زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير10%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51571 / تحميل: 4107
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٩-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و يندفع بهذا الوجه الاعتراض على ما استدلّ به على المعاد من إطلاق القدرة كما سيجي‏ء، و محصّله أنّ إطلاق القدرة إنّما ينفع فيما كان ممكناً لكن إعادة الإنسان بعينه محال فإنّ الإنسان المخلوق ثانياً مثل الإنسان الدنيويّ المخلوق أوّلاً لا شخصه الّذي خلق أوّلاً و مثل الشي‏ء غير الشي‏ء لا عينه.

وجه الاندفاع أنّ شخصيّة الشخص من الإنسان بنفسه لا ببدنه و النفس محفوظة فإذا خلق البدن و تعلّقت به النفس كان هو الإنسان الدنيويّ بشخصه و إن كان البدن بالقياس إلى البدن مع الغضّ عن النفس، مثلاً لا عيناً.

قوله تعالى: ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ) أي ما هو مبدأ خلقه؟ و ما هو الّذي صيّره الله إنساناً؟

و الجملة متفرّعة على الآية السابقة و ما تدلّ عليه بفحواها بحسب السياق و محصّل المعنى و إذ كانت كلّ نفس محفوظة بذاتها و عملها من غير أن تفنى أو ينسى عملها فليذعن الإنسان أن سيرجع إلى ربّه و يجزي بما عمل و لا يستبعد ذلك و لينظر لتحصيل هذا الإذعان إلى مبدإ خلقه و يتذكّر أنّه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب و الترائب.

فالّذي بدأ خلقه من ماء هذه صفته يقدر على رجعه و إحيائه بعد الموت.

و في الإتيان بقوله:( خُلِقَ ) مبنيّاً للمفعول و ترك ذكر الفاعل و هو الله سبحانه إيماء إلى ظهور أمره، و نظيره قوله:( خُلِقَ مِنْ ماءٍ ) إلخ.

قوله تعالى: ( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) الدفق تصبّب الماء و سيلانه بدفع و سرعة و الماء الدافق هو المنيّ و الجملة جواب عن استفهام مقدّر يهدي إليه قوله:( مِمَّ خُلِقَ ) .

قوله تعالى: ( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) الصلب الظهر، و الترائب جمع تريبة و هي عظم الصدر.

و قد اختلفت كلماتهم في الآية و ما قبلها اختلافاً عجيباً، و الظاهر أنّ المراد بقوله:( بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) البعض المحصور من البدن بين جداري عظام الظهر و

٣٨١

عظام الصدر(1) .

قوله تعالى: ( إِنَّهُ عَلى‏ رَجْعِهِ لَقادِرٌ ) الرجع الإعادة، و ضمير( إِنَّهُ ) له تعالى و اكتفى بالإضمار مع أنّ المقام مقام الإظهار لظهوره نظير قوله:( خُلِقَ ) مبنيّاً للمفعول.

و المعنى أنّ الّذي خلق الإنسان من ماء صفته تلك الصفة، على إعادته و إحيائه بعد الموت - و إعادته مثل بدئه - لقادر لأنّ القدرة على الشي‏ء قدرة على مثله إذ حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) ظرف للرجع، و السريرة ما أسرّه الإنسان و أخفاه في نفسه، و البلاء الاختبار و التعرّف و التصفّح.

فالمعنى يوم يختبر ما أخفاه الإنسان و أسرّه من العقائد و آثار الأعمال خيرها و شرّها فيميّز خيرها من شرّها و يجزي الإنسان به فالآية في معنى قوله تعالى:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: 284.

قوله تعالى: ( فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ) أي لا قدرة له في نفسه يمتنع بها من عذاب الله و لا ناصر له يدفع عنه ذلك أي لا قدرة هناك يدفع عنه الشرّ لا من نفسه و لا من غيره.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ) إقسام بعد إقسام لتأكيد أمر القيامة و الرجوع إلى الله.

و المراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحسّ من سيرها بطلوع الكواكب بعد غروبها و غروبها بعد طلوعها، و قيل: رجعها أمطارها، و المراد بكون الأرض ذات صدع تصدّعها و انشقاقها بالنبات، و مناسبة القسمين لما اُقسم عليه من الرجوع بعد الموت و الخروج من القبور ظاهرة.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الفصل إبانة أحد الشيئين من

____________________

(1) و قد أورد المراغي في تفسيره في ذيل الآية عن بعض الأطباء توجيهاً دقيقاً علميّاً لهذه الآية من أراده فليراجعه.

٣٨٢

الآخر حتّى يكون بينهما فرجة، و التعبير بالفصل - و المراد الفاصل - للمبالغة كزيد عدل و الهزل خلاف الجدّ.

و الآيتان جواب القسم، و ضمير( إِنَّهُ ) للقرآن و المعنى اُقسم بكذا و كذا إنّ القرآن لقول فاصل بين الحقّ و الباطل و ليس هو كلاماً لا جدّ فيه فما يُحقّه حقّ لا ريب فيه و ما يبطله باطل لا ريب فيه فما أخبركم به من البعث و الرجوع حقّ لا ريب فيه.

و قيل: الضمير لما تقدّم من خبر الرجوع و المعاد، و الوجه السابق أوجه.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَ أَكِيدُ كَيْداً ) أي الكفّار يحتالون بكفرهم و إنكارهم المعاد احتيالاً يريدون به إطفاء نور الله و إبطال دعوتك، و احتال عليهم بعين أعمالهم بالاستدراج و الإملاء و الإضلال بالطبع على قلوبهم و جعل الغشاوة على سمعهم و أبصارهم احتيالاً أسوقهم به إلى عذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) التمهيل و الإمهال بمعنى واحد غير أنّ باب التفعيل يفيد التدريج و الإفعال يفيد الدفعة، و الرويد القليل.

و المعنى: إذا كان منهم كيد و منّي كيد عليهم بعين ما يكيدون به و الله غالب على أمره، فانتظر بهم و لا تعاجلهم انتظر بهم قليلاً فسيأتيهم ما اُوعدهم به فكلّ ما هو آت قريب.

و في التعبير أوّلاً بمهّل الظاهر في التدريج و ثانياً مع التقييد برويداً بأمهل الظاهر في الدفعة لطف ظاهر.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ ) قال: الملائكة.

و فيه: في قوله تعالى:( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) قال: النطفة الّتي تخرج بقوّة.

و فيه: في قوله تعالى:( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) قال: الصلب الرجل

٣٨٣

و الترائب المرأة، و هو صدرها.

أقول: الرواية على إضمارها و إرسالها لا تخلو من شي‏ء.

و فيه: في قوله تعالى:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) قال: يكشف عنها.

و في المجمع، روي مرفوعاً عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ضمن الله خلقه أربع خصال: الصلاة، و الزكاة، و صوم شهر رمضان، و الغسل من الجنابة، و هي السرائر الّتي قال الله تعالى: يوم تبلى السرائر.

أقول: و لعلّه من قبيل ذكر بعض المصاديق كما تؤيّده الرواية التالية.

و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذه السرائر الّتي ابتلى الله بها العباد في الآخرة؟ فقال: سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و كلّ مفروض لأنّ الأعمال كلّها سرائر خفيّة فإن شاء الرجل قال: صلّيت و لم يصلّ و إن شاء قال: توضّيت و لم يتوضّ فذلك قوله:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ) قال: ما له من قوّة يهوي بها على خالقه، و لا ناصر من الله ينصره إن أراد به سوءا.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ) قال: ذات المطر( وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ) أي ذات النبات.

و في المجمع:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ) يعني أنّ القرآن يفصل بين الحقّ و الباطل بالبيان عن كلّ واحد منهما، و روي ذلك عن الصادقعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الدارميّ و الترمذيّ و محمّد بن نصر و ابن الأنباريّ في المصاحف عن الحارث الأعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت عليّاً فأخبرته فقال: أ و قد فعلوها؟

سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم و خبر من بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، من ابتغى الهوى في غيره أضلّه الله، و هو حبل الله

٣٨٤

المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، و لا يشبع منه العلماء، و لا تلتبس منه الألسن، و لا يخلق من الردّ، و لا تنقضي عجائبه هو الّذي لم ينته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) . من قال به صدق، و من حكم به عدل، و من عمل به اُجر، و من دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم.

