زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير10%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51564 / تحميل: 4104
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٩-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

(١٠٢)

سورة التكاثر

مختلف فيها. وهي ثمان آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «من قرأها لم يحاسبه الله بالنعيم الّذي أنعم عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنّما قرأ ألف آية».

شعيب العقرقوفي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة «ألهاكم التكاثر» في فريضة كتب له ثواب وأجر مائة شهيد، ومن قرأها في نافلة كان له ثواب خمسين شهيدا، وصلّى معه في فريضته أربعون صفّا من الملائكة».

وعن درست عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ) عند النوم وقي فتنة القبر».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨) )

٥٠١

ولـمّا أخبر سبحانه في سورة القارعة عن صفة القيامة، ذكر في هذه السورة من شغلته عنها زخارف الدنيا والتفاخر بها، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * أَلْهاكُمُ ) شغلكم عن طاعة الله وعن ذكر الآخرة.

وأصله الصرف إلى اللهو. منقول من: لهى إذا غفل.( التَّكاثُرُ ) التباهي بكثرة الأموال والأولاد والتفاخر.

( حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ) أي: إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات. عبّر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكّما، فإنّ الزيارة الحقيقيّة لم تكن موجودة.

روي: أنّ بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة عدد الأقارب والعشائر، فكثّرهم بنو عبد مناف. فقال بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهليّة، فعادّونا بالأحياء والأموات، فكثّرهم بنو سهم.

وقيل: كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان عند تفاخرهم. والمعنى: ألهاكم ذلك التكاثر ـ وهو ممّا لا يعنيكم، ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم ـ عمّا يعنيكم من أمر الدين الّذي هو أهمّ وأعنى من كلّ مهمّ. وإنّما حذف الملهيّ عنه ـ وهو ما يعنيهم من أمر الدين ـ للتعظيم والمبالغة.

وقيل: معناه: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متّم وقبرتم، مضيّعين أعماركم في طلب الدنيا عمّا هو أهمّ لكم، وهو السعي لأخراكم. فيكون زيارة القبر عبارة عن الموت.

( كَلَّا ) ردع وتنبيه على أنّ العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همّه ومعظم سعيه للدنيا، فإنّ عاقبة ذلك وبال وحسرة و( سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) خطأ رأيكم إذا عاينتم ما قدّامكم من أهوال الآخرة. وهو إنذار ليخافوا وينتبهوا من غفلتهم.

٥٠٢

( ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تكرير لتأكيد الردع والإنذار عليهم. وفي «ثمّ» دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثمّ أقول لك لا تفعل. أو الأوّل عند الموت أو في القبر، والثاني عند النشور.

عن زرّ بن حبيش عن عليّعليه‌السلام قال: «ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى نزلت( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ) إلى قوله:( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) يريد في القبر( ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) بعد البعث».

ثمّ كرّر التنبيه لمزيد الإيقاظ عن رقدة الجهل والغفلة، فقال:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ) لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين ـ أي: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور الّتي وكلتم بعلمها هممكم ـ لشغلكم علم ذلك عن غيره، أو لفعلتم ما يوجب فوزكم ممّا لا يوصف ولا يكتنه، ولكنّكم ضلّال جهلة. فحذف الجواب للتفخيم. ولا يجوز أن يكون قوله:( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) جوابا، لأنّه محقّق الوقوع.

فهو جواب قسم محذوف، أكّد به الوعيد، وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه، وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه وتعظيمه. وقرأ ابن كثير والكسائي بضمّ التاء.

( ثُمَّ لَتَرَوُنَّها ) كرّره معطوفا بـ «ثمّ» تغليظا في التهديد وزيادة في التهويل. أو الأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها.( عَيْنَ الْيَقِينِ ) أي: الرؤية الّتي هي نفس اليقين، فإنّ علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين.

( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) الّذي ألهاكم. قيل: الخطاب مخصوص بالكفّار. وقيل: بكلّ من ألهاه دنياه عن دينه. والمراد بالنعيم ما يشغله عن العلوم المفروضة الدينيّة والأعمال الواجبة الشرعيّة، للقرينة، فإنّ من تمتّع بنعمة الله وأرزاقه الّتي لم يخلقها إلّا لعباده ـ لقوله:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ

٥٠٣

لِعِبادِهِ ) (١) ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) (٢) ـ وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضا بالشكر، فهو من ذاك بمعزل. وقيل: يعمّ كلّ متنعّم، إذ كلّ يسأل عن شكره.

وعن قتادة: إنّ الله سائل كلّ ذي نعمة عمّا أنعم عليه.

وعن عكرمة: النعيم: الصحّة والفراغ. ويعضده ما رواه ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة، والفراغ».

وعن عبد الله بن مسعود ومجاهد: هو الأمن والصحّة. وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام .

وقيل: يسأل عن كلّ نعيم إلّا ما خصّه الحديث، وهو قوله: «ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، أو كسرة يسدّ بها جوعته، أو بيت يكنّه من الحرّ والبرد».

وروي: أنّ بعض الصحابة أضاف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جماعة من أصحابه، فوجدوا عنده تمرا وماء باردا فأكلوا، فلمّا خرجوا قال: «هذا من النعيم الّذي تسألون عنه».

وروى العيّاشي بإسناده في حديث طويل قال: «سأل أبو حنيفة أبا عبد اللهعليه‌السلام عن هذه الآية، فقال له: ما النعيم عندك؟

قال: القوت من الطعام، والماء البارد.

فقال: لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتّى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها وشربة شربتها، ليطولنّ وقوفك بين يديه.

قال: فما النعيم؟

__________________

(١) الأعراف: ٣٢.

(٢) البقرة: ٥٧.

٥٠٤

قال: نحن أهل البيت النعيم الّذي أنعم الله بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء، وبنا هداهم الله للإسلام، وهي النعمة الّتي لا تنقطع، والله سائلهم عن حقّ النعيم الّذي أنعم به عليهم، وهو النبيّ وعترتهعليهم‌السلام ».

٥٠٥
٥٠٦

(١٠٣)

سورة العصر

مكّيّة. وهي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «ومن قرأها ختم الله له بالصبر، وكان مع أصحاب الحقّ يوم القيامة».

الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ والعصر في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه، ضاحكا سنّه، قريرة عينه، حتّى يدخل الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣) )

ولـمّا ختم الله السورة المتقدّمة بوعيد من ألهاه التكاثر، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، وهو أنّ الإنسان لفي خسر إلّا المؤمن الصالح، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْعَصْرِ ) أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله:( وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (١) . وهي صلاة العصر، لقولهعليه‌السلام : «من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله».

ولأنّ التكليف في أدائها أشقّ، لتهافت الناس في تجاراتهم

__________________

(١) البقرة: ٢٣٨.

٥٠٧

ومكاسبهم آخر النهار. وقالعليه‌السلام : «أفضل الأعمال أحمزها».

أو بوقت العشيّ، وهو الطرف الأخير من النهار، لـما في ذلك من الدلالة على وحدانيّة الله تعالى بإدبار النهار وإقبال الليل، وذهاب سلطان الشمس، كما أقسم بالضحى، وهو الطرف الأوّل من النهار، لـما فيه من حدوث سلطان الشمس وإقبال النهار، وأهل الملّتين يعظّمون هذين الوقتين.

أو بعصر النبوّة، أو بالدهر، لاشتماله على أصناف الأعاجيب، وللتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران.

( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) إنّ الناس لفي خسران في مساعيهم، وصرف أعمارهم في معايشهم. والتعريف للجنس. والتنكير للتعظيم والتكثير.

( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) فإنّهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا وفازوا بالحياة الأبديّة والسعادة السرمديّة، بخلاف من عداهم، فإنّهم بالتجارة الدنيويّة الفانية وقعوا في الخسارة والشقاوة.

( وَتَواصَوْا بِالْحَقِ ) بالأمر الثابت الّذي لا يصحّ إنكاره، من اعتقاد أو عمل عقلا ونقلا. وهو كتوحيد الله وطاعته، واتّباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة.

( وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) عن المعاصي، أو على الحقّ، أو على ما يبلو الله به عباده. وهذا من عطف الخاصّ على العامّ للمبالغة، إلّا أن يخصّ العمل بما يكون مقصورا على كماله. ولعلّه سبحانه إنّما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود، وإشعارا بأنّ ما عدا ما عدّ يؤدّي إلى خسر وخفض حظّ، أو تكرّما، فإنّ الإبهام في جانب الخسر كرم.

وفي هذه السورة أعظم دلالة على إعجاز القرآن. ألا ترى أنّها مع قلّة حروفها تدلّ على جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين علما وعملا. وفي وجوب التواصي بالحقّ والصبر إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى التوحيد والعدل، وأداء الواجبات، والاجتناب عن المقبّحات.

٥٠٨

(١٠٤)

سورة الهمزة

مكّيّة. وهي تسع آيات بالإجماع.

وفي حديث أبيّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من استهزأ بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ ) في فرائضه نفت عنه الفقر، وجلبت عليه الرزق، وتدفع عنه ميتة السوء».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩) )

ولـمّا أجمل سبحانه في سورة العصر أنّ الإنسان لفي خسر، فصّل في هذه السورة تلك الجملة، فقال:

٥٠٩

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) الهمز: الكسر، كالهزم.

ومنه: الهزيمة. واللمز: الطعن، كاللهز. يقال: لمزه ولهزه: طعنه. فشاعا في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم. وعن سعيد بن جبير وقتادة: الهمزة: المغتاب، واللمزة: الطعّان. وعن ابن زيد: الهمزة: الّذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة: الّذي يلمزهم بلسانه وبعينه. وعن الحسن وعطاء: الهمزة: الّذي يطعن في الوجه بالعيب، واللمزة: الّذي يغتاب عند الغيبة. وبناء فعلة على الاعتياد، فلا يقال: ضحكة ولعنة إلّا للمكثر المتعوّد.

ونزولها في الأخنس بن شريق، فإنّه كان مغتابا، وله أربعة آلاف دينار.

وقيل: عشرة آلاف. وقيل: في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقيل: في اميّة بن خلف. ويجوز أن يكون السبب خاصّا والوعيد عامّا، ليتناول كلّ من باشر ذلك القبيح.

( الَّذِي جَمَعَ مالاً ) من غير حلّه. بدل من «كلّ». أو ذمّ منصوب أو مرفوع.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد، للتكثير. وهو مطابق لقوله:( وَعَدَّدَهُ ) وعدّه مرّة بعد اخرى، وأحصاه مرارا لكثرة حبّه له. أو جعله عدّة للنوازل. أو جمع وعدّد ماله وقومه الّذين ينصرونه. من قولك: فلان ذو عدد وعدد، إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم. فطوّل حبّ المال والأهل أمله، ومنّاه الأماني البعيدة، حتّى أصبح لفرط غفلته وطول أمله( يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ) تركه خالدا في الدنيا لا يموت أبدا، فأحبّه كما يحبّ الخلود. فعمل عمل من لا يظنّ الموت، من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجرّ، وغرس الأشجار، وعمارة الأرض وغيرها. وفيه تعريض بأنّ المخلّد هو السعي للآخرة.

( كَلَّا ) ردع له عن حسبانه( لَيُنْبَذَنَ ) ليطرحنّ. من: النبذ بمعنى الطرح.

( فِي الْحُطَمَةِ ) في النار الّتي من شأنها أن تحطم كلّ ما يطرح فيها. ويقال للرجل

٥١٠

الأكول: إنّه لحطمة، لكسره المأكولات. وعن مقاتل: وهي تحطم العظام، وتأكل اللحوم، حتّى تهجم على القلوب.

ثمّ قال تفخيما لأمرها:( وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ) ما النار الّتي لها هذه الخاصّية( نارُ اللهِ ) تفسير لها( الْمُوقَدَةُ ) أي: النار الّتي أوقدها الله، وما أوقده لا يقدر غيره أن يطفئه( الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) أي: تعلو أوساط القلوب، وتشتمل عليها. وتخصيصها بالذكر لأنّ الفؤاد ألطف ما في البدن، وأشدّه تألّما بأدنى أذى يمسّه، فكيف إذا أطلعت عليه نار جهنّم واستولت عليه؟! أو لأنّها محلّ العقائد الزائغة، والنيّات الخبيثة، ومنشأ الأعمال القبيحة.

( إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) مطبقة. من: أوصدت الباب إذا أطبقته.

قال :

تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي

ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

( فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) أي: موثّقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر(١) الّتي تقطر فيها اللصوص. أو المعنى: توصد عليهم الأبواب، وتمدّد على الأبواب العمد، استيثاقا في استيثاق. وذلك لتأكيد يأسهم من الخروج، وتيقّنهم بحبس الأبد. وقرأ الكوفيّون غير حفص بضمّتين.

روى العيّاشي بإسناده عن محمد بن النعمان الأحول، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «إنّ الكفّار والمشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار، ويقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا، وما نحن وأنتم إلّا سواء. قال: فيأنف لهم الربّ تعالى، فيقول للملائكة: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ثمّ يقول للنبيّين: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ثمّ يقول للمؤمنين: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء الله. ويقول الله: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي، فيخرجون كما يخرج الفراش. قال: ثمّ قال أبو جعفرعليه‌السلام : ثمّ مدّت العمد، فأوصدت عليهم، وكان والله الخلود».

__________________

(١) المقاطر جمع المقطرة: الفلق. وهي: خشبة فيها خروق تدخل فيها أرجل المسجونين.

٥١١
٥١٢

(١٠٥)

سورة الفيل

مكّيّة. وهي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «من قرأها عافاه الله أيّام حياته من القذف والمسخ».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ في فرائضه( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ) شهد له يوم القيامة كلّ سهل وجبل ومدر بأنّه كان من المصلّين، وينادي يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم له أو عليه، أدخلوا عبدي الجنّة ولا تحاسبوه، فإنّه ممّن أحبّه وأحبّ عمله. ومن أكثر قراءة «لإيلاف قريش» بعثه الله يوم القيامة على مركب من مراكب الجنّة، حتّى يقعد على موائد النور يوم القيامة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥) )

ولـمّا ذكر سبحانه في سورة الهمزة ما أعدّ من العذاب لمن عاب الناس

٥١٣

واغتابهم وركن إلى الدنيا، بيّن في هذه السورة ما فعله بأصحاب الفيل من عذاب الاستئصال، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ) الخطاب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها، وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنّه رآها. وإنّما قال: «كيف» ولم يقل: «ما» لأنّ المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته، وعزّة نبيّه، وشرف رسوله، فإنّها من الإرهاصات(١) ، إذ روي عن أكثر العلماء أنّها وقعت في السنة الّتي ولد فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وعن عائشة: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكّة أعميين مقعدين يستطعمان.

وقصّتها: أنّ ملك اليمن قصد هدم الكعبة، وهو أبرهة بن الصباح الأشرم.

وقيل: كنيته أبو يكسوم. قال الواقدي: هو صاحب أصحمة النجاشي، جدّ النجاشي الّذي كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال محمّد بن إسحاق بن يسار: أقبل تبّع(٢) حتّى نزل على المدينة، فنزل بوادي قبا، فحفر بها بئرا تدعى اليوم بئر الملك. قال: وبالمدينة إذ ذاك يهود والأوس والخزرج، فقاتلوه، وجعلوا يقاتلونه بالنهار فإذا أمسى أرسلوا إليه بالضيافة. فاستحيا وأراد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس يقال له: أحيحة بن الجلاح، وخرج إليه من اليهود بنيامين القرظي.

فقال له احيحة: أيّها الملك نحن قومك.

وقال بنيامين: هذه بلدة لا تقدر على أن تدخلها ولو جهدت.

قال: ولم؟

قال: لأنّها منزل نبيّ من الأنبياء يبعثه الله من قريش.

__________________

(١) أي: من المبشّرات والمنبئات بمجيء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٢) التبّع: لقب ملوك اليمن.

٥١٤

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان من مكّة على ليلتين بعث الله عليه ريحا قصفت يديه ورجليه، وشنجت جسده، فأرسل إلى من معه من اليهود فقال: ويحكم ما هذا الّذي أصابني؟

قالوا: حدّثت نفسك بشيء؟

قال: نعم. وذكر ما أجمع عليه من هدم البيت وإصابة ما فيه.

