زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير6%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51341 / تحميل: 4072
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٩-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الفقيه في باب ما أحلّ الله من النكاح وما حرّم.

وحبابة بنت جعفر الأسديّة التي روت عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالت: رأيت أمير المؤمنين في شرطة الخميس ومعه درّة يضرب بها بيّاع الجريّ والمارماهيّ، والمزماريّ ويقول لهم: « يا بُيّاع مُسوُخ بني إسرائيل » إلى آخر الحديث.

وحكيمة بنت الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الجوادعليه‌السلام .

وحميدة البربريّة اُمّ الإمام أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام وهي من الثقات التقيّات، وكان مولانا الإمام الصادقعليه‌السلام يرسلها مع اُمّ فروة تقضيان حقوق أهل المدينة.

وزينب بنت أبي سلمة التي كانت من أفقه نساء زمانها، وكانت كثيرة الخير والصدقة وكانت صنّاع تعمل بيدها وتتصدّق بيدها.

وسعيدة التي وقع اسمها في إسناد الكافي فقد روى في باب النوادر من آخر كتاب النكاح عن سعيدة .

وغيرهنّ كثيرات لم نذكر أسماءهنّ اختصاراً وإيجازاً(١) .

وقد برزت هذه النسوة وصعدن إلى تلك المرتبة من العلم والفضيلة، وضاهين الرجال في المقام والمنزلة بفضل الإسلام.

فقد ربّى في حجره مثل هذه النساء العالمات التقيّات ذوات الشخصيّة الرشيدة والمواقف البارزة، والصفحات البيض، والتواريخ المشرقة في شتّى مناحي الحياة الإسلاميّة ولولا الإسلام، وما أولاهن من المنزلة والحظوة لبقيت المرأة تعاني من ما كانت تعانيه من ظلم الجاهليّة وعسفها، وكبتها وتحقيرها.

فقد كانت المرأة في زمن الجاهليّة محرومة من كلّ مزايا الرجال، تحتقر كما يحتقر

__________________

(١) من أراد الوقوف على تفصيل ذكرهنّ وأسمائهنّ فعليه أن يراجع كتاب: أعلام النساء، بلاغات النساء، الخيرات الحسان، والاستيعاب، والإصابة.

٤٤١

الحيوان، وتباع وتشترى كما يشترى ويباع المتاع، حتّى جاء الإسلام وأولاهنّ ما أولاه من الرفعة بعد الضعة، والشرف بعد المقت والعزّة بعد الإهانة والذّل، فتخرّج منهنّ الكاتبات والأديبات والعالمات، والراويات، وربّات الفكر والرأي، وذوات الشخصيّة والشأن الكبير.

على أنّ النساء لم يحصلن على حقوقهنّ في التعليم في ظلّ الحكومة والشريعة الإسلاميّة فقط، بل حصلن على حقوق عادلة في التسوية مع الرجال في اعتناق الدين، واستحقاق الثواب الاُخرويّ، والاحترام الدنيويّ، والميراث، والزواج وحقوق الزوجيّة، والطلاق، والنفقة، والوصيّة.

وجملة القول ؛ أنّه ما وجد دين ولا شرع ولا قانون في أمّة من الأمم أعطى النساء ما أعطاهنّ الإسلام من الحقوق والعناية والكرامة، في جميع المجالات الإنسانيّة.

هذا ولقد كان الإسلام أوّل من عمل على محو الاُميّة ونشر الثقافة والعلم وتعميمها في أوساط الناس فيما كانت الحكومات المعاصرة لعصر النبوّة المحمديّة ـ كالأجهزة الحاكمة في إيران ـ تحظر العلم والثقافة على طبقات الشعب وتحرم اكتسابهما إلّا على الأُمراء وأبناء الاُمراء، وطبقة المؤبذين ( وهم رجال الدين الزرادشتي )(١) .