أقول: و روي ما يقرب منه عن معاذ بن جبل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رواه مختصراً عن ابن مردويه عن عليّعليه‌السلام .

٣٨٥

( سورة الأعلى مكّيّة و هي تسع عشرة آية)

( سورة الأعلى الآيات 1 - 19)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ( 1 ) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 2 ) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ( 3 ) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ ( 4 ) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ ( 5 ) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ ( 6 ) إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ( 7 ) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ( 8 ) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ ( 9 ) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ( 10 ) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ( 11 ) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ ( 12 ) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ( 13 ) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ( 14 ) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ ( 15 ) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 16 ) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ( 17 ) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ ( 18 ) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ( 19 )

( بيان‏)

أمرٌ بتوحيده تعالى على ما يليق بساحته المقدّسة و تنزيه ذاته المتعالية من أن يذكر مع اسمه اسم غيره أو يسند إلى غيره ما يجب أن يسند إليه كالخلق و التدبير و الرزق و وعد لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتأييده بالعلم و الحفظ و تمكينه من الطريقة الّتي هي أسهل و أيسر للتبليغ و أنسب للدعوة.

و سياق الآيات في صدر السورة سياق مكّيّ و أمّا ذيلها أعني قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) إلخ فقد ورد من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا من طريق أهل السنّة

٣٨٦

أنّ المراد به زكاة الفطرة و صلاة العيد و من المعلوم أنّ الصوم و ما يتبعه من زكاة الفطرة و صلاة العيد إنّما شرعت بالمدينة بعد الهجرة فتكون آيات الذيل نازلة بالمدينة.

فالسورة صدرها مكّيّ و ذيلها مدنيّ، و لا ينافي ذلك ما جاء في الآثار أنّ السورة مكّيّة فإنّه لا يأبى الحمل على صدر السورة.

قوله تعالى: ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) أمر بتنزيه اسمه تعالى و تقديسه، و إذ علّق التنزيه على الاسم - و ظاهر اللفظ الدالّ على المسمّى - و الاسم إنّما يقع في القول فتنزيهه أن لا يذكر معه ما هو تعالى منزّه عنه كذكر الآلهة و الشركاء و الشفعاء و نسبة الربوبيّة إليهم و كذكر بعض ما يختصّ به تعالى كالخلق و الإيجاد و الرزق و الإحياء و الإماتة و نحوها و نسبته إلى غيره تعالى أو كذكر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى من الأفعال كالعجز و الجهل و الظلم و الغفلة و ما يشبهها من صفات النقص و الشين و نسبته إليه تعالى.

و بالجملة تنزيه اسمه تعالى أن يجرّد القول عن ذكر ما لا يناسب ذكره ذكر اسمه تعالى و هو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل.

و هو يلازم التوحيد الكامل بنفي الشرك الجليّ كما في قوله:( وَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) الزمر: 45 و قوله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) إسراء: 46.

و في إضافة الاسم إلى الربّ و الربّ إلى ضمير الخطاب تأييد لما قدّمناه فإنّ المعنى سبّح اسم ربّك الّذي اتّخذته ربّاً و أنت تدعو إلى أنّه الربّ الإله فلا يقعنّ في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبيّة ذكر من غيره بحيث ينافي تسمّيه بالربوبيّة على ما عرّف نفسه لك.

و قوله:( الْأَعْلَى ) و هو الّذي يعلو كلّ عال و يقهر كلّ شي‏ء صفة( رَبِّكَ ) دون الاسم و يعلّل بمعناه الحكم أي سبّح اسمه لأنّه أعلى.

٣٨٧

و قيل: معنى( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قل: سبحان ربّي الأعلى كما عن ابن عبّاس و نسب إليه أيضاً أنّ المعنى صلّ.

و قيل: المراد بالاسم المسمّى و المعنى نزّهه تعالى عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه من الصفات و الأفعال.

و قيل: إنّه ذكر الاسم و المراد به تعظيم المسمّى و استشهد عليه بقول لبيد، إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما. فالمعنى سبّح ربّك الأعلى.

و قيل: المراد تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق بأن لا يؤوّل ممّا ورد منها اسم من غير مقتض، و لا يبقى على ظاهره إذا كان ما وضع له لا يصحّ له تعالى، و لا يطلقه على غيره تعالى إذا كان مختصّاً كاسم الجلالة و لا يتلفّظ به في محلّ لا يناسبه كبيت الخلاء، و على هذا القياس.

و ما قدّمناه من المعنى أوسع و أشمل و أنسب لسياق قوله الآتي( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ فَذَكِّرْ ) فإنّ السياق سياق البعث إلى التذكرة و التبليغ فبدأ أوّلاً بإصلاح كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تجريده عن كلّ ما يشعر بجليّ الشرك و خفيّه بأمره بتنزيه اسم ربّه، و وعد ثانياً بإقرائه بحيث لا ينسى شيئاً ممّا اُوحي إليه و تسهيل طريقة التبليغ عليه ثمّ اُمر بالتذكير و التبليغ فافهم.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) خلق الشي‏ء جمع أجزائه، و تسويته جعلها متساوية بحيث يوضع كلّ في موضعه الّذي يليق به و يعطى حقّه كوضع كلّ عضو من أعضاء الإنسان فيما يناسبه من الموضع.

و الخلق و التسوية و إن كانا مطلقين لكنّهما إنّما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات.

و الآية إلى تمام أربع آيات تصف التدبير الإلهيّ و هي برهان على ربوبيّته تعالى المطلقة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) أي جعل الأشياء الّتي خلقها على مقادير مخصوصة و حدود معيّنة في ذواتها و صفاتها و أفعالها لا تتعدّاها و جهّزها بما يناسب

٣٨٨

ما قدّر لها فهداها إلى ما قدّر فكلّ يسلك نحو ما قدّر له بهداية ربّانيّة تكوينيّة كالطفل يهتدي إلى ثدي اُمّه و الفرخ إلى زقّ اُمّه و أبيه، و الذكر إلى الاُنثى و ذي النفع إلى نفعه و على هذا القياس.

قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21، و قال:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20 و قال:( لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) البقرة: 148.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ ) المرعى ما ترعاه الدوابّ فالله تعالى هو الّذي أخرجها أي أنبتها.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى‏ ) الغثاء ما يقذفه السيل على جانب الوادي من الحشيش و النبات، و المراد هنا - كما قيل - اليابس من النبات، و الأحوى الأسود.

و إخراج المرعى لتغذّي الحيوان ثمّ جعله غثاء أحوى من مصاديق التدبير الربوبيّ و دلائله كما أنّ الخلق و التسوية و التقدير و الهداية كذلك.

قوله تعالى: ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى‏ ) قال في المفردات: و القراءة ضمّ الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، و ليس يقال ذلك لكلّ جمع لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، و يدلّ على ذلك أنّه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوّه به قراءة، انتهى، و قال في المجمع: و الإقراء أخذ القراءة على القارئ بالاستماع لتقويم الزلل، و القارئ التالي. انتهى.

و ليس إقراؤه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن مثل إقراء بعضنا بعضاً باستماع المقري لما يقرؤه القارئ و إصلاح ما لا يحسنه أو يغلط فيه فلم يعهد من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأ شيئاً من القرآن فلا يحسنه أو يغلط فيه عن نسيان للوحي ثمّ يقرأ فيصلح بل المراد تمكينه من قراءة القرآن كما اُنزل من غير أن يغيّره بزيادة أو نقص أو تحريف بسبب النسيان.

فقوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) وعدٌ منه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمكّنه من العلم

٣٨٩

بالقرآن و حفظه على ما اُنزل بحيث يرتفع عنه النسيان فيقرؤه كما اُنزل و هو الملاك في تبليغ الوحي كما اُوحي إليه.

و قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) استثناء مفيد لبقاء القدرة الإلهيّة على إطلاقها و أنّ هذه العطيّة و هي الإقراء بحيث لا تنسى لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء بحيث لا يقدر بعد على إنسائك بل هو باق على إطلاق قدرته له أن يشاء إنساءك متى شاء و إن كان لا يشاء ذلك فهو نظير الاستثناء الّذي في قوله:( وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: 108 و قد تقدّم توضيحه.

و ليس المراد بالاستثناء إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي و المعنى سنقرئك فلا تنسى شيئاً إلّا ما شاء الله أن تنساه و ذلك أنّ كلّ إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء و ينسى أشياء فلا معنى لاختصاصه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن الامتنان مع كونه مشتركاً بينه و بين غيره فالوجه ما قدّمناه.

و الآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنّه كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه مخافة أن ينساه فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوّله فلمّا نزلت هذه الآية لم ينس بعده شيئاً.

و يقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية أعني قوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) نازلة أوّلاً ثمّ قوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) القيامة: 19 ثمّ قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى) الجهر كمال ظهور الشي‏ء لحاسّة البصر كقوله:( فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ) النساء: 153، أو لحاسّة السمع كقوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ) الأنبياء: 110، و المراد بالجهر الظاهر للإدراك بقرينة مقابلته لقوله:( وَ ما يَخْفى‏ ) من غير تقييده بسمع أو بصر.

و الجملة في مقام التعليل لقوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) و المعنى سنصلح لك بالك

٣٩٠

في تلقّي الوحي و حفظه لأنّا نعلم ظاهر الأشياء و باطنها فنعلم ظاهر حالك و باطنها و ما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي و الحرص على طاعته فيما أمر به.

و في قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ) إلخ التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه الإشارة إلى حجّة الاستثناء فإفاضة العلم و الحفظ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما لا يسلب القدرة على خلافه و لا يحدّها منه تعالى لأنّه الله المستجمع لجميع صفات الكمال و منها القدرة المطلقة ثمّ جرى الالتفات في قوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ ) إلخ لمثل النكتة.

قوله تعالى: ( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ ) اليسرى - مؤنث أيسر - و هو وصف قائم مقام موصوفة المحذوف أي الطريقة اليسرى و التيسير التسهيل أي و نجعلك بحيث تتّخذ دائماً أسهل الطرق للدعوة و التبليغ قولاً و فعلاً فتهدي قوماً و تتمّ الحجّة على آخرين و تصبر على أذاهم.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و نيسّر لك اليسرى كما قال:( وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ) طه: 26 و إنّما عدل عن ذلك إلى قوله:( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ ) لأنّ الكلام في تجهيزه تعالى نفس النبيّ الشريفة و جعله إيّاها صالحة لتأدية الرسالة و نشر الدعوة. على ما في نيسّر اليسرى من إيهام تحصيل الحاصل.

فالمراد جعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صافي الفطرة حقيقاً على اختيار الطريقة اليسرى الّتي هي طريقة الفطرة فالآية في معنى قوله حكاية عن موسى:( حَقِيقٌ عَلى‏ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ) الأعراف: 105.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ ) تفريع على ما تقدّم من أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتنزيه اسم ربّه و وعده إقراء الوحي بحيث لا ينسى و تيسيره لليسرى و هي الشرائط الضروريّة الّتي يتوقّف عليها نجاح الدعوة الدينيّة.

و المعنى إذ تمّ لك الأمر بامتثال ما أمرناك به و إقرائك فلا تنسى و تيسيرك لليسرى فذكّر إن نفعت الذكرى.

و قد اشترط في الأمر بالتذكرة أن تكون نافعة و هو شرط على حقيقته فإنّها إذا

٣٩١

لم تنفع كانت لغواً و هو تعالى يجلّ عن أن يأمر باللّغو فالتذكرة لمن يخشى لأوّل مرّة تفيد ميلا من نفسه إلى الحقّ و هو نفعها و كذا التذكرة بعد التذكرة كما قال:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) و التذكرة للأشقى الّذي لا خشية في قلبه لأوّل مرّة تفيد تمام الحجّة عليه و هو نفعها و يلازمها تجنّبه و تولّيه عن الحقّ كما قال:( يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ ) و التذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئاً و لذا اُمر بالإعراض عن ذلك قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) النجم: 29.

و قيل: الشرط شرط صوريّ غير حقيقيّ و إنّما هو إخبار عن أنّ الذكرى نافعة لا محالة في زيادة الطاعة و الانتهاء عن المعصية كما يقال: سله إن نفع السؤال و لذا قال بعضهم( إن ) ( إِنْ ) في الآية بمعنى قد، و قال آخرون: إنّها بمعنى إذ.

و فيه أنّ كون الذكرى نافعة مفيدة دائماً حتّى فيمن يعاند الحقّ - و قد تمّت عليه الحجّة - ممنوع كيف؟ و قد قيل فيهم:( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) البقرة: 7.

و قيل: إنّ في الكلام إيجازاً بالحذف، و التقدير فذكّر إن نفعت الذكرى و إن لم تنفع و ذلك لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث للتذكرة و الإعذار فعليه أن يذكّر نفع أو لم ينفع فالآية من قبيل قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) النحل: 81 أي و البرد.

و فيه أنّ وجوب التذكرة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى فيما لا يترتّب عليها أثراً أصلاً ممنوع.

و قيل: إنّ الشرط مسوق للإشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين نعياً عليهم كأنّه قيل: افعل ما اُمرت به لتوجر و إن لم ينتفعوا به.

و فيه أنّه يردّه قوله تعالى بعده بلا فصل:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) .

قوله تعالى: ( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) أي سيتذكّر و يتّعظ بالقرآن من في قلبه شي‏ء من خشية الله و خوف عقابه.

قوله تعالى: ( يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ ) الضمير للذكرى و المراد بالأشقى بقرينة

٣٩٢

المقابلة من ليس في قلبه شي‏ء من خشية الله تعالى، و تجنّب الشي‏ء التباعد عنه، و المعنى و سيتباعد عن الذكرى من لا يخشى الله.

قوله تعالى: ( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الظاهر أنّ المراد بالنار الكبرى نار جهنّم و هي نار كبري بالقياس إلى نار الدنيا، و قيل: المراد بها أسفل دركات جهنّم و هي أشدّها عذاباً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى‏ ) ثمّ للتراخي بحسب رتبة الكلام، و المراد من نفي الموت و الحياة عنه معاً نفي النجاة نفياً مؤبّداً فإنّ النجاة بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين إمّا بالموت حتّى ينقطع عنه العذاب بانقطاع وجوده و إمّا يتبدّل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة و من العذاب إلى الراحة فالمراد بالحياة في الآية الحياة الطيّبة على حدّ قولهم في الحرض: لا حيّ فيرجى و لا ميّت فينسى.

قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) التزكّي هو التطهّر و المراد به التطهّر من ألواث التعلّقات الدنيويّة الصارفة عن الآخرة بدليل قوله بعد( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إلخ، و الرجوع إلى الله بالتوجّه إليه تطهّر من الإخلاد إلى الأرض، و الإنفاق في سبيل الله تطهّر من لوث التعلّق الماليّ حتّى أنّ وضوء الصلاة تمثيل للتطهّر عمّا كسبته الوجوه و الأيدي و الأقدام.

و قوله:( وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) الظاهر أنّ المراد بالذكر الذكر اللفظيّ، و بالصلاة التوجّه الخاصّ المشروع في الإسلام.

و الآيتان بحسب ظاهر مدلولهما على العموم لكن ورد في المأثور عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهما نزلتا في زكاة الفطر و صلاة العيد و كذا من طرق أهل السنّة.

قوله تعالى: ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إضراب بالخطاب لعامّة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشريّ من التعلّق التامّ بالدنيا و الاشتغال بتعميرها، و الإيثار الاختيار، و قيل: الخطاب للكفّار، و الكلام على أيّ حال مسوق للعتاب و الالتفات لتأكيده.

