من بعض حكايات الكتاب أن تاريخ كتابته سنة ٧٨٩ هـ(١) وللسيد هذا كتب أخرى لا أرى بايراد أسمائها هنا بأساً :

أ ـ كتاب الأنوار المضيّة في الحكم الشرعية.

ب ـ كتاب الغيبة.

جـ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد.

د ـ سرور أهل الإيمان.

هـ ـ كتاب الانحراف من كلام صاحب الكشاف.

و ـ كتاب الأنصاف في الرد على صاحب الكشاف.

ز ـ كتاب شرح المصباح للشيخ الطوسي.

ي ـ كتاب الرجال ( ينسب اليه ).

في الثناء عليه :

قال تلميذه ابن فهد الحلي; تـ ٨٤١ هـ : حدثني المولى السيد السعيد الإمام بهاء الدين

وقال تلميذه الشيخ حسن بن سليمان الحلي; : ومما رواه لي ورويته عنه السيد الجليل السعيد الموفق الموثق بهاء الدين

وقال العلامة المجلسي; : السيد النقيب الحسيب بهاء الدين

وقال الميرزا الافندي; : السيد المرتضى النقيب الحسيب

__________________

١ ـ وللاسف الشديد ان هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن برغم وجود نسخه الخطية في المكتبات العامة فمن قلمنا هذا ندعو مؤسسات النشر والتأليف إلى اخراجه للطبع وطبع كتب هذا السيد الجليل وتحقيقها خدمة للمذهب الإمامي واحياءً لآثار هذا السيد الجليل.

٦٥

النسابة الكامل السعيد الفقيه الشاعر الماهر العالم الفاضل الكامل صاحب المقامات والكرامات العظيمة قدس الله روحه الشريفة كان من أفاضل عصره وقال الميرزا النوري; : السيد الأجل الأكمل الارشد المؤيد العلامة النحرير ،(١) كان حياً سنة ٨٠٠ هـ

الحكاية الأولى :

حكاية أبي راجح الحمامي الشيخ الذي أصبح شاباً

نقل العلامة المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١١ هـ ) في بحار الانوار عن كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الايمان ) تأليف العامل الكامل السيد علي بن عبد الحميد النيلي النجفي ، انه قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع ، وملأ البقاع ، وشهد بالعيان أبناء الزمان ، وهو قصّة أبي راجح الحمامي بالحلة ، وقد حكى ذلك جماعة من الاعيان الاماثل ، وأهل الصدق الافاضل ، منهم الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون سلّمه الله تعالى قال :

كان الحاكم بالحلة شخصاً يدعى مرجان الصغير ، فرفع إليه أنّ أباراجح هذا يسبّ الصحابة ، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه ، حتى انه ضرب على وجهه فسقطت ثناياه ، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد ، وخرق النفه ، ووضع فيه شركة من الشعر وشدّ فيها حبلاً وسلمه الى جماعة من اصحابه ،

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٤ / ص ٨٨ و ١٢٤ ـ ١٣٠ ، خاتمة المستدرك ط ح ص ٤٣٥ ، سفينة البحار ج ٢ / ط. ح / ص ٢٤٨ الذريعة في أجزائها وطبقات أعلام الشيعة.

٦٦

وأمرهم أن يدوروا به أزقّة الحلة ، والضرب يأخذه من جميع جوانبه ، حتى سقط الى الارض وعاين الهلاك ، فأخبر الحاكم بذلك ، فأمر بقتله ، فقال الحاضرون انه شيخ كبير ، وقد حصل له ما يكفيه ، وهو ميّت لما به فاتر كه وهو يموت حتف أنفه ، ولا تتقلّد بدمه ، وبالغوا في ذلك حتى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه ، فنقله أهله في البيت ولم يشكّ أحدّ أنه يموت من ليلته.

فلما كان من الغدغدا عليه الناس فاذا هو قائم يصلّي على أتم حالة ، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت ، واندملت جراحاته ، ولم يبق لها أثر ، والشجّة قد زالت من وجهه!

فعجب الناس من حاله وساءلوه عن أمره فقال : اني لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان اسأل الله تعالى به فكنت اسأله بقلبي واستغثت الى سيدي ومولاي صاحب الزمان7 .

فلما جنّ عليّ الليل فاذا بالدار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزمان7 قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال لي : ( اخرج وكدّ على عيالك ، فقد عافاك الله تعالى ) فأصبحت كما ترون.

وحكى الشيخ شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

وأقسم بالله تعالى إن هذا ابو راجح كان ضعيفاً جداً ، ضعيف التركيب ، اصفر اللون ، شين الوجه ، مقرض اللحية ، وكنت دائماً أدخل في الحمام الذي هو فيه ، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل.

فلما أصبحت كنت ممن دخل عليه ، فرأيته وقد اشتدّت قوته وانتصبت قامته ، وطالت لحيته ، واحمر وجهه ، وعاد كأنّه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتى أدر كته الوفاة.

٦٧

ولما شاع هذا الحبر وذاع ، طلبه الحاكم وأحضره عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة ، وهو الان على ضدّها كما وصفناه ، ولم يرَ لجراحاته أثراً ، وثناياه قد عادت ، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم ، وكان يجلس في مقام الأمام7 في الحلة ويعطي ظهره القبلة الشريفة ، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها ، وعاد يتلطّف بأهل الحلة ، ويتجاوز عن مسيئهم ، ويحسن الى محسنهم ، ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك الا قليلاً حتى مات.(١)

أقول : روحي وأرواح العالمين لك الفداء.

إيه أيتها الجوهرة المحفوفة بالاسرار كم جهلناك وكم بخسناك حقك؟!

كم أغفلنا ذكرك وانشغلنا بغيرك كم سرحنا أفكارنا بعيداً عنك؟

أترك تعطف علينا اليوم بنظرة من تلك التي مننت بها على ذاك الرجل صاحب الحمام ( العمومي ) ، فتمسح قلوبنا بذاك الاكسير؟! فنحن في هذا الحمى.

بحث حول الحكاية :

أقول : إن هذه الحكاية مشهورة ومتواترة النقل في عصر المؤلف السيد بهاء الدين وتناقلها علماء الحلة ، انظر إلى قول السيد في بداية الحكاية ( فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهد بالعيان أبناء الزمان وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق الأفاضل ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧١ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢١٩.

٦٨

في أحوال راوي الحكاية وعصرها :

أقول : إن راوي الحكاية هو شمس الدين محمد بن قارون الذي لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، فللفائدة والاستدراك على الكتب الرجالية نذكر ترجمته :

قال السيد بهاء الدين : انه من الأعيان وأهل الصدق الأفاضل ، وقال عنه أيضاً الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون ،(١) المحترم العامل الفاضل(٢) الشيخ العالم الكامل القدوة المقري الحافظ المحمود المعتمرشمس الحق والدين محمد بن قارون.(٣)

وكما قال عنه الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي ،(٤) وكما وصفه أيضاً الشيخ عز الدين حسن بن عبد الله بن حسن التغلبي بـ ( الشيخ الصالح محمد بن قارون ) ،(٥) كان حياً سنة ٧٥٩ هـ

فهو يعد من مشايخ السيد بهاء الدين ، يعني أن شمس الدين كان بالقطع مععاصراً للشهيد الأول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) فاذن وجود شمس الدين محمد بن قارون في بداية القرن الثامن الهجري حياً وروايته لهذه الحكاية ، يدل على أن الحكاية وقعت في النصف الأول من هذا

__________________

١ ـ انظر : بحار الأنوار / المجلسي; ، ج ٥٢ / ص ٧١.