وإنّ أدلّ دليل على سعي الإسلام لمحو الاُميّة قبل أي أحد هو ما فعله النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع أسرى بدر حيث جعل فداء بعض الأسرى الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة، تعليم أولاد المسلمين: القراءة والكتابة.

فقد روى الحلبي في سيرته ذلك قائلاً: ( بعثت قريش في فداء الأسارى وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف. ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة ليعلّمهم الكتابة فإذا تعلّموا كان ذلك فداء )(٢) .

__________________

(١) الشاهنامة للفردوسيّ ٦: ٢٥٧ ـ ٢٦٠.

(٢) السيرة الحلبيّة ٢: ٢٠٤.

٤٤٢

على أنّ المنهج الذي اختاره الإسلام هو جعل الإيمان مقروناً بالعلم، والعلم مقروناً بالإيمان فالمكتفي بأحدهما كطائر يحلّق بجناح واحد ولذلك نرى أنّ الله سبحانه يقرن أحدهما بالآخر في كتابه إذ يقول:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) ( المجادلة: ١١ ).

وكقوله:( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ ) ( الروم: ٥٦ ).

وممّا يدلّ على ذلك ما نراه ـ إذا سرنا في البلاد الإسلاميّة ـ من بناء الجامعات إلى جنب المساجد الذي يشير بوضوح إلى عدم التفكيك بين العلم والإيمان، وبين الدين والمعرفة في الحوزات الإسلاميّة العلميّة المبثوثة في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ أو انعقاد الحلقات الدراسيّة في المساجد. ولقد بلغ حثّ الإسلام على اكتساب العلم والمعرفة حدّاً بليغاً حتّى أنّه حرّض على الهجرة في سبيل اكتساب العلم، عندما حثّ على أن يخرج من كلّ فريق طائفة تسافر إلى المدينة، ليدركوا حضرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وليتعلّموا منه ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف الإلهيّة المفيدة ثم يرجعوا إلى قومهم وهو أمر يدلّ ضمناً على أنّ الإسلام كان ممن أسّس بنيان الحوزات العلميّة والجامعات وهي حقيقة يدلّ عليها قوله سبحانه:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

فإنّ هذه الآية وإن فسّرت بوجوه غير أنّ الأظهر في تفسير الآية ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

قال عبد الله بن المؤمن الأنصاريّ قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ قوماً يروون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « اختلافُ اُمّتي رحمة » فقال: « صدقُوا » فقال: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبُوا، إنّما أراد قول الله عزّ وجلّ:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله إنّما الديّن

٤٤٣

واحد »(١) .

وهذه الآية مضافاً إلى كونها دالّة على وجود مركز أو مراكز علميّة في زمن النبيّ يسافر إليها الأفراد ليتلقّوا فيها العلوم والمعارف اللازمة ؛ تدلّ على وجوب هذا الأمر وجوباً كفائيّاً، ولقد استمرّ وجود هذه المراكز والحوزات العلميّة في زمن الأئمّة: وفي زمن الإمام الصادق خاصّة.

فقد روى أحمد بن محمّد بن عيسى وقال: خرجت إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن عليّ الوشا، فسألته أن يخرج لي كتاب العلا بن رزين وأبان بن عثمان، فأخرجهما إليّ فقلت له: أحبّ أن يجيزهما لي فقال: يرحمك الله وما عجلتك، اذهب فاكتبهما واسمع من بعد ذلك، فقال: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإنّي أدركت في هذا المسجد ( بالكوفة ) تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر ( أي الإمام الصادقعليه‌السلام )(٢) .

وبالتالي فإنّ ما يدلّ على اهتمام الدين الإسلاميّ بانتشار العلوم والأخذ بالمعارف المتنوّعة هو ازدهار العلوم المختلفة بين المسلمين ونبوغهم المطّرد والبارز في شتّى مجالات المعرفة، وتنوّع الكتب والمصنفات التي خلّفها المسلمون وصنّفها علماؤهم وكتّابهم، وكانت أساساً لكثير من العلوم الحديثة.

