زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير10%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51570 / تحميل: 4107
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٩-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و يندفع بهذا الوجه الاعتراض على ما استدلّ به على المعاد من إطلاق القدرة كما سيجي‏ء، و محصّله أنّ إطلاق القدرة إنّما ينفع فيما كان ممكناً لكن إعادة الإنسان بعينه محال فإنّ الإنسان المخلوق ثانياً مثل الإنسان الدنيويّ المخلوق أوّلاً لا شخصه الّذي خلق أوّلاً و مثل الشي‏ء غير الشي‏ء لا عينه.

وجه الاندفاع أنّ شخصيّة الشخص من الإنسان بنفسه لا ببدنه و النفس محفوظة فإذا خلق البدن و تعلّقت به النفس كان هو الإنسان الدنيويّ بشخصه و إن كان البدن بالقياس إلى البدن مع الغضّ عن النفس، مثلاً لا عيناً.

قوله تعالى: ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ) أي ما هو مبدأ خلقه؟ و ما هو الّذي صيّره الله إنساناً؟

و الجملة متفرّعة على الآية السابقة و ما تدلّ عليه بفحواها بحسب السياق و محصّل المعنى و إذ كانت كلّ نفس محفوظة بذاتها و عملها من غير أن تفنى أو ينسى عملها فليذعن الإنسان أن سيرجع إلى ربّه و يجزي بما عمل و لا يستبعد ذلك و لينظر لتحصيل هذا الإذعان إلى مبدإ خلقه و يتذكّر أنّه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب و الترائب.

فالّذي بدأ خلقه من ماء هذه صفته يقدر على رجعه و إحيائه بعد الموت.

و في الإتيان بقوله:( خُلِقَ ) مبنيّاً للمفعول و ترك ذكر الفاعل و هو الله سبحانه إيماء إلى ظهور أمره، و نظيره قوله:( خُلِقَ مِنْ ماءٍ ) إلخ.

قوله تعالى: ( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) الدفق تصبّب الماء و سيلانه بدفع و سرعة و الماء الدافق هو المنيّ و الجملة جواب عن استفهام مقدّر يهدي إليه قوله:( مِمَّ خُلِقَ ) .

قوله تعالى: ( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) الصلب الظهر، و الترائب جمع تريبة و هي عظم الصدر.

و قد اختلفت كلماتهم في الآية و ما قبلها اختلافاً عجيباً، و الظاهر أنّ المراد بقوله:( بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) البعض المحصور من البدن بين جداري عظام الظهر و

٣٨١

عظام الصدر(1) .

قوله تعالى: ( إِنَّهُ عَلى‏ رَجْعِهِ لَقادِرٌ ) الرجع الإعادة، و ضمير( إِنَّهُ ) له تعالى و اكتفى بالإضمار مع أنّ المقام مقام الإظهار لظهوره نظير قوله:( خُلِقَ ) مبنيّاً للمفعول.

و المعنى أنّ الّذي خلق الإنسان من ماء صفته تلك الصفة، على إعادته و إحيائه بعد الموت - و إعادته مثل بدئه - لقادر لأنّ القدرة على الشي‏ء قدرة على مثله إذ حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) ظرف للرجع، و السريرة ما أسرّه الإنسان و أخفاه في نفسه، و البلاء الاختبار و التعرّف و التصفّح.

فالمعنى يوم يختبر ما أخفاه الإنسان و أسرّه من العقائد و آثار الأعمال خيرها و شرّها فيميّز خيرها من شرّها و يجزي الإنسان به فالآية في معنى قوله تعالى:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: 284.

قوله تعالى: ( فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ) أي لا قدرة له في نفسه يمتنع بها من عذاب الله و لا ناصر له يدفع عنه ذلك أي لا قدرة هناك يدفع عنه الشرّ لا من نفسه و لا من غيره.

قوله تعالى: ( وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ) إقسام بعد إقسام لتأكيد أمر القيامة و الرجوع إلى الله.

و المراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحسّ من سيرها بطلوع الكواكب بعد غروبها و غروبها بعد طلوعها، و قيل: رجعها أمطارها، و المراد بكون الأرض ذات صدع تصدّعها و انشقاقها بالنبات، و مناسبة القسمين لما اُقسم عليه من الرجوع بعد الموت و الخروج من القبور ظاهرة.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الفصل إبانة أحد الشيئين من

____________________

(1) و قد أورد المراغي في تفسيره في ذيل الآية عن بعض الأطباء توجيهاً دقيقاً علميّاً لهذه الآية من أراده فليراجعه.

٣٨٢

الآخر حتّى يكون بينهما فرجة، و التعبير بالفصل - و المراد الفاصل - للمبالغة كزيد عدل و الهزل خلاف الجدّ.

و الآيتان جواب القسم، و ضمير( إِنَّهُ ) للقرآن و المعنى اُقسم بكذا و كذا إنّ القرآن لقول فاصل بين الحقّ و الباطل و ليس هو كلاماً لا جدّ فيه فما يُحقّه حقّ لا ريب فيه و ما يبطله باطل لا ريب فيه فما أخبركم به من البعث و الرجوع حقّ لا ريب فيه.

و قيل: الضمير لما تقدّم من خبر الرجوع و المعاد، و الوجه السابق أوجه.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَ أَكِيدُ كَيْداً ) أي الكفّار يحتالون بكفرهم و إنكارهم المعاد احتيالاً يريدون به إطفاء نور الله و إبطال دعوتك، و احتال عليهم بعين أعمالهم بالاستدراج و الإملاء و الإضلال بالطبع على قلوبهم و جعل الغشاوة على سمعهم و أبصارهم احتيالاً أسوقهم به إلى عذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) التمهيل و الإمهال بمعنى واحد غير أنّ باب التفعيل يفيد التدريج و الإفعال يفيد الدفعة، و الرويد القليل.

و المعنى: إذا كان منهم كيد و منّي كيد عليهم بعين ما يكيدون به و الله غالب على أمره، فانتظر بهم و لا تعاجلهم انتظر بهم قليلاً فسيأتيهم ما اُوعدهم به فكلّ ما هو آت قريب.

و في التعبير أوّلاً بمهّل الظاهر في التدريج و ثانياً مع التقييد برويداً بأمهل الظاهر في الدفعة لطف ظاهر.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ ) قال: الملائكة.

و فيه: في قوله تعالى:( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) قال: النطفة الّتي تخرج بقوّة.

و فيه: في قوله تعالى:( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ ) قال: الصلب الرجل

٣٨٣

و الترائب المرأة، و هو صدرها.

أقول: الرواية على إضمارها و إرسالها لا تخلو من شي‏ء.

و فيه: في قوله تعالى:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) قال: يكشف عنها.

و في المجمع، روي مرفوعاً عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ضمن الله خلقه أربع خصال: الصلاة، و الزكاة، و صوم شهر رمضان، و الغسل من الجنابة، و هي السرائر الّتي قال الله تعالى: يوم تبلى السرائر.

أقول: و لعلّه من قبيل ذكر بعض المصاديق كما تؤيّده الرواية التالية.

و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذه السرائر الّتي ابتلى الله بها العباد في الآخرة؟ فقال: سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و كلّ مفروض لأنّ الأعمال كلّها سرائر خفيّة فإن شاء الرجل قال: صلّيت و لم يصلّ و إن شاء قال: توضّيت و لم يتوضّ فذلك قوله:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ ) قال: ما له من قوّة يهوي بها على خالقه، و لا ناصر من الله ينصره إن أراد به سوءا.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ) قال: ذات المطر( وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ) أي ذات النبات.