قالوا: ذلك بيت الله الحرام، ومن أراده هلك.

قال: ويحكم وما المخرج ممّا دخلت فيه؟

قالوا: تحدّث نفسك بأن تطوف به، وتكسوه، وتهدي له. فحدّث نفسه بذلك، فأطلقه الله. ثمّ سار حتّى دخل مكّة، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وكسا البيت.

وذكر الحديث في نحره بمكّة، وإطعامه الناس، ثمّ رجوعه إلى اليمن، وقتله، وخروج ابنه إلى قيصر، واستغاثته به فيما فعل قومه بأبيه، وأنّ قيصر كتب له إلى النجاشيّ، وأنّ النجاشي بعث له ستّين ألفا، واستعمل عليهم روزبه حتّى قاتلوا حمير قتلة أبيه، ودخلوا صنعاء فملكوها وملكوا اليمن.

وكان في أصحاب روزبه رجل يقال له: أبرهة، وهو أبو يكسوم. فقال لروزبه: أنا أولى بهذا الأمر منك، وقتله مكرا، وأرضى النجاشيّ.

ثمّ إنّه بنى كنيسة بصنعاء، وسمّاه القلّيس، وجعل فيها قبابا من ذهب، وأمر أهل مملكته بالحجّ إليها، يضاهي(١) بذلك البيت الحرام، وأراد أن يصرف إليها الحاجّ. وإنّ رجلا من بني كنانة خرج حتّى قدم اليمن، فنظر إليها ثمّ قعد فيها ليلا، يعني: لحاجة الإنسان. فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها، فقال: من اجترأ عليّ بهذا، ونصرانيّتي لأهدمنّ ذلك البيت حتّى لا يحجّه حاجّ أبدا. وقيل: أجّجت رفقة

__________________

(١) أي: يشابه ويشاكل.

٥١٥

من العرب نارا، فحملتها الريح فأحرقتها. فحلف: ليهدمنّ الكعبة. فخرج ومعه فيل اسمه: محمود، وكان قويّا عظيما، واثنا عشر فيلا غيره. وقيل: ثمانية. وقيل: كان معه ألف فيل. وكان وحده، وأذّن في قومه بالخروج ومن اتّبعه من أهل اليمن، وكان أكثر من اتّبعه منهم عكّ والأشعرون وخثعم.

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حجّ بيته الّذي بناه، فتلقّاه رجل من الحمس(١) من بني كنانة فقتله.

فازداد بذلك حنقا، وحثّ السير والانطلاق، وطلب من أهل الطائف دليلا، فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له: نفيل، فخرج بهم يهديهم حتّى إذا كانوا بالمغمس نزلوه، وهو من مكّة على ستّة أميال، فبعثوا مقدّماتهم إلى مكّة. فخرجت قريش عباديد(٢) في رؤوس الجبال، وقالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء القوم. ولم يبق بمكّة غير عبد المطّلب بن هاشم، أقام على سقايته، وغير شيبة بن عثمان بن عبد الدار، أقام على حجابة البيت. فجعل عبد المطّلب يأخذ بعضادتي الباب ثمّ يقول :

لا همّ إنّ المرء

يمنع رحله فامنع حلالك(٣)

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم(٤) عدوا محالك

إن كنت تاركهم وكعبتنا

فأمر ما بدا لك

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

ثمّ إنّ مقدّمات أبرهة أصابت نعما لقريش، فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطّلب بن هاشم. فلمّا بلغه ذلك خرج حتّى انتهى إلى القوم، وكان حاجب

__________________

(١) الحمس جمع الأحمس، وهو المشتدّ الصلب في القتال، والشجاع.

(٢) أي: خرجوا متفرّقين. والعباديد الفرق من الناس.

(٣) أي: سكّان حرمك الّذين حلّوا فيه.

(٤) المحال: الكيد، المكر، الشدّة والقوّة.