يبقى أن نعرف أنّ الإسلام لا يطرح صيغة خاصّة لمنهج التعليم، وقد سبق أن قلنا: إنّ خاتمية الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر واللب، وأمّا الصور والأشكال فمتروكة للأجيال والعصور، ومقتضياتها فلا مانع من أن يستفيد المسلمون من أي منهج تعليميّ، وأن يستخدموا أي جهاز يضمن تعميم العلم كالتلفزيون والمذياع شريطة الحفاظ على خلق المجتمع، وقيمه الإسلاميّة العليا. فإنّ الإسلام يخالف كلّ علم يتنافى مع سعادة البشر ويهدّد استقراره.

__________________

(١) نور الثقلين ٢: ٢٣٨.

(٢) رجال النجاشيّ: ٢٨ وتنقيح المقال للمامقانيّ ١: ٢٩٤.

٤٤٤

هذا ولعلّك تعجب إذا علمت أنّ تحصيل العلم في الفنون المختلفة من الطبّ والاقتصاد والحقوق السياسيّة والصنائع المتنوّعة فريضة إسلاميّة يجب على الجميع تعلّمه على نحو الواجب الكفائيّ لكي ترتفع حاجة المسلمين إلى غيرهم، ويأمنوا بذلك من تدخّل الأجانب في شؤونهم، بل الأعجب من ذلك أنّ التحصيل في بعض الشؤون واجب عينيّ وذلك فيما يتعلّق بمعرفة الأحكام الدينيّة من أحكام العبادات والمعاملات كما حقّق في موضعه(١) ، ولأجل ذلك وجب على الحكومة الإسلاميّة أن تخصّص قسماً كبيراً من ميزانيّتها لتأسيس الجامعات الدينيّة، والعلميّة وتهيئة ظروف التعليم والتعلّم حتّى يتسنّى لأبناء الاُمّة تحصيل المعرفة في أي مجال مفيد، وضروريّ لحياة الاُمّة. فإنّ جميع ما سقناه إليك من أدلّة حاثّة على طلب العلم، وإنّ ما وصل إليه المسلمون القدامى من أزدهار، وتقدّم عظيم، في العلوم يستدعيان أن تكون الحكومة الإسلاميّة هي التي تتولّى تهيئة أجواء العلم والتعلّم والتعليم، وإلاّ فكيف يمكن أن يتحقّق ذلك الازدهار ويتحقّق هذا الهدف العظيم، والأمر خارج عن نطاق الأفراد بل هو ميسّر للحكومة وإمكانيّاتها، ولوجوب أن تقتدي هذه الحكومة بسيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تولّى بنفسه تهيئة أجواء التعليم والتعلّم لأبناء المدينة كما مرّ عليك في قصّة أسرى بدر.

الإسلام والعلوم الطبيعيّة

ثمّ انّه لم يكن تأكيد الإسلام على تحصيل العلم ليختصّ بعلم دون علم وبباب دون آخر، وإن كان التأكيد على اكتساب الفقه والعلم بأحكام الدين أشدّ، وأكثر.

فالعلم بأحكام الدين واُصوله وفروعه، أو العلم بما يجري في الطبيعة من السنن والقوانين وكشف غوامض الحياة ومعضلاتها واختراع ما يكون مفيداً للحياة البشريّة ممّا دعا إليه الإسلام من غير فرق بين علم وعلم. ولذلك أمر سبحانه في الكثير من الآيات القرآنيّة بالتدبّر في الكون والسنن الحاكمة فيه، كما هو غير خفيّ على من له إلمام بالكتاب

__________________

(١) راجع فرائد الشيخ الأنصاريّ: ٣٠٠ ـ ٣٠١.

٤٤٥

الكريم.

