زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير13%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51545 / تحميل: 4101
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٩-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

إن كان حسناً ، ولا يوحشك إلاّ هو إن كان قبيحاً .

واعلم أنّك إن تنصر الله ينصرك ويثبّت أقدامك ، فإنّ الله تعالى ضمن إعزاز مَن يعزّه ، ونصر مَن ينصره ، وقال سبحانه :( إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم ) (١) .

وقال سبحانه :( ولينصرنّ الله مَن ينصره ) (٢) .

وقال : كيف أنتم إذا ظهر فيكم البدع حتّى يربوا فيها الصغير ، ويهرم الكبير ، ويسلم عليها الأعاجم ، فإذا ظهرت البدع قيل سنّة ، وإذا عمل بالسنّة قيل بدعة ، قيل : ومتى يكون ذلك ؟ قال : إذا ابتعتم الدنيا بعمل الآخرة .

وقال ابن عباس : لا يأتي على الناس زمان إلاّ أماتوا فيه سنّة ، وأحيوا فيه بدعة حتّى تموت السنن ، وتحيى البدع ، وبعد فو الله ما أهلك الناس وأزالهم عن المحجّة قديماً وحديثاً إلاّ علماء السوء ، قعدوا على طريق الآخرة فمنعوا الناس سلوكها والوصول إليها ، وشكّكوهم فيها .

مثال ذلك مثل رجل كان عطشاناً فرأى جرّة مملوءة فيها ماء ، فأراد أن يشرب منها فقال له الرجل : لا تدخل يدك فيها فإنّ فيها أفعى يلسعك وقد ملأها سمّاً ، فامتنع الرجل من ذلك ، ثم إنّ المخبر بذلك أخذ يدخل يده فيها ، فقال العطشان : لو كان فيها سّماً لما أدخل يده .

وكذلك حال الناس مع علماء السوء ، زهّدوا الناس في الدنيا ورغبوا هم فيها ، ومنعوا الناس من الدخول إلى الولاة والتعظيم لهم ودخلوا هم إليهم ، وعظّموهم ومدحوهم ، وحسّنوا إليهم أفعالهم ، ووعدوهم بالسلامة ، لا بل قالوا لهم : قد رأينا لكم المنامات بعظيم المنازل والقبول ، ففتنوهم وغرّوهم ، ونسوا قول

____________

(١) محمد : ٧ .

(٢) الحج : ٤٠ .

١٤١

الله تعالى :( إنّ الأبرار لفي نعيم * وإنّ الفجّار لفي جحيم ) (١) .

وقوله تعالى :( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) (٢) .

وقوله تعالى :( يوم يعضّ الظالم على يديه ) (٣) .

وقوله تعالى :( يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً ) (٤) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :الجنّة محرّمة على جسد غذّي بالحرام (٥) .

وقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :ليس من شيعتي مَن أكل مال امرء حرام (٦) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا يشمّ ريح الجنّة جسد نبت على الحرام .

وقالعليه‌السلام :إنّ أحدكم ليرفع يده إلى السماء فيقول : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، فأيّ دعاء يُستجاب له ؟! وأيّ عمل يُقبل منه ؟! وهو ينفق من غير حلٍّ ، إن حجّ حجّ بحرام ، وإن تزوّج تزوّج بحرام ، وإن صام أفطر على حرام ، فيا ويحه ، أما علم أنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلاّ الطيّب ، وقد قال في كتابه : ( إنّما يتقبّل الله من المتقين ) (٧) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ليكون عليكم أُمراء سوء ، فمَن صدّقهم في قولهم ، وأعانهم على ظلمهم ، وغشى أبوابهم ، فليس منّي ولست منه ، ولن يرد عليّ الحوض .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحذيفة :كيف أنت يا حذيفة إذا كانت أُمراء إن

____________

(١) الإنفطار : ١٣ ـ ١٤ .

(٢) غافر : ١٨ .

(٣) الفرقان : ٢٧ .

(٤) الدخان : ٤١ .

(٥) كنز العمال ٤ : ١٤ ح٩٢٦١ .

(٦) البحار ١٠٤ : ٢٩٦ ح١٧; عن مجموعة ورام .

(٧) المائدة : ٢٧ .

١٤٢

أطعتموهم أكفروكم ، وإن عصيتموهم قتلوكم ؟! ، فقال حذيفة : كيف أصنع يا رسول الله ؟ قال :جاهدهم إن قويت ، واهرب عنهم إن ضعفت .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلح الناس ، وإذا فسدا فسد الناس : الأُمراء والعلماء (١) .

وقال الله تعالى :( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار ) (٢) .

وقال :( ولا تطغوا فيحلّ عليكم غضبي ) (٣) ، والله ما فسدت أمور الناس إلاّ بفساد هذين الصنفين ، وخصوصاً الجائر في قضائه ، والقابل الرشا في الحكم .

ولقد أحسن أبو نواس في قوله :

إذا خان الأمير وكاتباه

وقاضي الأمر داهن في القضاءِ

فويل ثمّ ويلٌ ثمّ ويل

لقاضي الأرض من قاضي السماءِ

وجاء في تفسير قوله تعالى :( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ . ) (٤) الآية ، نزلت فيمن يخالط السلاطين والظلمة .

وقالعليه‌السلام :الإسلام علانية باللسان ، والإيمان سرّ بالقلب ، والتقوى عمل بالجوارح ، كيف تكون مسلماً ولا تسلم الناس منك ؟ وكيف تكون مؤمناً ولا تأمنك الناس ؟ وكيف تكون تقيّاً والناس يتّقون من شرّك وأذاك ؟ .

وقال :إنّ مَن ادعى حبّنا وهو لا يعمل [عملنا ولا يقول] (٥) بقولنا ، فليس منّا ولا نحن منه ، أما سمعوا قول الله تعالى يقول مخبراً عن نبيّه : ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (٦) .

____________

(١) الخصال : ٣٦ ح١٢ باب الاثنين ، عنه البحار ٢ : ٤٩ ح١٠ .

(٢) هود : ١١٣ .

(٣) طه : ٨١ .

(٤) المجادلة : ٢٢ .

(٥) أثبتناه من ( ب ) .

(٦) آل عمران : ٣١ .

١٤٣

ولمّا بايع أصحابه أخذ عليهم العهد والميثاق بالسمع لله تعالى وله بالطاعة في العسر واليسر ، وعلى أن يقولوا الحق أينما كانوا ، وأن لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وقال : إنّ الله تعالى ليحصي على العبد كل شيء حتّى أنينه في مرضه ، والشاهد على ذلك قوله تعالى :

( ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ) (١) .

وقوله تعالى :( إنّ عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون ) (٢) .

وقوله تعالى :( إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) (٣) .

____________

(١) ق : ١٨ .

(٢) الانفطار : ١٠ ـ ١٢ .

(٣) البقرة : ٢٨٤ .

١٤٤

الباب الثامن عشر : في عقاب الزّنا والربا

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ لأهل النار صرخة من نتن فروج الزناة ، فإيّاكم والزنا فإنّ فيه ست خصال ، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأمّا التي في الدنيا : فإنّه يذهب ببهاء الوجه ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأمّا التي في الآخرة : يوجب سخط الله ، وسوء الحساب ، وعظم العذاب ، إنّ الزناة يأتون يوم القيامة تشتعل فروجهم ناراً ، يعرفون بنتن فروجهم (١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ الله مستخلفكم في الدنيا فانظروا كيف تعملون ، فاتقوا الزنا والربا والرياء (٢) .

قيل : قالت المعتزلة يوماً في مجلس الرضاعليه‌السلام :إنّ أعظم الكبائر القتل ، لقوله تعالى : ( ومَن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها . ) (٣) .