٢ ـ انظر : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ انظر : جنة المأوى / النوري; ص ٢٠٢.

٤ ـ نسبة إلى ( السيب ) بكسر أوله وسكون ثانيه ، وهو نهر في ذنابة الفرات بقرب الحلة ، وعليه بلد يسمى باسمه.

٥ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد نقلا عن رياض العلماء ج ٢ / ص ١١.

٦٩

القرن السالف الذكر والدليل على ذلك الحكاية الثانية التالية والتي يرويها أيضا شمس الدين محمد بن قارون والحاصلة في سنة ٧٤٤ هـ

وهو غير الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني ، تلميذ السيد فخار بن معد الموسوي المجاز منه سنة ٦٣٠ هـ ( وهي سنة وفاة السيد فخار ) وهو صغير لم يبلغ الحلم وأجازه الشيخ والده أحمد سنة ٦٣٥ هـ وأجازه الشيخ محمد بن أبي البركات اليماني الصنعاني سنة ٦٣٦ هـ والمجيز لنجم الدين طومان بن أحمد العاملي سنة ٧٢٨ هـ فإن هذا الشيخ متقدم على الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي.(١)

تنبيه لكل نبيه :

قال ابن بطوطة في رحلته ( سافرنا من البصرة فوصلنا إلى مشهد علي ابن ابي طالب رَضي اللهُ عَنه وزرنا ، ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان واتفق في بعض الأيام أن وليها بعض الامراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم الى مسجد صاحب الزمان وانتظاره هنالك ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا انما أصابه ذلك لأجل منعه الابة فلم تمنع بعد ).(٢)

أقول : ان كلام ابن بطوطة المتقدم آنفاً هو في زيارته الثانية للحلة ، فابن بطوطة مرَّ في الحلة مرتين الأولى كانت سنة ٧٢٥ هـ في عهد الوالي ( حسن

__________________

١ ـ انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني; ج ١ / ص ٢٢٩ و ٢٢٠.

٢ ـ انظر : رحلة ابن بطوطة ج ٢ / ص ١٧٤.

٧٠

الجلايري ) والثانية بعد عودته من بلاد الهند والصين والتتر وبينهما عدة سنين ، وأظن ان الوالي المذكور في حكاية أبي راجح الحمامي والمذكور في زيارة ابن بطوطة الثانية واحد باعتبار أن عصر الحكايتين واحد وان الوالي المذكور في الحكايتين كان يؤذي أهل الحلة ( فالأمر ليس أمر انتظار صاحب الزمان ولا أمر الدابة ) ، وقد مات بفعله هذا ، وهذا عن أهل الحلة ليس ببعيد ففيهم بقول أمير المؤمنين7 : ( يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرقسمه ).(١)

الحكاية الثانية :

حكاية ابن الخطيب وعثمان والمرأة العمياء التي أبصرت

ونقل من ذلك الكتاب عن الشيخ المحترم العامل الفاضل شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

كان من أصحاب السلاطين المعمر بن شمس يسمى مذوّر ، يضمن القرية المعروفة ببرس ، ووقف العلويين ، وكان له نائب يقال له : ابن الخطيب وغلام يتولّى نفقاته يدعى عثمان ، وكان ابن الخطيب من أهل الصلاح والايمان بالضدّ من عثمان وكانا دائماً يتجادلان ، فاتفق انهما حضرا في مقام ابراهيم الخليل7 بمحضر جماعة من الرّعيّة والعوام فقال ابن الخطيب لعثمان : يا عثمان الان اتضح الحق واستبان ، أنا أكتب على يديّ من أتولاه ، وهم علي والحسي والحسين ، واكتب أنت من تتولاه ابوبكر وعمر وعثمان ، ثم تشدّ يديّ ويدك ، فأيّهما احترقت يده بالنار كان على الباطل ، ومن سلمت يده كان على الحق ، فنكل عثمان ، وأبى أن يفعل ، فأخذ الحاضرون من الرّعيّة

____________

١ ـ انظر : بحار الأنوار المجلسي; ج ٦ / ص ١٢٢.

٧١

والعوان بالعياط عليه ، هذا وكانت ام عثمان مشرفة عليهم تسمع كلامهم فلمّا رأت ذلك لعنت الحضور الذين كانوا يعيّطون على ولدها عثمان وشتمتهم وتهدّدت وبالغت في ذلك فعميت في الحال! فلما أحست بذلك نادت الى رفقائها فصعدن اليها فاذا هي صحيحة العينين! لكن لاترى شيئاً ، فقادوها وأنزلوها ، ومضوا بها الى الحلة وشاع خبرها بين الصحابها وقرائبها وترائبها ، فاحضروا لها الاطباء من بغداد والحلة ، فلم يقدروا لها على شيء ، فقال لها نسوة مؤمنات كنّ أخدانها : ان الذي أعماكِ هو القائم7 فأن تشيعتي وتولّيتي وتبرأتي ( كذا )(١) ضمنّا لك العافية على الله تعالى ، وبدون هذا لا يمكنك الخلاص ، فأذعنت لذلك ورضنبت به ، فلما كانت ليلة الجمعة حملنها حتى أدخلنها القبة الشريفة في مقام صاحب الزمان7 وبتن بأجمعهنّ في باب القبة ، فلما كان ربع الليل فاذا هي قد خرجت عليهنّ وقد ذهب العمى عنها! وهي تقعدهنّ واحدة بعد واحدة وتصف ثيابهنّ وحليَهنَ ، فسررن بذلك ، وحمدنَ الله تعالى على حسن العافية ، وقلن لها : كيف كان ذلك؟! فقالت : لما جعلتنني في القبة وخرجتنّ عني أحسست بيد قد وضعت على يديّ ، وقائل يقول : اخرجي قد عافاك الله تعالى. فانكشف العمى عني ورأيت القبة قد امتلات ونوراً ورأيت الرجل ، فقلت له : من أنت يا سيدي؟ فقال : محمد بن الحسن ، ثم غاب عني ، فقمنَ وخرجنَ الى بيوتهنّ وتشيّع ولدها عثمان وحسن اعتقاده واعتقاد أمه المذكورة ، واشتهرت القصة بين أولئك الأقوام ومن سمع هذا الكلام واعتقد وجود الأمام7 وكان ذلك في سنة أربع واربعين وسبعمائة.(٢)

__________________

١ ـ كذا ورد في المطبوع والاصح ( تشيعتِ وتوليتِ وتبرأتِ ).

٢ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٢ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢٢٠.

٧٢

أقول : حدثت هذه الكرامة سنة ( ٧٤٤ هـ / ١٣٢٣ م ) وراويها محمد بن قارون المتقدم ذكره وترجمته في الحكاية الأولى من هذا الباب.

وبرس : بضم الباء وسكون الراء والسين المهملة ناحية من ارض بابل وهي بحضرة الصرح ( صرح نمرود بن كنعان ) وهي الآن قرية معروفة بقبل الكوفة وينسب إليها الحافظ رجب البرسي; .