وتقسيم العلوم إلى دينيّة وغير دينيّة ( أو قديمة وحديثة ) مجرّد اصطلاح وإلاّ فكلّ علم نافع ناجع قد دعا إليه الدين وأمر به الكتاب، وأخذ به المسلمون، وما يعدّ علوماً حديثة فلها جذور في القديم وإنّما حدث التطوّر والتكامل حسب مرور الزمان شأن كلّ ظاهرة وعلم.

ولأجل ذلك نرى أنّ المسلمين اهتمّوا ـ منذ بزوغ الإسلام ـ بمختلف العلوم والمعارف، وبرعوا فيها، وكانوا لكثير منها مكتشفين، وكان منهم المخترعون، والمبدعون.

وقد اعترف بذلك كثير من علماء الغرب والشرق، وأقرّوا للمسلمين به، وبيّنوا جهود المسلمين في هذا المضمار، وعدّوهم آباء العلم الحديث في كثير من المجالات والأصعدة.

ونحن هنا نشير إلى طائفة ممّن كان لهم من المسلمين اكتشافات علميّة :

١. جابر بن حيّان، تلميذ الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام كان من أشهر علماء الكيمياء. هذا وللرازي وأبو ريحان البيرونيّ بحوث شيّقة وهامّة في الكيمياء أيضاً.

٢. يعقوب ابن إسحاق الكندي ؛ له ١٥ كتاباً في معرفة أحوال الجوّ.

٣. الحسن بن الهيثم ؛ المتولّد عام ٣٠٤ ألّف كتباً عديدة في الضوء وخواصّ المرايا المقعّرة والمحدّبة والمنكسرة.

٤. محمد بن إبراهيم الفزاري، والحجاج بن يوسف بن مطر ؛ لهما ولغيرهما من المسلمين جهود علميّة كبرى في الرياضيّات.

٥. الخواجا نصير الدين الطوسيّ، وأبو معشر البلخيّ، يعود إليهما الكثير من الاختراعات والاكتشافات في علم الهيئة والفلك.

٦. محمّد بن زكريّا الرازي، وأبو عليّ بن سينا، وابن رشد الأندلسيّ يعود إليهما

٤٤٦

الكثير من الأبحاث الطبيّة، ومسائل العلاجات والأدوية.

٧. الكندي والدميريّ والقزوينيّ وابن بطوطة وابن خلدون ؛ ممّن لهم كتب ومؤلّفات واسعة في علم الأحياء، والجغرافيه، وغيرهما من العلوم والمعارف، وغيرهم ممّن لا يمكن إحصاء أسمائهم لكثرتهم وكثرة مؤلّفاتهم.

ويكفي دلالة على تشجيع الإسلام للصناعة ما قاله الإمام الصادقعليه‌السلام في حديث مفصّل: « كلّ ما يتعلّم العبادُ أو يُعلّمون غيرهُم من صُنوف الصناعات مثل الكتابة والحساب والنّجارة والصّياغة والسّراجة والبناء والحياكة والقُصارة والخياطة وصُنعة صنوف التصاوير ما لم يكُن مثل الرّوحانيّ وأنواع صنوف الآلات التي يحتاجُ إليها العبادُ التي منها منافعهُم وبها قوامُهم وفيها بُلغةُ جميع حوائجهم فحلال فعلهُ، وتعليمهُ والعملُ به وفيه لنفسه أو لغيره »(١) .

ثمّ انّ عناية الإسلام بالكتابة وتقييد العلم بواسطتها يعتبر من أبرز الأدلّة على تبنيّ الإسلام للعلم وحرصه عليه فقد كان الإسلام أوّل من روّج الكتابة وحثّ على تعلّمها، وكان ذلك الموقف من الكتابة والتدوين هو السبب الرئيسيّ في كتابة المؤلّفات وتأليف الكتب العديدة الذي كان ـ بدوره ـ خير وسيلة لأحياء العلم، والابقاء عليه فقد روي أنّه كتب الشيعة وحدهم ما يقارب (١٠) آلاف كتاب خلال عهد الإمامين الباقرين خاصّة(٢) .