٣٩٣

قوله تعالى: ( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ ) عدّ الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا مع أنّها باقية أبديّة في نفسها لأنّ المقام مقام الترجيح بين الدنيا و الآخرة و يكفي في الترجيح مجرّد كون الآخرة خيراً و أبقى بالنسبة إلى الدنيا و إن قطع النظر عن كونها باقية أبديّة.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) الإشارة بهذا إلى ما بين في قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) إلى تمام أربع آيات، و قيل: هذا إشارة إلى مضمون قوله:( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ ) .

قيل: و في إبهام الصحف و وصفها بالتقدّم أوّلاً ثمّ بيانها و تفسيرها بصحف إبراهيم و موسى ثانياً ما لا يخفى من تفخيم شأنها و تعظيم أمرها.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: لمّا نزلت:( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم، و لمّا نزل( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: اجعلوها في سجودكم.

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور، عن أحمد و أبي داود و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن مردويه عن عقبة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ:( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: قل سبحان ربّي الأعلى( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) قال: قدّر الأشياء بالتقدير الأوّل ثمّ هدى إليها من يشاء.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ ) قال: أي النبات. و في قوله:( غُثاءً أَحْوى‏ ) قال: يصير هشيماً بعد بلوغه و يسودّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينساه فقيل له: كفيناك ذلك و نزلت:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) .

٣٩٤

و في الفقيه: و سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) قال قال: من أخرج الفطرة قيل له: و( ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) قال: خرج إلى الجبانة(1) فصلّى.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن حمادّ عن جرير عن أبي بصير و زرارة عنهعليه‌السلام و رواه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً مضمراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) ثمّ يقسّم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلّى يوم الفطر.

أقول: و روي أيضاً نزول الآيتين في زكاة الفطرة و صلاة العيد بطريقين عن أبي سعيد موقوفاً، و كذا بطريقين عن ابن عمر و بطريق عن نائلة بن الأصقع و بطريقين عن أبي العالية و بطريق عن عطاء و بطريق عن محمّد بن سيرين و بطريق عن إبراهيم النخعي و كذا عن عمرو بن عوف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الخصال، عن عتبة بن عمرو الليثيّ عن أبي ذرّ في حديث قلت: يا رسول الله فما في الدنيا ممّا أنزل الله عليك شي‏ء ممّا كان في صحف إبراهيم و موسى؟ قال: يا أبا ذرّ اقرأ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) .

أقول: يؤيّد الحديث كون الإشارة بهذا إلى مجموع الآيات الأربع كما تقدّم.

و في البصائر، بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : عندنا الصحف الّتي قال الله:( صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) قلت: الصحف هي الألواح؟ قال: نعم.

أقول: و رواه أيضاً بطريق آخر عن أبي بصير عنهعليه‌السلام و الظاهر أنّ المراد بكون الصحف هي الألواح كونها هي التوراة المعبّر عنها في مواضع من القرآن بالألواح كقوله تعالى:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الأعراف: 145 و قوله:( وَ أَلْقَى

____________________

(1) الجبانة: الصحراء

٣٩٥

الْأَلْواحَ ) الأعراف: 150 و قوله:( أَخَذَ الْأَلْواحَ ) الأعراف: 154.

و في المجمع، روي عن أبي ذرّ أنّه قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرون ألفاً قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاث مائة و ثلاثة عشر و بقيّتهم أنبياء. قلت: كان آدم نبيّاً؟ قال: نعم كلّمة الله و خلقه بيده.

يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود و صالح و شعيب و نبيّك.

قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة و أربعة كتب اُنزل منها على آدم عشرة صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على اُخنوخ و هو إدريس ثلاثين صحيفة و هو أوّل من خطّ بالقلم و على إبراهيم عشر صحائف و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان.

أقول: و روي ذلك في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي ذرّ غير أنّه لم يذكر صحف آدم و ذكر لموسى عشر صحف قبل التوراة.

٣٩٦

( سورة الغاشية مكّيّة و هي ستّ و عشرون آية)

( سورة الغاشية الآيات 1 - 26)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( 1 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( 2 ) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ( 3 ) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ( 4 ) تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ( 5 ) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ( 6 ) لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ ( 7 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ( 8 ) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ( 9 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 10 ) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ( 11 ) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ( 12 ) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ( 13 ) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ( 14 ) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ( 15 ) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ( 16 ) أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( 17 ) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ( 18 ) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ( 19 ) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ( 20 ) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ( 21 ) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ( 22 ) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ( 23 ) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ( 24 ) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ( 25 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ( 26 )

( بيان‏)

سورة إنذار و تبشير تصف الغاشية و هي يوم القيامة الّذي يحيط بالناس تصفه بحال الناس فيه من حيث انقسامهم فريقين: السعداء و الأشقياء و استقرارهم فيما اُعدّ لهم من الجنّة و النار و تنتهي إلى أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكّر الناس بفنون من التدبير الربوبيّ

٣٩٧

في العالم الدالّة على ربوبيّته تعالى لهم و رجوعهم إليه لحساب أعمالهم.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) استفهام بداعي التفخيم و الإعظام، و المراد بالغاشية يوم القيامة سمّيت بذلك لأنّها تغشى الناس و تحيط بهم كما قال:( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الكهف: 47، أو لأنّها تغشى الناس بأهوالها بغتة كما قيل، أو لأنّها تغشى وجوه الكفّار بالعذاب.

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) أي مذلّلة بالغمّ و العذاب يغشاها، و الخشوع إنّما هو لأرباب الوجوه و إنّما نسب إلى الوجوه لأنّ الخشوع و المذلّة يظهر فيها.

قوله تعالى: ( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) النصب التعب و( عامِلَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و كذا قوله:( ناصِبَةٌ ) و( تَصْلى) و( تُسْقى) و( لَيْسَ لَهُمْ ) و المراد من عملها و نصبها بقرينة مقابلتهما في صفة أهل الجنّة الآتية بقوله:( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) عملها في الدنيا و نصبها في الآخرة فإنّ الإنسان إنّما يعمل ما يعمل في الدنيا ليسعد به و يظفر بالمطلوب لكن عملهم خبط باطل لا ينفعهم شيئاً كما قال تعالى:( وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: 23 فلا يعود إليهم من عملهم إلّا النصب و التعب بخلاف أهل الجنّة فإنّهم لسعيهم الّذي سعوه في الدنيا راضون لما ساقهم إلى الجنّة و الراحة.

و قيل: المراد أنّها عاملة في النار ناصبة فيها فهي تعالج أنواع العذاب الّذي تعذّب به و تتعب لذلك.

و قيل: المراد أنّها عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة.

قوله تعالى: ( تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) أي تلزم ناراً في نهاية الحرارة.

قوله تعالى: ( تُسْقى‏ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) أي حارّة بالغة في حرارتها.

قوله تعالى: ( ليسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ‏ ) قيل: الضريع نوع من الشوك يقال له: الشبرق و أهل الحجاز يسمّونه الضريع إذا يبس و هو أخبث طعام و أبشعه لا ترعاه دابّة، و لعلّ تسمية ما في النار به لمجرّد المشابهة شكلاً و خاصّة.

٣٩٨

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ) من النعومة فيكون كناية عن البهجة و السرور الظاهر على البشرة كما قال:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، أو من النعمة أي متنعّمة. قيل: و لم يعطف على قوله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) إشارة إلى كمال البينونة بين حالي الفريقين.

قوله تعالى: ( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) اللّام للتقوية، و المراد بالسعي سعيها في الدنيا بالعمل الصالح، و المعنى رضيت سعيها و هو عملها الصالح حيث جوزيت به جزاءً حسناً.

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) المراد بعلوّها ارتفاع درجاتها و شرفها و جلالتها و غزارة عيشها فإنّ فيها حياة لا موت معها، و لذّة لا ألم يشوبها و سروراً لا غمّ و لا حزن يداخله لهم فيها فوق ما يشاؤن.

و قوله:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) أي لا تسمع تلك الوجوه في الجنّة كلمة ساقطة لا فائدة فيها.