ومقام ابراهيم الخليل7 : موجود الى زماننا هذا ويقع بالحلة في تلك القرية ( تشرفت بزيارته انا عدة مرات ).

لحكاية الثالثة :

حكاية شفاء الشيخ جمال الدين الزهدري

وذكر هناك أيضاً : أي ( في كتاب السلطان المفرج عن أهل الايمان ).

ومن ذلك بتأريخ صفر سنة سبعمائة وتسع وخمسين حكي لي المولى الاجل الامجد العالم الفاضل ، القدوة الكامل ، المحقّق المدقّق ، مجمع الفضائل ومرجع الافاضل ، افتخار العلماء في العالمين ، كمال الملة والدين ، عبد الرحمن ابن العمّاني ( كذا ) ، وكتب بخطه الكريم ، عندي ما صورته :

قال العبد الفقير الى رحمة الله تعالى عبد الرحمن بن ابراهيم القبائقي :(١) اني كنت أسمع في الحلة السيفية حماها الله تعالى ان المولى الكبير المعظم جمال الدين ابن الشيخ الاجل الاوحد الفقيه القاريء نجم الدين جعفر ابن الزاهدري كان به فالج ، فعالجته جدّته لأبيه بعد موت أبيه بكل علاج للفالج فلم يبرأ ، فأشار عليها بعض

__________________

١ ـ هكذا ورد في الاصل والصحيح العتالقي.

٧٣

الاطباء ببغداد فأحضرتهم فعالجوه زماناً طويلاً فلم يبرأ ، وقيل لها :ألا تبيّتينه تحت القبة الشريفة بالحلة المعروفة بمقام صاحب الزمان 7 لعل الله تعالى يعافيه ويبرأه ، ففعلت وبيّتته تحتها وان صاحب الزمان7 أقامه وأزال عنه الفالج.

ثم بعد ذلك حصل بيني وبينه صحبة حتى كّنا لم نكد نفترق ، وكان له دار المعشرة ، يجتمع فيها وجوه أهل الحلة وشبابهم وأولاد الاماثل منهم ، فاستحكيته عن هذه الحكاية ، فقال لي :

إني كنت مفلوجاً وعجز الاطباء عني ، وحكى لي ما كنت اسمعه مستفاضاً في الحلة من قضيته وان الحجة صاحب الزمان7 قال لي : ( وقد أباتتني جدّتي تحت القبة ) :قم.

فقلت : ياسيدي لا أقدر على القيام منذ سنتي ، فقال :قم باذن الله تعالى وأعانني على القيام ، فقمت وزال عني الفالج ( أي شلل الاعضاء ).

وانطبق عليّ الناس حتى كادوا يقتلونني ، وأخذوا ما كان عليّ من الثياب تقطيعاً وتنتيفاً يتبرّكون فيها ، وكساني الناس من ثيابهم ، ورحت الى البيت ، وليس بيّ أثر الفالج ، وبعثت الى الناس ثيابهم ، وكنت أسمعه يحكي ذلك للناس ولمن يستحكيه مراراً حتى مات; .(١)

بحث حول الحكاية :

تاريخ الحكاية : أقول ، إنَّ تاريخ نقل هذه الحكاية هو سنة ( ٧٥٩ هـ ـ ١٢٣٨ م ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٣.

٧٤

راوي الحكاية : الشيخ العالم الفاضل المحقق المدقق الفقيه المتبحر كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن ابراهيم ابن العتايقي(١) الحلي الامامي ، كان معاصرا للشهيد الاول; وبعض تلامذة العلامة الحلي; ، وقال البعض انه ادرك العلامة ، وتلمذ على يد نصير الدين علي بن محمد الكاشي تـ ٧٥٥ هـ ، وكان من مشايخ السيد بهاء الدين علي بن عبد الحميد النجفي ، وبروي عن جماعة منهم جمال الدين الزهدري ، توفى بعد سنة ٧٨٨ هـ التي الف فيها كتابه ( الارشاد في معرفة الابعاد ) وهو صاحب التصانيف الكثيرة والموجود بعضها في الخزانة الغروية ، ولا أرى بأماً بايراد اسمائها هنا فله كتاب ( شرح على نهج البلاغة ) وكتاب ( مختصر الجزء الثاني من كتاب الاوائل لأبي هلال العسكري ) وكتاب ( الاعمار ) وكتاب ( الاضداد في اللغة ) وكتاب ( الايضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين ) وكتاب ( اختيار حقائق الخللفي دقائق الحيل ) وكتاب ( صفوة الصفوة ) وكتاب ( اختصار كتاب بطليموس ) وكتاب ( الشهدة في شرح معرف الزبدة ) وكتاب ( الايماقي ) وكتاب ( في التفسير وهو مختصر تفسير القمي ) وكتاب ( الارشاد ) و( الرسالة المفيدة لكل طالب مقدار ابعاد الافلاك والكواكب ) وله ( شرح على الجغميني ) وله ( شرح التلويح ) ، وغيرها من الكتب في شبى أنواع العلوم ، وللأسف الشديد ان كتبه لم تر النور.

_________________

١ ـ العتائقي نسبة الى العتائق قرية بقرب الحلة المزيدية ، وليس بالقبائقي كما في نسخ البحار المطبوعه فانه تصحيف ، كما اني لم ارَّ من الرجاليين من ذكرن بابن العماني بل المشهور انه ابن العتائقي ولعلها تصحيف ايضا او من خطأ النساخ.

٧٥

الى الآن مع كثرتها سوى كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فمن قلمنا هذا ندعو دور النشر والتأليف لأخراج كتبه خدمة للمذهب الامامي واحياء لآثار هذا الشيخ الجليل ، وصرح جمع من العلماء كالسيد محسن الأمين; والشيخ عباس القمي; والشيخ اغا بزرك الطهراني بمشاهدة كتبه في الخزانة الغروبة وكتب أخرى لغيره بخط يده ذكر فيها نسبه وتأريخه من ( ٧٣٨ ـ ٧٨٨ هـ ).(١)

صاحب الحكاية : الشيخ جمال الدين بن نجم الدين جعفر الزهدري ، لم أجد له ذكراً في كتب الرجال وانما وقفت على ترجمة والده الاجل الشيخ جعفر الزهدري صاحب كتاب ( ايضاح ترددات الشرائع )(٢) ويظهر من ثناء ابن العتائقي عليهما ، عظيم منزلتهما وجلالتهما.

وبهذه الحكاية انتهى ما أردنا نقله من حكايات كتاب ( السلطان المفرج عن اهل الايمان ).

الحكاية الرابعة :

حكاية ابن ابي الجواد النعماني

قال العالم الفاضل المتبحّر النقّاد الآميرزا عبد الله الاصفهاني الشهير بالافندي في المجلد الخامس من كتاب ( رياض العلماء

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٣ / ص ١٠٣ ، سفينة البحار ط ج / ج ٢ / ص ١٥٧ ، كذلك الذريعة في اجزائها.

٢ ـ وقد طبع الكتاب في زماننا هذا بجهود العلامة الحجة السيد محمود المرعشي في قم المقدسة وقد رأيت نسخته المطبوعة.