و في المجمع:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ) يعني أنّ القرآن يفصل بين الحقّ و الباطل بالبيان عن كلّ واحد منهما، و روي ذلك عن الصادقعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الدارميّ و الترمذيّ و محمّد بن نصر و ابن الأنباريّ في المصاحف عن الحارث الأعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت عليّاً فأخبرته فقال: أ و قد فعلوها؟

سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم و خبر من بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، من ابتغى الهوى في غيره أضلّه الله، و هو حبل الله

٣٨٤

المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، و لا يشبع منه العلماء، و لا تلتبس منه الألسن، و لا يخلق من الردّ، و لا تنقضي عجائبه هو الّذي لم ينته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) . من قال به صدق، و من حكم به عدل، و من عمل به اُجر، و من دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم.

أقول: و روي ما يقرب منه عن معاذ بن جبل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رواه مختصراً عن ابن مردويه عن عليّعليه‌السلام .

٣٨٥

( سورة الأعلى مكّيّة و هي تسع عشرة آية)

( سورة الأعلى الآيات 1 - 19)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ( 1 ) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 2 ) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ( 3 ) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ ( 4 ) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ ( 5 ) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ ( 6 ) إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ( 7 ) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ( 8 ) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ ( 9 ) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ( 10 ) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ( 11 ) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ ( 12 ) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ( 13 ) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ( 14 ) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ ( 15 ) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 16 ) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ( 17 ) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ ( 18 ) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ( 19 )

( بيان‏)

أمرٌ بتوحيده تعالى على ما يليق بساحته المقدّسة و تنزيه ذاته المتعالية من أن يذكر مع اسمه اسم غيره أو يسند إلى غيره ما يجب أن يسند إليه كالخلق و التدبير و الرزق و وعد لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتأييده بالعلم و الحفظ و تمكينه من الطريقة الّتي هي أسهل و أيسر للتبليغ و أنسب للدعوة.

و سياق الآيات في صدر السورة سياق مكّيّ و أمّا ذيلها أعني قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) إلخ فقد ورد من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا من طريق أهل السنّة

٣٨٦

أنّ المراد به زكاة الفطرة و صلاة العيد و من المعلوم أنّ الصوم و ما يتبعه من زكاة الفطرة و صلاة العيد إنّما شرعت بالمدينة بعد الهجرة فتكون آيات الذيل نازلة بالمدينة.

فالسورة صدرها مكّيّ و ذيلها مدنيّ، و لا ينافي ذلك ما جاء في الآثار أنّ السورة مكّيّة فإنّه لا يأبى الحمل على صدر السورة.

قوله تعالى: ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) أمر بتنزيه اسمه تعالى و تقديسه، و إذ علّق التنزيه على الاسم - و ظاهر اللفظ الدالّ على المسمّى - و الاسم إنّما يقع في القول فتنزيهه أن لا يذكر معه ما هو تعالى منزّه عنه كذكر الآلهة و الشركاء و الشفعاء و نسبة الربوبيّة إليهم و كذكر بعض ما يختصّ به تعالى كالخلق و الإيجاد و الرزق و الإحياء و الإماتة و نحوها و نسبته إلى غيره تعالى أو كذكر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى من الأفعال كالعجز و الجهل و الظلم و الغفلة و ما يشبهها من صفات النقص و الشين و نسبته إليه تعالى.

و بالجملة تنزيه اسمه تعالى أن يجرّد القول عن ذكر ما لا يناسب ذكره ذكر اسمه تعالى و هو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل.

و هو يلازم التوحيد الكامل بنفي الشرك الجليّ كما في قوله:( وَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) الزمر: 45 و قوله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) إسراء: 46.

و في إضافة الاسم إلى الربّ و الربّ إلى ضمير الخطاب تأييد لما قدّمناه فإنّ المعنى سبّح اسم ربّك الّذي اتّخذته ربّاً و أنت تدعو إلى أنّه الربّ الإله فلا يقعنّ في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبيّة ذكر من غيره بحيث ينافي تسمّيه بالربوبيّة على ما عرّف نفسه لك.

و قوله:( الْأَعْلَى ) و هو الّذي يعلو كلّ عال و يقهر كلّ شي‏ء صفة( رَبِّكَ ) دون الاسم و يعلّل بمعناه الحكم أي سبّح اسمه لأنّه أعلى.

٣٨٧

و قيل: معنى( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قل: سبحان ربّي الأعلى كما عن ابن عبّاس و نسب إليه أيضاً أنّ المعنى صلّ.

و قيل: المراد بالاسم المسمّى و المعنى نزّهه تعالى عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه من الصفات و الأفعال.

و قيل: إنّه ذكر الاسم و المراد به تعظيم المسمّى و استشهد عليه بقول لبيد، إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما. فالمعنى سبّح ربّك الأعلى.

و قيل: المراد تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق بأن لا يؤوّل ممّا ورد منها اسم من غير مقتض، و لا يبقى على ظاهره إذا كان ما وضع له لا يصحّ له تعالى، و لا يطلقه على غيره تعالى إذا كان مختصّاً كاسم الجلالة و لا يتلفّظ به في محلّ لا يناسبه كبيت الخلاء، و على هذا القياس.

و ما قدّمناه من المعنى أوسع و أشمل و أنسب لسياق قوله الآتي( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ فَذَكِّرْ ) فإنّ السياق سياق البعث إلى التذكرة و التبليغ فبدأ أوّلاً بإصلاح كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تجريده عن كلّ ما يشعر بجليّ الشرك و خفيّه بأمره بتنزيه اسم ربّه، و وعد ثانياً بإقرائه بحيث لا ينسى شيئاً ممّا اُوحي إليه و تسهيل طريقة التبليغ عليه ثمّ اُمر بالتذكير و التبليغ فافهم.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) خلق الشي‏ء جمع أجزائه، و تسويته جعلها متساوية بحيث يوضع كلّ في موضعه الّذي يليق به و يعطى حقّه كوضع كلّ عضو من أعضاء الإنسان فيما يناسبه من الموضع.

و الخلق و التسوية و إن كانا مطلقين لكنّهما إنّما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات.

و الآية إلى تمام أربع آيات تصف التدبير الإلهيّ و هي برهان على ربوبيّته تعالى المطلقة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) أي جعل الأشياء الّتي خلقها على مقادير مخصوصة و حدود معيّنة في ذواتها و صفاتها و أفعالها لا تتعدّاها و جهّزها بما يناسب

٣٨٨

ما قدّر لها فهداها إلى ما قدّر فكلّ يسلك نحو ما قدّر له بهداية ربّانيّة تكوينيّة كالطفل يهتدي إلى ثدي اُمّه و الفرخ إلى زقّ اُمّه و أبيه، و الذكر إلى الاُنثى و ذي النفع إلى نفعه و على هذا القياس.

قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21، و قال:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20 و قال:( لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) البقرة: 148.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ ) المرعى ما ترعاه الدوابّ فالله تعالى هو الّذي أخرجها أي أنبتها.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى‏ ) الغثاء ما يقذفه السيل على جانب الوادي من الحشيش و النبات، و المراد هنا - كما قيل - اليابس من النبات، و الأحوى الأسود.

و إخراج المرعى لتغذّي الحيوان ثمّ جعله غثاء أحوى من مصاديق التدبير الربوبيّ و دلائله كما أنّ الخلق و التسوية و التقدير و الهداية كذلك.

قوله تعالى: ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى‏ ) قال في المفردات: و القراءة ضمّ الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، و ليس يقال ذلك لكلّ جمع لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، و يدلّ على ذلك أنّه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوّه به قراءة، انتهى، و قال في المجمع: و الإقراء أخذ القراءة على القارئ بالاستماع لتقويم الزلل، و القارئ التالي. انتهى.