٥١٦

أبرهة رجلا من الأشعرين، وكانت له بعبد المطّلب معرفة، فاستأذن له على الملك، وقال له: أيّها الملك جاءك سيّد قريش الّذي يطعم إنسها في الحيّ، ووحوشها في الجبل. فقال: ائذن له. وكان عبد المطّلب رجلا جسيما جميلا، فلمّا رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته، وكره أن يجلسه معه على سريره، فنزل من سريره فجلس على الأرض، وأجلس عبد المطّلب معه. ثمّ قال: ما حاجتك؟

قال: حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدّمتك.

فقال أبو يكسوم: والله لقد رأيتك فأعجبتني، ثمّ تكلّمت فزهدت فيك.

فقال: ولم أيّها الملك؟

قال: لأنّي جئت إلى بيت عزّكم ومنعتكم من العرب، وفضلكم في الناس، وعصمتكم وشرفكم عليهم، ودينكم الّذي تعبدون، فجئت لأكسره، وأصيبت لك مائتا بعير، فسألتك عن حاجتك، فكلّمتني في إبلك، ولم تطلب إليّ في بيتكم.

فقال له عبد المطّلب: أيّها الملك أنا أكلّمك في مالي، ولهذا البيت ربّ هو يمنعه، لست أنا منه في شيء.

فراع ذلك أبا يكسوم، وأمر بردّ إبل عبد المطّلب عليه. ثمّ رجع، وأمست ليلتهم تلك ليلة كالحة(١) نجومها، كأنّها تكلمهم(٢) ، لاقترابها منهم، فأحسّت نفوسهم بالعذاب. وخرج دليلهم حتّى دخل الحرم وتركهم. وقام الأشعرون وخثعم فكسروا رماحهم وسيوفهم، وبرئوا إلى الله أن يعينوا على هدم البيت، فباتوا كذلك أخبث ليلة. ثمّ أدلجوا(٣) بسحر، فبعثوا فيلهم وقدّموه يريدون أن يصبحوا بمكّة ،

__________________

(١) أي: مستترة في الغمامة، مطموسا ضوءها. وهو استعارة تمثيليّة مركّبة، يصف ليلتهم تلك وبؤسها بوجه كالح، أي عبوس، كأنّ نجوم الليل من شدّة الدواهي كالحة.

(٢) أي: تجرحهم. من: كلم الرجل: جرحه.

(٣) أدلج القوم: ساروا الليل كلّه، أو في آخره.

٥١٧

فوجّهوه إلى مكّة، فكانوا كلّما وجّهوه إلى الحرم برك(١) ، فضربوه فتمرّغ ولم يبرح.

ثمّ إنّهم أقبلوا على الفيل فقالوا: لك الله أن لا نوجّهك إلى مكّة. فانبعث، فوجّهوه إلى اليمن راجعا، فتوجّه يهرول، فعطفوه حين رأوه منطلقا حتّى إذا ردّوه إلى مكانه الأوّل ربض(٢) ، فلمّا رأوا ذلك عادوا إلى القسم. فلم يزالوا كذلك يعالجونه حتّى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة من جانب اليمن. فالتفت إليها عبد المطّلب وهو يدعو عليهم، فقال: والله إنّها لطير غريبة، ما هي بنجديّة ولا تهاميّة. فجعلت ترميهم، وكلّ طائر في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، وإذا رمت بذلك مضت وطلعت اخرى، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلّا خرقه، ولا عظم إلّا أوهاه وثقبه.

وثاب(٣) أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة، فجعل كلّما قدم أرضا انقطع له فيها إرب(٤) ، حتّى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شيء إلّا أباده. فلمّا قدمها تصدّع صدره وانشقّ بطنه، فهلك. ولم يصب من خثعم والأشعرين أحد.

قال: وكان عبد المطّلب يرتجز ويدعو على الحبشة، يقول :

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

إنّ عدوّ البيت من عاداكا

إنّهم لن يقهروا قواكا

قال: ولم تصب تلك الحجارة أحدا إلّا هلك.

وروى العيّاشي بإسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «أرسل

__________________

(١) برك البعير استناخ، وهو: أن يلصق صدره بالأرض. تمرّغ الحيوان: رشّ اللعاب من فيه.

وتمرّغ في التراب: تقلّب.

(٢) ربضت الدابّة: بمعنى: بركت الإبل.