٧٦

وحياض الفضلاء ) في ترجمة الشيخ ابن ابي الجواد النِّعماني(١) انه ممن رأى القائم7 في زمن الغيبة الكبرى ، وروى عنه7 ، ورأيت في بعض المواضع نقلاً عن خط الشيخ زين الدين علي بن الحسن بن محمد الخازن الحائري تلميذ الشهيد انه قد رأى ابن ابي جواد النعماني مولانا المهدي7 فقال له :

يا مولاي لك مقام بالنعمانية ومقام بالحلة ، فأين تكون فيهما؟

فقال له :أكون بالنعمانية ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء ، ويوم الجمعة وليلة الجمعة أكون بالحلة ولكن أهل الحلة ما يتأدّبون في مقامي ، وما من رجل دخل مقامي بالأدب يتأدّب ويسلم عليّ وعلى الأئمة وصلّى عليّ وعليهم اثني عشر (٢) مرة ثم صلى ركعتين بسورتين ، وناجى الله بهما المناجاة إلاّ اعطاه تعالى ما يسأله احدها المغفرة.

فقلت : يا مولاي علمني ذلك.

فقال : قل« اللهم قد أخذ التأديب مني حتى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وان كان ما اقترفته من الذنوب استحق به أضعاف أضعاف ما أدبتني به ، وأنت حليم ذو اناة تعفو عن كثير حتى يسبق عفوك ورحمتك عذابك » وكررها عليّ ثلاثاً حتى فهمتها(٣) .(٤)

__________________

١ ـ النعمانية : بليدة بناها النعمان بن المنذر وتقع بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من اعمال الزاب الاعلى.

٢ ـ هكذا ورد في المطبوع والاصح اثنتي عشرة.

٣ ـ قال المؤلف; : يعني حفظتها.

٤ ـ انظر : النجم الثاقب / النوري; ج ٢ / ص ١٣٨.

٧٧

بحث حول الحكاية :

راوي الحكاية : زين الدين علي بن أبي محمد الحسن بن محمد الخازن الحائري ، تلميذ الشهيد الاول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) وقد أجازه الشهيد الاول سنة ٧٨٤ هـ وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد الحلي ويروي عنه ، وأجازه في سنة ٧٩١ هـ ويعبر عنه بالشيخ علي الخازن الحائري ، وهو من علماء المائة الثامنة ، قال عنه الشهيد الاول; في إجازته له :

المولى الشيخ العالم التقي الورع المحصل العالم بأعباء العلوم الفائق أولي الفضائل والفهوم زين الدين أبو علي(١)

صاحب الحكاية : ابن أبي الجواد النعماني ، لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، سوى ما ترجمه ناقل الحكاية الافندي; في كتابه رياض العلماء الذي فقد معظم مجلداته ، ويظهر من راوي الحكاية الشيخ علي الخازن الذي هو من تلاميذ الشهيد الاول; أنَّ ابن ابي الجواد من طبقة الشهيد الاول ، أي من تلامذة العلامة الحلي; .

أقول : ولا يبعد اتحاده بالشيخ الفاضل العالم المتكلم عبد الواحد بن الصفي النعماني ، صاحب كتاب ( نهج السداد في شرح رسالة واجب الاعتقاد ) الذي نسبه اليه الكفعمي; في حواشي مصباحه ونؤيد ما قلناه آنفاً قول المتبحر الخيبر الافندي; في كتاب رياض العلماء ج ٣ ص ٢٧٩ قال : » وأظن أنه من تلامذة الشهيد أو تلامذة تلامذته « فلاحظ.

__________________

١ ـ انظر : رسائل الشهيد الاول ص ٣٠٤ وطبقات اعلام الشيعة للطهراني; .

٧٨

أقول : ومن خلال هذه الحكاية نستدل على شهرة المقام في ذلك القرن إذ الرجل من النعمانية ويسأله عن مقامه7 في الحلة ويستدل أيضاً على استحباب زيارة المقام الشريف في الحلة في ليلة الجمعة ويومها لوجود الإمام به ، وربما ينفي الزائر للمقام هذا الكلام ، فنقول له : إن الأمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس بغائب ولكن هو غائب عمّن هو غائب عن الله.

وعلى أهل الحلة وغيرهم أن يتأدّبوا بمقامه جلّ التأدب ( فلا لاختلاط الرجال بالنساء في المصلى ، ولا لتبرج النساء ، ولا ) مما يصل الى سوء الادب بمحضر نائب الملك العلام ، فان أهل الحلة أشاد بهم أمير المؤمنين7 وأيّ إشادة ، فليكونوا دئاماً مصداق حديث مولاهم ومولاي علي بن أبي طالب7 .

فقد ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه وقائع ايام ص (٣٠٢) :

روى أصبغ بن نباتة قال : صحبت مولاي أمير المؤمنين7 عند وروده صفين ، وقد وقف على تل ثم أومأالى أجمة ما بين بابل والتل قال :مدينة وأي مدينة.

فقلت له : يامولاي أراك تذكر مدينة أكان هناك مدينة وانمحت آثارُها؟ فقال7 : لا ولكن ستكون مدينة يقال لها الحلة ( السيفية ) يمدتها رجل من بني أسد يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرّ قسمه. (١)

* * *

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ، ٦ / ١٢٢ رواية ٥٥.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

كقوله:( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ) (١) .

( يَقُولُونَ ) يقول منكروا البعث( أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) في الحالة الأولى. يعنون الحياة بعد الموت. من قولهم: رجع فلان في حافرته، أي: طريقه الّتي جاء فيها فحفرها، أي: أثّر فيها بمشيه فيها. جعل أثر قدميه حفرا، كما قيل: حفرت أسنانه حفرا، إذا أثّر الأكال في أسناخها(٢) . والخطّ المحفور في الصخر. أو على النسبة، أي: منسوبة إلى الحفر، كقوله:( عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) (٣) . أو تشبيه القابل بالفاعل، كقولهم: نهارك صائم، أي: وقع فيها الحفر.

( أَإِذا ) قرأ نافع وابن عامر والكسائي: إذا، على الخبر( كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ) بالية، أي: البالي الأجوف جدّا بحيث إن تمرّ فيها الريح يسمع له نخير. وقرأ الحجازيّان والشامي وحفص وروح: نخرة(٤) . وهي أبلغ. ونصب «إذا» بمحذوف تقديره: أإذا كنّا عظاما نردّ ونبعث.

( قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) منسوبة إلى الخسران، أو خاسر أصحابها.

والمعنى: أنّها إن صحّت فنحن إذا خاسرون، لتكذيبنا بها. وهو استهزاء منهم.

( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ) متعلّق بمحذوف، أي: لا يستصعبوها، فما هي ـ أي: النفخة الثانية ـ إلّا صيحة واحدة. يعني: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على اللهعزوجل ، فإنّها سهلة هيّنة في قدرته جدّا، فتحدث في أسرع زمان.

( فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها. والساهرة الأرض البيضاء المستوية. سمّيت بذلك لأنّ السراب يجري فيها.

__________________

(١) البقرة: ٢٢١.

(٢) أسناخ السنّ: منبتها وأصولها. والواحدة: سنخ.

(٣) القارعة: ٧.

(٤) والقراءة الاخرى: ناخرة.

٣٢١

من قولهم: عين ساهرة للّتي يجري ماؤها. وفي ضدّها نائمة. أو لأنّ سالكها يسهر فلا ينام خوف الهلكة. وعن قتادة: هي اسم جهنّم.