و قوله:( فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ) المراد بالعين جنسها فقد عدّ تعالى فيها عيوناً في كلامه كالسلسبيل و الشراب الطهور و غيرهما.

و قوله:( فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ) السرر جمع سرير و في ارتفاعها جلالة القاعد عليها،( وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ) الأكواب جمع كوب و هو الإبريق لا خرطوم له و لا عروة يتّخذ فيه الشراب( وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ) النمارق جمع نمرقة و هي الوسادة و كونها مصفوفة وضعها في المجلس بحيث يتّصل بعضها ببعض على هيئة المجالس الفاخرة في الدنيا( وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) الزرابيّ جمع زريبة مثلّثة الزاي و هي البساط الفاخر و بثّها بسطها للقعود عليها.

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) بعد ما فرغ من وصف الغاشية و بيان حال الفريقين، المؤمنين و الكفّار عقّبه بإشارة إجماليّة إلى التدبير الربوبيّ الّذي يفصح عن ربوبيّته تعالى المقتضية لوجوب عبادته و لازم ذلك حساب الأعمال و جزاء المؤمن بإيمانه و الكافر بكفره و الظرف الّذي فيه ذلك هو الغاشية.

٣٩٩

و قد دعاهم أوّلاً أن ينظروا إلى الإبل كيف خلقت؟ و كيف صوّر الله سبحانه أرضاً عادمة للحياة فاقدة للشعور بهذه الصورة العجيبة في أعضائها و قواها و أفاعيلها فسخّرها لهم ينتفعون من ركوبها و حملها و لحمها و ضرعها و جلدها و وبرها حتّى بولها و بعرتها فهل هذا كله توافق اتّفاقيّ غير مطلوب بحياله.؟

و تخصيص الإبل بالذكر من جهة أنّ السورة مكّيّة و أوّل من تتلى عليهم الإعراب و اتّخاذ الآبال من أركان عيشتهم.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) و زيّنت بالشمس و القمر و سائر النجوم الزواهر بما فيها من المنافع لأهل الأرض و قد جعل دونها الهواء الّذي يضطرّ إليه الحيوان في تنفّسه.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) و هي أوتاد الأرض المانعة من مورها و مخازن الماء الّتي تتفجّر منها العيون و الأنهار و محافظ للمعادن.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) أي بسطت و سوّيت فصلحت لسكنى الإنسان و سهل فيها النقل و الانتقال و أغلب التصرّفات الصناعيّة الّتي للإنسان.

فهذه تدبيرات كلّيّة مستندة إليه تعالى بلا ريب فيه فهو ربّ السماء و الأرض ما بينهما فهو ربّ العالم الإنسانيّ يجب عليهم أن يتّخذوه ربّاً و يوحّدوه و يعبدوه و أمامهم الغاشية و هو يوم الحساب و الجزاء.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) تفريع على ما تقدّم و المعنى إذا كان الله سبحانه هو ربّهم لا ربّ سواه و أمامهم يوم الحساب و الجزاء لمن آمن منهم أو كفر فذكّرهم بذلك.

و قوله:( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) بيان أنّ وظيفته - و هو رسول - التذكرة رجاء أن يستجيبوا و يؤمنوا من غير إكراه و إلجاء.

قوله تعالى: ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) المصيطر - و أصله المسيطر - المتسلّط، و الجملة بيان و تفسير لقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) .

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

وجعل طاعته طاعته في قوله:( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) (١) .( وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (٢) . وصلّى عليه في ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه، وخاطبه بالألقاب، كرسول الله ونبيّ الله. ومنه: ذكره في كتب الأوّلين، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به.

وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية قال: «قال لي جبرئيل: قال الله تعالى: إذا ذكرت ذكرت معي».

وفي هذا يقول حسّان بن ثابت يمدح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أغرّ عليه للنبوّة خاتم

من الله مشهور يلوح ويشهد

وضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه

إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمّد

وإنّما زاد ذلك ليكون إبهاما قبل إيضاح، فيفيد المبالغة، فإنّه لـمّا قيل: «ألم نشرح لك» فهم أنّ ثم مشروحا، ثمّ قيل: «صدرك» فأوضح ما علم مبهما. وكذلك «لك ذكرك» و «عنك وزرك».

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ ) كضيق الصدر، والوزر المنقض للظهر، وضلال القوم وإيذائهم( يُسْراً ) كالشرح، والوضع، والتوفيق للاهتداء والطاعة. فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يغمّك. وتنكيره للتعظيم، كأنّه قيل: إنّ مع العسر يسرا عظيما وأيّ يسر. ومعنى المصاحبة المفهومة من «مع» المبالغة في معاقبة اليسر للعسر.

والمعنى: إنّ الله يصيبهم بيسر بعد العسر الّذي كانوا فيه بزمان قريب جدّا. فقرّب اليسر المترقّب حتّى جعله كالمقارن للعسر، زيادة في التسلية، وتقوية للقلوب. فاتّصاله به اتّصال المتقاربين.

__________________

(١) النساء: ١٣.

(٢) المائدة: ٩٢.

٤٦١

( إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) تكرير للتأكيد، لتقرير معناه في النفوس، وتمكينه في القلوب. أو استئناف وعدة بأنّ العسر متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة، كقولهعليه‌السلام : «إنّ للصائم فرحتين: فرحة عند الإفطار، وفرحة عند لقاء الربّ».

وعليه قولهعليه‌السلام : «لن يغلب عسر يسرين».

وقولهعليه‌السلام : «والّذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر».

وما رواه عطاء عن ابن عبّاس: قال الله تعالى: خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، فإنّ مع العسر يسرا وإنّ مع العسر يسرا. فإنّ العسر معرّف فلا يتعدّد، سواء كان للعهد ـ وهو العسر الّذي كانوا فيه ـ فهو هو، أو للجنس الّذي يعلمه كلّ أحد فهو هو أيضا. و «يسرا» منكر، فيحتمل أن يراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأوّل.

ولـمّا عدّد سبحانه عليه نعمه السالفة، ووعده الآنفة، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها، وأن يواصل بين بعضها وبعض، ويتابع ويحرص على أن لا يخلّي وقتا من أوقاته منها، فقال :

( فَإِذا فَرَغْتَ ) من التبليغ( فَانْصَبْ ) في العبادة شكرا لـما عددنا عليك من النعم السالفة، ووعدناك من النعم الآتية. وعن الحسن: فإذا فرغت من الغزو فانصب في العبادة. وعن ابن عبّاس: فإذا فرغت من الصلاة فاجتهد بالدعاء في دبرها. وهذا مرويّ عن الصادقعليه‌السلام . وعن مجاهد: فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.

( وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) بالسؤال، ولا تسأل غيره، فإنّه القادر وحده على الإعانة والإغاثة.

٤٦٢

(٩٥)

سورة التين

مختلف فيها. وهي ثماني آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطاه الله خصلتين: العافية واليقين، ما دام في دار الدنيا، فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم».

وعن البراء بن عازب قال: «سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ في المغرب التين والزيتون، فما رأيت إنسانا أحسن قراءة منه». رواه مسلم في الصحيح(١) .

وروى شعيب العقرقوفي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ والتين في فرائضه ونوافله أعطي من الجنّة حيث يرضى».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨) )

__________________

(١) صحيح مسلم ١: ٣٣٩ ح ١٧٧. وفيه: أحسن صوتا منه.

٤٦٣

ولـمّا أمر الله سبحانه بالرغبة إليه في خاتمة سورة الانشراح، افتتح هذه السورة بذكر أنّه الخالق المستحقّ للعبادة، بعد أن أقسم عليه، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) خصّهما من بين الثمار بالقسم، لأنّ التين فاكهة طيّبة لا فضل له إلّا القليل جدّا، وغذاء لطيف سريع الهضم، ودواء كثير النفع، فإنّه يليّن الطبع، ويحلّل البلغم، ويطهّر الكليتين، ويزيل رمل المثانة، ويفتح سدد الكبد والطحال، ويسمّن البدن. وروي: أنّه أهدي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طبق من تين، فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوه، فلو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنّة لقلت: هذه، لأنّ فاكهة الجنّة بلا عجم، فكلوها، فإنّها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس».