و ليس إقراؤه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن مثل إقراء بعضنا بعضاً باستماع المقري لما يقرؤه القارئ و إصلاح ما لا يحسنه أو يغلط فيه فلم يعهد من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأ شيئاً من القرآن فلا يحسنه أو يغلط فيه عن نسيان للوحي ثمّ يقرأ فيصلح بل المراد تمكينه من قراءة القرآن كما اُنزل من غير أن يغيّره بزيادة أو نقص أو تحريف بسبب النسيان.

فقوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) وعدٌ منه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمكّنه من العلم

٣٨٩

بالقرآن و حفظه على ما اُنزل بحيث يرتفع عنه النسيان فيقرؤه كما اُنزل و هو الملاك في تبليغ الوحي كما اُوحي إليه.

و قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) استثناء مفيد لبقاء القدرة الإلهيّة على إطلاقها و أنّ هذه العطيّة و هي الإقراء بحيث لا تنسى لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء بحيث لا يقدر بعد على إنسائك بل هو باق على إطلاق قدرته له أن يشاء إنساءك متى شاء و إن كان لا يشاء ذلك فهو نظير الاستثناء الّذي في قوله:( وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: 108 و قد تقدّم توضيحه.

و ليس المراد بالاستثناء إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي و المعنى سنقرئك فلا تنسى شيئاً إلّا ما شاء الله أن تنساه و ذلك أنّ كلّ إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء و ينسى أشياء فلا معنى لاختصاصه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحن الامتنان مع كونه مشتركاً بينه و بين غيره فالوجه ما قدّمناه.

و الآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنّه كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه مخافة أن ينساه فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي حتّى يتكلّم هو بأوّله فلمّا نزلت هذه الآية لم ينس بعده شيئاً.

و يقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية أعني قوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) نازلة أوّلاً ثمّ قوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) القيامة: 19 ثمّ قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى) الجهر كمال ظهور الشي‏ء لحاسّة البصر كقوله:( فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ) النساء: 153، أو لحاسّة السمع كقوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ) الأنبياء: 110، و المراد بالجهر الظاهر للإدراك بقرينة مقابلته لقوله:( وَ ما يَخْفى‏ ) من غير تقييده بسمع أو بصر.

و الجملة في مقام التعليل لقوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) و المعنى سنصلح لك بالك

٣٩٠

في تلقّي الوحي و حفظه لأنّا نعلم ظاهر الأشياء و باطنها فنعلم ظاهر حالك و باطنها و ما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي و الحرص على طاعته فيما أمر به.

و في قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ) إلخ التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه الإشارة إلى حجّة الاستثناء فإفاضة العلم و الحفظ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما لا يسلب القدرة على خلافه و لا يحدّها منه تعالى لأنّه الله المستجمع لجميع صفات الكمال و منها القدرة المطلقة ثمّ جرى الالتفات في قوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ ) إلخ لمثل النكتة.

قوله تعالى: ( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ ) اليسرى - مؤنث أيسر - و هو وصف قائم مقام موصوفة المحذوف أي الطريقة اليسرى و التيسير التسهيل أي و نجعلك بحيث تتّخذ دائماً أسهل الطرق للدعوة و التبليغ قولاً و فعلاً فتهدي قوماً و تتمّ الحجّة على آخرين و تصبر على أذاهم.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و نيسّر لك اليسرى كما قال:( وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ) طه: 26 و إنّما عدل عن ذلك إلى قوله:( وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ ) لأنّ الكلام في تجهيزه تعالى نفس النبيّ الشريفة و جعله إيّاها صالحة لتأدية الرسالة و نشر الدعوة. على ما في نيسّر اليسرى من إيهام تحصيل الحاصل.

فالمراد جعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صافي الفطرة حقيقاً على اختيار الطريقة اليسرى الّتي هي طريقة الفطرة فالآية في معنى قوله حكاية عن موسى:( حَقِيقٌ عَلى‏ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ) الأعراف: 105.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ ) تفريع على ما تقدّم من أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتنزيه اسم ربّه و وعده إقراء الوحي بحيث لا ينسى و تيسيره لليسرى و هي الشرائط الضروريّة الّتي يتوقّف عليها نجاح الدعوة الدينيّة.

و المعنى إذ تمّ لك الأمر بامتثال ما أمرناك به و إقرائك فلا تنسى و تيسيرك لليسرى فذكّر إن نفعت الذكرى.

و قد اشترط في الأمر بالتذكرة أن تكون نافعة و هو شرط على حقيقته فإنّها إذا

٣٩١

لم تنفع كانت لغواً و هو تعالى يجلّ عن أن يأمر باللّغو فالتذكرة لمن يخشى لأوّل مرّة تفيد ميلا من نفسه إلى الحقّ و هو نفعها و كذا التذكرة بعد التذكرة كما قال:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) و التذكرة للأشقى الّذي لا خشية في قلبه لأوّل مرّة تفيد تمام الحجّة عليه و هو نفعها و يلازمها تجنّبه و تولّيه عن الحقّ كما قال:( يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ ) و التذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئاً و لذا اُمر بالإعراض عن ذلك قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) النجم: 29.

و قيل: الشرط شرط صوريّ غير حقيقيّ و إنّما هو إخبار عن أنّ الذكرى نافعة لا محالة في زيادة الطاعة و الانتهاء عن المعصية كما يقال: سله إن نفع السؤال و لذا قال بعضهم( إن ) ( إِنْ ) في الآية بمعنى قد، و قال آخرون: إنّها بمعنى إذ.

و فيه أنّ كون الذكرى نافعة مفيدة دائماً حتّى فيمن يعاند الحقّ - و قد تمّت عليه الحجّة - ممنوع كيف؟ و قد قيل فيهم:( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) البقرة: 7.

و قيل: إنّ في الكلام إيجازاً بالحذف، و التقدير فذكّر إن نفعت الذكرى و إن لم تنفع و ذلك لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث للتذكرة و الإعذار فعليه أن يذكّر نفع أو لم ينفع فالآية من قبيل قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) النحل: 81 أي و البرد.

و فيه أنّ وجوب التذكرة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى فيما لا يترتّب عليها أثراً أصلاً ممنوع.

و قيل: إنّ الشرط مسوق للإشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين نعياً عليهم كأنّه قيل: افعل ما اُمرت به لتوجر و إن لم ينتفعوا به.

و فيه أنّه يردّه قوله تعالى بعده بلا فصل:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) .

قوله تعالى: ( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) أي سيتذكّر و يتّعظ بالقرآن من في قلبه شي‏ء من خشية الله و خوف عقابه.

قوله تعالى: ( يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ ) الضمير للذكرى و المراد بالأشقى بقرينة

٣٩٢

المقابلة من ليس في قلبه شي‏ء من خشية الله تعالى، و تجنّب الشي‏ء التباعد عنه، و المعنى و سيتباعد عن الذكرى من لا يخشى الله.

قوله تعالى: ( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الظاهر أنّ المراد بالنار الكبرى نار جهنّم و هي نار كبري بالقياس إلى نار الدنيا، و قيل: المراد بها أسفل دركات جهنّم و هي أشدّها عذاباً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى‏ ) ثمّ للتراخي بحسب رتبة الكلام، و المراد من نفي الموت و الحياة عنه معاً نفي النجاة نفياً مؤبّداً فإنّ النجاة بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين إمّا بالموت حتّى ينقطع عنه العذاب بانقطاع وجوده و إمّا يتبدّل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة و من العذاب إلى الراحة فالمراد بالحياة في الآية الحياة الطيّبة على حدّ قولهم في الحرض: لا حيّ فيرجى و لا ميّت فينسى.

قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) التزكّي هو التطهّر و المراد به التطهّر من ألواث التعلّقات الدنيويّة الصارفة عن الآخرة بدليل قوله بعد( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إلخ، و الرجوع إلى الله بالتوجّه إليه تطهّر من الإخلاد إلى الأرض، و الإنفاق في سبيل الله تطهّر من لوث التعلّق الماليّ حتّى أنّ وضوء الصلاة تمثيل للتطهّر عمّا كسبته الوجوه و الأيدي و الأقدام.

و قوله:( وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) الظاهر أنّ المراد بالذكر الذكر اللفظيّ، و بالصلاة التوجّه الخاصّ المشروع في الإسلام.

و الآيتان بحسب ظاهر مدلولهما على العموم لكن ورد في المأثور عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهما نزلتا في زكاة الفطر و صلاة العيد و كذا من طرق أهل السنّة.

قوله تعالى: ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إضراب بالخطاب لعامّة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشريّ من التعلّق التامّ بالدنيا و الاشتغال بتعميرها، و الإيثار الاختيار، و قيل: الخطاب للكفّار، و الكلام على أيّ حال مسوق للعتاب و الالتفات لتأكيده.

٣٩٣

قوله تعالى: ( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ ) عدّ الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا مع أنّها باقية أبديّة في نفسها لأنّ المقام مقام الترجيح بين الدنيا و الآخرة و يكفي في الترجيح مجرّد كون الآخرة خيراً و أبقى بالنسبة إلى الدنيا و إن قطع النظر عن كونها باقية أبديّة.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) الإشارة بهذا إلى ما بين في قوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) إلى تمام أربع آيات، و قيل: هذا إشارة إلى مضمون قوله:( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ ) .

قيل: و في إبهام الصحف و وصفها بالتقدّم أوّلاً ثمّ بيانها و تفسيرها بصحف إبراهيم و موسى ثانياً ما لا يخفى من تفخيم شأنها و تعظيم أمرها.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: لمّا نزلت:( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم، و لمّا نزل( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: اجعلوها في سجودكم.

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور، عن أحمد و أبي داود و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن مردويه عن عقبة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ:( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: قل سبحان ربّي الأعلى( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) قال: قدّر الأشياء بالتقدير الأوّل ثمّ هدى إليها من يشاء.

و فيه: في قوله تعالى:( وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ ) قال: أي النبات. و في قوله:( غُثاءً أَحْوى‏ ) قال: يصير هشيماً بعد بلوغه و يسودّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينساه فقيل له: كفيناك ذلك و نزلت:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ ) .

٣٩٤

و في الفقيه: و سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) قال قال: من أخرج الفطرة قيل له: و( ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) قال: خرج إلى الجبانة(1) فصلّى.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن حمادّ عن جرير عن أبي بصير و زرارة عنهعليه‌السلام و رواه القمّيّ في تفسيره، مرسلاً مضمراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) ثمّ يقسّم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلّى يوم الفطر.

أقول: و روي أيضاً نزول الآيتين في زكاة الفطرة و صلاة العيد بطريقين عن أبي سعيد موقوفاً، و كذا بطريقين عن ابن عمر و بطريق عن نائلة بن الأصقع و بطريقين عن أبي العالية و بطريق عن عطاء و بطريق عن محمّد بن سيرين و بطريق عن إبراهيم النخعي و كذا عن عمرو بن عوف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الخصال، عن عتبة بن عمرو الليثيّ عن أبي ذرّ في حديث قلت: يا رسول الله فما في الدنيا ممّا أنزل الله عليك شي‏ء ممّا كان في صحف إبراهيم و موسى؟ قال: يا أبا ذرّ اقرأ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) .

أقول: يؤيّد الحديث كون الإشارة بهذا إلى مجموع الآيات الأربع كما تقدّم.

و في البصائر، بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : عندنا الصحف الّتي قال الله:( صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ ) قلت: الصحف هي الألواح؟ قال: نعم.

أقول: و رواه أيضاً بطريق آخر عن أبي بصير عنهعليه‌السلام و الظاهر أنّ المراد بكون الصحف هي الألواح كونها هي التوراة المعبّر عنها في مواضع من القرآن بالألواح كقوله تعالى:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الأعراف: 145 و قوله:( وَ أَلْقَى

____________________

(1) الجبانة: الصحراء

٣٩٥

الْأَلْواحَ ) الأعراف: 150 و قوله:( أَخَذَ الْأَلْواحَ ) الأعراف: 154.

و في المجمع، روي عن أبي ذرّ أنّه قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرون ألفاً قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاث مائة و ثلاثة عشر و بقيّتهم أنبياء. قلت: كان آدم نبيّاً؟ قال: نعم كلّمة الله و خلقه بيده.

يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود و صالح و شعيب و نبيّك.

قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة و أربعة كتب اُنزل منها على آدم عشرة صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على اُخنوخ و هو إدريس ثلاثين صحيفة و هو أوّل من خطّ بالقلم و على إبراهيم عشر صحائف و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان.

أقول: و روي ذلك في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي ذرّ غير أنّه لم يذكر صحف آدم و ذكر لموسى عشر صحف قبل التوراة.

٣٩٦

( سورة الغاشية مكّيّة و هي ستّ و عشرون آية)

( سورة الغاشية الآيات 1 - 26)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( 1 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( 2 ) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ( 3 ) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ( 4 ) تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ( 5 ) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ( 6 ) لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ ( 7 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ( 8 ) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ( 9 ) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 10 ) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ( 11 ) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ( 12 ) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ( 13 ) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ( 14 ) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ( 15 ) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ( 16 ) أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( 17 ) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ( 18 ) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ( 19 ) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ( 20 ) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ( 21 ) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ( 22 ) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ( 23 ) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ( 24 ) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ( 25 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ( 26 )

( بيان‏)

سورة إنذار و تبشير تصف الغاشية و هي يوم القيامة الّذي يحيط بالناس تصفه بحال الناس فيه من حيث انقسامهم فريقين: السعداء و الأشقياء و استقرارهم فيما اُعدّ لهم من الجنّة و النار و تنتهي إلى أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكّر الناس بفنون من التدبير الربوبيّ

٣٩٧

في العالم الدالّة على ربوبيّته تعالى لهم و رجوعهم إليه لحساب أعمالهم.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) استفهام بداعي التفخيم و الإعظام، و المراد بالغاشية يوم القيامة سمّيت بذلك لأنّها تغشى الناس و تحيط بهم كما قال:( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الكهف: 47، أو لأنّها تغشى الناس بأهوالها بغتة كما قيل، أو لأنّها تغشى وجوه الكفّار بالعذاب.

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) أي مذلّلة بالغمّ و العذاب يغشاها، و الخشوع إنّما هو لأرباب الوجوه و إنّما نسب إلى الوجوه لأنّ الخشوع و المذلّة يظهر فيها.

قوله تعالى: ( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) النصب التعب و( عامِلَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و كذا قوله:( ناصِبَةٌ ) و( تَصْلى) و( تُسْقى) و( لَيْسَ لَهُمْ ) و المراد من عملها و نصبها بقرينة مقابلتهما في صفة أهل الجنّة الآتية بقوله:( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) عملها في الدنيا و نصبها في الآخرة فإنّ الإنسان إنّما يعمل ما يعمل في الدنيا ليسعد به و يظفر بالمطلوب لكن عملهم خبط باطل لا ينفعهم شيئاً كما قال تعالى:( وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: 23 فلا يعود إليهم من عملهم إلّا النصب و التعب بخلاف أهل الجنّة فإنّهم لسعيهم الّذي سعوه في الدنيا راضون لما ساقهم إلى الجنّة و الراحة.