____________

(١) الكافي ٥ : ٥٤١ ح٣ ، مَن لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧٣ ح٤٩٦٠ باختلاف ، وفي معالم الزلفى : ٣٣٧ .

(٢) الرياء ، لم يرد في ( ب ) و ( ج ) .

(٣) النساء : ٩٣ .

١٤٥

قال الرضاعليه‌السلام :أعظم من القتل عندي إثماً ، وأقبح منه بلاءً الزنا وأدوم ؛ لأنّ القاتل لم يفسد بضرب المقتول غيره ، ولا بعده فساد ، والزاني قد أفسد النسل إلى يوم القيامة ، وأحلّ المحارم فلم يبق في المجلس فقيه إلاّ قبّل يده وأقرّ بما قال .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا كانت خمس منكم رميتم بخمس : إذا أكلتم الربا رميتم بالخسف ، وإذا ظهر فيكم الزنا أُخذتم بالموت ، وإذا جارت الحكّام ماتت البهائم ، وإذا ظلم أهل الملّة ذهبت الدولة ، وإذا تركتم السنّة ظهرت البدعة .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما نقض قوم عهدهم إلاّ سلّط عليهم عدوّهم ، وما جار قوم إلاّ كثر القتل بينهم ، وما منع قوم الزكاة إلاّ حبس القطر عنهم ، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ نشأ فيهم الموت ، وما بخس قوم المكيال والميزان إلاّ أُخذوا بالسنين .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا عملت أُمّتي خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء : إذا كان الفيء دولاً ، والأمانة مغنماً ، والصدقة مغرماً ، وأطاع الرجل امرأته ، وعصى أُمّه ، وبرّ صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد وأُكرم الرجل مخافة شرّه ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، ولبسوا الحرير ، واتخذوا القينات والمعازف (١) ، وشربوا الخمور ، وكثر الزنا ، فارتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء ، وخسفاً ومسخاً ، وظهور العدو عليكم ثم لا تنصرون (٢) .

____________

(١) في ( ج ) : المغنّيات .

(٢) عنه الوسائل ١٢ : ٢٣١ ح٣١ .

١٤٦

الباب التاسع عشر : [ وصايا وحكم بليغة ]

وصيّة لقمان لابنه بعلوم وحكمة ، قال : يا بني ! لا يكن الديك أكيس منك وأكثر محافظة على الصلوات ، ألا تراه عند كلّ صلاة يؤذّن لها ، وبالأسحار يعلن بصوته وأنت نائم .

وقال : يا بني ! مَن لا يملك لسانه يندم ، ومَن يكثر المراء يشتم ، ومَن يدخل مداخل السوء يُتّهم ، ومَن يُصاحب صاحب السوء لا يسلم ، ومَن يجالس العلماء يغنم ، يا بني ! لا تؤخّر التوبة فإنّ الموت يأتي بغتة ، يا بني ! اجعل غناك في قلبك ، وإذا افتقرت فلا تحدّث الناس بفقرك فتهون عليهم ، ولكن اسأل الله من فضله .

يا بني ! كذب مَن يقول : الشرّ يقطع بالشرّ ، ألا ترى إنّ النار لا تطفئ بالنار ولكن بالماء ، وكذلك الشرّ لا يطفئ إلاّ بالخير ، يا بني ! لا تشمت بالمصائب ، ولا تعيّر المبتلي ، ولا تمنع المعروف فإنّه ذخيرة لك في الدنيا والآخرة .

يا بني ! ثلاثة تجب مداراتهم : المريض والسلطان والمرأة ، وكن قنعاً تعش غنيّاً ، وكن متّقياً تكن عزيزاً ، يا بني ! إنّك من حين سقطت من بطن أُمّك استدبرت

١٤٧

الدنيا واستقبلت الآخرة ، وأنت كل يوم إلى ما استقبلت أقرب منك ممّا استدبرت ، فتزوّد لدار أنت مستقبلها ، وعليك بالتقوى فإنّه أربح التجارات ، وإذا أحدثت ذنباً فأتبعه بالاستغفار والندم والعزم على ترك العود لمثله .

واجعل الموت نصب عينيك ، والوقوف بين يدي خالقك ، وتمثّل شهادة جوارحك عليك بعملك ، والملائكة الموكّلين بك تستحي(١) منهم ومن ربّك الذي هو مشاهدك ، وعليك بالموعظة فاعمل بها ، فإنّها عند العاقل أحلى من العسل الشهد ، وهي في السفيه أشقّ من صعود الدرجة على الشيخ الكبير ، ولا تسمع الملاهي فإنّها تنسك الآخرة ، ولكن احضر الجنائز ، و زُر المقابر ، وتذكّر الموت وما بعده من الأهوال فتأخذ حذرك .

يا بني استعذ بالله من شرار النساء ، وكن من خيارهنّ على حذر ، يا بني لا تفرح بظلم أحد بل احزن على ظلم من ظلمته ، يا بني الظلم ظلمات ويوم القيامة حسرات ، وإذا دعتك القدرة إلى ظلم من هو دونك فاذكر قدرة الله عليك .

يا بني تعلّم من العلماء ما جهلت ، وعلّم الناس ممّا علمت تذكر بذلك في الملكوت ، يا بني أغنى الناس مَن قنع بما في يديه ، وأفقرهم مَن مد عينيه إلى ما في أيدي الناس ، وعليك يا بني باليأس ممّا في أيدي الناس ، والوثوق بوعد الله ، واسع فيما فرض عليك ، ودع السعي فيما ضمن لك ، وتوكّل على الله في كل أُمورك يكفيك ، وإذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع تظنّ أن لا تبقى بعدها أبداً .

وإيّاك وما يُعتذر منه فإنّه لا يُعتذر من خير ، وأحبب للناس ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكرهه لنفسك ، ولا تقل ما لا تعلم ، واجهد أن يكون اليوم خيراً لك من أمس ، وغداً خيراً لك من اليوم ، فإنّه مَن استوى يوماه فهو مغبون ، ومَن كان يومه شرّاً من أمسه فهو ملعون ، وارض بما قسّم الله لك فإنّه سبحانه يقول : أعظم عبادي

____________

(١) في ( ب ) : لم لا تستحي منهم .

١٤٨

ذنباً مَن لم يرض بقضائي ، ولم يشكر نعمائي ، ولم يصبر على بلائي .

وأوصى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاذ بن جبل ، فقال له : أوصيك باتقاء الله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وخفض الجناح ، والوفاء بالعهد ، وترك الخيانة ، وحسن الجوار ، وصلة الأرحام ، ورحمة اليتيم ، ولين الكلام ، وبذل السلام وحسن العمل ، وقصر الأمل ، وتوكيد الإيمان ، والتفقّه في الدين ، وتدبّر القرآن ، وذكر الآخرة ، والجزع من الحساب ، وكثرة ذكر الموت ، ولا تسب مسلماً ، ولا تطع آثماً ، ولا تقطع رحماً ، ولا ترض بقبيح تكن كفاعله ، واذكر الله عند كل شجر ومدر وبالأسحار وعلى كل حال يذكرك ، فإنّ الله تعالى ذاكر مَن ذكره ، وشاكر مَن شكره ، وجدّد لكل ذنب توبة ، السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية .

واعلم أنّ أصدق الحديث كتاب الله(١) ، وأوثق العرى التقوى ، وأشرف الذكر ذكر الله تعالى ، وأحسن القصص القرآن ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف الموت الشهادة ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير العلم ما نفع ، وشرّ العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى .

وشرّ المعذرة عند الموت ، وشرّ الندامة يوم القيامة ، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله تعالى في السر والعلانية ، وخير ما أُلقي في القلب اليقين ، وأنّ جماع الإثم الكذب والارتياب ، والنساء حبائل الشيطان ، والشباب شعبة من الجنون ، وشرّ الكسب كسب الربا ، وشرّ المأثم أكل مال اليتيم .

السعيد مَن وُعظ بغيره ، وليس لجسم نبت على الحرام إلاّ النار ، ومَن تغذّى بالحرام فالنار أولى به ، ولا يستجاب له دعاء ، والصلاة نور ، والصدقة حرز ،

____________

(١) في ( ب ) : كلام الله .

١٤٩

والصوم جُنّة حصينة ، والسكينة مغنم وتركها مغرم ، وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يتفكّر فيها في صنع الله ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتخلّى فيها لحاجته من حلال .

وعلى العاقل أن لا يكون ضاعناً(١) إلاّ في ثلاث(٢) : تزوّد لمعاد ، ومرمّة لمعاش ، لذّة في غير محرّم ، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه .

وفي توراة موسىعليه‌السلام : عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمَن أيقن بالحساب كيف يذنب ، ولمَن أيقن بالقدر كيف يحزن ، ولمَن أيقن بالنار كيف يضحك ، ولمَن رأى تقلّب الدنيا بأهلها كيف يطمئنّ إليها ، ولمَن أيقن بالجزاء كيف لا يعمل ، لا عقل كالدين ، ولا ورع كالكف ، ولا حسب كحسن الخلق .

وقال أبو ذر : أوصاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [ بسبع خصال ](٣) : حب المساكين والدنو منهم ، وهجران الأغنياء ، وأن أصل رحمي ، وأن لا أتكلّم بغير الحق ، ولا أخاف في الله لومة لائم ، وأن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي ، وأن أكثر من قول : ( سبحان الله والحمد الله ولا اله إلاّ الله والله اكبر ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ) فهنّ الباقيات الصالحات .

وقال بعضهم : مَن سلك الجدد أمن العثار ، والصبر مطيّة السلامة ، والجزع مطيّة الندامة ، ومرارة الحلم أعذب من مرارة(٤) الانتقام ، وثمرة الحقد الندامة ، ومَن صبر على ما يكره أدرك ما يحب ، والصبر على المصيبة مصيبة للشامت بها ، والجزع عليها مصيبة ثانية لفوات الثواب وهي أعظم المصائب .

____________

(١) ضعن : سار (القاموس) .

(٢) في ( ج ) : أن يكون ساعياً في ثلاث .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٤) في ( ج ) : حلاوة .

١٥٠

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :خير الرزق ما يكفي ، وخير الذكر ما يخفى ، وإنّي أوصيكم بتقوى الله ، وبحسن النظر لأنفسكم ، وقلّة الغفلة عن معادكم ، وابتياع ما يبقى بما يفنى .

واعلموا أنّها أيّام معدودة ، وأرزاق مقسومة ، وآجال معلومة ، والآخرة أبد لا أمد له ، وأجل لا منتهى له ، ونعيم لا زوال له ، فاعرفوا ما تريدون وما يُراد بكم ، واتركوا من الدنيا ما يشغلكم عن الآخرة ، واحذروا حسرة المفرطين ، وندامة المغترّين ، واستدركوا فيما بقي ما فات ، وتأهّبوا للرحيل من دار البوار إلى دار القرار ، واحذروا الموت أن يفجأكم على غرّة ويعجلكم عن التأهّب والاستعداد ، إنّ الله تعالى قال : ( فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) (١) .

فربّ ذي عقل شغله هواه عمّا خُلق له حتّى صار كمن لا عقل له ، ولا تعذروا أنفسكم في خطائها ، ولا تجادلوا بالباطل فيما يوافق هواكم ، واجعلوا همّكم نصر الحق من جهتكم أو من جهة مَن يجادلكم ، فإنّ الله تعالى يقول :( يا أيّها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ) (٢) . فلا تكونوا أنصاراً لهواكم والشيطان .

واعلموا أنّه ما هدم الدين مثل إمام ضلالة وضلّ وأضلّ ، وجدالِ منافق بالباطل ، والدنيا قطعت رقاب طالبيها والراغبين إليها ، واعلموا أنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار ، فمهّدوه بالعمل الصالح ، فمثل أحدكم يعمل الخير كمثل الرجل ينفذ كلامه يمهّد له ، قال الله تعالى : ( فلأنفسهم يمهدون ) (٣) .

وإذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على المعصية ، فاعلموا أنّ ذلك استدراج له ، قال الله تعالى : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) (٤) .

____________

(١) يس : ٥٠ .

(٢) الصف : ١٤ .

(٣) الروم : ٤٤ .

(٤) الأعراف : ١٨٢ .

١٥١

وسئل ابن عباس عن صفة الذين صدقوا الله المخافة ، فقال : هم قوم قلوبهم من الخوف قرحة ، وأعينهم باكية ، ودموعهم على خدودهم جارية ، يقولون : كيف نفرح والموت من ورائنا ، والقبر موردنا ، والقيامة موعدنا ، وعلى الله عرضنا ، وشهودنا جوارحنا ، والصراط على جهنّم طريقنا ، وعلى الله حسابنا .

فسبحان الله وتعالى ، فإنّا نعوذ به من ألسن واصفة ، وأعمال مخالفة مع قلوب عارفة ، فإنّ العمل ثمرة العلم ، والخشية والخوف ثمرة العمل ، والرجاء ثمرة اليقين ، ومَن اشتاق إلى الجنّة اجتهد في أسباب الوصول إليها ، ومَن حذر النار تباعد ممّا يدني إليها ، ومَن أحبّ لقاء الله استعدّ للقائه .

وروي أنّ الله تعالى يقول في بعض كتبه :يا ابن آدم أنا حيٌّ لا أموت ، أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّاً لا تموت ، يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون ، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون (١) .

ولذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز :( ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلاً من غفور رحيم ) (٢) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ثلاث مهلكات وثلاث منجيات ، فأمّا المهلكات : فشحٌّ مطاع ، وهوىً متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه ، وأمّا المنجيات : فخشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الغنى والفقر ، والعدل في الرضا والغضب (٣) .

وقال الحسنعليه‌السلام :لقد أصحبت (٤) أقواماً كأنّهم كانوا ينظرون إلى الجنّة ونعيمها ، والنار وجحيمها ، يحسبهم الجاهل مرضى وما بهم من مرض ، أو قد خولطوا وإنّما خالطهم أمر عظيم ، خوف الله ومهابته في قلوبهم .

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٢٥٨ ح١٢٩٢٨ .

(٢) فصلت : ٣١ـ٣٢ .

(٣) الخصال : ٨٤ ح١١ باب٣ ، عنه البحار ٧٠ : ٦ ح٢ .

(٤) في ( ألف ) و ( ج ) : أصبحت .

١٥٢

كانوا يقولون ليس لنا في الدنيا من حاجة ، ليس لها خُلقنا ولا بالسعي لها أُمرنا ، أنفقوا أموالهم ، وبذلوا دماءهم ، اشتروا بذلك رضى خالقهم ، علموا أنّ الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنّة فباعوه ، ربحت تجارتهم ، وعظمت سعادتهم ، أفلحوا وأنجحوا ، فاقتفوا آثارهم رحمكم الله ، واقتدوا بهم فإنّ الله تعالى وصف لنبيّه صفة آبائه إبراهيم وإسماعيل وذرّيتهما ، وقال : ( فبهداهم اقتده ) (١) .

