زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير6%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51566 / تحميل: 4104
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٩-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

(١٠٢)

سورة التكاثر

مختلف فيها. وهي ثمان آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «من قرأها لم يحاسبه الله بالنعيم الّذي أنعم عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنّما قرأ ألف آية».

شعيب العقرقوفي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة «ألهاكم التكاثر» في فريضة كتب له ثواب وأجر مائة شهيد، ومن قرأها في نافلة كان له ثواب خمسين شهيدا، وصلّى معه في فريضته أربعون صفّا من الملائكة».

وعن درست عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ) عند النوم وقي فتنة القبر».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨) )

٥٠١

ولـمّا أخبر سبحانه في سورة القارعة عن صفة القيامة، ذكر في هذه السورة من شغلته عنها زخارف الدنيا والتفاخر بها، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * أَلْهاكُمُ ) شغلكم عن طاعة الله وعن ذكر الآخرة.

وأصله الصرف إلى اللهو. منقول من: لهى إذا غفل.( التَّكاثُرُ ) التباهي بكثرة الأموال والأولاد والتفاخر.

( حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ) أي: إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات. عبّر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكّما، فإنّ الزيارة الحقيقيّة لم تكن موجودة.

روي: أنّ بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة عدد الأقارب والعشائر، فكثّرهم بنو عبد مناف. فقال بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهليّة، فعادّونا بالأحياء والأموات، فكثّرهم بنو سهم.

وقيل: كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان عند تفاخرهم. والمعنى: ألهاكم ذلك التكاثر ـ وهو ممّا لا يعنيكم، ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم ـ عمّا يعنيكم من أمر الدين الّذي هو أهمّ وأعنى من كلّ مهمّ. وإنّما حذف الملهيّ عنه ـ وهو ما يعنيهم من أمر الدين ـ للتعظيم والمبالغة.

وقيل: معناه: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متّم وقبرتم، مضيّعين أعماركم في طلب الدنيا عمّا هو أهمّ لكم، وهو السعي لأخراكم. فيكون زيارة القبر عبارة عن الموت.

( كَلَّا ) ردع وتنبيه على أنّ العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همّه ومعظم سعيه للدنيا، فإنّ عاقبة ذلك وبال وحسرة و( سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) خطأ رأيكم إذا عاينتم ما قدّامكم من أهوال الآخرة. وهو إنذار ليخافوا وينتبهوا من غفلتهم.

٥٠٢

( ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تكرير لتأكيد الردع والإنذار عليهم. وفي «ثمّ» دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثمّ أقول لك لا تفعل. أو الأوّل عند الموت أو في القبر، والثاني عند النشور.

عن زرّ بن حبيش عن عليّعليه‌السلام قال: «ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى نزلت( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ) إلى قوله:( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) يريد في القبر( ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) بعد البعث».

ثمّ كرّر التنبيه لمزيد الإيقاظ عن رقدة الجهل والغفلة، فقال:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ) لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين ـ أي: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور الّتي وكلتم بعلمها هممكم ـ لشغلكم علم ذلك عن غيره، أو لفعلتم ما يوجب فوزكم ممّا لا يوصف ولا يكتنه، ولكنّكم ضلّال جهلة. فحذف الجواب للتفخيم. ولا يجوز أن يكون قوله:( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) جوابا، لأنّه محقّق الوقوع.

فهو جواب قسم محذوف، أكّد به الوعيد، وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه، وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه وتعظيمه. وقرأ ابن كثير والكسائي بضمّ التاء.

( ثُمَّ لَتَرَوُنَّها ) كرّره معطوفا بـ «ثمّ» تغليظا في التهديد وزيادة في التهويل. أو الأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها.( عَيْنَ الْيَقِينِ ) أي: الرؤية الّتي هي نفس اليقين، فإنّ علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين.

( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) الّذي ألهاكم. قيل: الخطاب مخصوص بالكفّار. وقيل: بكلّ من ألهاه دنياه عن دينه. والمراد بالنعيم ما يشغله عن العلوم المفروضة الدينيّة والأعمال الواجبة الشرعيّة، للقرينة، فإنّ من تمتّع بنعمة الله وأرزاقه الّتي لم يخلقها إلّا لعباده ـ لقوله:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ

٥٠٣

لِعِبادِهِ ) (١) ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) (٢) ـ وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضا بالشكر، فهو من ذاك بمعزل. وقيل: يعمّ كلّ متنعّم، إذ كلّ يسأل عن شكره.

وعن قتادة: إنّ الله سائل كلّ ذي نعمة عمّا أنعم عليه.

وعن عكرمة: النعيم: الصحّة والفراغ. ويعضده ما رواه ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة، والفراغ».

وعن عبد الله بن مسعود ومجاهد: هو الأمن والصحّة. وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام .

وقيل: يسأل عن كلّ نعيم إلّا ما خصّه الحديث، وهو قوله: «ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، أو كسرة يسدّ بها جوعته، أو بيت يكنّه من الحرّ والبرد».

وروي: أنّ بعض الصحابة أضاف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جماعة من أصحابه، فوجدوا عنده تمرا وماء باردا فأكلوا، فلمّا خرجوا قال: «هذا من النعيم الّذي تسألون عنه».

وروى العيّاشي بإسناده في حديث طويل قال: «سأل أبو حنيفة أبا عبد اللهعليه‌السلام عن هذه الآية، فقال له: ما النعيم عندك؟

قال: القوت من الطعام، والماء البارد.

فقال: لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتّى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها وشربة شربتها، ليطولنّ وقوفك بين يديه.

قال: فما النعيم؟

__________________

(١) الأعراف: ٣٢.

(٢) البقرة: ٥٧.

٥٠٤

قال: نحن أهل البيت النعيم الّذي أنعم الله بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء، وبنا هداهم الله للإسلام، وهي النعمة الّتي لا تنقطع، والله سائلهم عن حقّ النعيم الّذي أنعم به عليهم، وهو النبيّ وعترتهعليهم‌السلام ».

٥٠٥
٥٠٦

(١٠٣)

سورة العصر

مكّيّة. وهي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «ومن قرأها ختم الله له بالصبر، وكان مع أصحاب الحقّ يوم القيامة».

الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ والعصر في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه، ضاحكا سنّه، قريرة عينه، حتّى يدخل الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣) )

ولـمّا ختم الله السورة المتقدّمة بوعيد من ألهاه التكاثر، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، وهو أنّ الإنسان لفي خسر إلّا المؤمن الصالح، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْعَصْرِ ) أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله:( وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (١) . وهي صلاة العصر، لقولهعليه‌السلام : «من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله».

ولأنّ التكليف في أدائها أشقّ، لتهافت الناس في تجاراتهم

__________________

(١) البقرة: ٢٣٨.

٥٠٧

ومكاسبهم آخر النهار. وقالعليه‌السلام : «أفضل الأعمال أحمزها».

أو بوقت العشيّ، وهو الطرف الأخير من النهار، لـما في ذلك من الدلالة على وحدانيّة الله تعالى بإدبار النهار وإقبال الليل، وذهاب سلطان الشمس، كما أقسم بالضحى، وهو الطرف الأوّل من النهار، لـما فيه من حدوث سلطان الشمس وإقبال النهار، وأهل الملّتين يعظّمون هذين الوقتين.

أو بعصر النبوّة، أو بالدهر، لاشتماله على أصناف الأعاجيب، وللتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران.

( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) إنّ الناس لفي خسران في مساعيهم، وصرف أعمارهم في معايشهم. والتعريف للجنس. والتنكير للتعظيم والتكثير.

( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) فإنّهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا وفازوا بالحياة الأبديّة والسعادة السرمديّة، بخلاف من عداهم، فإنّهم بالتجارة الدنيويّة الفانية وقعوا في الخسارة والشقاوة.

( وَتَواصَوْا بِالْحَقِ ) بالأمر الثابت الّذي لا يصحّ إنكاره، من اعتقاد أو عمل عقلا ونقلا. وهو كتوحيد الله وطاعته، واتّباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة.

( وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) عن المعاصي، أو على الحقّ، أو على ما يبلو الله به عباده. وهذا من عطف الخاصّ على العامّ للمبالغة، إلّا أن يخصّ العمل بما يكون مقصورا على كماله. ولعلّه سبحانه إنّما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود، وإشعارا بأنّ ما عدا ما عدّ يؤدّي إلى خسر وخفض حظّ، أو تكرّما، فإنّ الإبهام في جانب الخسر كرم.

وفي هذه السورة أعظم دلالة على إعجاز القرآن. ألا ترى أنّها مع قلّة حروفها تدلّ على جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين علما وعملا. وفي وجوب التواصي بالحقّ والصبر إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى التوحيد والعدل، وأداء الواجبات، والاجتناب عن المقبّحات.

٥٠٨

(١٠٤)

سورة الهمزة

مكّيّة. وهي تسع آيات بالإجماع.

وفي حديث أبيّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من استهزأ بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ ) في فرائضه نفت عنه الفقر، وجلبت عليه الرزق، وتدفع عنه ميتة السوء».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩) )

ولـمّا أجمل سبحانه في سورة العصر أنّ الإنسان لفي خسر، فصّل في هذه السورة تلك الجملة، فقال:

٥٠٩

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) الهمز: الكسر، كالهزم.

ومنه: الهزيمة. واللمز: الطعن، كاللهز. يقال: لمزه ولهزه: طعنه. فشاعا في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم. وعن سعيد بن جبير وقتادة: الهمزة: المغتاب، واللمزة: الطعّان. وعن ابن زيد: الهمزة: الّذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة: الّذي يلمزهم بلسانه وبعينه. وعن الحسن وعطاء: الهمزة: الّذي يطعن في الوجه بالعيب، واللمزة: الّذي يغتاب عند الغيبة. وبناء فعلة على الاعتياد، فلا يقال: ضحكة ولعنة إلّا للمكثر المتعوّد.

ونزولها في الأخنس بن شريق، فإنّه كان مغتابا، وله أربعة آلاف دينار.

وقيل: عشرة آلاف. وقيل: في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقيل: في اميّة بن خلف. ويجوز أن يكون السبب خاصّا والوعيد عامّا، ليتناول كلّ من باشر ذلك القبيح.

( الَّذِي جَمَعَ مالاً ) من غير حلّه. بدل من «كلّ». أو ذمّ منصوب أو مرفوع.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد، للتكثير. وهو مطابق لقوله:( وَعَدَّدَهُ ) وعدّه مرّة بعد اخرى، وأحصاه مرارا لكثرة حبّه له. أو جعله عدّة للنوازل. أو جمع وعدّد ماله وقومه الّذين ينصرونه. من قولك: فلان ذو عدد وعدد، إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم. فطوّل حبّ المال والأهل أمله، ومنّاه الأماني البعيدة، حتّى أصبح لفرط غفلته وطول أمله( يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ) تركه خالدا في الدنيا لا يموت أبدا، فأحبّه كما يحبّ الخلود. فعمل عمل من لا يظنّ الموت، من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجرّ، وغرس الأشجار، وعمارة الأرض وغيرها. وفيه تعريض بأنّ المخلّد هو السعي للآخرة.

( كَلَّا ) ردع له عن حسبانه( لَيُنْبَذَنَ ) ليطرحنّ. من: النبذ بمعنى الطرح.

( فِي الْحُطَمَةِ ) في النار الّتي من شأنها أن تحطم كلّ ما يطرح فيها. ويقال للرجل

٥١٠

الأكول: إنّه لحطمة، لكسره المأكولات. وعن مقاتل: وهي تحطم العظام، وتأكل اللحوم، حتّى تهجم على القلوب.

ثمّ قال تفخيما لأمرها:( وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ) ما النار الّتي لها هذه الخاصّية( نارُ اللهِ ) تفسير لها( الْمُوقَدَةُ ) أي: النار الّتي أوقدها الله، وما أوقده لا يقدر غيره أن يطفئه( الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) أي: تعلو أوساط القلوب، وتشتمل عليها. وتخصيصها بالذكر لأنّ الفؤاد ألطف ما في البدن، وأشدّه تألّما بأدنى أذى يمسّه، فكيف إذا أطلعت عليه نار جهنّم واستولت عليه؟! أو لأنّها محلّ العقائد الزائغة، والنيّات الخبيثة، ومنشأ الأعمال القبيحة.

( إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) مطبقة. من: أوصدت الباب إذا أطبقته.

قال :

تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي

ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

( فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) أي: موثّقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر(١) الّتي تقطر فيها اللصوص. أو المعنى: توصد عليهم الأبواب، وتمدّد على الأبواب العمد، استيثاقا في استيثاق. وذلك لتأكيد يأسهم من الخروج، وتيقّنهم بحبس الأبد. وقرأ الكوفيّون غير حفص بضمّتين.

روى العيّاشي بإسناده عن محمد بن النعمان الأحول، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «إنّ الكفّار والمشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار، ويقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا، وما نحن وأنتم إلّا سواء. قال: فيأنف لهم الربّ تعالى، فيقول للملائكة: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ثمّ يقول للنبيّين: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ثمّ يقول للمؤمنين: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ويقول الله: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي، فيخرجون كما يخرج الفراش. قال: ثمّ قال أبو جعفرعليه‌السلام : ثمّ مدّت العمد، فأوصدت عليهم، وكان والله الخلود».

__________________

(١) المقاطر جمع المقطرة: الفلق. وهي: خشبة فيها خروق تدخل فيها أرجل المسجونين.

٥١١
٥١٢

(١٠٥)

سورة الفيل

مكّيّة. وهي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «من قرأها عافاه الله أيّام حياته من القذف والمسخ».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ في فرائضه( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ) شهد له يوم القيامة كلّ سهل وجبل ومدر بأنّه كان من المصلّين، وينادي يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم له أو عليه، أدخلوا عبدي الجنّة ولا تحاسبوه، فإنّه ممّن أحبّه وأحبّ عمله. ومن أكثر قراءة «لإيلاف قريش» بعثه الله يوم القيامة على مركب من مراكب الجنّة، حتّى يقعد على موائد النور يوم القيامة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥) )

ولـمّا ذكر سبحانه في سورة الهمزة ما أعدّ من العذاب لمن عاب الناس

٥١٣

واغتابهم وركن إلى الدنيا، بيّن في هذه السورة ما فعله بأصحاب الفيل من عذاب الاستئصال، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ) الخطاب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنّه رآها. وإنّما قال: «كيف» ولم يقل: «ما» لأنّ المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته، وعزّة نبيّه، وشرف رسوله، فإنّها من الإرهاصات(١) ، إذ روي عن أكثر العلماء أنّها وقعت في السنة الّتي ولد فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وعن عائشة: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكّة أعميين مقعدين يستطعمان.

وقصّتها: أنّ ملك اليمن قصد هدم الكعبة، وهو أبرهة بن الصباح الأشرم.

وقيل: كنيته أبو يكسوم. قال الواقدي: هو صاحب أصحمة النجاشي، جدّ النجاشي الّذي كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال محمّد بن إسحاق بن يسار: أقبل تبّع(٢) حتّى نزل على المدينة، فنزل بوادي قبا، فحفر بها بئرا تدعى اليوم بئر الملك. قال: وبالمدينة إذ ذاك يهود والأوس والخزرج، فقاتلوه، وجعلوا يقاتلونه بالنهار فإذا أمسى أرسلوا إليه بالضيافة. فاستحيا وأراد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس يقال له: أحيحة بن الجلاح، وخرج إليه من اليهود بنيامين القرظي.

فقال له احيحة: أيّها الملك نحن قومك.

وقال بنيامين: هذه بلدة لا تقدر على أن تدخلها ولو جهدت.

قال: ولم؟

قال: لأنّها منزل نبيّ من الأنبياء يبعثه الله من قريش.

__________________

(١) أي: من المبشّرات والمنبئات بمجيء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٢) التبّع: لقب ملوك اليمن.

٥١٤

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان من مكّة على ليلتين بعث الله عليه ريحا قصفت يديه ورجليه، وشنجت جسده، فأرسل إلى من معه من اليهود فقال: ويحكم ما هذا الّذي أصابني؟

قالوا: حدّثت نفسك بشيء؟

قال: نعم. وذكر ما أجمع عليه من هدم البيت وإصابة ما فيه.