والزيتون فاكهة وإدام ودواء، وله دهن لطيف كثير المنافع، مع أنّه قد ينبت حيث لا دهنيّة فيه، كالجبال. ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون، فأخذ منها قضيبا واستاك به وقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة، يطيب الفم، ويذهب بالحفرة». وسمعته يقول: «هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي».

وقيل: المراد بهما جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانيّة: طور تينا وطور زيتا، لأنّهما منبتا التين والزيتون.

وقيل: التين الجبل الّذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الّذي عليه بيت المقدس.

وقيل: التين مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس.

وعن ابن عبّاس: التين مسجد نوح الّذي بني على الجوديّ، والزيتون بيت المقدس.

وقيل: التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى.

وقيل: التين جبال ما بين حلوان وهمدان، والزيتون جبال الشام، لأنّها

٤٦٤

منابتهما، كأنّه قيل: ومنابت التين والزيتون.

( وَطُورِ سِينِينَ ) يعني: الجبل الّذي ناجى عليه موسىعليه‌السلام ربّه. وسينين وسيناء اسمان للموضع الّذي هو فيه. وأضيف الطور ـ وهو الجبل ـ إلى سينين، وهي البقعة. وهو سينون أيضا. ومثله: يبرون، في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء، وتحريك النون بحركات الإعراب.

( وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) أي: الآمن. من: أمن الرجل أمانة فهو أمين. وأمانته أن يحفظ من دخله، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، من: أمنه، لأنّه مأمون الغوائل، كما وصف بالأمين في قوله:( حَرَماً آمِناً ) (١) بمعنى: ذي أمن.

ولـمّا كان منبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشأه، والطور المكان الّذي نودي منه موسى، ومكّة مكان البيت الّذي هو هدى للعالمين، ومولد رسول الله ومبعثه، وكلّها مواضع خير وبركة وسكنى الأنبياء، أقسم الله تعالى بها على أنّه( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) يريد به الجنس( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) تعديل، بأن خصّ بانتصاب القامة، وحسن الصورة، وتسوية الأعضاء، واستجماع خواصّ الكائنات وسائر الممكنات.

( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) أي: ثمّ كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويّة السويّة، أن رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا، يعني: أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة، وهم أصحاب النار. أو أسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثمّ رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل، حيث نكسناه في خلقه، فقوّس ظهره بعد اعتداله، وابيضّ شعره بعد

__________________

(١) القصص: ٥٧.

٤٦٥

سواده، وتشنّن(١) جلده، وكلّ سمعه وبصره، وتغيّر كلّ شيء منه. فمشيه دليف(٢) ، وصوته خفات، وقوّته ضعف، وشهامته خرف، وهو أرذل العمر. وعلى هذا ؛ السافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال والشيخ الكبير، وهو أسفل هؤلاء جميعا.

وعلى التفسير الأوّل( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) استثناء متّصل ظاهر الاتّصال. وعلى الثاني منقطع. يعني: ولكنّ الّذين كانوا صالحين من الهرمى.

( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم في هذه الحالة، وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاقّ، والقيام بالعبادة، على تخاذل نهوضهم. وروي: «أنّ المؤمن لا يردّ إلى الخرافة وإن عمّر عمرا طويلا».

وعن عكرمة: إذا ردّ من المؤمنين إلى أرذل العمر، كتب له كصالح ما كان يعمل في شبابه، وذلك أجر غير ممنون.

وعن ابن عبّاس: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. وذلك قوله:( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) . قال: إلّا الّذين قرءوا القرآن.

وفي الحديث عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المولود حتّى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالديه، فإن عمل سيّئة لم يكتب عليه، ولا على والديه.

فإذا بلغ الحنث، وجرى عليه القلم، أمر الله الملكين اللّذين معه يحفظانه ويسدّدانه.

فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون، والجذام، والبرص. وإذا بلغ خمسين سنة خفّف الله حسابه. فإذا بلغ ستّين رزقه الله الإنابة إليه فيما يجب. فإذا بلغ سبعين أحبّه أهل السماء. فإذا بلغ ثمانين كتب الله حسناته ،

__________________

(١) تشنّن الجلد: يبس وتشنّج.

(٢) أي: متقارب الخطوة في المشي.

٤٦٦

وتجاوز عن سيّئاته. فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وشفّعه في أهل بيته، وكان اسمه أسير الله في الأرض. فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا، كتب الله له بمثل ما كان يعمل في صحّته من الخير، وإن عمل سيّئة لم تكتب عليه».

وأقول: إنّما لا تكتب عليه السيّئة لزوال عقله، ونقصان تمييزه في ذلك الوقت.

( فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ ) فأيّ شيء يكذّبك يا محمّد دلالة أو نطقا بعد ظهور هذه الدلائل( بِالدِّينِ ) بالجزاء. وقيل: «ما» بمعنى «من». وقيل: الخطاب للإنسان على الالتفات. والمعنى: أنّ خلق الإنسان من نطفة، وتقويمه بشرا سويّا، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر، لا ترى دليلا أوضح منه على قدرة الخالق، وأنّ من قدر من الإنسان على هذا كلّه لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك أيّها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع؟ ثمّ حقّق ما سبق بقوله:( أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ ) أليس الّذي فعل ذلك من الخلق والردّ بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا؟ ومن كان كذلك كان قادرا على الإعادة والجزاء، على ما مرّ مرارا. وهذا وعيد للكفّار بأنّه يحكم عليهم بما هم أهله.

٤٦٧
٤٦٨

(٩٦)

سورة العلق

مكّيّة. وهي تسع عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها فكأنّما قرأ المفصّل كلّه».

محمد بن حسّان عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ في يومه أو ليلته «اقرأ باسم ربّك» ثمّ مات في يومه أو في ليلته مات شهيدا، وبعثه الله شهيدا وأحياه، وكان كمن ضرب بسيفه في سبيل الله مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) )

ولـمّا ختم سبحانه سورة التين بذكر اسمه، افتتح هذه السورة بذكر اسمه أيضا، فقال :

٤٦٩

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) أي: اقرأ القرآن مفتتحا باسمه تعالى، أو مستعينا به( الَّذِي خَلَقَ ) أي: الّذي منه الخلق، لا خالق سواه. وعلى هذا لا يقدّر للخلق مفعول. ويجوز أن يقدّر ويراد: الّذي خلق كلّ شيء، فيتناول كلّ مخلوق، لأنّه مطلق، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض.

ثمّ أفرد ما هو أشرف وأظهر صنعا وتدبيرا، وأدلّ على وجوب العبادة المقصودة من القراءة، فقال :

( خَلَقَ الْإِنْسانَ ) أي: الّذي خلق الإنسان. فأبهم أوّلا، ثمّ فسّر تفخيما لخلقه، ودلالة على عجيب فطرته.( مِنْ عَلَقٍ ) جمعه لأنّ الإنسان في معنى الجمع، كقوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (١) . ولـمّا كان أوّل الواجبات معرفة الله تعالى نزّل أوّلا ما يدلّ على وجوده وكمال قدرته وحكمته.

( اقْرَأْ ) تكرير للمبالغة. أو الأوّل مطلق، والثاني للتبليغ، أو في الصّلاة.

ولعلّه لـمّا قيل له:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) . فقال: ما أنا بقارئ.

فقيل له: اقرأ. فإنّ أكثر المفسّرين على أنّ هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن، في أوّل يوم نزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قائم على حراء، علّمه خمس آيات من أوّل هذه السورة. وقيل: أوّل سورة نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاتحة الكتاب.

( وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) الزائد الكرم على كلّ كريم، فإنّه ينعم على عباده النعم الّتي لا تحصى، ويحلم عنهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة، مع كفرهم وجحودهم لنعمه، وركوبهم المناهي، واطّراحهم الأوامر. ويقبل توبتهم، ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم. فما لكرمه غاية ولا أمد، فكأنّه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلميّة تكرّم حيث قال: الأكرم.

( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) أي: علّم الخطّ بالقلم( عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) من نصب الدلائل، وإنزال الآيات، وسائر أمور الدين والشرائع والأحكام. فدلّ على

__________________

(١) العصر: ٢.

٤٧٠

كمال كرمه بأنّه علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. ونبّه على فضل علم الكتابة، لـما فيه من المنافع العظيمة الّتي لا يحيط بها إلّا هو، فإنّه ما دوّنت العلوم، ولا قيّدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلّا بالكتابة، ولو لا هي لـما استقامت أمور الدين والدنيا. ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلّا أمر القلم والخطّ لكفى به. فعدّد سبحانه في هذه الآيات الشريفة مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه، إظهارا لـما أنعم عليه، من أن نقله من أخسّ المراتب إلى أعلاها، تقريرا لربوبيّته، وتحقيقا لأكرميّته.

( كَلَّا ) ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر، لدلالة الكلام عليه( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) بكثرة عشيرته وأمواله وقوّته. وهذا مفعوله الثاني، لأنّه بمعنى: علم، أي: علم نفسه مستغنيا. ومن خصائص أفعال القلوب أن يكون فاعله ومفعوله الأوّل ضميرين لواحد. ولو كان الرؤية بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين لواحد.

ثمّ خاطب الإنسان على الالتفات تهديدا وتحذيرا من عاقبة الطغيان، فقال:( إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى ) أي: إلى حكمه وجزائه الرجوع، فإنّه مصدر كالبشرى.

( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩) )

٤٧١

روي: أنّ أبا جهل لفرط جهله وعتوّه قال: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالّذي يحلف به لو رأيت محمّدا ساجدا لأطأنّ على رقبته. فقيل له: ها هو ذلك يصلّي. فانطلق ليطأ على رقبته، فنكص على عقبيه.

فقيل له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إنّ بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة، وهي أجنحة الملائكة. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والّذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا». فأنزل الله سبحانه :

( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً ) يعني: محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِذا صَلَّى ) لفظ العبد والتنكير للمبالغة في تقبيح النهي، والدلالة على كمال عبوديّة المنهيّ. ومعنى «أرأيت» هاهنا تعجيب للمخاطب.

ثمّ كرّر هذه اللفظة مرّتين للتأكيد في التعجيب، فقال:( أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ ) العبد المنهيّ( عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ) بالإخلاص والتوحيد والاتّقاء عن الشرك.

والشرطيّة المفعول الثاني لـ «رأيت» الأوّل. والثاني تكرير للمبالغة، وليس له عمل.

وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأنّ الله يرى؟ وإنّما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني، وهو قوله:( أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ ) أبو جهل( وَتَوَلَّى ) عن الإيمان( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى ) يراه ويطّلع على هداه وضلاله، فيجازيه على حسب ذلك. وهذا وعيد له.

وقيل: المعنى: أخبرني عمّن ينهى عبدا من عبادنا عن الصلاة، إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه من عبادة الله، أو كان آمرا بالتقوى كما يعتقده، وكذلك إن كان على التكذيب للحقّ، والتولّي عن الدين الصحيح كما نحن نقول، ألم يعلم بأنّ الله يرى أحواله فيجازيه؟

وقيل: الخطاب في الثانية مع الكافر، فإنّه تعالى كالحاكم الّذي حضره الخصمان يخاطب هذا مرّة والآخر اخرى. وكأنّه قال: يا كافر أخبرني إن كان

٤٧٢

صلاته هدى، ودعاؤه إلى الله أمرا بالتقوى، أتنهاه؟ ولعلّه ذكر الأمر بالتقوى في التعجيب والتوبيخ، ولم يتعرّض له في النهي، لأنّ النهي كان عن الصّلاة والأمر بالتقوى، فاقتصر على ذكر الصّلاة، لأنّه دعوة بالفعل. أو لأنّ نهي العبد إذا صلّى يحتمل أن يكون لها ولغيرها، وعامّة أحوالها محصورة في تكميل نفسه بالعبادة وغيره بالدعوة.

( كَلَّا ) ردع للناهي( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ) عمّا هو فيه( لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ) لنأخذنّ بناصيته، ولنسحبنّه بها إلى النار. والسفح: القبض على الشيء وجذبه بشدّة. وكتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف، والاكتفاء باللام عن الإضافة، للعلم بأنّ المراد بالناصية ناصية المذكور. وفي الأخذ بالناصية إهانة واستخفاف كما لا يخفى.

( ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ ) بدل من الناصية. وإنّما جاز وصفها بالكذب والخطأ، وهما لصاحبها، على الإسناد المجازي للمبالغة.

روي: أنّ أبا جهل مرّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يصلّي فقال: ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا، فنزلت :

( فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ) أي: أهل ناديه ليعينوه. وهو المجلس الّذي ينتدي فيه القوم، أي: يجتمعون.

( سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ) ليجرّوه إلى النار. وهو في كلام العرب: الشرط. واحدها: زبنية، كعفرية. من الزبن، وهو الدفع. يقال: زبنت الناقة إذا ضربت بثفنات(١) رجلها عند الحلب. فالزبن بالثفنات، والركض بالرجل، والخبط باليد. وناقة زبون: تضرب حالبها وتدفعه. وحرب زبون: تزبن الناس، أي: تصدمهم وتدفعهم.

__________________

(١) الثفنة من البعير: ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ، كالركبتين. وجمعها: ثفنات.

٤٧٣

وقيل: زبنيّ على النسب، كأنّه نسب إلى الزبن، ثمّ غيّر للنسب، كقولهم: أمسيّ. وأصلها: زبانيّ، فقيل: زبانية على تعويض التاء عن الياء. والمراد: ملائكة العذاب، سمّوا بذلك لدفعهم أهل النار إليها. وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو دعا أبا جهل ناديه لأخذته الزبانية».

( كَلَّا ) ردع لأبي جهل( لا تُطِعْهُ ) واثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله:( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ) (١) ( وَاسْجُدْ ) ودم على سجودك. يريد: الصلاة.

( وَاقْتَرِبْ ) وتقرّب إلى ربّك. وفي الحديث: «أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا سجد».

والسجود هنا فرض، وهو من العزائم.

روى عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «العزائم: ألم تنزيل، وحم السجدة، والنجم إذا هوى، واقرأ باسم ربّك. وما عداها في جميع القرآن مسنون، وليس بمفروض».

__________________

(١) القلم: ٨.

٤٧٤

(٩٧)

سورة القدر

مختلف فيها. وهي خمس آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها اعطي من الأجر كمن صام رمضان، وأحيا ليلة القدر».

الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: «من قرأ «إنّا أنزلناه» في فريضة من الفرائض نادى مناد: يا عبد الله قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل».

سيف بن عميرة عن رجل، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ «إنّا أنزلناه» يجهر بها كان كشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سرّا كان كالمتشحّط بدمه في سبيل الله، ومن قرأها عشر مرّات مرّت على محو ألف ذنب من ذنوبه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥) )

ولـمّا أمر سبحانه بالسجود والتقرّب إليه في خاتمة سورة العلق، افتتح هذه

٤٧٥

السورة بذكر ليلة القدر، وأنّ التقرّب فيها إلى الله يزيد على التقرّب إليه في سائر الليالي والأيّام، فكأنّه قال: اقترب إليه في سائر الأوقات، خصوصا في ليلة القدر.

وقال أبو مسلم: لـمّا أمره بقراءة القرآن في سورة العلق، بيّن في هذه السورة أنّ إنزاله في ليلة القدر، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) الضمير للقرآن. فخّمه من ثلاثة أوجه :

أحدها: أن أسند إنزاله إليه، وجعله مختصّا به دون غيره، كجبرئيل.

والثاني: إضماره من غير ذكر اسمه الظاهر، شهادة له بالنباهة المغنية عن التصريح.