و قيل: المراد أنّها عاملة في النار ناصبة فيها فهي تعالج أنواع العذاب الّذي تعذّب به و تتعب لذلك.

و قيل: المراد أنّها عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة.

قوله تعالى: ( تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) أي تلزم ناراً في نهاية الحرارة.

قوله تعالى: ( تُسْقى‏ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) أي حارّة بالغة في حرارتها.

قوله تعالى: ( ليسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ‏ ) قيل: الضريع نوع من الشوك يقال له: الشبرق و أهل الحجاز يسمّونه الضريع إذا يبس و هو أخبث طعام و أبشعه لا ترعاه دابّة، و لعلّ تسمية ما في النار به لمجرّد المشابهة شكلاً و خاصّة.

٣٩٨

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ) من النعومة فيكون كناية عن البهجة و السرور الظاهر على البشرة كما قال:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، أو من النعمة أي متنعّمة. قيل: و لم يعطف على قوله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) إشارة إلى كمال البينونة بين حالي الفريقين.

قوله تعالى: ( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) اللّام للتقوية، و المراد بالسعي سعيها في الدنيا بالعمل الصالح، و المعنى رضيت سعيها و هو عملها الصالح حيث جوزيت به جزاءً حسناً.

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) المراد بعلوّها ارتفاع درجاتها و شرفها و جلالتها و غزارة عيشها فإنّ فيها حياة لا موت معها، و لذّة لا ألم يشوبها و سروراً لا غمّ و لا حزن يداخله لهم فيها فوق ما يشاؤن.

و قوله:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) أي لا تسمع تلك الوجوه في الجنّة كلمة ساقطة لا فائدة فيها.

و قوله:( فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ) المراد بالعين جنسها فقد عدّ تعالى فيها عيوناً في كلامه كالسلسبيل و الشراب الطهور و غيرهما.

و قوله:( فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ) السرر جمع سرير و في ارتفاعها جلالة القاعد عليها،( وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ) الأكواب جمع كوب و هو الإبريق لا خرطوم له و لا عروة يتّخذ فيه الشراب( وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ) النمارق جمع نمرقة و هي الوسادة و كونها مصفوفة وضعها في المجلس بحيث يتّصل بعضها ببعض على هيئة المجالس الفاخرة في الدنيا( وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) الزرابيّ جمع زريبة مثلّثة الزاي و هي البساط الفاخر و بثّها بسطها للقعود عليها.

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) بعد ما فرغ من وصف الغاشية و بيان حال الفريقين، المؤمنين و الكفّار عقّبه بإشارة إجماليّة إلى التدبير الربوبيّ الّذي يفصح عن ربوبيّته تعالى المقتضية لوجوب عبادته و لازم ذلك حساب الأعمال و جزاء المؤمن بإيمانه و الكافر بكفره و الظرف الّذي فيه ذلك هو الغاشية.

٣٩٩

و قد دعاهم أوّلاً أن ينظروا إلى الإبل كيف خلقت؟ و كيف صوّر الله سبحانه أرضاً عادمة للحياة فاقدة للشعور بهذه الصورة العجيبة في أعضائها و قواها و أفاعيلها فسخّرها لهم ينتفعون من ركوبها و حملها و لحمها و ضرعها و جلدها و وبرها حتّى بولها و بعرتها فهل هذا كله توافق اتّفاقيّ غير مطلوب بحياله.؟

و تخصيص الإبل بالذكر من جهة أنّ السورة مكّيّة و أوّل من تتلى عليهم الإعراب و اتّخاذ الآبال من أركان عيشتهم.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) و زيّنت بالشمس و القمر و سائر النجوم الزواهر بما فيها من المنافع لأهل الأرض و قد جعل دونها الهواء الّذي يضطرّ إليه الحيوان في تنفّسه.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) و هي أوتاد الأرض المانعة من مورها و مخازن الماء الّتي تتفجّر منها العيون و الأنهار و محافظ للمعادن.

قوله تعالى: ( وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) أي بسطت و سوّيت فصلحت لسكنى الإنسان و سهل فيها النقل و الانتقال و أغلب التصرّفات الصناعيّة الّتي للإنسان.

فهذه تدبيرات كلّيّة مستندة إليه تعالى بلا ريب فيه فهو ربّ السماء و الأرض ما بينهما فهو ربّ العالم الإنسانيّ يجب عليهم أن يتّخذوه ربّاً و يوحّدوه و يعبدوه و أمامهم الغاشية و هو يوم الحساب و الجزاء.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) تفريع على ما تقدّم و المعنى إذا كان الله سبحانه هو ربّهم لا ربّ سواه و أمامهم يوم الحساب و الجزاء لمن آمن منهم أو كفر فذكّرهم بذلك.

و قوله:( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) بيان أنّ وظيفته - و هو رسول - التذكرة رجاء أن يستجيبوا و يؤمنوا من غير إكراه و إلجاء.

قوله تعالى: ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) المصيطر - و أصله المسيطر - المتسلّط، و الجملة بيان و تفسير لقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) .

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

رمضان، كان يسمّى على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرزوق»(١) .

وفي رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أحدهما قال: «سألته عن الليالي الّتي يستحبّ فيها الغسل في شهر رمضان. قال: ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وهي ليلة الجهني. وحديثه: أنّه قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ منزلي ناء عن المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين».

قال الشيخ أبو جعفررحمه‌الله (٢) : واسم الجهني عبد الله بن أنيس الأنصاري.

وقيل: إنّها ليلة سبع وعشرين. عن أبيّ بن كعب وعائشة.

وروي عن ابن عبّاس وابن عمر قالا: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تحرّوها ليلة سبع وعشرين.

وعن زرّ بن حبيش قال: قلت لأبي: يا أبا المنذر من أين علمت أنّها ليلة سبع وعشرين؟ قال: بالآية الّتي أنبأنا بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: تطلع الشمس غداتئذ، كأنّها طست ليس لها شعاع.

وقال بعضهم: إنّ الله قسّم كلمات هذه السورة على ليالي شهر رمضان، فلمّا بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هي.

وقيل: إنّها ليلة تسع وعشرين. وروي عن أبي بكر قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «التمسوها في العشر الأواخر، في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين، أو ثلاث بقين، أو آخر ليلة».

والفائدة في إخفاء هذه الليلة أن يجتهد الناس في العبادة، ويحيوا جميع ليالي رمضان طمعا في إدراكها، كما أنّ الله سبحانه أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة.

وورد في فضل هذه الليلة روايات كثيرة. منها: ما روي عن ابن عبّاس، عن

__________________

(١) الفقيه ٢: ١٠٢ ح ٤٥٩.

(٢) الفقيه ٢: ١٠٤ ذيل ح ٤٦١.

٤٨١

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «إذا كان ليلة القدر تنزّل الملائكة الّذين هم سكّان سدرة المنتهى، ومنهم جبرئيل. فينزل جبرئيل ومعه ألوية، ينصب لواء منها على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء في المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء. ولا يدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلّا سلّم عليه، إلّا مدمن الخمر، وآكل لحم الخنزير، والمتضمّخ(١) بالزعفران».

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه».

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «إنّ الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتّى يضيء فجرها، ولا يستطيع فيها على أحد بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، ولا ينفذ فيه سحر ساحر».

وروى الحسن عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في ليلة القدر: «إنّها ليلة سمحة، لا حارّة ولا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع».

( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها ) وهو جبرئيل. أفرد بالذكر لمزيّة شرفه وفضله بينهم. وقيل: خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا تلك الليلة.( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) إلى الأرض، أو إلى السماء الدنيا( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) من أجل كلّ أمر قدّر في تلك الليلة من المصالح الدينيّة والدنيويّة.

