زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579
المشاهدات: 48354
تحميل: 3443


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48354 / تحميل: 3443
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-09-4
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(١٠٢)

سورة التكاثر

مختلف فيها. وهي ثمان آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «من قرأها لم يحاسبه الله بالنعيم الّذي أنعم عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنّما قرأ ألف آية».

شعيب العقرقوفي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة «ألهاكم التكاثر» في فريضة كتب له ثواب وأجر مائة شهيد، ومن قرأها في نافلة كان له ثواب خمسين شهيدا، وصلّى معه في فريضته أربعون صفّا من الملائكة».

وعن درست عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ) عند النوم وقي فتنة القبر».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨) )

٥٠١

ولـمّا أخبر سبحانه في سورة القارعة عن صفة القيامة، ذكر في هذه السورة من شغلته عنها زخارف الدنيا والتفاخر بها، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * أَلْهاكُمُ ) شغلكم عن طاعة الله وعن ذكر الآخرة.

وأصله الصرف إلى اللهو. منقول من: لهى إذا غفل.( التَّكاثُرُ ) التباهي بكثرة الأموال والأولاد والتفاخر.

( حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ) أي: إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات. عبّر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكّما، فإنّ الزيارة الحقيقيّة لم تكن موجودة.

روي: أنّ بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة عدد الأقارب والعشائر، فكثّرهم بنو عبد مناف. فقال بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهليّة، فعادّونا بالأحياء والأموات، فكثّرهم بنو سهم.

وقيل: كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان عند تفاخرهم. والمعنى: ألهاكم ذلك التكاثر ـ وهو ممّا لا يعنيكم، ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم ـ عمّا يعنيكم من أمر الدين الّذي هو أهمّ وأعنى من كلّ مهمّ. وإنّما حذف الملهيّ عنه ـ وهو ما يعنيهم من أمر الدين ـ للتعظيم والمبالغة.

وقيل: معناه: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متّم وقبرتم، مضيّعين أعماركم في طلب الدنيا عمّا هو أهمّ لكم، وهو السعي لأخراكم. فيكون زيارة القبر عبارة عن الموت.

( كَلَّا ) ردع وتنبيه على أنّ العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همّه ومعظم سعيه للدنيا، فإنّ عاقبة ذلك وبال وحسرة و( سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) خطأ رأيكم إذا عاينتم ما قدّامكم من أهوال الآخرة. وهو إنذار ليخافوا وينتبهوا من غفلتهم.

٥٠٢

( ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تكرير لتأكيد الردع والإنذار عليهم. وفي «ثمّ» دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثمّ أقول لك لا تفعل. أو الأوّل عند الموت أو في القبر، والثاني عند النشور.

عن زرّ بن حبيش عن عليّعليه‌السلام قال: «ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى نزلت( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ) إلى قوله:( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) يريد في القبر( ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) بعد البعث».

ثمّ كرّر التنبيه لمزيد الإيقاظ عن رقدة الجهل والغفلة، فقال:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ) لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين ـ أي: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور الّتي وكلتم بعلمها هممكم ـ لشغلكم علم ذلك عن غيره، أو لفعلتم ما يوجب فوزكم ممّا لا يوصف ولا يكتنه، ولكنّكم ضلّال جهلة. فحذف الجواب للتفخيم. ولا يجوز أن يكون قوله:( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) جوابا، لأنّه محقّق الوقوع.

فهو جواب قسم محذوف، أكّد به الوعيد، وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه، وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه وتعظيمه. وقرأ ابن كثير والكسائي بضمّ التاء.

( ثُمَّ لَتَرَوُنَّها ) كرّره معطوفا بـ «ثمّ» تغليظا في التهديد وزيادة في التهويل. أو الأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها.( عَيْنَ الْيَقِينِ ) أي: الرؤية الّتي هي نفس اليقين، فإنّ علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين.

( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) الّذي ألهاكم. قيل: الخطاب مخصوص بالكفّار. وقيل: بكلّ من ألهاه دنياه عن دينه. والمراد بالنعيم ما يشغله عن العلوم المفروضة الدينيّة والأعمال الواجبة الشرعيّة، للقرينة، فإنّ من تمتّع بنعمة الله وأرزاقه الّتي لم يخلقها إلّا لعباده ـ لقوله:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ

٥٠٣

لِعِبادِهِ ) (١) ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) (٢) ـ وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضا بالشكر، فهو من ذاك بمعزل. وقيل: يعمّ كلّ متنعّم، إذ كلّ يسأل عن شكره.

وعن قتادة: إنّ الله سائل كلّ ذي نعمة عمّا أنعم عليه.

وعن عكرمة: النعيم: الصحّة والفراغ. ويعضده ما رواه ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة، والفراغ».

وعن عبد الله بن مسعود ومجاهد: هو الأمن والصحّة. وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام .

وقيل: يسأل عن كلّ نعيم إلّا ما خصّه الحديث، وهو قوله: «ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، أو كسرة يسدّ بها جوعته، أو بيت يكنّه من الحرّ والبرد».

وروي: أنّ بعض الصحابة أضاف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جماعة من أصحابه، فوجدوا عنده تمرا وماء باردا فأكلوا، فلمّا خرجوا قال: «هذا من النعيم الّذي تسألون عنه».

وروى العيّاشي بإسناده في حديث طويل قال: «سأل أبو حنيفة أبا عبد اللهعليه‌السلام عن هذه الآية، فقال له: ما النعيم عندك؟

قال: القوت من الطعام، والماء البارد.

فقال: لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتّى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها وشربة شربتها، ليطولنّ وقوفك بين يديه.

قال: فما النعيم؟

__________________

(١) الأعراف: ٣٢.

(٢) البقرة: ٥٧.

٥٠٤

قال: نحن أهل البيت النعيم الّذي أنعم الله بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء، وبنا هداهم الله للإسلام، وهي النعمة الّتي لا تنقطع، والله سائلهم عن حقّ النعيم الّذي أنعم به عليهم، وهو النبيّ وعترتهعليهم‌السلام ».

٥٠٥
٥٠٦

(١٠٣)

سورة العصر

مكّيّة. وهي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «ومن قرأها ختم الله له بالصبر، وكان مع أصحاب الحقّ يوم القيامة».

الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ والعصر في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه، ضاحكا سنّه، قريرة عينه، حتّى يدخل الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣) )

ولـمّا ختم الله السورة المتقدّمة بوعيد من ألهاه التكاثر، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، وهو أنّ الإنسان لفي خسر إلّا المؤمن الصالح، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْعَصْرِ ) أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله:( وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (١) . وهي صلاة العصر، لقولهعليه‌السلام : «من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله».

ولأنّ التكليف في أدائها أشقّ، لتهافت الناس في تجاراتهم

__________________

(١) البقرة: ٢٣٨.

٥٠٧

ومكاسبهم آخر النهار. وقالعليه‌السلام : «أفضل الأعمال أحمزها».

أو بوقت العشيّ، وهو الطرف الأخير من النهار، لـما في ذلك من الدلالة على وحدانيّة الله تعالى بإدبار النهار وإقبال الليل، وذهاب سلطان الشمس، كما أقسم بالضحى، وهو الطرف الأوّل من النهار، لـما فيه من حدوث سلطان الشمس وإقبال النهار، وأهل الملّتين يعظّمون هذين الوقتين.

أو بعصر النبوّة، أو بالدهر، لاشتماله على أصناف الأعاجيب، وللتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران.

( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) إنّ الناس لفي خسران في مساعيهم، وصرف أعمارهم في معايشهم. والتعريف للجنس. والتنكير للتعظيم والتكثير.

( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) فإنّهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا وفازوا بالحياة الأبديّة والسعادة السرمديّة، بخلاف من عداهم، فإنّهم بالتجارة الدنيويّة الفانية وقعوا في الخسارة والشقاوة.

( وَتَواصَوْا بِالْحَقِ ) بالأمر الثابت الّذي لا يصحّ إنكاره، من اعتقاد أو عمل عقلا ونقلا. وهو كتوحيد الله وطاعته، واتّباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة.

( وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) عن المعاصي، أو على الحقّ، أو على ما يبلو الله به عباده. وهذا من عطف الخاصّ على العامّ للمبالغة، إلّا أن يخصّ العمل بما يكون مقصورا على كماله. ولعلّه سبحانه إنّما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود، وإشعارا بأنّ ما عدا ما عدّ يؤدّي إلى خسر وخفض حظّ، أو تكرّما، فإنّ الإبهام في جانب الخسر كرم.

وفي هذه السورة أعظم دلالة على إعجاز القرآن. ألا ترى أنّها مع قلّة حروفها تدلّ على جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين علما وعملا. وفي وجوب التواصي بالحقّ والصبر إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى التوحيد والعدل، وأداء الواجبات، والاجتناب عن المقبّحات.

٥٠٨

(١٠٤)

سورة الهمزة

مكّيّة. وهي تسع آيات بالإجماع.

وفي حديث أبيّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من استهزأ بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ ) في فرائضه نفت عنه الفقر، وجلبت عليه الرزق، وتدفع عنه ميتة السوء».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩) )

ولـمّا أجمل سبحانه في سورة العصر أنّ الإنسان لفي خسر، فصّل في هذه السورة تلك الجملة، فقال:

٥٠٩

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) الهمز: الكسر، كالهزم.

ومنه: الهزيمة. واللمز: الطعن، كاللهز. يقال: لمزه ولهزه: طعنه. فشاعا في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم. وعن سعيد بن جبير وقتادة: الهمزة: المغتاب، واللمزة: الطعّان. وعن ابن زيد: الهمزة: الّذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة: الّذي يلمزهم بلسانه وبعينه. وعن الحسن وعطاء: الهمزة: الّذي يطعن في الوجه بالعيب، واللمزة: الّذي يغتاب عند الغيبة. وبناء فعلة على الاعتياد، فلا يقال: ضحكة ولعنة إلّا للمكثر المتعوّد.

ونزولها في الأخنس بن شريق، فإنّه كان مغتابا، وله أربعة آلاف دينار.

وقيل: عشرة آلاف. وقيل: في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقيل: في اميّة بن خلف. ويجوز أن يكون السبب خاصّا والوعيد عامّا، ليتناول كلّ من باشر ذلك القبيح.

( الَّذِي جَمَعَ مالاً ) من غير حلّه. بدل من «كلّ». أو ذمّ منصوب أو مرفوع.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد، للتكثير. وهو مطابق لقوله:( وَعَدَّدَهُ ) وعدّه مرّة بعد اخرى، وأحصاه مرارا لكثرة حبّه له. أو جعله عدّة للنوازل. أو جمع وعدّد ماله وقومه الّذين ينصرونه. من قولك: فلان ذو عدد وعدد، إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم. فطوّل حبّ المال والأهل أمله، ومنّاه الأماني البعيدة، حتّى أصبح لفرط غفلته وطول أمله( يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ) تركه خالدا في الدنيا لا يموت أبدا، فأحبّه كما يحبّ الخلود. فعمل عمل من لا يظنّ الموت، من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجرّ، وغرس الأشجار، وعمارة الأرض وغيرها. وفيه تعريض بأنّ المخلّد هو السعي للآخرة.

( كَلَّا ) ردع له عن حسبانه( لَيُنْبَذَنَ ) ليطرحنّ. من: النبذ بمعنى الطرح.

( فِي الْحُطَمَةِ ) في النار الّتي من شأنها أن تحطم كلّ ما يطرح فيها. ويقال للرجل

٥١٠

الأكول: إنّه لحطمة، لكسره المأكولات. وعن مقاتل: وهي تحطم العظام، وتأكل اللحوم، حتّى تهجم على القلوب.

ثمّ قال تفخيما لأمرها:( وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ) ما النار الّتي لها هذه الخاصّية( نارُ اللهِ ) تفسير لها( الْمُوقَدَةُ ) أي: النار الّتي أوقدها الله، وما أوقده لا يقدر غيره أن يطفئه( الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) أي: تعلو أوساط القلوب، وتشتمل عليها. وتخصيصها بالذكر لأنّ الفؤاد ألطف ما في البدن، وأشدّه تألّما بأدنى أذى يمسّه، فكيف إذا أطلعت عليه نار جهنّم واستولت عليه؟! أو لأنّها محلّ العقائد الزائغة، والنيّات الخبيثة، ومنشأ الأعمال القبيحة.

( إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) مطبقة. من: أوصدت الباب إذا أطبقته.

قال :

تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي

ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

( فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) أي: موثّقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر(١) الّتي تقطر فيها اللصوص. أو المعنى: توصد عليهم الأبواب، وتمدّد على الأبواب العمد، استيثاقا في استيثاق. وذلك لتأكيد يأسهم من الخروج، وتيقّنهم بحبس الأبد. وقرأ الكوفيّون غير حفص بضمّتين.

روى العيّاشي بإسناده عن محمد بن النعمان الأحول، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «إنّ الكفّار والمشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار، ويقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا، وما نحن وأنتم إلّا سواء. قال: فيأنف لهم الربّ تعالى، فيقول للملائكة: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ثمّ يقول للنبيّين: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ثمّ يقول للمؤمنين: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ويقول الله: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي، فيخرجون كما يخرج الفراش. قال: ثمّ قال أبو جعفرعليه‌السلام : ثمّ مدّت العمد، فأوصدت عليهم، وكان والله الخلود».

__________________

(١) المقاطر جمع المقطرة: الفلق. وهي: خشبة فيها خروق تدخل فيها أرجل المسجونين.

٥١١
٥١٢

(١٠٥)

سورة الفيل

مكّيّة. وهي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «من قرأها عافاه الله أيّام حياته من القذف والمسخ».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ في فرائضه( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ) شهد له يوم القيامة كلّ سهل وجبل ومدر بأنّه كان من المصلّين، وينادي يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم له أو عليه، أدخلوا عبدي الجنّة ولا تحاسبوه، فإنّه ممّن أحبّه وأحبّ عمله. ومن أكثر قراءة «لإيلاف قريش» بعثه الله يوم القيامة على مركب من مراكب الجنّة، حتّى يقعد على موائد النور يوم القيامة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥) )

ولـمّا ذكر سبحانه في سورة الهمزة ما أعدّ من العذاب لمن عاب الناس

٥١٣

واغتابهم وركن إلى الدنيا، بيّن في هذه السورة ما فعله بأصحاب الفيل من عذاب الاستئصال، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ) الخطاب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنّه رآها. وإنّما قال: «كيف» ولم يقل: «ما» لأنّ المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته، وعزّة نبيّه، وشرف رسوله، فإنّها من الإرهاصات(١) ، إذ روي عن أكثر العلماء أنّها وقعت في السنة الّتي ولد فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وعن عائشة: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكّة أعميين مقعدين يستطعمان.

وقصّتها: أنّ ملك اليمن قصد هدم الكعبة، وهو أبرهة بن الصباح الأشرم.

وقيل: كنيته أبو يكسوم. قال الواقدي: هو صاحب أصحمة النجاشي، جدّ النجاشي الّذي كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال محمّد بن إسحاق بن يسار: أقبل تبّع(٢) حتّى نزل على المدينة، فنزل بوادي قبا، فحفر بها بئرا تدعى اليوم بئر الملك. قال: وبالمدينة إذ ذاك يهود والأوس والخزرج، فقاتلوه، وجعلوا يقاتلونه بالنهار فإذا أمسى أرسلوا إليه بالضيافة. فاستحيا وأراد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس يقال له: أحيحة بن الجلاح، وخرج إليه من اليهود بنيامين القرظي.

فقال له احيحة: أيّها الملك نحن قومك.

وقال بنيامين: هذه بلدة لا تقدر على أن تدخلها ولو جهدت.

قال: ولم؟

قال: لأنّها منزل نبيّ من الأنبياء يبعثه الله من قريش.

__________________

(١) أي: من المبشّرات والمنبئات بمجيء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٢) التبّع: لقب ملوك اليمن.

٥١٤

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان من مكّة على ليلتين بعث الله عليه ريحا قصفت يديه ورجليه، وشنجت جسده، فأرسل إلى من معه من اليهود فقال: ويحكم ما هذا الّذي أصابني؟

قالوا: حدّثت نفسك بشيء؟

قال: نعم. وذكر ما أجمع عليه من هدم البيت وإصابة ما فيه.