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) )

ولـمّا تقدّم ذكر المكذّبين للأنبياء المنكرين للبعث، عقّبه بحديث موسى وتكذيب قومه إيّاه، وما قاساه من الشدائد تسلية لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووعدا له بالنصر، وحثّا إيّاه على الصبر اقتداء بموسى، وتحذيرا لقومه أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، وعظة لهم، وتأكيدا للحجّة عليهم، فقال :

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ) أي: أليس قد أتاك حديثه فيسلّيك على تكذيب قومك، وتهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم؟! والهمزة للتقرير.( إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) اسم واد. وقد مرّ(١) بيانه مفصّلا في سورة طه.

__________________

(١) راجع ج ٤ ص ٢٢٧، ذيل الآية (١٢) من سورة طه.

٣٢٢

( اذْهَبْ ) على إرادة القول، أي: قال الله تعالى له: اذهب( إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ) تجاوز الحدّ في الاستعلاء والتمرّد.

( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ) هل لك الميل إلى أن تتطهّر من الكفر والطغيان؟ يقال: هل لك في كذا؟ وهل لك إلى كذا؟ كما يقال: هل ترغب فيه؟ وهل ترغب إليه؟ ومعناه: العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ أمره سبحانه أن يقول له الكلام الرقيق الليّن ليستدعيه بالتلطّف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوّه، كما أمر بذلك في قوله:( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ) (١) . وقرأ الحجازيّان ويعقوب: تزكّى بالتشديد.

( وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ ) وأرشدك إلى معرفة الله، وأنبّهك عليه فتعرفه( فَتَخْشى ) بأداء واجباته المأمورة وترك محرّماته المنهيّة، إذ الخشية بعد المعرفة، وقد قال الله تعالى:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (٢) أي: العلماء العرفاء به.

وذكر الخشية لأنّها ملاك الأمر، فإنّ من خشي الله أتى منه كلّ خير، ومن أمن اجترأ على كلّ شرّ. ومنه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خاف أدلج(٣) ، ومن أدلج بلغ المنزل».

وهذا كالتفصيل، لقوله:( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ) (٤) .

( فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ) أي: فذهب فأراه المعجزة الكبرى، وهي قلب العصا حيّة، فإنّها كان المقدّم والأصل، والآيات الاخرى كالتبع لها. أو مجموع معجزاته، فإنّها باعتبار دلالتها كالآية الواحدة.

( فَكَذَّبَ ) بموسى والآية الكبرى، فسمّاهما ساحرا وسحرا( وَعَصى ) وعصى الله بعد ما علم صحّة الأمر، وأنّ الطاعة قد وجبت عليه.

__________________

(١) طه: ٤٤.

(٢) فاطر: ٢٨.

(٣) أدلج القوم: ساروا الليل كلّه أو في آخره.

(٤) طه: ٤٤.

٣٢٣

( ثُمَّ أَدْبَرَ ) عن الطاعة( يَسْعى ) ساعيا في إبطال أمره. أو أدبر بعد ما رأى الثعبان مرعوبا مسرعا في مشيه. عن الحسن: كان رجلا طيّاشا خفيفا.

( فَحَشَرَ ) فجمع السحرة، كقوله:( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ) (١) .

( فَنادى ) بنفسه في المجمع الّذي اجتمعوا فيه معه، أو أمر مناديا فنادى من قبله. والأصحّ أنّه قام فيهم خطيبا.

( فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) أي: لا ربّ فوقي، أو أعلى من كلّ من يلي أمركم.

وقيل: معناه: أنا الّذي أنال بالضرر من شئت، ولا ينالني غيري. وكذب اللعين، إنّما هذه صفة الله الّذي خلقه وخلق جميع الخلائق. وقيل: إنّه جعل الأصنام أربابا فقال: أنا ربّكم وربّها.

( فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ) أخذا منكّلا لمن رآه أو سمعه، في الآخرة بالإحراق، وفي الدنيا بالإغراق. أو مصدر مؤكّد، كوعد الله، وصبغة الله. تقديره: نكّل الله به نكال الآخرة والأولى. أو أخذه الله على نكال كلمته الآخرة، وهي هذه، وكلمته الأولى، وهي قوله:( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) (٢) . أو للتنكيل في الدارين للكلمتين.

وعن أبي جعفرعليه‌السلام : «أنّه كان بين الكلمتين أربعون سنة».

وعن وهب، عن ابن عبّاس قال: قال موسىعليه‌السلام : يا ربّ إنّك أمهلت فرعون أربعمائة سنة وهو يقول: أنا ربّكم الأعلى، ويجحد رسلك، ويكذّب بآياتك.

فأوحى الله تعالى إليه أنّه كان حسن الخلق سهل الحجاب، فأحببت أن أكافيه.

وروى أبو بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال جبرئيلعليه‌السلام : قلت: يا ربّ تدع فرعون وقد قال: أنا ربّكم الأعلى؟ فقال: إنّما يقول

__________________

(١) الشعراء: ٥٣.

(٢) القصص: ٣٨.

٣٢٤

هذا مثلك من يخاف الفوت».

( إِنَّ فِي ذلِكَ ) الّذي فعل بفرعون حين كذّب وعصى( لَعِبْرَةً ) لعظة( لِمَنْ يَخْشى ) لمن كان من شأنه الخشية.

( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) )

ولـمّا قدم سبحانه ما أتى به موسى، وما قابله به فرعون، وما عوقب به في الدارين، عظة لمن كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحذيرا لهم من المثلات، خاطب عقيب ذلك منكري البعث، فقال :

( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ ) أصعب( خَلْقاً أَمِ السَّماءُ ) أي: أخلقكم بعد الموت أشدّ عندكم وفي تقديركم أم السماء؟ وهما في قدرة الله على السواء. ثمّ بيّن كيف خلقها فقال:( بَناها ) .

ثمّ فسّر البناء بقوله:( رَفَعَ سَمْكَها ) أي: جعل مقدار ارتفاعها من الأرض، أو الذاهب في سمت العلوّ رفيعا مسيرة خمسمائة عام( فَسَوَّاها ) فعدلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور أصلا. أو فتمّمها بما علم أنّه صلاحها وكمالها، من الكواكب والتداوير الّتي ليست بشاملة على الأرض وغين ها. من قولهم: سوّى فلان أمره إذا أصلحه.

( وَأَغْطَشَ لَيْلَها ) أظلمه. من: غطش الليل إذا أظلم، كقولك: ظلم وأظلمه.

٣٢٥

ويقال أيضا: أغطش الليل، كما يقال: أظلم. فجاءا متعدّيين ولازمين.( وَأَخْرَجَ ضُحاها ) وأبرز ضوء شمسها، لقوله:( وَالشَّمْسِ وَضُحاها ) (١) يريد النهار.

وقولهم: وقت الضحى للوقت الّذي تشرق فيه الشمس ويقوم سلطانها. وإنّما أضاف الليل والضحى إلى السماء، لأنّهما يحدثان بحركتها، ولأنّ الليل ظلّها، والضحى الشعاع المنبثّ في جوّها.

( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ ) بعد خلق السماء( دَحاها ) بسطها ومهّدها للسكنى.

قال ابن عبّاس: إنّ الله تعالى دحا الأرض بعد السماء وإن كانت الأرض خلقت قبل السماء، وكانت ربوة مجتمعة تحت الكعبة فبسطها. وقال مجاهد والسدّي: معناه: والأرض مع ذلك دحاها، كما قال:( عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) (٢) أي: مع ذلك.