والثالث: إنزاله في أشرف الزمان وأفضل الأوان، وهو ليلة القدر.

ثمّ فخّم شأن هذه الليلة، ونبّه على عظيم قدرها وشرف محلّها بقوله:( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) أي: لم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علوّ قدرها. وهذا حثّ على العبادة فيها.

ثمّ فسّر تعظيمها بقوله:( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) أي: قيام ليلة القدر والعمل فيها خير من قيام ألف شهر. ولـمّا جعل الخير الكثير في ليلة القدر، كانت خيرا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما يكون في هذه الليلة. وإنزاله فيها بأن ابتدأ بإنزاله فيها. أو أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا على السفرة، ثمّ كان جبرئيل ينزله على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة.

وقيل: معناه: أنزلناه في فضل ليلة القدر. وتسميتها بذلك لشرف قدرها، أو لتقدير الأمور فيها، لقوله تعالى:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (١) . وعن أبي بكر الورّاق: لأنّ من لم يكن ذا قدر إذا أحياها صار ذا قدر. وقال بعضهم: لأنّ للطاعات

__________________

(١) الدخان: ٤.

٤٧٦

فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا. وقيل: لأنّه أنزل فيها ملك ذو قدر، كتابا ذا قدر، من عند ملك ذي قدر، إلى رسول ذي قدر، لأجل أمّة ذات قدر.

وذكر «ألف» إمّا للتكثير، أو لـما روي: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر إسرائيليّا لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك، وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة القدر، هي خير من مدّة غزوة هذا الغازي.

وقيل: إنّ الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتّى يعبد الله ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحقّ بأن يسمّوا عابدين من أولئك العبّاد.

واختلفوا في أنّها أيّة ليلة؟ فذهب قوم إلى أنّها إنّما كانت على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رفعت. وجاءت الرواية عن أبي ذرّ أنّه قال: «قلت: يا رسول الله ليلة القدر هي شيء يكون على عهد الأنبياء، ينزّل الله فيها الملائكة، فإذا قبضوا رفعت؟ قال: لا بل هي إلى يوم القيامة».

وقيل: إنّها في ليالي السنة كلّها. ومن علّق طلاق امرأته على ليلة القدر لم يقع إلى مضيّ السنة. وهو مذهب أبي حنيفة. وفي بعض الروايات عن ابن مسعود: أنّه قال: من يقم الحول كلّه يصبها. فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، أما إنّه علم أنّها في شهر رمضان، ولكنّه أراد أن لا يتّكل الناس.

وجمهور العلماء على أنّها في شهر رمضان في كلّ سنة. ثم اختلفوا في أيّ ليلة هي منه؟ فقيل: هي أوّل ليلة منه. عن ابن زيد العقيلي. وقيل: هي ليلة سبع عشرة منه. عن الحسن. وروي: أنّها ليلة الفرقان، وفي صبيحتها التقى الجمعان.

والصحيح أنّها في العشر الأواخر من شهر رمضان. وهو مذهب الشافعي. ةوروي مرفوعا: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان». وعن عليّعليه‌السلام : «أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان».

٤٧٧

قال: «وكان إذا دخل العشر الأواخر دأب(١) وأدأب أهله».

وروى أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل العشر الأواخر شدّ المئزر، واجتنب النساء، وأحيا الليل، وتفرّغ للعبادة».

ثمّ اختلفوا في أنّها أيّة ليلة منه؟ فقيل: إنّها ليلة إحدى وعشرين. وهو مذهب أبي سعيد الخدري، واختيار الشافعي.

قال أبو سعيد الخدري: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رأيت هذه الليلة ثمّ أنسيتها، ورأيتني أسجد في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كلّ وتر». قال: فأبصرت عيناي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين. أورده البخاري في الصحيح(٢) .

وقيل: هي ليلة ثلاث وعشرين منه.

عن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله إنّي رأيت في النوم كأنّ ليلة القدر هي ليلة سابعة تبقى. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين، فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين».

قال معمّر: وكان أيّوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، ويمسّ طيبا.

وسأل عمر بن الخطّاب أصحاب رسول الله فقال: قد علمتم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في ليلة القدر: «اطلبوها في العشر الأواخر وترا».

ففي أيّ الوتر ترون؟ فأكثر القوم في الوتر.

قال ابن عبّاس: فقال لي: ما لك لا تتكلّم يا بن عبّاس؟! فقلت: رأيت الله أكثر ذكر السبع في القرآن، فذكر السماوات سبعا، والأرضين سبعا، والطواف سبعا، والجمار سبعا، وما شاء الله من ذلك، خلق الإنسان من سبعة، وجعل رزقه في سبعة.

__________________

(١) أي: جدّ وتعب.

(٢) صحيح البخاري ٣: ٦٠ و٦٢.

٤٧٨

فقال: كلّ ما ذكرت عرفت، فما قولك: خلق الإنسان من سبعة، وجعل رزقه في سبعة؟

فقلت: خلق:( الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) إلى قوله:( خَلْقاً آخَرَ ) (١) . ثمّ قرأت:( أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ) إلى قوله:( وَفاكِهَةً وَأَبًّا ) (٢) . فما أراها إلّا ليلة ثلاث وعشرين لسبع بقين.

فقال عمر: عجزتم أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الّذي لم يجتمع شؤون(٣) رأسه.

قال: وقال عمر: وافق رأيي رأيك. ثمّ ضرب منكبي فقال: ما أنت بأقلّ القوم علما.

وروى العيّاشي بإسناده عن زرارة، وعن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال: «سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن ليلة القدر. قال: في ليلتين: ليلة ثلاث وعشرين، وإحدى وعشرين. فقلت: أفرد لي إحداهما. فقال: وما عليك أن تعمل في ليلتين هي إحداهما.

وعن شهاب بن عبد ربّه قال: «قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : أخبرني بليلة القدر.

قال: ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين».

وعن حمّاد بن عثمان، عن حسّان بن أبي علي قال: «سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن ليلة القدر. قال: اطلبها في تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين».

وفي كتاب من لا يحضره الفقيه عن عليّ بن أبي حمزة قال: «كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام فقال له أبو بصير: جعلت فداك الليلة الّتي يرجى فيها ما يرجى

__________________

(١) المؤمنون: ١٢ ـ ١٤.

(٢) عبس: ٢٥ ـ ٣١.

(٣) شؤون الرأس: موصل أو ملتقى قبائل الرأس. وقبائل الرأس: قطعه المشعوب بعضها إلى بعض.

٤٧٩

أيّ ليلة هي؟

فقال: هي ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين.

قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟

فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب.

قال: فقلت: فربما رأينا الهلال عندنا، وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك في أرض اخرى.

فقال: ما أيسر أربع ليال فيما تطلب فيها.

قلت: جعلت فداك ؛ ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني(١) ؟

قال: إنّ ذلك ليقال.

قلت: جعلت فداك ؛ إنّ سليمان بن خالد روى أنّ في تسع عشرة يكتب وفد الحاجّ.

فقال: يا أبا محمّد يكتب وفد الحاجّ في ليلة القدر، والمنايا والبلايا والأرزاق وما يكون إلى مثلها في قابل، فاطلبها في إحدى وثلاث، وصلّ في كلّ واحدة منهما مائة ركعة، وأحيهما إلى النور ـ أي: الصبح ـ واغتسل فيهما.

قال: قلت: فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟

قال: فصلّ وأنت جالس.

قلت: فإن لم أستطع.

قال: فعلى فراشك.

قلت: فإن لم أستطع.

فقال: لا عليك أن تكتحل أوّل الليل بشيء من النوم، إنّ أبواب السماء تفتح في شهر رمضان، وتصفد(٢) الشياطين، وتقبل أعمال المؤمنين. نعم الشهر شهر

__________________

(١) يأتي في الصفحة التالية توضيحه نقلا عن الشيخ الصدوقرحمه‌الله .

(٢) صفد الأسير: أوثقه وقيّده بالحديد وغيره.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579