ولقد وردت أحاديث كثير في هذا الصدد يضيق المجال بذكرها في هذه العجالة ولكنّنا ندرج هنا بعضها على سبيل المثال :

عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « قيّدُوا العلم بالكتابة »(٣) .

__________________

(١) تحف العقول: ٢٤٦.

(٢) المراجعات: ٣٣٧ المراجعة (١١٠).

(٣) تحف العقول كما في الذريعة ١: ٦، المستدرك للحاكم ١: ١٠٦، كنز العمال ٥: ٢٧٧، البيان والتبيين ١: ١٦١.

٤٤٧

وعن عبد الله بن عمر قال قلت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أقيّد العلم ؟ قال: « نعم »، قيل وما تقييده ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كتابتُهُ »(١) .

وعن أبي بصير قال دخلت على أبي عبد الله ( الصادق ) فقال: « ما يمنعُكُم من الكتابة، إنّكُم لن تحفظُوا حتّى تكتبُوا »(٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا مات ابنُ آدم انقطع عملهُ إلّا من ثلاث :

صدقة جارية، أو علم ينتفعُ به أو ولد صالح يستغفُر لهُ »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المُؤمنُ إذا مات وترك ورقةً واحدةً عليها علم تكُونُ تلك الورقةُ سُتراً فيما بينهُ وبين النّار وأعطاهُ الله بكُلّ حرف مكتُوب عليها مدينةً في الجنّة »(٤) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « احتفظُوا بكُتبكُم فسوف تحتاجُون إليها »(٥) .

وقالعليه‌السلام : « القلبُ يتّكلُ على الكتابة »(٦) .

وقالعليه‌السلام : « اُكتُب وبُث علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كُتُبك بنيك فإنّهُ يأتي على النّاس زمان هرج ما يأنسُون إلّا بكُتُبهم »(٧) .

وعن الإمام الحسنعليه‌السلام أنّه دعا بنيه وبني أخيه فقال: « إنّكُم صغار قوم ويُوشكُ أن تكُونُوا كبار قوم آخرين فتعلّمُوا العلم فمن لم يستطع منكُم أن يحفظهُ فليكتُبهُ وليضعهُ في بيته »(٨) .

هذا وللإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام تعاليم لطيفة في مجال الكتابة وتحسين الخطّ فقد قال لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع: « ألق دواتك، وأطل جلفة(٩) قلمك ،

__________________

(١) راجع الذريعة ١: ٦، التاج ١: ٦١.

(٢) مشكاة الأنوار للطبرسيّ: ١٤٢، وروي في الكافي ١: ٥٢ بهذه الصورة: « اكتُبُوا فإنّكُم لا تحفظُون حتّى تكتبُوا ».

(٣) رواه الخمسة إلّا البخاريّ، راجع التاج ١: ٦٦.

(٤) أوثق الوسائل: المقدّمة.

(٥ و ٦ و ٧) الكافي ١: ٥٢.

(٨) بحار الأنوار ٢: ١٥٢.

(٩) الجلفة ما بين مبراه وسنته.

٤٤٨

وفرّج بين السّطُور وقرمط(١) بين الحُرُوف، فإنّ ذلك أجدرُ بصباحة الخطّ »(٢) .

كما روي عنهعليه‌السلام قوله: « الخطّ الحسن يزيد الحقّ وضوحاً »(٣) .

هكذا حثّ الإسلام على الكتابة حثّا بليغاً، وأكيداً، وكفى في ذلك أنّ الله تعالى أقسم بالقلم باعتباره وسيلة فعّالة لنقل المعرفة وتدوينها، وإبقائها.

بحث وتنقيب

ولعلّك تقول: لو حثّ الإسلام مثل هذا الحثّ على الكتابة والتدوين فلماذا نهى الخليفة الثاني عن كتابة الحديث في حين كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يحثّ أصحابه على كتابة ما يسمعونه منه. فقد أخرج صاحب غوالي اللئالي عن عمر بن شعيب عن أبيه وجدّه قال قلت: يا رسول الله أكتب كلّ ما أسمع منك ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم »، قال: قلت في الرضا والغضب ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم فإنّي لا أقول في ذلك كلّه إلّا الحقّ »(٤) .