قالوا: ذلك بيت الله الحرام، ومن أراده هلك.

قال: ويحكم وما المخرج ممّا دخلت فيه؟

قالوا: تحدّث نفسك بأن تطوف به، وتكسوه، وتهدي له. فحدّث نفسه بذلك، فأطلقه الله. ثمّ سار حتّى دخل مكّة، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وكسا البيت.

وذكر الحديث في نحره بمكّة، وإطعامه الناس، ثمّ رجوعه إلى اليمن، وقتله، وخروج ابنه إلى قيصر، واستغاثته به فيما فعل قومه بأبيه، وأنّ قيصر كتب له إلى النجاشيّ، وأنّ النجاشي بعث له ستّين ألفا، واستعمل عليهم روزبه حتّى قاتلوا حمير قتلة أبيه، ودخلوا صنعاء فملكوها وملكوا اليمن.

وكان في أصحاب روزبه رجل يقال له: أبرهة، وهو أبو يكسوم. فقال لروزبه: أنا أولى بهذا الأمر منك، وقتله مكرا، وأرضى النجاشيّ.

ثمّ إنّه بنى كنيسة بصنعاء، وسمّاه القلّيس، وجعل فيها قبابا من ذهب، وأمر أهل مملكته بالحجّ إليها، يضاهي(١) بذلك البيت الحرام، وأراد أن يصرف إليها الحاجّ. وإنّ رجلا من بني كنانة خرج حتّى قدم اليمن، فنظر إليها ثمّ قعد فيها ليلا، يعني: لحاجة الإنسان. فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها، فقال: من اجترأ عليّ بهذا، ونصرانيّتي لأهدمنّ ذلك البيت حتّى لا يحجّه حاجّ أبدا. وقيل: أجّجت رفقة

__________________

(١) أي: يشابه ويشاكل.

٥١٥

من العرب نارا، فحملتها الريح فأحرقتها. فحلف: ليهدمنّ الكعبة. فخرج ومعه فيل اسمه: محمود، وكان قويّا عظيما، واثنا عشر فيلا غيره. وقيل: ثمانية. وقيل: كان معه ألف فيل. وكان وحده، وأذّن في قومه بالخروج ومن اتّبعه من أهل اليمن، وكان أكثر من اتّبعه منهم عكّ والأشعرون وخثعم.

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حجّ بيته الّذي بناه، فتلقّاه رجل من الحمس(١) من بني كنانة فقتله.

فازداد بذلك حنقا، وحثّ السير والانطلاق، وطلب من أهل الطائف دليلا، فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له: نفيل، فخرج بهم يهديهم حتّى إذا كانوا بالمغمس نزلوه، وهو من مكّة على ستّة أميال، فبعثوا مقدّماتهم إلى مكّة. فخرجت قريش عباديد(٢) في رؤوس الجبال، وقالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء القوم. ولم يبق بمكّة غير عبد المطّلب بن هاشم، أقام على سقايته، وغير شيبة بن عثمان بن عبد الدار، أقام على حجابة البيت. فجعل عبد المطّلب يأخذ بعضادتي الباب ثمّ يقول :

لا همّ إنّ المرء

يمنع رحله فامنع حلالك(٣)

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم(٤) عدوا محالك

إن كنت تاركهم وكعبتنا

فأمر ما بدا لك

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

ثمّ إنّ مقدّمات أبرهة أصابت نعما لقريش، فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطّلب بن هاشم. فلمّا بلغه ذلك خرج حتّى انتهى إلى القوم، وكان حاجب

__________________

(١) الحمس جمع الأحمس، وهو المشتدّ الصلب في القتال، والشجاع.

(٢) أي: خرجوا متفرّقين. والعباديد الفرق من الناس.

(٣) أي: سكّان حرمك الّذين حلّوا فيه.

(٤) المحال: الكيد، المكر، الشدّة والقوّة.