( أَخْرَجَ مِنْها ماءَها ) بتفجير العيون( وَمَرْعاها ) ورعيها. وهو في الأصل موضع الرعي. والمراد ما يأكل الناس والأنعام، من الثمار والأشجار والحبوب وسائر النباتات. واستعير الرعي للإنسان، كما استعير الرتع في قوله:( يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ) (٣) .

( وَالْجِبالَ أَرْساها ) أثبتها. وتجريد «أخرج» عن العاطف لوجهين :

أحدهما: أن يكون معنى «دحاها»: بسطها ومهّدها للسكنى. ثمّ فسّر التمهيد بما لا بدّ منه في تأتّي سكناها، من تسوية أمر المأكل والمشرب، وإمكان القرار عليها، والسكون بإخراج الماء والمرعى، وإرساء الجبال، وإثباتها أوتادا لها حتّى تستقرّ ويستقرّ عليها.

والثاني: أن يكون «أخرج» حالا بإضمار «قد» كقوله :

__________________

(١) الشمس: ١.

(٢) القلم: ١٣.

(٣) يوسف: ١٢.

٣٢٦

( أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ) (١) .

( مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) أي: خلق ما ذكر تمتيعا لكم. أو متّع الله بذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم.

( فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) )

ولـمّا دلّ سبحانه بهذه الأشياء على صحّة البعث، وصف يومه بقوله:( فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ ) الداهية الّتي تطمّ، أي: تعلو وتغلب على سائر الدواهي( الْكُبْرى ) الّتي هي أكبر الطامّات. وهي القيامة، لطمومها على كلّ هائلة، أي: ما من طامّة إلّا وفوقها طامّة، والقيامة فوق كلّ طامّة، فهي الداهية العظمى. وقيل: هي النفخة الثانية، أو الساعة الّتي يساق فيها أهل الجنّة إلى الجنّة، وأهل النار إلى النار.

وجواب «فإذا» محذوف، تقديره: فوقع ما لا يدخل تحت الوصف. ويدلّ عليه قوله:( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ) ما عمله من خير وشرّ، بأن يراه مدوّنا في صحيفته، وكان قد نسيها من فرط الغفلة أو طول المدّة. وهو بدل من «إذا جاءت». و «ما» موصولة أو مصدريّة.

( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ ) وأظهرت( لِمَنْ يَرى ) لكلّ راء بحيث لا تخفى على

__________________

(١) النساء: ٩٠.

٣٢٧

أحد.( فَأَمَّا مَنْ طَغى ) تجاوز الحدّ الّذي حدّه الله له، وارتكب المعاصي العظيمة حتّى كفر( وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) انهمك فيها، ولم يستعدّ للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس. والإيثار إرادة الشيء على طريقة التفضيل له على غيره.( فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ) مأواه. واللام فيه سادّة مسدّ الإضافة، للعلم بأنّ صاحب المأوى هو الطاغي.

( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ) مقام مساءلة ربّه عمّا يجب عليه فعله أو تركه( وَنَهَى النَّفْسَ ) النفس الأمّارة بالسوء( عَنِ الْهَوى ) عن اتّباع الشهوات وزجرها عنه، وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير، لعلمه بأنّه مرد( فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) ليس له سواها مأوى.

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦) )

ثمّ خاطب نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ) استهزاء وإنكارا( أَيَّانَ مُرْساها ) متى إرساؤها. أي: إقامتها وإثباتها، بأن يقيمها الله ويثبتها ويكوّنها. أو منتهاها ومستقرّها، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه وتستقرّ فيه.

( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) في أيّ شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم، أي: ما أنت من ذكرها لهم وتبيين وقتها في شيء، فإنّ ذكرها لا يزيدهم إلّا غيّا، ووقتها ممّا استأثره الله بعلمه. وروي: أنّه لم يزل رسول الله يذكر الساعة يسأل عنها حتّى نزلت. فهو على هذا تعجّب من كثرة ذكره لها، كأنّه قيل: في أيّ شغل واهتمام أنت

٣٢٨

من ذكرها والسؤال عنها. والمعنى: أنّهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.

وقيل: «فيم» إنكار لسؤالهم. و( أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) مستأنف، معناه: أنت ذكر من ذكراها، أي: علامة من أشراطها، فإنّ إرسالك خاتما للأنبياء أمارة من أماراتها.

فكفاهم بذلك دليلا على دنوّها ومشارفتها، ووجوب الاستعداد لها. ولا معنى لسؤالهم عنها.

ثمّ قال:( إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ) أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحدا من خلقه.

( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحدا من خلقه.

( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) أي: لم تبعث لتعلّمهم وقت الساعة الّذي لا فائدة لهم في علمه، وإنّما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف هولها، ويكون إنذارك لطفا له في الخشية منها. وعن أبي عمرو: منذر بالتنوين، والإعمال على الأصل.

وكلاهما يصلحان للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي فليس إلّا الإضافة، كقولك: هو منذر زيد أمس.

( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا ) أي: في الدنيا. وقيل: في القبور.( إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) أي: عشيّة يوم أوضحاه. وأضاف الضحى إلى العشيّة لـما بينهما من الملابسة، لاجتماعهما في نهار واحد. وإنّما لم يقل: إلّا عشيّة أو ضحى، للدلالة على أنّ مدّة لبثهم كأنّها لم تبلغ يوما كاملا، ولكن ساعة منه: عشيّته أو ضحاه، فلمّا ترك اليوم أضافه إلى عشيّته، فهو كقوله تعالى:( لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) (١) .

__________________

(١) الأحقاف: ٣٥.

٣٢٩
٣٣٠

(٨٠)

سورة عبس

مكّيّة. وهي اثنان وأربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ومن قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر».

وروى معاوية بن وهب عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة عبس وتولّى وإذا الشمس كوّرت كان تحت جناح الله في الجنان، وفي ظلّ الله وكرامته في جنانه، ولا يعظم ذلك على ربّهعزوجل ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) )

٣٣١

ولـمّا ختم اللهعزوجل سورة النازعات بذكر إنذار من يخشى القيامة، افتتح هذه السورة بذكر إنذاره قوما يرجو إسلامهم وإعراضه عمّن يخشى.

وسبب نزول هذه السورة أنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن أمّ مكتوم ـ وأمّ مكتوم أمّ أبيه لأمّه، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤيّ ـ وعند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعبّاس بن عبد المطّلب، وأميّة بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. فقال ابن أمّ مكتوم: يا رسول الله أقرئني وعلّمني ممّا علمك الله. وكرّر ذلك وهو لا يعلم تشاغلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالقوم. فكره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع ابن أمّ مكتوم كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،؟؟؟ الصناديد: إنّما أتباعه العميان والعبيد، وعبس وأعرض عنه على القوم الّذين يكلّمهم. فعاتبه الله سبحانه بنزول هذه السورة.