( سَلامٌ هِيَ ) ما هي إلّا سلامة، أي: لا يقدّر الله فيها إلّا السلامة والخير، ويقضي في غيرها السلامة والبلاء. أو ما هي إلّا سلام، لكثرة ما يسلّمون فيها على المؤمنين، لـما روي: «أنّه لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلّا سلّموا عليه في تلك الليلة».

( حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) أي: وقت مطلعه، أي: طلوعه. وقرأ الكسائي بالكسر، على أنّه كالمرجع، أو اسم زمان على غير قياس، كالمشرق.

__________________

(١) تضمّخ بالطيب: تلطّخ به.

٤٨٢

(٩٨)

سورة البيّنة

وتسمّى سورة البريّة، وسورة القيامة. مختلف فيها. وهي ثمان آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها كان يوم القيامة مع خير البريّة مسافرا ومقيما».

وعن أبي الدرداء قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو يعلم الناس ما في( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) لعطّلوا الأهل والمال وتعلّموها. فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول الله؟ فقال: لا يقرؤها منافق أبدا، ولا عبد في قلبه شكّ في اللهعزوجل .

والله إنّ الملائكة المقرّبين ليقرؤنها منذ خلق الله السماوات والأرض، لا يفترون عن قراءتها. وما من عبد يقرؤها بليل إلّا بعث الله ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة. فإن قرأها نهارا، أعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار، وأظلم عليه الليل».

فقال رجل من قيس غيلان: زدنا يا رسول الله من هذا الحديث، فداك أبي وأمّي.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تعلّموا( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) . وتعلّموا( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) . وتعلّموا( وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ) . وتعلّموا( وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ) . فإنّكم لو تعلمون ما فيهنّ لعطّلتم ما أنتم فيه وتعلّمتموهنّ، وتقرّبتم إلى الله بهنّ، فإنّ الله يغفر بهنّ كلّ ذنب إلّا الشرك بالله. واعلموا أنّ( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) تجادل عن صاحبها يوم القيامة ،

٤٨٣

وتستغفر له من الذنوب».

أبو بكر الحضرمي عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة «لم يكن» كان بريئا من الشرك، وأدخل في دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعثه الله تعالى مؤمنا، وحاسبه حسابا يسيرا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) )

وروي: أنّ الكفّار من أهل الكتاب وعبدة الأصنام كانوا يقولون قبل مبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ننفكّ ممّا نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتّى يبعث النبيّ الموعود الّذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل والزبور، وهو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فلمّا بيّن سبحانه في سورة القدر أنّ القرآن حجّة، حكى الله في هذه السورة ما كانوا يقولون حجّة عليهم، وتوبيخا وإلزاما لهم، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) اليهود والنصارى، فإنّهم كفروا بالإلحاد في صفات الله تعالى. و «من» للتبيين.

٤٨٤

( وَالْمُشْرِكِينَ ) وعبدة الأصنام( مُنْفَكِّينَ ) عمّا كانوا عليه من دينهم. أو الوعد باتّباع الحقّ إذا جاءهم الرسول. ومعنى انفكاك الشيء من الشيء أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفكّ من مفصله. والمعنى: أنّهم متشبّثون بدينهم لا يتركونه( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) إلّا عند مجيء المبيّن للحقّ. والتاء للمبالغة. أو مجيء المعجزة البيّنة، وهي القرآن الّذي هو المعجزة.

وقوله:( رَسُولٌ مِنَ اللهِ ) بدل من البيّنة بنفسه أو بتقدير مضاف، وهو الوحي، وتقديره: وحي رسول من الله. أو مبتدأ( يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ) خبره.

وعلى البدليّة صفته. والرسول وإن كان أمّيّا، لكنّه لـمّا تلا مثل المسطور في الصحف كان كالتالي لها. وقيل: المراد جبرئيل، فإنّه التالي للصحف المطهّرة المنتسخة في اللوح. وكون الصحف مطهّرة أنّ الباطل لا يأتيها، أو أنّها لا يمسّها إلّا المطهّرون.

( فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحقّ.

( وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) عمّا كانوا عليه، بأن تفرّقوا فرقا مختلفة: كافرة، ومؤمنة، ومتردّدة بين الكفر والإيمان( إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) إلّا وقت مجيء البيّنة. فتفرّقوا، فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر، ومنهم من عرف وعاند وأصرّ على الكفر، ومنهم من تردّد في دينه. والمعنى: وما تفرّقوا عن الحقّ إلّا بعد مجيئه، فنقضوا ما يعدّون من اجتماع الكلمة والاتّفاق على الحقّ إذا جاءهم الرسول. فيكون كقوله:( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) (١) . وإفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم وبين المشركين للدلالة على شناعة حالهم، وأنّهم لـمّا تفرّقوا مع علمهم كان غيرهم أولى بذلك.

( وَما أُمِرُوا ) أي: في كتبهم بما فيها( إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ ) أي: إلّا لأجل أن يعبدوا الله( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) لا يشركون به( حُنَفاءَ ) مائلين عن العقائد الزائغة

__________________

(١) البقرة: ٨٩.

٤٨٥

( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) على طريقة الإسلام( وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ) على وجه تعيّن في الإسلام( وَذلِكَ ) الّذي تقدّم ذكره( دِينُ الْقَيِّمَةِ ) دين الملّة القيامة.

دلّت هذه الآية على بطلان مذهب أهل الجبر، لأنّ فيها تصريحا بأنّه سبحانه إنّما خلق الخلق ليعبدوه مخلصا عن الشرك. وعلى وجوب النيّة في الطهارة، إذ أمر الله بالعبادة على وجه الإخلاص، ولا يمكن الإخلاص إلّا بالنيّة والقربة. والطهارة عبادة، فلا تجزي بغير نيّة، خلافا لبعض العامّة.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨) )

ثمّ ذكر سبحانه حال الفريقين بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ) أي: يوم القيامة، أو في الحال، لملابستهم ما يوجب ذلك. واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه، فيمكن أن يختلف، لتفاوت كفرهما.( أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) الخليقة. وقرأ نافع: البريئة بالهمزة، على الأصل.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) فيها مبالغات: تقديم المدح، وذكر الجزاء المؤذن بأنّ ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به، والحكم عليه بأنّه من «عند ربّهم»، وجمع جنّات، وتقييدها إضافة ووصفا بما يزداد لها نعيما، وتأكيد

٤٨٦

الخلود بالتأبيد.

( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ) بما قدّموا من الطاعات المخلصة. استئناف بما يكون لهم زيادة على جزائهم.( وَرَضُوا عَنْهُ ) لأنّه بلّغهم أقصى أمانيّهم( ذلِكَ ) أي: المذكور من الجزاء والرضوان( لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) فإنّ الخشية ملاك الأمر، والباعث على كلّ خير.

وفي كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكانيرحمه‌الله قال: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب عليّعليه‌السلام ، قال: سمعت عليّاعليه‌السلام يقول: «قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا مسنده إلى صدري، فقال: يا عليّ ألم تسمع قول الله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) هم أنت وشيعتك. وموعدي وموعدكم الحوض، إذا اجتمعت الأمم للحساب تدعون غرّا محجّلين».(١)

وفيه عن مقاتل بن سليمان، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس: في قوله:( أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال: نزلت في عليّ وأهل بيتهعليهم‌السلام .(٢)

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢: ٤٥٩ ح ١١٢٥.

(٢) شواهد التنزيل ٢: ٤٧٣ ح ١١٤٦.