٥١٦

أبرهة رجلا من الأشعرين، وكانت له بعبد المطّلب معرفة، فاستأذن له على الملك، وقال له: أيّها الملك جاءك سيّد قريش الّذي يطعم إنسها في الحيّ، ووحوشها في الجبل. فقال: ائذن له. وكان عبد المطّلب رجلا جسيما جميلا، فلمّا رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته، وكره أن يجلسه معه على سريره، فنزل من سريره فجلس على الأرض، وأجلس عبد المطّلب معه. ثمّ قال: ما حاجتك؟

قال: حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدّمتك.

فقال أبو يكسوم: والله لقد رأيتك فأعجبتني، ثمّ تكلّمت فزهدت فيك.

فقال: ولم أيّها الملك؟

قال: لأنّي جئت إلى بيت عزّكم ومنعتكم من العرب، وفضلكم في الناس، وعصمتكم وشرفكم عليهم، ودينكم الّذي تعبدون، فجئت لأكسره، وأصيبت لك مائتا بعير، فسألتك عن حاجتك، فكلّمتني في إبلك، ولم تطلب إليّ في بيتكم.

فقال له عبد المطّلب: أيّها الملك أنا أكلّمك في مالي، ولهذا البيت ربّ هو يمنعه، لست أنا منه في شيء.

فراع ذلك أبا يكسوم، وأمر بردّ إبل عبد المطّلب عليه. ثمّ رجع، وأمست ليلتهم تلك ليلة كالحة(١) نجومها، كأنّها تكلمهم(٢) ، لاقترابها منهم، فأحسّت نفوسهم بالعذاب. وخرج دليلهم حتّى دخل الحرم وتركهم. وقام الأشعرون وخثعم فكسروا رماحهم وسيوفهم، وبرئوا إلى الله أن يعينوا على هدم البيت، فباتوا كذلك أخبث ليلة. ثمّ أدلجوا(٣) بسحر، فبعثوا فيلهم وقدّموه يريدون أن يصبحوا بمكّة ،

__________________

(١) أي: مستترة في الغمامة، مطموسا ضوءها. وهو استعارة تمثيليّة مركّبة، يصف ليلتهم تلك وبؤسها بوجه كالح، أي عبوس، كأنّ نجوم الليل من شدّة الدواهي كالحة.

(٢) أي: تجرحهم. من: كلم الرجل: جرحه.

(٣) أدلج القوم: ساروا الليل كلّه، أو في آخره.

٥١٧

فوجّهوه إلى مكّة، فكانوا كلّما وجّهوه إلى الحرم برك(١) ، فضربوه فتمرّغ ولم يبرح.

ثمّ إنّهم أقبلوا على الفيل فقالوا: لك الله أن لا نوجّهك إلى مكّة. فانبعث، فوجّهوه إلى اليمن راجعا، فتوجّه يهرول، فعطفوه حين رأوه منطلقا حتّى إذا ردّوه إلى مكانه الأوّل ربض(٢) ، فلمّا رأوا ذلك عادوا إلى القسم. فلم يزالوا كذلك يعالجونه حتّى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة من جانب اليمن. فالتفت إليها عبد المطّلب وهو يدعو عليهم، فقال: والله إنّها لطير غريبة، ما هي بنجديّة ولا تهاميّة. فجعلت ترميهم، وكلّ طائر في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، وإذا رمت بذلك مضت وطلعت اخرى، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلّا خرقه، ولا عظم إلّا أوهاه وثقبه.

وثاب(٣) أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة، فجعل كلّما قدم أرضا انقطع له فيها إرب(٤) ، حتّى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شيء إلّا أباده. فلمّا قدمها تصدّع صدره وانشقّ بطنه، فهلك. ولم يصب من خثعم والأشعرين أحد.

قال: وكان عبد المطّلب يرتجز ويدعو على الحبشة، يقول :

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

إنّ عدوّ البيت من عاداكا

إنّهم لن يقهروا قواكا

قال: ولم تصب تلك الحجارة أحدا إلّا هلك.

وروى العيّاشي بإسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «أرسل

__________________

(١) برك البعير استناخ، وهو: أن يلصق صدره بالأرض. تمرّغ الحيوان: رشّ اللعاب من فيه.

وتمرّغ في التراب: تقلّب.

(٢) ربضت الدابّة: بمعنى: بركت الإبل.