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * عَبَسَ ) ؟ وقبض وجهه( وَتَوَلَّى ) وأعرض بوجهه( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) لأن جاءه هذا الأعمى. منصوب المحلّ بـ «تولّى» أو بـ «عبس» على اختلاف المذهبين. وذكر الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقوم، والدلالة على أنّه أحقّ بالرأفة والرفق. أو لزياد العتاب والإنكار، كأنّه قال: عبس وتولّى لكونه أعمى، وكان يجب أن يزيده لعما تعطّفا وترأّفا وتقريبا وترحيبا. ولأجل ذلك أيضا التفت عن الغيبة إلى الخطاب كمن يشكو إلى الناس جانيا جنى عليه، ثمّ يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجها له بالعتاب والتوبيخ، فقال :

( وَما يُدْرِيكَ ) أي: وأيّ شيء يجعلك داريا، أي: عالما بحال هذا الأعمى( لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) يتطهّر من الآثام بما يتلقّف منك. وفيه إيماء بأنّ إعراضه كان لتزكية؟ غيره.

٣٣٢

( أَوْ يَذَّكَّرُ ) يتّعظ بما يعلّمه من مواعظ القرآن( فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ) فتنفعه موعظتك، وتكون له لطفا في بعض الطاعات. والمعنى: إنّك لا تدري ما هو مترقّب منه من تزكّ أو تذكّر، ولو دريت لـما فرط منك ذلك. قالوا: وفي هذا لطف من الله عظيم لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ لم يخاطبه في باب العبوس، فلم يقل: عبست، فلمّا جاوز العبوس عاد إلى الخطاب وقال: وما يدريك.

وقيل: الضمير في «لعلّه» للكافر، أي: إنّك طمعت في أن يتزكّى بالإسلام، أو يتذكّر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحقّ، ولذلك أعرضت عن غيره، فما يدريك أنّ ما طمعت فيه كائن. وقرأ عاصم بالنصب جوابا لـ «لعلّ»، كقوله:( فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى ) (١) .

( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ) بكثرة الأموال والخدم والحشم( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) تتعرّض بالإقبال عليه. والمصاداة: المعارضة. وأصله: تتصدّى. وقرأ ابن كثير ونافع: تصدّى.

( وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) وليس عليك باس في أن لا يتزكّى بالإسلام، حتّى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض. أو أيّ شيء يلزمك إن لم يسلم، فإنّه ليس عليك إلّا البلاغ.

( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ) يسرع طالبا للخير( وَهُوَ يَخْشى ) يخشى الله، أو يخشى أذيّة الكفّار في إتيانك، أو عثرة الطريق، لأنّه أعمى لا قائد له( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) تتشاغل. يقال: لها عنه والتهى وتلهّى. ولعلّ ذكر التصدّي والتلهّي للإشعار بأنّ العتاب على اهتمام قلبه بالغنيّ وتلهّيه عن الفقير. وفي تكرير ضمير الخطاب إفادة الاختصاص. ومعناه: مثلك خصوصا لا ينبغي أن يتصدّى للغنيّ ويتلهّى عن الفقير.

__________________

(١) غافر: ٣٧.

٣٣٣

روي: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بعد نزول هذه الآيات يكرم ابن مكتوم، ويقول إذا رآه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي. ويقول له: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرّتين.

وقال أنس: رأيته يوم القادسيّة ـ وهو يوم فتح المدائن بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعليه درع، وله راية سوداء.

وروي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى عبد الله بن أمّ مكتوم قال: مرحبا مرحبا لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا».

وروي: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عبس بعدها في وجه فقير قطّ، ولا تصدّى لغنيّ. ولقد تأدّب الناس بأدب الله ورسوله في هذا تأدّبا حسنا، فقد روي عن سفيان الثوري: أنّ الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.

واعلم أنّ علم الهدى قدّس الله روحه أنكر أن يكون المعاتب في هذه الآيات هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقال في تنزيه الأنبياء: «ليس في ظاهر الآية دلالة على توجّهها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه. وفيها ما يدلّ على أن المعنيّ بها غيره، لأنّ العبوس ليس من صفات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الأعداء المباينين، فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة.

ويؤيّد هذا القول قوله سبحانه في وصفهعليه‌السلام :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) .

وقوله:( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (٢) . فالظاهر أنّ قوله: «عبس وتولّى» المراد به غيره. وقد روي عن الصادقعليه‌السلام أنّها نزلت في رجل من بني أميّة كان عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء ابن أمّ مكتوم، فلمّا رآه تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

__________________

(١) القلم: ٤.

(٢) آل عمران: ١٥٩.

٣٣٤

فإن قيل: فلو صحّ الخبر الأوّل هل يكون العبوس ذنبا أم لا؟

فالجواب: أنّ العبوس والانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يشقّ عليه ذلك، فلا يكون ذنبا. فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيّه ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبّهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد، ويعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إيمانه.

وقال الجبائي: في هذا دلالة على أنّ الفعل يكون معصية فيما بعد، لمكان النهي. فأمّا في الماضي فلا يدلّ على أنّه كان معصية قبل أن ينهى عنه، والله سبحانه لم ينبّهه إلّا في هذا الوقت.

وقيل: إنّ ما فعله الأعمى كان نوعا من سوء الأدب، فحسن تأديبه بالإعراض عنه، إلّا أنّه كان يجوز أن يتوهّم أنّه إنّما أعرض عنه لفقره، وأقبل عليهم لرئاستهم تعظيما لهم، فعاتبه الله سبحانه على ذلك»(١) انتهى كلامه.

وأنا أقول: ما روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى عبد الله بن أمّ مكتوم قال: مرحبا مرحبا لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا» لا يدلّ على أنّ العابس والمتولّي عن الأعمى هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لجواز أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا نزلت الآيات في معاتبة الرجل المذكور فيما فعل بالأعمى عرف حال الأعمى ومكانته عند الله، فقال ذلك إجلالا وتعظيما له، وزجرا لنفسه عن أن يصدر منه ما صدر من الرجل المذكور.

( كَلَّا ) ردع عن المعاتب عليه، أو عن معاودة مثله. والمعنى: انزجر عن مثل ذلك، ولا تعد لذلك. وفي هذا الردع دلالة على أنّه ليس له أن يفعل ذلك في المستقبل، وأمّا الماضي فلمّا لم يتقدّم النهي عن ذلك فيه فلا يكون معصية.( إِنَّها تَذْكِرَةٌ )

__________________

(١) تنزيه الأنبياء: ١١٨ ـ ١١٩.

٣٣٥

موعظة يجب الاتّعاظ بها والعمل بموجبها.

( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) حفظه، أو اتّعظ به. والضميران للقرآن، أو للعتاب المذكور. وتأنيث الأوّل لتأنيث خبره. ويحتمل أن يكون الضمير الأوّل راجعا إلى المواعظ المذكورة، والثاني إلى «تذكرة». وتذكيره لأنّ التذكرة في معنى الذكر. وفي هذا دلالة على أنّ العبد قادر على الفعل مخيّر فيه.

( فِي صُحُفٍ ) مثبتة فيها. صفة لـ «تذكرة»، أو خبر ثان، أو خبر لمحذوف.

( مُكَرَّمَةٍ ) عند الله( مَرْفُوعَةٍ ) في السماء، أو مرفوعة المقدار( مُطَهَّرَةٍ ) منزّهة عن أيدي الكفرة أو الشياطين، لا يمسّها إلّا أيدي ملائكة مطهّرين( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) أي: كتبة من الملائكة الّذين ينتسخون الكتب المنزلة على الأنبياء من اللوح. أو من الأنبياء الّذين ينتسخونها من الوحي.