واعلموا عباد الله أنّكم مأخوذون بالإقتداء بهم والإتباع لهم ، فجدّوا واجتهدوا واحذروا أن تكونوا أعواناً للظالم ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مَن مشى (٢) مع ظالم ليعينه على ظلمه فقد خرج من ربقة الإسلام ، ومَن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد حادّ الله ورسوله ، ومَن أعان ظالماً ليبطل حقّاً لمسلم فقد برئ من ذمّة الإسلام ومن ذمّة الله ومن ذمّة رسوله .

ومَن دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله ، ومَن ظُلم بحضرته مؤمن أو اغتيب وكان قادراً على نصره ولم ينصره فقد باء بغضب من الله ورسوله ، ومَن نصره فقد استوجب الجنّة من الله تعالى .

وإنّ الله أوحى إلى داودعليه‌السلام :قل لفلان الجبّار : إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا على الدنيا ، ولكن لترد عنّي دعوة المظلوم وتنصره ، فإنّي آليت على نفسي أن أنصره وأنتصر له ممّن ظُلم بحضرته ولم ينصره (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن آذى مؤمناً ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيساً من رحمة الله ، وكان كمَن هدم الكعبة والبيت المقدس ، وقتل عشرة آلاف من الملائكة .

____________

(١) الأنعام : ٩٠ .

(٢) في ( ج ) : مضى .

(٣) عنه البحار ١٤ : ٤٠ ح٢٤ .

١٥٣

وقال رفاعة بن أعين : قال لي الصادقعليه‌السلام :ألا أخبرك بأشد الناس عذاباً يوم القيامة ؟ قلت : بلى يا مولاي ، قال : أشد الناس عذاباً يوم القيامة مَن أعان على مؤمن بشطر كلمة ، ثم قال : ألا أخبرك بأشد من ذلك ؟ فقلت : بلى يا سيّدي ، فقال : مَن أعاب على شيء من قوله أو فعله .

ثم قال :اُدن منّي أزدك أحرفاً أُخر ، ما آمن بالله ولا برسوله ولا بولايتنا أهل البيت من أتاه المؤمن في حاجة لم يضحك في وجهه ، فإن كان عنده قضاها له ، وإن لم تكن عنده تكلّفها له حتّى يقضيها له ، فإن لم يكن كذلك فلا ولاية بيننا وبينه ولو علم الناس ما للمؤمن عند الله لخضعت له الرقاب ، وإنّ الله تعالى اشتق للمؤمن اسماً من أسمائه ، فالله تعالى هو المؤمن سبحانه وسمّى عبده مؤمناً تشريفاً له وتكريماً ، وأنّه يوم القيامة يؤمن على الله تعالى فيجيز إيمانه (١) .

وقال الله تعالى :ليأذن بحرب منّي مَن آذى مؤمناً وأخافه .

وكان عيسىعليه‌السلام يقول :يا معشر الحواريين تحبّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي ، وتقرّبوا إلى الله بالبعد عنهم ، والتمسوا رضاه في غضبهم ، وإذا جلستم فجالسوا مَن يزيد في عملكم منطقه ، ويذكركم الله رؤيته ، ويرغبكم في الآخرة عمله (٢) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام لأبي ذر :ألزم قلبك الفكر ، ولسانك الذكر ، وجسدك العبادة ، وعينيك البكاء من خشية الله ، ولا تهتم برزق غد ، والزم المساجد فإنّ عمّارها هم أهل الله ، وخاصّته قرّاء كتابه والعاملون به .

وقالعليه‌السلام :المروءة ست ، ثلاث في السفر وثلاث في الحضر : فالذي في الحضر تلاوة القرآن ، وعمارة المساجد ، واتخاذ الإخوان في الله ، وأمّا الذي في

____________

(١) البحار ٧٥ : ١٧٦ ح١٢ باختلاف .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٣٥ ، عنه البحار ١٤ : ٢٣٠ ح٦٥ باختصار .

١٥٤

السفر : بذل الزاد ، وحسن الخلق ، والمعاشرة بالمعروف (١) .

وكان الحسنعليه‌السلام يقول :يا ابن آدم مَن مثلك وقد خلّى ربّك بينه وبينك ، متى شئت أن تدخل عليه توضّأت وقمت بين يديه ، ولم يجعل بينك وبينه حجّاباً ولا بوّاباً ، تشكو إليه همومك وفاقتك ، وتطلب منه حوائجك ، وتستعينه على أمورك ، وكان يقول :أهل المسجد زوّار الله ، وحق على المزور التحفة لزائره .

وروي : إنّ المتنخّم في المسجد يجد بها خزياً في وجهه يوم القيامة .

وكان الناس في المساجد ثلاثة أصناف : صنف في الصلاة ، وصنف في تلاوة القرآن ، وصنف في تعليم العلوم ، فأصبحوا صنف في البيع والشراء ، وصنف في غيبة الناس ، وصنف في الخصومات وأقوال الباطل .

وقالعليه‌السلام :ليعلم الذي يتنخّم في القبلة أنّه يُبعث وهي في وجهه .

وقال : يقول الله تعالى :المصلّي يناجيني ، والمنفق يقرضني [ في الغنى ] (٢) ، والصائم يتقرّب إليّ .

وقال :إنّ الرجلين يكونان في صلاة واحدة وبينهما مثل ما بين السماء والأرض من فضل الثواب .

____________

(١) الخصال : ٣٢٤ ح١١ باب ٦ ، عنه البحار ٧٦ : ٣١١ ح٢ .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

١٥٥

الباب العشرون : في قراءة القرآن المجيد

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إن هذه القلوب لتصدئ كما يصدئ الحديد ، وأنّ جلاءها قراءة القرآن (١) .

وقال ابن عباس : قارئ القرآن التابع له لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .

وقال : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس غافلون ، وببكائه إذا الناس ضاحكون ، وبورعه إذا الناس يطمعون ، وبخشوعه إذا الناس يمزحون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وبصمته إذا الناس يخوضون .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :القرآن على خمسة أوجه ، حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فاعملوا بالحلال ، واجتنبوا الحرام ، واتبعوا المحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال ، وما آمن بالقرآن مَن استحلّ محارمه ، وشرّ الناس

____________

(١) كنز العمّال ١ : ٥٤٥ ح٢٤٤١ .

١٥٦

مَن يقرأ القرآن ولا يرعوي عن شيء به .

وقال جعفر بن محمدعليهما‌السلام في قوله تعالى :( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ) (١) قال : يرتلون آياته ، ويتفقّهون فيه ، ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، ويتناهون عن نواهيه .

ما هو والله حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وانّما هو تدبّر آياته ، والعمل بأحكامه ، قال الله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) (٢) .

واعلموا رحمكم الله أنّ سبيل الله سبيل واحدة وجماعها الهدى ، ومصير العامل بها الجنّة والمخالف لها النار ، وإنّما الإيمان ليس بالتمنّي ولكن ما ثبت بالقلب ، وعملت به الجوارح ، وصدّقته الأعمال الصالحة ، واليوم فقد ظهر الجفاء ، وقلّ الوفاء ، وتركت السنّة ، وظهرت البدعة ، وتواخا الناس على الفجور ، وذهب منهم الحياء ، وزالت المعرفة ، وبقيت الجهالة ، ما ترى إلاّ مترفاً صاحب دنيا ، لها يرضى ولها يغضب وعليها يقاتل ، ذهب الصالحون وبقيت تفالة كتفالة الشعير وحثالة التمر .

وقال الحسنعليه‌السلام :ما بقي في الدنيا بقيّة غير هذا القرآن ، فاتخذوه إماماً يدلّكم على هداكم ، وإنّ أحق الناس بالقرآن مَن عمل به وإن لم يحفظه ، وأبعدهم منه مَن لم يعمل به وإن كان يقرأه .

وقال :مَن قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ .

وقال :إنّ هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً ، يقود قوماً إلى الجنّة ، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا بمتشابهه ، ويسوق قوماً إلى النار ، ضيّعوا

____________

(١) البقرة : ١٢١ .

(٢) ص : ٢٩ .

١٥٧

حدوده وأحكامه واستحلّوا محارمه .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :رتلوا القرآن ولا تنثروه نثراً ، ولا تهذوه هذّ الشعر (١) ، قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .

وخطبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :لا خير في العيش إلاّ لعالم ناطق أو مستمع واع ، أيّها الناس إنّكم في زمن هدنة وإنّ السير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد ، ويقرّبان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود .

فقال له المقداد : يا نبي الله وما الهدنة ؟ فقال :دار بلاء وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وشاهد مصدّق ، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه قاده (٢) إلى النار ، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل ، ظاهره حكم وباطنه علم ، لا تحصى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم ، مَن قال به صدق ، ومَن حكم به عدل ، ومَن عمل به فاز ، فإنّ المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيّب وريحها طيّب ، وإنّ الكافر كالحنظلة طعمها مرّ ورائحتها كريهة (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ألا أدلّكم على أكسل الناس وأبخل الناس وأسرق الناس وأجفى الناس وأعجز الناس ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله .

فقال :أكسل الناس عبد صحيح فارغ لا يذكر الله بشفة ولا لسان ، وأبخل الناس رجل اجتاز على مسلم فلم يسلّم عليه ، وأمّا أسرق الناس فرجل يسرق من صلاته ، تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق فيضرب به وجهه (٤) ، وأجفى الناس رجل ذكرت بين يديه فلم يصلّ عليّ ، وأعجز الناس مَن عجز عن الدعاء (٥) .

____________

(١) تهدروه هدر الشعر ، (خل) .

(٢) في ( ج ) : ساقه .

(٣) أورده المصنف في أعلام الدين : ٣٣٣ ، عنه البحار ٧٧ : ١٧٧ .

(٤) في ( ب ) : وجه صاحبها .

(٥) راجع البحار ٨٤ : ٢٥٧ ح٥٥ ، عن عدة الداعي .

١٥٨

الباب الحادي والعشرون: يتضمّن خطبة بليغة على سورة

قال : أيّها الناس تدبّروا القرآن المجيد ، فقد دلّكم على الأمر الرشيد ، وسلّموا لله أمره فإنّه فعّال لما يُريد ، واحذروا يوم الوعيد ، واعملوا بطاعته فهذا شأن العبيد ، واحذروا غضبه فكم قصم من جبّار عنيد ،( ق والقرآن المجيد ) (١) .

أين مَن بنى وشاد وطول ، وتأمّر على الناس وساد في الأوّل ، وظنّ جهالة منه وجرأة أنّه لا يتحوّل ، عاد الزمان عليه سالباً ما خُوّل ، فسقوا إذ فسقوا كأساً على هلاكهم عوّل ،( أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد ) .

فيا مَن أنذره يومه وأمسه ، وحادثه بالعبر قمره وشمسه ، واستلب منه ولده وأخوه وعرسه ، وهو يسعى في الخطايا مستتر(٢) وقد دنا حبسه ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) .

أما علمت أنّك مسؤول عن الزمان ، مشهود عليك يوم تنطق عليك

____________

(١) الآيات الواردة في هذا الباب كلّها من سورة ( ق ) .

(٢) في ( ج ) : مشمّراً .

١٥٩

الأركان ، محفوظ عليك ما عملت في زمان الإمكان ،( إذ يتلقّى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ) .

وكأنّك بالموت وقد اختطفك اختطاف البرق ، ولم تقدر على دفعه بملك الغرب والشرق ، وندمت على تفريطك بعد اتساع الخرق ، وتأسفت على ترك الأولى والأخرى أحق ،( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) .

ثم ترحّلت من القصور إلى القبور ، وبقيت وحيداً على ممرّ الدهور كالأسير المحصور ،( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ) ، فحينئذ أعاد الأجسام من صنعها ، وألّف أشتاتها بقدرته ، وجمعها وناداها بنفخة الصور فأسمعها ،( وجآءت كل نفس معها سائق وشهيد ) .

فهرب منك الأخ وتنسى أخاك ، ويعرض عنك الصديق ويرفضك ولاءك(١) ، ويتجافاك صاحبك ويجحد الآءك ، وتلقى من الأهوال كلّما أعجزك وساءك ، وتنسى أولادك وتنسى نساءك ،( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) .

وتجري دموع الأسف وابلاً ورذاذاً ، وتسقط الأكباد من الحسرات أفلاذاً ، ولهب لهيب النار إلى الكفّار فجعلهم جذاذاً ، ولا يجد العاصي من النار لنفسه ملجأً ولا معاذاً ،( وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد ) .

يوم تقوم الزبانية إلى الكفّار ، ويبادر مَن يسوقهم سوقاً عنيفاً والدموع تتحادر ، وتثب النار [ إلى الكفار ](٢) كوثوب الليث إذا استاخر(٣) ، فيذلّ زفيرها كل مَن عزّ وفاخر ،( الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد ) .

____________

(١) في ( ج ) : يرفض ولاءك .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

(٣) في ( ج ) : شاخر .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

رمضان، كان يسمّى على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرزوق»(١) .

وفي رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أحدهما قال: «سألته عن الليالي الّتي يستحبّ فيها الغسل في شهر رمضان. قال: ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وهي ليلة الجهني. وحديثه: أنّه قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ منزلي ناء عن المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين».

قال الشيخ أبو جعفررحمه‌الله (٢) : واسم الجهني عبد الله بن أنيس الأنصاري.

وقيل: إنّها ليلة سبع وعشرين. عن أبيّ بن كعب وعائشة.

وروي عن ابن عبّاس وابن عمر قالا: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تحرّوها ليلة سبع وعشرين.

وعن زرّ بن حبيش قال: قلت لأبي: يا أبا المنذر من أين علمت أنّها ليلة سبع وعشرين؟ قال: بالآية الّتي أنبأنا بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: تطلع الشمس غداتئذ، كأنّها طست ليس لها شعاع.

وقال بعضهم: إنّ الله قسّم كلمات هذه السورة على ليالي شهر رمضان، فلمّا بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هي.

وقيل: إنّها ليلة تسع وعشرين. وروي عن أبي بكر قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «التمسوها في العشر الأواخر، في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين، أو ثلاث بقين، أو آخر ليلة».

والفائدة في إخفاء هذه الليلة أن يجتهد الناس في العبادة، ويحيوا جميع ليالي رمضان طمعا في إدراكها، كما أنّ الله سبحانه أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة.

وورد في فضل هذه الليلة روايات كثيرة. منها: ما روي عن ابن عبّاس، عن

__________________

(١) الفقيه ٢: ١٠٢ ح ٤٥٩.

(٢) الفقيه ٢: ١٠٤ ذيل ح ٤٦١.

٤٨١

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «إذا كان ليلة القدر تنزّل الملائكة الّذين هم سكّان سدرة المنتهى، ومنهم جبرئيل. فينزل جبرئيل ومعه ألوية، ينصب لواء منها على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء في المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء. ولا يدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلّا سلّم عليه، إلّا مدمن الخمر، وآكل لحم الخنزير، والمتضمّخ(١) بالزعفران».

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه».

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «إنّ الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتّى يضيء فجرها، ولا يستطيع فيها على أحد بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، ولا ينفذ فيه سحر ساحر».

وروى الحسن عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في ليلة القدر: «إنّها ليلة سمحة، لا حارّة ولا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع».

( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها ) وهو جبرئيل. أفرد بالذكر لمزيّة شرفه وفضله بينهم. وقيل: خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا تلك الليلة.( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) إلى الأرض، أو إلى السماء الدنيا( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) من أجل كلّ أمر قدّر في تلك الليلة من المصالح الدينيّة والدنيويّة.

( سَلامٌ هِيَ ) ما هي إلّا سلامة، أي: لا يقدّر الله فيها إلّا السلامة والخير، ويقضي في غيرها السلامة والبلاء. أو ما هي إلّا سلام، لكثرة ما يسلّمون فيها على المؤمنين، لـما روي: «أنّه لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلّا سلّموا عليه في تلك الليلة».

( حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) أي: وقت مطلعه، أي: طلوعه. وقرأ الكسائي بالكسر، على أنّه كالمرجع، أو اسم زمان على غير قياس، كالمشرق.

__________________

(١) تضمّخ بالطيب: تلطّخ به.

٤٨٢

(٩٨)

سورة البيّنة

وتسمّى سورة البريّة، وسورة القيامة. مختلف فيها. وهي ثمان آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها كان يوم القيامة مع خير البريّة مسافرا ومقيما».

وعن أبي الدرداء قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو يعلم الناس ما في( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) لعطّلوا الأهل والمال وتعلّموها. فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول الله؟ فقال: لا يقرؤها منافق أبدا، ولا عبد في قلبه شكّ في اللهعزوجل .

والله إنّ الملائكة المقرّبين ليقرؤنها منذ خلق الله السماوات والأرض، لا يفترون عن قراءتها. وما من عبد يقرؤها بليل إلّا بعث الله ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة. فإن قرأها نهارا، أعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار، وأظلم عليه الليل».

فقال رجل من قيس غيلان: زدنا يا رسول الله من هذا الحديث، فداك أبي وأمّي.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تعلّموا( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) . وتعلّموا( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) . وتعلّموا( وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ) . وتعلّموا( وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ) . فإنّكم لو تعلمون ما فيهنّ لعطّلتم ما أنتم فيه وتعلّمتموهنّ، وتقرّبتم إلى الله بهنّ، فإنّ الله يغفر بهنّ كلّ ذنب إلّا الشرك بالله. واعلموا أنّ( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) تجادل عن صاحبها يوم القيامة ،

٤٨٣

وتستغفر له من الذنوب».

أبو بكر الحضرمي عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة «لم يكن» كان بريئا من الشرك، وأدخل في دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعثه الله تعالى مؤمنا، وحاسبه حسابا يسيرا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) )

وروي: أنّ الكفّار من أهل الكتاب وعبدة الأصنام كانوا يقولون قبل مبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ننفكّ ممّا نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتّى يبعث النبيّ الموعود الّذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل والزبور، وهو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فلمّا بيّن سبحانه في سورة القدر أنّ القرآن حجّة، حكى الله في هذه السورة ما كانوا يقولون حجّة عليهم، وتوبيخا وإلزاما لهم، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) اليهود والنصارى، فإنّهم كفروا بالإلحاد في صفات الله تعالى. و «من» للتبيين.

٤٨٤

( وَالْمُشْرِكِينَ ) وعبدة الأصنام( مُنْفَكِّينَ ) عمّا كانوا عليه من دينهم. أو الوعد باتّباع الحقّ إذا جاءهم الرسول. ومعنى انفكاك الشيء من الشيء أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفكّ من مفصله. والمعنى: أنّهم متشبّثون بدينهم لا يتركونه( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) إلّا عند مجيء المبيّن للحقّ. والتاء للمبالغة. أو مجيء المعجزة البيّنة، وهي القرآن الّذي هو المعجزة.

وقوله:( رَسُولٌ مِنَ اللهِ ) بدل من البيّنة بنفسه أو بتقدير مضاف، وهو الوحي، وتقديره: وحي رسول من الله. أو مبتدأ( يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ) خبره.

وعلى البدليّة صفته. والرسول وإن كان أمّيّا، لكنّه لـمّا تلا مثل المسطور في الصحف كان كالتالي لها. وقيل: المراد جبرئيل، فإنّه التالي للصحف المطهّرة المنتسخة في اللوح. وكون الصحف مطهّرة أنّ الباطل لا يأتيها، أو أنّها لا يمسّها إلّا المطهّرون.

( فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحقّ.

( وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) عمّا كانوا عليه، بأن تفرّقوا فرقا مختلفة: كافرة، ومؤمنة، ومتردّدة بين الكفر والإيمان( إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) إلّا وقت مجيء البيّنة. فتفرّقوا، فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر، ومنهم من عرف وعاند وأصرّ على الكفر، ومنهم من تردّد في دينه. والمعنى: وما تفرّقوا عن الحقّ إلّا بعد مجيئه، فنقضوا ما يعدّون من اجتماع الكلمة والاتّفاق على الحقّ إذا جاءهم الرسول. فيكون كقوله:( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) (١) . وإفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم وبين المشركين للدلالة على شناعة حالهم، وأنّهم لـمّا تفرّقوا مع علمهم كان غيرهم أولى بذلك.

( وَما أُمِرُوا ) أي: في كتبهم بما فيها( إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ ) أي: إلّا لأجل أن يعبدوا الله( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) لا يشركون به( حُنَفاءَ ) مائلين عن العقائد الزائغة

__________________

(١) البقرة: ٨٩.

٤٨٥

( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) على طريقة الإسلام( وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ) على وجه تعيّن في الإسلام( وَذلِكَ ) الّذي تقدّم ذكره( دِينُ الْقَيِّمَةِ ) دين الملّة القيامة.

دلّت هذه الآية على بطلان مذهب أهل الجبر، لأنّ فيها تصريحا بأنّه سبحانه إنّما خلق الخلق ليعبدوه مخلصا عن الشرك. وعلى وجوب النيّة في الطهارة، إذ أمر الله بالعبادة على وجه الإخلاص، ولا يمكن الإخلاص إلّا بالنيّة والقربة. والطهارة عبادة، فلا تجزي بغير نيّة، خلافا لبعض العامّة.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨) )

ثمّ ذكر سبحانه حال الفريقين بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ) أي: يوم القيامة، أو في الحال، لملابستهم ما يوجب ذلك. واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه، فيمكن أن يختلف، لتفاوت كفرهما.( أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) الخليقة. وقرأ نافع: البريئة بالهمزة، على الأصل.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) فيها مبالغات: تقديم المدح، وذكر الجزاء المؤذن بأنّ ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به، والحكم عليه بأنّه من «عند ربّهم»، وجمع جنّات، وتقييدها إضافة ووصفا بما يزداد لها نعيما، وتأكيد

٤٨٦

الخلود بالتأبيد.

( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ) بما قدّموا من الطاعات المخلصة. استئناف بما يكون لهم زيادة على جزائهم.( وَرَضُوا عَنْهُ ) لأنّه بلّغهم أقصى أمانيّهم( ذلِكَ ) أي: المذكور من الجزاء والرضوان( لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) فإنّ الخشية ملاك الأمر، والباعث على كلّ خير.

وفي كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكانيرحمه‌الله قال: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب عليّعليه‌السلام ، قال: سمعت عليّاعليه‌السلام يقول: «قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا مسنده إلى صدري، فقال: يا عليّ ألم تسمع قول الله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) هم أنت وشيعتك. وموعدي وموعدكم الحوض، إذا اجتمعت الأمم للحساب تدعون غرّا محجّلين».(١)

وفيه عن مقاتل بن سليمان، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس: في قوله:( أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال: نزلت في عليّ وأهل بيتهعليهم‌السلام .(٢)

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢: ٤٥٩ ح ١١٢٥.