٤٨٧
٤٨٨

(٩٩)

سورة الزلزال

مدنيّة. وهي ثمان آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها فكأنّما قرأ البقرة، وأعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن».

وعن أنس بن مالك: «سأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا من أصحابه فقال: يا فلان هل تزوّجت؟ قال: لا، وليس عندي ما أتزوّج به. قال: أليس معك( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ؟

قال: بلى. قال: ربع القرآن. قال: أليس معك( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) ؟ قال: بلى.

قال: ربع القرآن. قال: أليس معك( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ ) ؟ قال: بلى. قال: ربع القرن.

ثمّ قال: تزوّج تزوّج تزوّج».

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «لا تملّوا من قراءة إذا زلزلت، فإنّ من كانت قراءته في نوافله لم يصبه الله بزلزلة أبدا، ولم يمت بها ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا، فإذا مات أمر به إلى الجنّة، فيقول الله سبحانه: عبدي أبحتك جنّتي، فاسكن منها حيث شئت وهويت، لا ممنوع ولا مدفوع عنه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ

٤٨٩

الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨) )

ولـمّا ختم سبحانه سورة البيّنة ببيان حال المؤمنين والكافرين، افتتح هذه السورة ببيان وقت ذلك، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ) إضافة الزلزال إلى الأرض لإفادة أنّ المراد زلزالها الّذي تستوجبه في حكمة الله ومشيئته، وهو الزلزال الشديد الّذي ليس بعده. ونحوه: قولك: أكرم التقيّ إكرامه، وأهن الفاسق إهانته.

تريد: ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة. أو زلزالها كلّه، وجميع ما هو ممكن منه، بخلاف الزلازل المعهودة الّتي تختصّ ببعض الأرض. فتكون الإضافة للتنبيه على شدّتها. وذلك عند النفخة الأولى أو الثانية.

( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) ما في جوفها من الدفائن أو الأموات. جمع ثقل، وهو متاع البيت.

( وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها ) أي: ما للأرض زلزلت هذه الزلزلة الشديدة، ولفظت ما في بطنها من الدفائن والأموات أحياء؟! فيقولون ذلك لـما يبهرهم من الأمر الفظيع، كما يقولون:( مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) (١) . وقيل: هذا قول الكافر، لأنّه كان لا يؤمن بالبعث، فأمّا المؤمن فيقول:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) (٢) .

( يَوْمَئِذٍ ) منصوب بمثل: اذكر. أو بدل من «إذا»، وناصبها قوله:( تُحَدِّثُ

__________________

(١) يس: ٥٢.

(٢) يس: ٥٢.

٤٩٠

أَخْبارَها ) أي: تحدّث الخلق أخبارها. فحذف المفعول الأوّل، لأنّ المقصود ذكر تحديثها الأخبار، لا ذكر الخلق، تعظيما لليوم. وتحديث الأرض مجاز عن إحداث الله فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتّى ينظر من يقول: ما لها؟ إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت؟ ولم لفظت الأموات؟ وأنّ هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه ويحذّرون منه.

وقيل: ينطقها الله على الحقيقة، وتخبر بما عمل عليها من خير وشرّ، كما في الحديث أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها، وتقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا. فهذا أخبارها».

وعلى هذا ؛ يجوز أن يكون الله تعالى أحدث الكلام فيها.

( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ) أي: تحدّث بسبب إيحاء ربّك لها، بأن أحدث فيها ما دلّت على الأخبار، أو أنطقها بها. ويجوز أن يكون بدلا من «أخبارها» إذ يقال: حدّثته كذا وبكذا. واللام بمعنى «إلى»، أو على أصلها، إذ لها في ذلك تشفّ من العصاة. وعن أبي سعيد الخدري: إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «لا يسمعه جنّ ولا إنس ولا حجر إلّا يشهد له».

( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ ) من مخارجهم، من القبور إلى الموقف( أَشْتاتاً ) متفرّقين بحسب مراتبهم، بيض الوجوه آمنين، وسود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتا، يتفرّق بهم طريقا الجنّة والنار.( لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ) جزاء أعمالهم.

ثمّ فصّل إراءة الأعمال بقوله:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) أي: ير ما يستحقّ عليه من الثواب.

( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) وقرأ هشام بإسكان الهاء. و «من» الأولى

٤٩١

مخصوصة بالسعداء، والثانية بالأشقياء، لقوله: «أشتاتا». والذرّة: النملة الصغيرة، أو الهباء(١) .

ويمكن أن يستدلّ بها على بطلان الإحباط، لأنّ الظاهر يدلّ على أنّه لا يفعل أحد شيئا من طاعة الله أو معصيته إلّا ويجازى عليها، وما يقع محبطا لا يجازى عليه. وليس لهم أن يقولوا: إنّ الظاهر بخلاف ما تذهبون إليه في جواز العفو عن مرتكب الكبيرة. وذلك لأنّ الآية مخصوصة بالإجماع، فإنّ التائب معفوّ عنه بلا خلاف. وعندهم أنّ من شرط المعصية الّتي يؤاخذ بها أن لا تكون صغيرة، فجاز لنا أيضا أن نشترط فيها أن لا تكون ممّا يعفو الله عنه.

__________________

(١) الهباء: الغبار، دقائق التراب منثورة على وجه الأرض.

٤٩٢

(١٠٠)

سورة العاديات

مدنيّة. وقيل: مكّيّة. وهي إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا».

سليمان بن خالد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ والعاديات وأدمن قراءتها، بعثه الله مع أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم القيامة خاصّة، وكان في حجره ورفقائه».

واعلم أنّ هذه السورة اتّصلت بما قبلها، لـما فيها من ذكر القيامة والجزاء، اتّصال النظير بالنظير.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا

٤٩٣

يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١) )

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ) أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح ضبحا. وهو صوت أنفاسها وأجوافها عند العدو. ونصبه بفعله المحذوف، أي: يضبحن أو تضبح ضبحا. أو بالعاديات، لأنّها تدلّ بالالتزام على الضابحات. أو حال بمعنى: ضابحات.

( فَالْمُورِياتِ ) فالّتي توري النار، أي: تنقدح من حوافرها( قَدْحاً ) قدحن قدحا. أو قادحات صاكّات بحوافرها الحجارة، فإنّ الإيراء إخراج النّار. والقدح: الصكّ. يقال: قدح الزند فأورى. وانتصب «قدحا» بما انتصب به «ضبحا».

( فَالْمُغِيراتِ ) يغير أهلها على العدو( صُبْحاً ) أي: وقته ذكر الصبح، لأنّهم كانوا يسيرون إلى العدوّ ليلا، فيأتونهم صبحا.

( فَأَثَرْنَ بِهِ ) عطف على الفعل الّذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأنّ المعنى: واللاتي عدون، فأورين، فأغرن، فأثرن به، أي: فهيّجن بذلك الوقت، أي: وقت العدو( نَقْعاً ) غبارا.

( فَوَسَطْنَ بِهِ ) فتوسّطن بذلك الوقت، أو بالعدو، أو بالنقع، أي: ملتبسات به. يقال: وسطه بمعنى: توسّطه.( جَمْعاً ) من جموع الأعداء.

عن مقاتل: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سريّة إلى حيّ من كنانة، فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد النقباء، فتأخّر رجوعهم، فقال المنافقون: قتلوا جميعا، فأخبر الله تعالى عنها بقوله:( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ) .