(٣) ثاب ثوبا: عاد.

(٤) الإرب: العضو. وجمعه: آراب.

٥١٨

الله على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطّاف أو نحوه، في منقاره حجر مثل العدسة».

مخطّطة بحمرة كالجزع(١) الظفاري. وقيل: كانت أكبر من العدسة، وأصغر من الحمّصة.

وقال عبد الله بن مسعود: صاحت الطير فرمتهم بالحجارة، فبعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فما وقع منها حجر على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره، فلم يزل بهم حتّى أتت عليهم. قال: فأفلت الرجل منهم، فجعل يخبر الناس بالقصّة، فبينا هو يخبرهم إذ أبصر طيرا منها، فقال: هذا هو منها. قال: فحاذى فطرحه على رأسه فخرج من دبره.

وقال عبيد بن عمير الليثي: لـمّا أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل، بعث عليهم طيرا نشأت من البحر كأنّها الخطاطيف(٢) ، كلّ طير منها معه ثلاثة أحجار، ثمّ جاءت حتّى صفّت على رؤوسهم، ثمّ صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما من حجر وقع منها على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره، وإن وقع على شيء من جسده خرج من الجانب الآخر.

وعن عكرمة عن ابن عبّاس، قال: دعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سودا عليها الطين، فلمّا حاذت بهم رمتهم، فما بقي أحد منهم إلّا أخذته الحكّة، فكان لا يحكّ إنسان منه جلده إلّا تساقط لحمه. قال: وكانت الطير نشأت من قبل البحر، لها خراطيم الطيور ورؤوس السباع، لم تر قبل ذلك ولا بعده.

وعن ابن عبّاس: لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وعن الربيع: لها أنياب كأنياب السباع. وقيل: طير خضر لها مناقير صفر. وقيل: طير سود

__________________

(١) الجزع: خرز فيه سواد وبياض. وظفار مدينة ببلاد عمان.

(٢) الخطاطيف جمع الخطّاف: طائر يشبه السنونو، طويل الجناحين، قصير الرجلين، أسود اللون.

٥١٩

بحريّة، تحمل في مناقيرها وأكفّها الحجارة.

وروي: أنّ عبد المطّلب قبل ظهور الطيور عرض على أبرهة ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى، فلمّا استأصلوا بحجارة الطيور احتوت أهل مكّة على أموالهم، وجمع عبد المطّلب من جواهرهم وذهبهم الجورّ(١) ـ أي: المال الكثير استعارة ـ وكان سبب يساره.

وعن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن الطير، فقال: حمام مكّة منها. وقيل: جاءت عشيّة ثمّ صبّحتهم.

وعن عكرمة: من أصابته جدّرته. وهو أوّل جدريّ ظهر.

وحكى الله سبحانه هذه القصّة إجمالا، تنبيها لقريش، وتهديدا لهم، فقال:( أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ ) في تعطيل الكعبة وتخريبها( فِي تَضْلِيلٍ ) في تضييع وإبطال.

يقال: ضلّل كيده إذا جعله ضالّا ضائعا. ونحوه قوله تعالى:( وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) (٢) . وقيل لامرئ القيس: الملك الضليل، لأنّه ضلّل ملك أبيه، أي: ضيّعه.

يعني: أنّهم كادوا البيت أوّلا ببناء القلّيس، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاجّ إليه، فضلّل كيدهم بإيقاع الحريق فيه، وكادوه ثانيا بإرادة هدمه، فضلّل بإرسال الطير عليهم، كما قال :

( وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ ) جماعات. جمع إبالة، وهي الحزمة الكبيرة. شبّهت بها الجماعة من الطير في تضامّها. وقيل: لا واحد لها، كعباديد(٣) وشماطيط.

( تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) من طين مطبوخ متحجّر، كما يطبخ الآجرّ. معرّب سنك كل. وقيل: من السّجل، وهو الدلو الكبير. أو الإسجال، وهو الإرسال.

__________________

(١) الجورّ: الكثير الّذي جاوز الحدّ والعادة.

(٢) غافر: ٢٥.

(٣) العباديد والشماطيط: الفرق من الناس.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579