قالوا: ذلك بيت الله الحرام، ومن أراده هلك.

قال: ويحكم وما المخرج ممّا دخلت فيه؟

قالوا: تحدّث نفسك بأن تطوف به، وتكسوه، وتهدي له. فحدّث نفسه بذلك، فأطلقه الله. ثمّ سار حتّى دخل مكّة، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وكسا البيت.

وذكر الحديث في نحره بمكّة، وإطعامه الناس، ثمّ رجوعه إلى اليمن، وقتله، وخروج ابنه إلى قيصر، واستغاثته به فيما فعل قومه بأبيه، وأنّ قيصر كتب له إلى النجاشيّ، وأنّ النجاشي بعث له ستّين ألفا، واستعمل عليهم روزبه حتّى قاتلوا حمير قتلة أبيه، ودخلوا صنعاء فملكوها وملكوا اليمن.

وكان في أصحاب روزبه رجل يقال له: أبرهة، وهو أبو يكسوم. فقال لروزبه: أنا أولى بهذا الأمر منك، وقتله مكرا، وأرضى النجاشيّ.

ثمّ إنّه بنى كنيسة بصنعاء، وسمّاه القلّيس، وجعل فيها قبابا من ذهب، وأمر أهل مملكته بالحجّ إليها، يضاهي(١) بذلك البيت الحرام، وأراد أن يصرف إليها الحاجّ. وإنّ رجلا من بني كنانة خرج حتّى قدم اليمن، فنظر إليها ثمّ قعد فيها ليلا، يعني: لحاجة الإنسان. فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها، فقال: من اجترأ عليّ بهذا، ونصرانيّتي لأهدمنّ ذلك البيت حتّى لا يحجّه حاجّ أبدا. وقيل: أجّجت رفقة

__________________

(١) أي: يشابه ويشاكل.

٥١٥

من العرب نارا، فحملتها الريح فأحرقتها. فحلف: ليهدمنّ الكعبة. فخرج ومعه فيل اسمه: محمود، وكان قويّا عظيما، واثنا عشر فيلا غيره. وقيل: ثمانية. وقيل: كان معه ألف فيل. وكان وحده، وأذّن في قومه بالخروج ومن اتّبعه من أهل اليمن، وكان أكثر من اتّبعه منهم عكّ والأشعرون وخثعم.

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حجّ بيته الّذي بناه، فتلقّاه رجل من الحمس(١) من بني كنانة فقتله.

فازداد بذلك حنقا، وحثّ السير والانطلاق، وطلب من أهل الطائف دليلا، فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له: نفيل، فخرج بهم يهديهم حتّى إذا كانوا بالمغمس نزلوه، وهو من مكّة على ستّة أميال، فبعثوا مقدّماتهم إلى مكّة. فخرجت قريش عباديد(٢) في رؤوس الجبال، وقالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء القوم. ولم يبق بمكّة غير عبد المطّلب بن هاشم، أقام على سقايته، وغير شيبة بن عثمان بن عبد الدار، أقام على حجابة البيت. فجعل عبد المطّلب يأخذ بعضادتي الباب ثمّ يقول :

لا همّ إنّ المرء

يمنع رحله فامنع حلالك(٣)

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم(٤) عدوا محالك

إن كنت تاركهم وكعبتنا

فأمر ما بدا لك

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

ثمّ إنّ مقدّمات أبرهة أصابت نعما لقريش، فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطّلب بن هاشم. فلمّا بلغه ذلك خرج حتّى انتهى إلى القوم، وكان حاجب

__________________

(١) الحمس جمع الأحمس، وهو المشتدّ الصلب في القتال، والشجاع.

(٢) أي: خرجوا متفرّقين. والعباديد الفرق من الناس.

(٣) أي: سكّان حرمك الّذين حلّوا فيه.

(٤) المحال: الكيد، المكر، الشدّة والقوّة.