وقد أملىصلى‌الله‌عليه‌وآله كتباً في الشرائع والأحكام كان قد جهّز بها رسله وعمّاله في الأقطار المفتوحة وقد احتفظ بها المسلمون وأوردها أصحاب السير والمعاجم وأهل الحديث والتفسير في كتبهم وهذه الصحف تعرب قبل كلّ شيء عن عناية الرسول بحفظ علوم الرسالة وذخائر النبوّة وأحكام الدين ودساتيره ليستفيد منها القريب ويرجع إليها النائي.

وقد تواتر عن الفريقين أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قبض وفي قراب سيفه أو ذؤابة سيفه كتاب أو كتابان(٥) .

__________________

(١) القرمطة بين الحروف، المقاربة بينها وتضييق فواصلها.

(٢) نهج البلاغة: قصار الكلم ( الرقم ٣١٥ ).

(٣) حديث مشهور.

(٤) راجع الذريعة ١: ٦، التاج ١: ٦١.

(٥) صرّح بذلك إمام الحنابلة في مواضع من مسنده راجع المسند ١: ٨١، ١٠٠، ١١٩، ١٢٦، ١٣٢، صحيح مسلم ٤: ٢١٧، السنن الكبرى ٨: ٣٠.

٤٤٩

وقد اعتمد على هذا الكتاب أئمّة أهل الحديث في مختلف الأبواب والأحكام واكثر النقل عنه المحدّث الحرّ العامليّ في جامعه الكبير وينهي إسناده إلى أئمّة أهل البيت(١) .

قال ابن عمر: إنّ قريشاً قالت: إنّك تكتب عن رسول الله وهو بشر يغضب يعنون به أنّه يقول عند الغضب باطلاً، فعرضت كلامهم على رسول الله قال: « اكتب فإنّي لا أقُولُ إلّا حقّاً » أو أشار إلى شفتيه وقال: « لا يخرُجُ منهُما إلّا الحقّ اكتُب »(٢) .

وقد أملى رسول الله كثيراً من الأحكام على ( علي ) فدوّن أمالي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته، واشتهر بكتاب عليّ، وقد روى عنه البخاريّ في صحيحه في باب كتابة الحديث وباب « إثم من تبرّأ من مواليه ».

وقد أكثر عنه النقل الإمامان الباقر والصادقعليهما‌السلام ورآه كثير من أصحابهما كزرارة بن اُعين ومحمد بن مسلم وأبي بصير ونظرائهم.

وأخرج الشيخ أو العباس النجاشي ( المتوفّى عام ٤٥٠ ) في ترجمة « محمّد بن عذافر » عن عذار الصيرفيّ قال: كنت مع الحكم بن عيينة، عند أبي جعفر محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرهاً فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر: « يا بنيّ قم فأخرج كتاب عليّ » فاخرج كتاباً مدرجاً عظيماً، ففتح وجعل ينظر حتى أخرج المسألة، فقال أبو جعفر: « هذا خطّ عليّ وإملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقبل على الحكم وقال: « يا أبا محمّد: إذهب وسلمة والمقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل »(٣) .

والحديث عمّا كتبه عليّعليه‌السلام كثير، وأخرج المشايخ والمحمّدون الثلاثة روايات جمّة عنه ينتهون بإسنادها إلى أئمة الحديث مبثوثة في كتب الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والتجارة والوصايا والطلاق والنكاح

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة كتاب القصاص.

(٢) مستدرك الحاكم ١: ٤.

(٣) فهرست النجاشيّ: ٢٥٥ ( طبعة الهند ).

٤٥٠

والأطعمة والأشربة والحدود والقصاص والديات والقضاء والأيمان والصيد والميراث وإحياء الموات(١) .