(٢) شواهد التنزيل ٢: ٤٧٣ ح ١١٤٦.

٤٨٧
٤٨٨

(٩٩)

سورة الزلزال

مدنيّة. وهي ثمان آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها فكأنّما قرأ البقرة، وأعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن».

وعن أنس بن مالك: «سأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا من أصحابه فقال: يا فلان هل تزوّجت؟ قال: لا، وليس عندي ما أتزوّج به. قال: أليس معك( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ؟

قال: بلى. قال: ربع القرآن. قال: أليس معك( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) ؟ قال: بلى.

قال: ربع القرآن. قال: أليس معك( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ ) ؟ قال: بلى. قال: ربع القرن.

ثمّ قال: تزوّج تزوّج تزوّج».

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «لا تملّوا من قراءة إذا زلزلت، فإنّ من كانت قراءته في نوافله لم يصبه الله بزلزلة أبدا، ولم يمت بها ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا، فإذا مات أمر به إلى الجنّة، فيقول الله سبحانه: عبدي أبحتك جنّتي، فاسكن منها حيث شئت وهويت، لا ممنوع ولا مدفوع عنه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ

٤٨٩

الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨) )

ولـمّا ختم سبحانه سورة البيّنة ببيان حال المؤمنين والكافرين، افتتح هذه السورة ببيان وقت ذلك، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ) إضافة الزلزال إلى الأرض لإفادة أنّ المراد زلزالها الّذي تستوجبه في حكمة الله ومشيئته، وهو الزلزال الشديد الّذي ليس بعده. ونحوه: قولك: أكرم التقيّ إكرامه، وأهن الفاسق إهانته.

تريد: ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة. أو زلزالها كلّه، وجميع ما هو ممكن منه، بخلاف الزلازل المعهودة الّتي تختصّ ببعض الأرض. فتكون الإضافة للتنبيه على شدّتها. وذلك عند النفخة الأولى أو الثانية.

( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) ما في جوفها من الدفائن أو الأموات. جمع ثقل، وهو متاع البيت.

( وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها ) أي: ما للأرض زلزلت هذه الزلزلة الشديدة، ولفظت ما في بطنها من الدفائن والأموات أحياء؟! فيقولون ذلك لـما يبهرهم من الأمر الفظيع، كما يقولون:( مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) (١) . وقيل: هذا قول الكافر، لأنّه كان لا يؤمن بالبعث، فأمّا المؤمن فيقول:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) (٢) .

( يَوْمَئِذٍ ) منصوب بمثل: اذكر. أو بدل من «إذا»، وناصبها قوله:( تُحَدِّثُ

__________________

(١) يس: ٥٢.

(٢) يس: ٥٢.

٤٩٠

أَخْبارَها ) أي: تحدّث الخلق أخبارها. فحذف المفعول الأوّل، لأنّ المقصود ذكر تحديثها الأخبار، لا ذكر الخلق، تعظيما لليوم. وتحديث الأرض مجاز عن إحداث الله فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتّى ينظر من يقول: ما لها؟ إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت؟ ولم لفظت الأموات؟ وأنّ هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه ويحذّرون منه.

وقيل: ينطقها الله على الحقيقة، وتخبر بما عمل عليها من خير وشرّ، كما في الحديث أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها، وتقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا. فهذا أخبارها».

وعلى هذا ؛ يجوز أن يكون الله تعالى أحدث الكلام فيها.

( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ) أي: تحدّث بسبب إيحاء ربّك لها، بأن أحدث فيها ما دلّت على الأخبار، أو أنطقها بها. ويجوز أن يكون بدلا من «أخبارها» إذ يقال: حدّثته كذا وبكذا. واللام بمعنى «إلى»، أو على أصلها، إذ لها في ذلك تشفّ من العصاة. وعن أبي سعيد الخدري: إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «لا يسمعه جنّ ولا إنس ولا حجر إلّا يشهد له».

( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ ) من مخارجهم، من القبور إلى الموقف( أَشْتاتاً ) متفرّقين بحسب مراتبهم، بيض الوجوه آمنين، وسود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتا، يتفرّق بهم طريقا الجنّة والنار.( لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ) جزاء أعمالهم.

ثمّ فصّل إراءة الأعمال بقوله:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) أي: ير ما يستحقّ عليه من الثواب.

( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) وقرأ هشام بإسكان الهاء. و «من» الأولى

٤٩١

مخصوصة بالسعداء، والثانية بالأشقياء، لقوله: «أشتاتا». والذرّة: النملة الصغيرة، أو الهباء(١) .

ويمكن أن يستدلّ بها على بطلان الإحباط، لأنّ الظاهر يدلّ على أنّه لا يفعل أحد شيئا من طاعة الله أو معصيته إلّا ويجازى عليها، وما يقع محبطا لا يجازى عليه. وليس لهم أن يقولوا: إنّ الظاهر بخلاف ما تذهبون إليه في جواز العفو عن مرتكب الكبيرة. وذلك لأنّ الآية مخصوصة بالإجماع، فإنّ التائب معفوّ عنه بلا خلاف. وعندهم أنّ من شرط المعصية الّتي يؤاخذ بها أن لا تكون صغيرة، فجاز لنا أيضا أن نشترط فيها أن لا تكون ممّا يعفو الله عنه.

__________________

(١) الهباء: الغبار، دقائق التراب منثورة على وجه الأرض.

٤٩٢

(١٠٠)

سورة العاديات

مدنيّة. وقيل: مكّيّة. وهي إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا».

سليمان بن خالد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ والعاديات وأدمن قراءتها، بعثه الله مع أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم القيامة خاصّة، وكان في حجره ورفقائه».

واعلم أنّ هذه السورة اتّصلت بما قبلها، لـما فيها من ذكر القيامة والجزاء، اتّصال النظير بالنظير.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا

٤٩٣

يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١) )

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ) أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح ضبحا. وهو صوت أنفاسها وأجوافها عند العدو. ونصبه بفعله المحذوف، أي: يضبحن أو تضبح ضبحا. أو بالعاديات، لأنّها تدلّ بالالتزام على الضابحات. أو حال بمعنى: ضابحات.

( فَالْمُورِياتِ ) فالّتي توري النار، أي: تنقدح من حوافرها( قَدْحاً ) قدحن قدحا. أو قادحات صاكّات بحوافرها الحجارة، فإنّ الإيراء إخراج النّار. والقدح: الصكّ. يقال: قدح الزند فأورى. وانتصب «قدحا» بما انتصب به «ضبحا».

( فَالْمُغِيراتِ ) يغير أهلها على العدو( صُبْحاً ) أي: وقته ذكر الصبح، لأنّهم كانوا يسيرون إلى العدوّ ليلا، فيأتونهم صبحا.

( فَأَثَرْنَ بِهِ ) عطف على الفعل الّذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأنّ المعنى: واللاتي عدون، فأورين، فأغرن، فأثرن به، أي: فهيّجن بذلك الوقت، أي: وقت العدو( نَقْعاً ) غبارا.

( فَوَسَطْنَ بِهِ ) فتوسّطن بذلك الوقت، أو بالعدو، أو بالنقع، أي: ملتبسات به. يقال: وسطه بمعنى: توسّطه.( جَمْعاً ) من جموع الأعداء.

عن مقاتل: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سريّة إلى حيّ من كنانة، فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد النقباء، فتأخّر رجوعهم، فقال المنافقون: قتلوا جميعا، فأخبر الله تعالى عنها بقوله:( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ) .