٥١٦

أبرهة رجلا من الأشعرين، وكانت له بعبد المطّلب معرفة، فاستأذن له على الملك، وقال له: أيّها الملك جاءك سيّد قريش الّذي يطعم إنسها في الحيّ، ووحوشها في الجبل. فقال: ائذن له. وكان عبد المطّلب رجلا جسيما جميلا، فلمّا رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته، وكره أن يجلسه معه على سريره، فنزل من سريره فجلس على الأرض، وأجلس عبد المطّلب معه. ثمّ قال: ما حاجتك؟

قال: حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدّمتك.

فقال أبو يكسوم: والله لقد رأيتك فأعجبتني، ثمّ تكلّمت فزهدت فيك.

فقال: ولم أيّها الملك؟

قال: لأنّي جئت إلى بيت عزّكم ومنعتكم من العرب، وفضلكم في الناس، وعصمتكم وشرفكم عليهم، ودينكم الّذي تعبدون، فجئت لأكسره، وأصيبت لك مائتا بعير، فسألتك عن حاجتك، فكلّمتني في إبلك، ولم تطلب إليّ في بيتكم.

فقال له عبد المطّلب: أيّها الملك أنا أكلّمك في مالي، ولهذا البيت ربّ هو يمنعه، لست أنا منه في شيء.

فراع ذلك أبا يكسوم، وأمر بردّ إبل عبد المطّلب عليه. ثمّ رجع، وأمست ليلتهم تلك ليلة كالحة(١) نجومها، كأنّها تكلمهم(٢) ، لاقترابها منهم، فأحسّت نفوسهم بالعذاب. وخرج دليلهم حتّى دخل الحرم وتركهم. وقام الأشعرون وخثعم فكسروا رماحهم وسيوفهم، وبرئوا إلى الله أن يعينوا على هدم البيت، فباتوا كذلك أخبث ليلة. ثمّ أدلجوا(٣) بسحر، فبعثوا فيلهم وقدّموه يريدون أن يصبحوا بمكّة ،

__________________

(١) أي: مستترة في الغمامة، مطموسا ضوءها. وهو استعارة تمثيليّة مركّبة، يصف ليلتهم تلك وبؤسها بوجه كالح، أي عبوس، كأنّ نجوم الليل من شدّة الدواهي كالحة.

(٢) أي: تجرحهم. من: كلم الرجل: جرحه.

(٣) أدلج القوم: ساروا الليل كلّه، أو في آخره.

٥١٧

فوجّهوه إلى مكّة، فكانوا كلّما وجّهوه إلى الحرم برك(١) ، فضربوه فتمرّغ ولم يبرح.

ثمّ إنّهم أقبلوا على الفيل فقالوا: لك الله أن لا نوجّهك إلى مكّة. فانبعث، فوجّهوه إلى اليمن راجعا، فتوجّه يهرول، فعطفوه حين رأوه منطلقا حتّى إذا ردّوه إلى مكانه الأوّل ربض(٢) ، فلمّا رأوا ذلك عادوا إلى القسم. فلم يزالوا كذلك يعالجونه حتّى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة من جانب اليمن. فالتفت إليها عبد المطّلب وهو يدعو عليهم، فقال: والله إنّها لطير غريبة، ما هي بنجديّة ولا تهاميّة. فجعلت ترميهم، وكلّ طائر في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، وإذا رمت بذلك مضت وطلعت اخرى، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلّا خرقه، ولا عظم إلّا أوهاه وثقبه.

وثاب(٣) أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة، فجعل كلّما قدم أرضا انقطع له فيها إرب(٤) ، حتّى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شيء إلّا أباده. فلمّا قدمها تصدّع صدره وانشقّ بطنه، فهلك. ولم يصب من خثعم والأشعرين أحد.

قال: وكان عبد المطّلب يرتجز ويدعو على الحبشة، يقول :

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

إنّ عدوّ البيت من عاداكا

إنّهم لن يقهروا قواكا

قال: ولم تصب تلك الحجارة أحدا إلّا هلك.

وروى العيّاشي بإسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «أرسل

__________________

(١) برك البعير استناخ، وهو: أن يلصق صدره بالأرض. تمرّغ الحيوان: رشّ اللعاب من فيه.

وتمرّغ في التراب: تقلّب.

(٢) ربضت الدابّة: بمعنى: بركت الإبل.