ثمّ إنّ الشيعة في الصدر الأوّل اقتفوا أثر إمامهم في الكتابة والتأليف فاهتمّوا بجمع أحاديث الأحكام والفرائض والقضايا وأخبار المغازي، وتراجم الرجال وقد جمع أسماءهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ في أوّل رجاله.

ثمّ الذين نشأوا بعد الطبقة الاُولى نهجوا منهاج سلفهم، حذو القذّة بالقذّة في كلّ قرن وجيل ؛ رغم ما كانت تواجههم من الظروف القاسية والكوارث الداهمة ورغم ما كانوا يعانون من السلطات الغاشمة

فإنّ الشيعة رغم كلّ تلك المصاعب ألّفوا كتباً ثمينة جمعوا فيها شذرات الحديث وشوارد السير واُصول الأخلاق، ونهضوا بهذه المهمّة بعزم راسخ لا يعرف الكلل والملل مثابرين على العمل، ومعانين في طريق هدفهم كثيراً من الأذى حفاظاً على حياض الشريعة الإسلاميّة وصوناً لكنوزها، وبثّاً لتعاليم الحنيفيّة البيضاء.

وقد ترجم الشيخ أبو العباس النجاشيّ صاحب الفهرست المعروف في صدر كتابه بعض رجال الشيعة ممّن يعدّون من المؤلّفين في الطبقة الاُولى.

ودونك أسماء عدّة منهم من الذين ذكرهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ بهذا العنوان في أوّل فهرسته :

١. أبو رافع ؛ مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصاحب بيت مال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام صنف كتاب السنن والأحكام والقضايا.

٢. عبيد الله بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنين وأوّل من ألّف في الرجال، ترجم من أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من شهد منهم حروب أمير المؤمنينعليه‌السلام الجمل وصفين.

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة في هذه الكتب وقد جمع العلاّمة الشيخ الأحمديّ في كتابه القيّم « مكاتيب الرسول » ١: ٨٢ ـ ٨٨ ما بثّه صاحب الوسائل في جامعه على نسق الكتب الفقهيّة.

٤٥١

٣. عليّ بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام صنف كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء والصلاة وسائر الأبواب.

٤. ربيعة بن سميع ؛ صنّف كتاب زكاة النعم على ما سمعه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في صدقات النعم وما يؤخذ من ذلك.

٥. أبو صادق سليم بن قيس الهلالي ؛ صاحب أمير المؤمنين ألّف أصله المعروف المطبوع.

٦. الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ، من خيار أصحاب أمير المؤمنين ومن شرطة الخميس له كتاب عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر النخعيّ ووصيّته إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة.

٧. أبو عبد الله سلمان الفارسي ؛ له كتاب ( خبر جاثليق ) وقد أملى الخطبة الطويلة والاحتجاجات.

٨. أبو ذرّ الغفاري ؛ له كتاب وصايا النبيّ وشرحه العلاّمة المجلسي وأسماه عين الحياة.

هذا حال الطبقة الاُولى منهم وأمّا الذين أتوا بعدهم فالرواة منهم المعاصرون للأئمّة الهداة في مجموع القرنين منذ قبض الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى عصر العسكريعليه‌السلام لم يؤثر عنهم فتور في تدوين العلوم وضبط الحديث، وجمع قواعد الفقه وتنسيق طبقات الرجال وضمّ حلقات التفسير وإتقان مباني واُسس الكلام إلى غير ذلك.

كلّ ذلك يشهد على مبلغ اهتمامهم بتلقّي أنواع المعارف والعلوم من معادنها في السرّ والعلانية، وتغنينا عن إفاضة القول وسرد الشواهد، الفهارس المؤلّفة لكتب الشيعة في القرون الإسلاميّة الغابرة ولا سيّما ما ألّفه العلاّمة المتتبّع المغفور له الشيخ أغا بزرگ الطهرانيّ في أثره الخالد ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) المطبوع في خمسة وعشرين جزء.