وقيل: نزلت السورة لـمّا بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاعليه‌السلام إلى ذات السلاسل، فأوقع بهم. وذلك بعد أن بعث إليهم مرارا غيره من الصحابة، فرجع كلّ منهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٩٤

وهو المرويّ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في حديث طويل، قال: «وسمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل، لأنّه أسر منهم وقتل وسبى، وشدّ أسراهم في الحبال مكتّفين كأنّهم في السلاسل. ولـمّا نزلت السورة خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الناس فصلّى بهم الغداة، وقرأ فيها والعاديات، فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم، إنّ عليّا قد ظفر بأعداء الله، وبشّرني بذلك جبرئيل في هذه الليلة. فقدم عليّعليه‌السلام بعد أيّام بالأسارى والغنائم».

وفي رواية عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: بينما أنا في الحجرة جالس إذ أتاني رجل فسأل عن العاديات ضبحا، فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثمّ تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم ويورون نارهم. فانفتل(١) عنّي وذهب إلى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهو تحت سقاية زمزم، فسأله عن العاديات ضبحا.

فقال: سألت عنها أحدا قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عبّاس، فقال: إنّها الخيل حين تغير في سبيل الله. قال: اذهب فادعه لي. فلمّا وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر، وما كان معنا إلّا فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات الخيل؟ بل( الْعادِياتِ ضَبْحاً ) الإبل، من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى. قال ابن عبّاس: فرغبت عن قولي، ورجعت إلى الّذي قاله عليّعليه‌السلام .

وعلى هذا ؛ فالمراد بالضبح الضبع. قال في الصحاح: «عن أبي عبيدة: ضبحت الخيل ضبحا، مثل: ضبعت، وهو السير»(٢) . ثمّ قال: «ضبعت الإبل تضبع ضبعا، إذا مدّت أضباعها في سيرها، وهي أعضادها. والناقة ضابع. والضبع: أن يهوي بحافره إلى عضده»(٣) .

والمراد بالموريات أنّ أصحابها يورون نارهم في عرفة وجمع ومنى.

__________________

(١) أي: انصرف. من: فتل وجهه عنهم، أي: صرفه.

(٢) الصحاح ١: ٣٨٥، و٣: ١٢٤٧.

(٣) الصحاح ١: ٣٨٥، و٣: ١٢٤٧.

٤٩٥

وقال عكرمة: هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلّم به.

وعن محمد بن كعب: هي النيران بجمع. وعنه أيضا: يريد بقوله:( فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً ) الإبل ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى. والسنّة أن لا ترتفع بركبانها حتّى تصيح. والإغارة سرعة السير. ومنه قولهم: أشرق(١) ثبير كيما نغير. وعنه أيضا المراد بقوله:( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) يريد جمع منى.

والتفسير الأوّل قول أكثر المفسّرين. ويحتمل أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كمالهنّ، الموريات بأفكارهنّ أنوار المعارف، والمغيرات على الهوى والعادات إذا ظهر لهنّ مثل أنوار القدس، فأثرن به شوقا، فوسطن به جمعا من جموع العلّيّين.

وعلى التقادير جواب القسم( إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) لكفور. من: كند النعمة كنودا. ومنه سمّي كندة، لأنّه كند أباه ففارقه. أو لعاص، بلغة كندة. أو لبخيل، بلغة بني مالك.

( وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ ) إنّ الإنسان على كنوده( لَشَهِيدٌ ) يشهد على نفسه، ولا يقدر أن يجحده، لظهور أمره عليه. وقيل: إنّ الله على كنوده لشهيد. فيكون وعيدا.

( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ ) لأجل حبّ المال، من قوله:( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) (٢) .( لَشَدِيدٌ ) لبخيل. يقال: فلان شديد ومتشدّد. أو لقويّ مبالغ فيه.

( أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ) بعث( ما فِي الْقُبُورِ ) من الموتى( وَحُصِّلَ ) جمع محصّلا في الصحف، أو ميّز( ما فِي الصُّدُورِ ) من خير أو شرّ. وتخصيصه لأنّه الأصل.( إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ ) وهو يوم القيامة( لَخَبِيرٌ ) عالم بما أعلنوا وما أسرّوا، فيجازيهم عليه. وإنّما قال «ما» ثمّ «بهم» لاختلاف شأنهم في الحالين.

__________________

(١) تبير: جبل بمكّة. والمعنى: ليشرق شعاع الشمس على ثبير حتّى نغير على الأعداء.

(٢) البقرة: ١٨٠.

٤٩٦

(١٠١)

سورة القارعة

مكّيّة. وهي إحدى عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ومن قرأها ثقّل الله بها ميزانه يوم القيامة».

عمرو بن ثابت عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ القارعة آمنه الله من فتنة الدجّال أن يؤمن به، ومن قيح جهنّم يوم القيامة».

واعلم أنّ هذه السورة اتّصلت بما قبلها اتّصال النظير بالنظير، لأنّ كلتيهما في ذكر القيامة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١) )

٤٩٧

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْقارِعَةُ ) اسم من أسماء القيامة، لأنّها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب.

ثمّ عظّم شأنها وهوّل أمرها بقوله:( مَا الْقارِعَةُ ) أيّ شيء القارعة( وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ) أي: لا تعلم حقيقة أمرها وكنه وصفها على التفصيل، وإنّما تعلمها على الإجمال. وقد سبق مزيد البحث فيها في الحاقّة(١) .

ثمّ بيّن سبحانه أنّها متى تكون، فقال:( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ ) نصب بمضمر دلّت عليه القارعة، أي: تقرع يوم يكون الناس( كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) في كثرتهم وذلّتهم وحقارتهم وانتشارهم واضطرابهم، لفزعهم عند البعث، فيختلفون في المقاصد على جهات مختلفة. وهذا مثل قوله:( كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ ) (٢) . وسمّي الفراش فراشا لتفرّشه وانتشاره على أنحاء مختلفة.

( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) كالصوف المصبغ ألوانا، لأنّها ألوان( الْمَنْفُوشِ ) المندوف، لتفرّق أجزائها وتطايرها في الجوّ.

( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) بأن ترجّحت مقادير أنواع حسناته. جمع موزون، وهو العمل الّذي له وزن وخطر عند الله. أو جمع ميزان. وثقلها: رجحانها.( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) ذات رضا، أي: مرضيّة.

( وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) بأن لم يكن له حسنة يعبأ بها، أو ترجّحت سيّئاته على حسناته. والقول في تحقيق الوزن والميزان والاختلاف في ذلك قد مرّ في الأعراف(٣) .( فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) فمأواه النار. وهي مأخوذة من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة: هوت أمّه، لأنّه إذا هوى ـ أي: سقط وهلك ـ فقد هوت أمّه ثكلا

__________________

(١) راجع ص ١٥٨.

(٢) القمر: ٧.

(٣) راجع ج ٢ ص ٤٩٦، ذيل الآية ٩ من سورة الأعراف.

٤٩٨

وحزنا. فكأنّه قيل: وأمّا من خفّت موازينه فقد هلك.

وقيل: هي من أسماء طبقة النار العميقة، لهويّ أهل النار فيها مهوى بعيدا، كما روي: «يهوى فيها سبعين خريفا» أي: فمأواه النار البعيدة العمق جدّا. وقيل للمأوى أمّ على التشبيه، لأنّ الأمّ مأوى الولد ومفزعه.

وعن قتادة:( فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنّم، لأنّه يطرح فيها منكوسا.

ثمّ قال تفخيما لأمرها:( وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ ) الضمير للهاوية. والهاء للسكت.

وقد أجيز إثباتها مع الوصل، لأنّها ثابتة في المصحف. وقرأ حمزة بغير الهاء حين الوصل.( نارٌ حامِيَةٌ ) ذات حمى شديدة الحرارة.

٤٩٩
٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579