(٣) ثاب ثوبا: عاد.

(٤) الإرب: العضو. وجمعه: آراب.

٥١٨

الله على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطّاف أو نحوه، في منقاره حجر مثل العدسة».

مخطّطة بحمرة كالجزع(١) الظفاري. وقيل: كانت أكبر من العدسة، وأصغر من الحمّصة.

وقال عبد الله بن مسعود: صاحت الطير فرمتهم بالحجارة، فبعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فما وقع منها حجر على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره، فلم يزل بهم حتّى أتت عليهم. قال: فأفلت الرجل منهم، فجعل يخبر الناس بالقصّة، فبينا هو يخبرهم إذ أبصر طيرا منها، فقال: هذا هو منها. قال: فحاذى فطرحه على رأسه فخرج من دبره.

وقال عبيد بن عمير الليثي: لـمّا أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل، بعث عليهم طيرا نشأت من البحر كأنّها الخطاطيف(٢) ، كلّ طير منها معه ثلاثة أحجار، ثمّ جاءت حتّى صفّت على رؤوسهم، ثمّ صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما من حجر وقع منها على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره، وإن وقع على شيء من جسده خرج من الجانب الآخر.

وعن عكرمة عن ابن عبّاس، قال: دعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سودا عليها الطين، فلمّا حاذت بهم رمتهم، فما بقي أحد منهم إلّا أخذته الحكّة، فكان لا يحكّ إنسان منه جلده إلّا تساقط لحمه. قال: وكانت الطير نشأت من قبل البحر، لها خراطيم الطيور ورؤوس السباع، لم تر قبل ذلك ولا بعده.

وعن ابن عبّاس: لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وعن الربيع: لها أنياب كأنياب السباع. وقيل: طير خضر لها مناقير صفر. وقيل: طير سود

__________________

(١) الجزع: خرز فيه سواد وبياض. وظفار مدينة ببلاد عمان.

(٢) الخطاطيف جمع الخطّاف: طائر يشبه السنونو، طويل الجناحين، قصير الرجلين، أسود اللون.

٥١٩

بحريّة، تحمل في مناقيرها وأكفّها الحجارة.

وروي: أنّ عبد المطّلب قبل ظهور الطيور عرض على أبرهة ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى، فلمّا استأصلوا بحجارة الطيور احتوت أهل مكّة على أموالهم، وجمع عبد المطّلب من جواهرهم وذهبهم الجورّ(١) ـ أي: المال الكثير استعارة ـ وكان سبب يساره.

وعن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن الطير، فقال: حمام مكّة منها. وقيل: جاءت عشيّة ثمّ صبّحتهم.

وعن عكرمة: من أصابته جدّرته. وهو أوّل جدريّ ظهر.

وحكى الله سبحانه هذه القصّة إجمالا، تنبيها لقريش، وتهديدا لهم، فقال:( أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ ) في تعطيل الكعبة وتخريبها( فِي تَضْلِيلٍ ) في تضييع وإبطال.

يقال: ضلّل كيده إذا جعله ضالّا ضائعا. ونحوه قوله تعالى:( وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) (٢) . وقيل لامرئ القيس: الملك الضليل، لأنّه ضلّل ملك أبيه، أي: ضيّعه.

يعني: أنّهم كادوا البيت أوّلا ببناء القلّيس، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاجّ إليه، فضلّل كيدهم بإيقاع الحريق فيه، وكادوه ثانيا بإرادة هدمه، فضلّل بإرسال الطير عليهم، كما قال :

( وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ ) جماعات. جمع إبالة، وهي الحزمة الكبيرة. شبّهت بها الجماعة من الطير في تضامّها. وقيل: لا واحد لها، كعباديد(٣) وشماطيط.

( تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) من طين مطبوخ متحجّر، كما يطبخ الآجرّ. معرّب سنك كل. وقيل: من السّجل، وهو الدلو الكبير. أو الإسجال، وهو الإرسال.

__________________

(١) الجورّ: الكثير الّذي جاوز الحدّ والعادة.

(٢) غافر: ٢٥.

(٣) العباديد والشماطيط: الفرق من الناس.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579