وقيل: المراد بالصحف اللوح. وجمعها باعتبار أنواع الحكم وفنون الوقائع فيه.

وقيل: السفرة القرّاء من أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكتبونها ويقرءونها. أو سفراء يسفرون بالوحي بين الله ورسله. من السفر على الأوّل، والسفارة على الثاني.

والتركيب للكشف. يقال: سفرت المرأة إذا كشفت وجهها.

ويؤيّد الأوّل قوله تعالى:( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ) (١) . وما نقل عن مقاتل أنّ القرآن كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر إلى الكتبة من الملائكة، ثمّ ينزل به جبرئيلعليه‌السلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( كِرامٍ ) أعزّاء على الله. أو متعطّفين على المؤمنين، يكلّمونهم ويستغفرون لهم. وقيل: كرام عن المعاصي، يرفعون أنفسهم عنها.( بَرَرَةٍ ) أتقياء.

__________________

(١) الأعلى: ١٨.

٣٣٦

( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) )

ثمّ ذكر سبحانه المكذّبين بالقرآن، فقال:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) أهلك ولعن. دعاء عليه بأشنع الدعوات، لأنّ القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها.( ما أَكْفَرَهُ ) تعجّب من إفراطه في كفران الله ونعمته. وهو مع قصره يدلّ على سخط عظيم وذمّ بليغ. قال صاحب الكشّاف: «ولا ترى أسلوبا أغلظ منه، ولا أخشن مسّا، ولا أدلّ على سخط، ولا أبعد شوطا في المذمّة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للأئمّة على قصر متنه»(١) .

واللام إشارة إلى كلّ كافر. وعن الضحّاك: هو أميّة بن خلف. وقيل: عتبة بن أبي لهب، إذ قال: كفرت بربّ النجم إذا هوى.

ثمّ بيّن وصف حاله من ابتداء حدوثه إلى أن انتهى، وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها، وما هو غارز فيه رأسه من الكفران والغمط وقلّة الالتفات، إلى ما يتقلّب فيه، وإلى ما يجب عليه من القيام بالشكر، فقال :

( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) الاستفهام للتحقير، أي: أيّ شيء حقير مهين خلقه؟ ولذلك أجاب عنه بقوله:( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) فهيّأه لـما يصلح له ويختصّ به من الأعضاء والأشكال. أو فقدّره أطوارا إلى أن تمّ خلقته.

( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) ثمّ سهّل مخرجه من بطن أمّه، بأن فتح فوهة(٢) الرحم ،

__________________

(١) الكشّاف ٤: ٧٠٣.

(٢) فوهة الشيء وفوّهته: فمه.

٣٣٧

وألهمه أن ينتكس. أو ذلّل له سبيل الخير والشرّ بإقداره وتمكينه، كقوله:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) (١) . وعن ابن عبّاس: بيّن له السبيلين. ونصب «السبيل» بفعل يفسّره الظاهر، للمبالغة في التيسير. وتعريفه باللام دون الإضافة للإشعار بأنّه سبيل عامّ. وفيه ـ على المعنى الأخير ـ إيماء بأنّ الدنيا طريق والمقصد غيرها. ولذلك عقّبه بقوله :

( ثُمَّ أَماتَهُ ) عدّ الإماتة في النعم، لأنّ الإماتة وصلة في الجملة إلى الحياة الأبديّة واللذّات الخالصة( فَأَقْبَرَهُ ) فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله مطروحا على وجه الأرض جزرا للسباع والطير كسائر الحيوان. يقال: قبر الميّت إذا دفنه، وأقبره إذا أمره أن يقبره ومكّنه منه.

( ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ ) أنشأه النشأة الأخرى. وفي «إذا شاء» إشعار بأنّ وقت النشور غير متعيّن في نفسه، وإنّما هو موكول إلى مشيئته.

( كَلَّا ) ردع للإنسان عمّا هو عليه( لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ) لم يقض بعد ـ مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية ـ ما أمره الله بأسره حتّى يخرج من جميع أوامره، إذ لا يخلو أحد من تقصير مّا.

( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) )

__________________

(١) الإنسان: ٣.

٣٣٨

ولـمّا عدّد النعم الذاتيّة أتبعه ذكر النعم الخارجيّة، وهي ما يحتاج إليه في التعيّش، فقال:( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ) مطعمه الّذي يعيش به، ويتفكّر كيف دبّرنا أمره من أسباب التعيّش.

ثمّ استأنف بيان كيفيّة إحداث الطعام بقوله:( أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ) يعني: الغيث. وقرأ الكوفيّون بالفتح(١) على البدل من «طعامه» بدل الاشتمال.

( ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) أي: بالنبات. أو بالكراب(٢) على البقر. وحينئذ أسند الشقّ إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب.

( فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا ) جنس الحبوب الّتي يتقوّت بها، كالحنطة والشعير( وَعِنَباً ) خصّه لكثرة منافعه( وَقَضْباً ) يعني: الرطبة. والمقضاب: أرضه.

سمّيت بمصدر: قضبه إذا قطعه، لأنّها تقضب مرّة بعد اخرى.

( وَزَيْتُوناً ) يعصر عنه الزيت( وَنَخْلاً ) جمع نخلة( وَحَدائِقَ غُلْباً ) يحتمل أن يجعل كلّ حديقة غلباء. فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها، كما تقول: حديقة ضخمة. وأن يجعل شجرها غلبا، أي: عظاما غلاظا. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب، فاستعير.

( وَفاكِهَةً ) وسائر ألوان الفواكه( وَأَبًّا ) ومرعى. من: أبّ إذا أمّ، لأنّه يؤمّ وينتجع(٣) . والأبّ والأمّ أخوان. أو من: أبّ لكذا إذا تهيّأ له، لأنّه متهيّئ للرعي. أو فاكهة يابسة تؤبّ للشتاء. ونقل في الكشّاف(٤) عن أبي بكر أنّه سئل عن الأبّ، فقال: أيّ سماء تظلّني، وأيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به.

__________________

(١) أي: بفتح همزة: أنّا.

(٢) كرب الأرض كرابا: قلّبها وحرثها.

(٣) في هامش الخطّية: «النجعة بالضمّ: طلب الكلأ في موضعه. منه».

(٤) الكشّاف ٤: ٧٠٤.

٣٣٩

وعن عمر: أنّه قرأ هذه الآية فقال: كلّ هذا قد عرفنا، فما الأبّ؟ ثمّ رفض(١) عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلّف. ثمّ قال: اتّبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه.

( مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) تمتيعا لكم ولمواشيكم، فإنّ الأنواع المذكورة بعضها طعام وبعضها علف.

( فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢) )

ولـمّا بيّن النشأة الأولى وتوابعها ذكر أحوال النشأة الآخرة، فقال:( فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ) أي: النفخة. يقال: صخّ لحديثه، مثل: أصاخ له. وصفت النفخة بها مجازا، لأنّ الناس يصخّون لها، أي: يصيحون. وعن ابن عبّاس: سمّيت بذلك، لأنّها تصخّ الآذان، أي: تبالغ في إسماعها حتّى تكاد تصمّها.

( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) لاشتغاله بشأنه، وعلمه بأنّهم لا ينفعونه. وقيل: للحذر من مطالبتهم بما قصّر في حقّهم. فيقول الأخ :

__________________

(١) رفض الشيء: رماه وتركه.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579