(٣) ثاب ثوبا: عاد.

(٤) الإرب: العضو. وجمعه: آراب.

٥١٨

الله على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطّاف أو نحوه، في منقاره حجر مثل العدسة».

مخطّطة بحمرة كالجزع(١) الظفاري. وقيل: كانت أكبر من العدسة، وأصغر من الحمّصة.

وقال عبد الله بن مسعود: صاحت الطير فرمتهم بالحجارة، فبعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فما وقع منها حجر على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره، فلم يزل بهم حتّى أتت عليهم. قال: فأفلت الرجل منهم، فجعل يخبر الناس بالقصّة، فبينا هو يخبرهم إذ أبصر طيرا منها، فقال: هذا هو منها. قال: فحاذى فطرحه على رأسه فخرج من دبره.

وقال عبيد بن عمير الليثي: لـمّا أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل، بعث عليهم طيرا نشأت من البحر كأنّها الخطاطيف(٢) ، كلّ طير منها معه ثلاثة أحجار، ثمّ جاءت حتّى صفّت على رؤوسهم، ثمّ صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما من حجر وقع منها على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره، وإن وقع على شيء من جسده خرج من الجانب الآخر.

وعن عكرمة عن ابن عبّاس، قال: دعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سودا عليها الطين، فلمّا حاذت بهم رمتهم، فما بقي أحد منهم إلّا أخذته الحكّة، فكان لا يحكّ إنسان منه جلده إلّا تساقط لحمه. قال: وكانت الطير نشأت من قبل البحر، لها خراطيم الطيور ورؤوس السباع، لم تر قبل ذلك ولا بعده.

وعن ابن عبّاس: لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وعن الربيع: لها أنياب كأنياب السباع. وقيل: طير خضر لها مناقير صفر. وقيل: طير سود

__________________

(١) الجزع: خرز فيه سواد وبياض. وظفار مدينة ببلاد عمان.

(٢) الخطاطيف جمع الخطّاف: طائر يشبه السنونو، طويل الجناحين، قصير الرجلين، أسود اللون.

٥١٩

بحريّة، تحمل في مناقيرها وأكفّها الحجارة.

وروي: أنّ عبد المطّلب قبل ظهور الطيور عرض على أبرهة ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى، فلمّا استأصلوا بحجارة الطيور احتوت أهل مكّة على أموالهم، وجمع عبد المطّلب من جواهرهم وذهبهم الجورّ(١) ـ أي: المال الكثير استعارة ـ وكان سبب يساره.

وعن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن الطير، فقال: حمام مكّة منها. وقيل: جاءت عشيّة ثمّ صبّحتهم.

وعن عكرمة: من أصابته جدّرته. وهو أوّل جدريّ ظهر.

وحكى الله سبحانه هذه القصّة إجمالا، تنبيها لقريش، وتهديدا لهم، فقال:( أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ ) في تعطيل الكعبة وتخريبها( فِي تَضْلِيلٍ ) في تضييع وإبطال.

يقال: ضلّل كيده إذا جعله ضالّا ضائعا. ونحوه قوله تعالى:( وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) (٢) . وقيل لامرئ القيس: الملك الضليل، لأنّه ضلّل ملك أبيه، أي: ضيّعه.

يعني: أنّهم كادوا البيت أوّلا ببناء القلّيس، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاجّ إليه، فضلّل كيدهم بإيقاع الحريق فيه، وكادوه ثانيا بإرادة هدمه، فضلّل بإرسال الطير عليهم، كما قال :

( وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ ) جماعات. جمع إبالة، وهي الحزمة الكبيرة. شبّهت بها الجماعة من الطير في تضامّها. وقيل: لا واحد لها، كعباديد(٣) وشماطيط.

( تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) من طين مطبوخ متحجّر، كما يطبخ الآجرّ. معرّب سنك كل. وقيل: من السّجل، وهو الدلو الكبير. أو الإسجال، وهو الإرسال.

__________________

(١) الجورّ: الكثير الّذي جاوز الحدّ والعادة.

(٢) غافر: ٢٥.

(٣) العباديد والشماطيط: الفرق من الناس.

٥٢٠