وقيل: نزلت السورة لـمّا بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاعليه‌السلام إلى ذات السلاسل، فأوقع بهم. وذلك بعد أن بعث إليهم مرارا غيره من الصحابة، فرجع كلّ منهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٩٤

وهو المرويّ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في حديث طويل، قال: «وسمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل، لأنّه أسر منهم وقتل وسبى، وشدّ أسراهم في الحبال مكتّفين كأنّهم في السلاسل. ولـمّا نزلت السورة خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الناس فصلّى بهم الغداة، وقرأ فيها والعاديات، فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم، إنّ عليّا قد ظفر بأعداء الله، وبشّرني بذلك جبرئيل في هذه الليلة. فقدم عليّعليه‌السلام بعد أيّام بالأسارى والغنائم».

وفي رواية عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: بينما أنا في الحجرة جالس إذ أتاني رجل فسأل عن العاديات ضبحا، فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثمّ تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم ويورون نارهم. فانفتل(١) عنّي وذهب إلى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهو تحت سقاية زمزم، فسأله عن العاديات ضبحا.

فقال: سألت عنها أحدا قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عبّاس، فقال: إنّها الخيل حين تغير في سبيل الله. قال: اذهب فادعه لي. فلمّا وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر، وما كان معنا إلّا فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات الخيل؟ بل( الْعادِياتِ ضَبْحاً ) الإبل، من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى. قال ابن عبّاس: فرغبت عن قولي، ورجعت إلى الّذي قاله عليّعليه‌السلام .

وعلى هذا ؛ فالمراد بالضبح الضبع. قال في الصحاح: «عن أبي عبيدة: ضبحت الخيل ضبحا، مثل: ضبعت، وهو السير»(٢) . ثمّ قال: «ضبعت الإبل تضبع ضبعا، إذا مدّت أضباعها في سيرها، وهي أعضادها. والناقة ضابع. والضبع: أن يهوي بحافره إلى عضده»(٣) .

والمراد بالموريات أنّ أصحابها يورون نارهم في عرفة وجمع ومنى.

__________________

(١) أي: انصرف. من: فتل وجهه عنهم، أي: صرفه.

(٢) الصحاح ١: ٣٨٥، و٣: ١٢٤٧.

(٣) الصحاح ١: ٣٨٥، و٣: ١٢٤٧.

٤٩٥

وقال عكرمة: هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلّم به.

وعن محمد بن كعب: هي النيران بجمع. وعنه أيضا: يريد بقوله:( فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً ) الإبل ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى. والسنّة أن لا ترتفع بركبانها حتّى تصيح. والإغارة سرعة السير. ومنه قولهم: أشرق(١) ثبير كيما نغير. وعنه أيضا المراد بقوله:( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) يريد جمع منى.

والتفسير الأوّل قول أكثر المفسّرين. ويحتمل أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كمالهنّ، الموريات بأفكارهنّ أنوار المعارف، والمغيرات على الهوى والعادات إذا ظهر لهنّ مثل أنوار القدس، فأثرن به شوقا، فوسطن به جمعا من جموع العلّيّين.

وعلى التقادير جواب القسم( إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) لكفور. من: كند النعمة كنودا. ومنه سمّي كندة، لأنّه كند أباه ففارقه. أو لعاص، بلغة كندة. أو لبخيل، بلغة بني مالك.

( وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ ) إنّ الإنسان على كنوده( لَشَهِيدٌ ) يشهد على نفسه، ولا يقدر أن يجحده، لظهور أمره عليه. وقيل: إنّ الله على كنوده لشهيد. فيكون وعيدا.

( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ ) لأجل حبّ المال، من قوله:( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) (٢) .( لَشَدِيدٌ ) لبخيل. يقال: فلان شديد ومتشدّد. أو لقويّ مبالغ فيه.

( أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ) بعث( ما فِي الْقُبُورِ ) من الموتى( وَحُصِّلَ ) جمع محصّلا في الصحف، أو ميّز( ما فِي الصُّدُورِ ) من خير أو شرّ. وتخصيصه لأنّه الأصل.( إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ ) وهو يوم القيامة( لَخَبِيرٌ ) عالم بما أعلنوا وما أسرّوا، فيجازيهم عليه. وإنّما قال «ما» ثمّ «بهم» لاختلاف شأنهم في الحالين.

__________________

(١) تبير: جبل بمكّة. والمعنى: ليشرق شعاع الشمس على ثبير حتّى نغير على الأعداء.

(٢) البقرة: ١٨٠.

٤٩٦

(١٠١)

سورة القارعة

مكّيّة. وهي إحدى عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ومن قرأها ثقّل الله بها ميزانه يوم القيامة».

عمرو بن ثابت عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ القارعة آمنه الله من فتنة الدجّال أن يؤمن به، ومن قيح جهنّم يوم القيامة».

واعلم أنّ هذه السورة اتّصلت بما قبلها اتّصال النظير بالنظير، لأنّ كلتيهما في ذكر القيامة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١) )

٤٩٧

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْقارِعَةُ ) اسم من أسماء القيامة، لأنّها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب.

ثمّ عظّم شأنها وهوّل أمرها بقوله:( مَا الْقارِعَةُ ) أيّ شيء القارعة( وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ) أي: لا تعلم حقيقة أمرها وكنه وصفها على التفصيل، وإنّما تعلمها على الإجمال. وقد سبق مزيد البحث فيها في الحاقّة(١) .

ثمّ بيّن سبحانه أنّها متى تكون، فقال:( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ ) نصب بمضمر دلّت عليه القارعة، أي: تقرع يوم يكون الناس( كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) في كثرتهم وذلّتهم وحقارتهم وانتشارهم واضطرابهم، لفزعهم عند البعث، فيختلفون في المقاصد على جهات مختلفة. وهذا مثل قوله:( كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ ) (٢) . وسمّي الفراش فراشا لتفرّشه وانتشاره على أنحاء مختلفة.

( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) كالصوف المصبغ ألوانا، لأنّها ألوان( الْمَنْفُوشِ ) المندوف، لتفرّق أجزائها وتطايرها في الجوّ.

( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) بأن ترجّحت مقادير أنواع حسناته. جمع موزون، وهو العمل الّذي له وزن وخطر عند الله. أو جمع ميزان. وثقلها: رجحانها.( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) ذات رضا، أي: مرضيّة.

( وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) بأن لم يكن له حسنة يعبأ بها، أو ترجّحت سيّئاته على حسناته. والقول في تحقيق الوزن والميزان والاختلاف في ذلك قد مرّ في الأعراف(٣) .( فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) فمأواه النار. وهي مأخوذة من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة: هوت أمّه، لأنّه إذا هوى ـ أي: سقط وهلك ـ فقد هوت أمّه ثكلا

__________________

(١) راجع ص ١٥٨.

(٢) القمر: ٧.

(٣) راجع ج ٢ ص ٤٩٦، ذيل الآية ٩ من سورة الأعراف.

٤٩٨

وحزنا. فكأنّه قيل: وأمّا من خفّت موازينه فقد هلك.

وقيل: هي من أسماء طبقة النار العميقة، لهويّ أهل النار فيها مهوى بعيدا، كما روي: «يهوى فيها سبعين خريفا» أي: فمأواه النار البعيدة العمق جدّا. وقيل للمأوى أمّ على التشبيه، لأنّ الأمّ مأوى الولد ومفزعه.

وعن قتادة:( فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنّم، لأنّه يطرح فيها منكوسا.

ثمّ قال تفخيما لأمرها:( وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ ) الضمير للهاوية. والهاء للسكت.

وقد أجيز إثباتها مع الوصل، لأنّها ثابتة في المصحف. وقرأ حمزة بغير الهاء حين الوصل.( نارٌ حامِيَةٌ ) ذات حمى شديدة الحرارة.

٤٩٩
٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579