٤٥٢

وأظنّ أنّ الموضوع لا يحتاج إلى أن نتوسّع فيه أكثر من ذلك وهذا كتاب الله سبحانه يحثّ في أطول آيات كتابه(١) على كتابة ما يتوصّل بها إلى حفظ عرض دنيويّ زائل ومتاع مندثر، أفلا يجوز لنا من هذا الحثّ الأكيد استنباط لزوم الاهتمام بما ننال به المقاصد العالية ويفوز الإنسان به بالسعادة الخالدة ؟

حول الحديث الموضوع

وبعد ذلك كله لا اعتبار بما نسبوه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه قال: « لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه »(٢) أو أنّه لم يأذن بكتابة الحديث على ما رواه الترمذيّ عن أبي سعد قال: استأذنا النبيّ في الكتابة فلم يأذن لنا(٣) .

وأغرب منه ما رواه الحاكم بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلّب، قالت فغمّني كثيراً، فقلت يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه، فلّما أصبح قال: أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك ! فجئته بها فأحرقها، وقال خشيت أن أمُوت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدّثني فأكون قد تقلّدت ذلك(٤) .

وأظنّ أنّ ما اُلصق برسول الله من مختلقات الحديث وضعها القائل أو القائلون لأغراض وغايات سياسيّة وأظنّ أنّ الذي دفع الوضّاعين إلى إعزاء ما اختلقوه إلى رسول الله أحد أمرين أو كليهما :

إمّا لأنّ المعتمد في كتابة أحاديث الرسول آنذاك كان هو الإمام عليّعليه‌السلام دون سائر الصحابة، وكان ذلك يعدّ فضيلة رابية للإمام، فحاول أعداؤه ومناوؤه طمسها فاختلقوا ما اختلقوا لكي يصبح عمل الإمام في استقلاله بالتدوين، أو تبرّزه في هذا الباب عملاً غير مشروع.

__________________

(١) سورة البقرة ٢: الآية (٢٨٢) آية الدين.

(٢) رواه الدارميّ في مقدّمة سننه.

(٣) صحيح الترمذيّ ٢: ٩١ ( طبعة الهند ).

(٤) جمع الجوامع للسيوطيّ ٢: ١٤٧.

٤٥٣

وإمّا لأنّ تلك الأحاديث فيها الكثير ممّا قاله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل عليّعليه‌السلام وعظم شأنه، فلو سوّغت كتابة الأحاديث وأحاط بها الناس علماً وتناقلها المسلمون في شتّى الأقطار، لأدّت إلى ظهور الإمامعليه‌السلام على سائر الصحابة، وكونه الأحقّ في تسنّم منصب الخلافة بعد الرسول وفي ذلك ما فيه من الخطر على من تسنّموا عرشها بغير حقّ وبغير دليل.

فلو كان كتابة الحديث وضبطه في الصحائف والجلود أمراً مرغوباً عنه فلماذا أملى النبيّ بنفسه كتباً في الشرائع والأحكام وجهّز بها رسله وعماله في الأقطار المفتوحة.

ولو كان نهي النبيّ بمرأى ومسمع من أصحابه وأنصاره، فلماذا استفتى عمر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك فأشاروا عليه أن يكتب فطفق عمر يستخير الله شهراً ثمّ أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: إنّي كنت اُريد أن أكتب السنن وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله وإنّي والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً ولا اُلبس كتاب الله بشيء أبداً(١) .

والعذر الذي جاء به الخليفة في كلامه يشبه ما في كلام بعضهم في تفسير نهي النبيّ عن الكتابة من أنّ نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كتابة الحديث كان لخوفهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اختلاط الحديث بالقرآن.

ولا يخفى ما فيه من الخبط والخطأ فإنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه إذ معنى ما ذكره هو إبطال معجزة القرآن وهدم اُصولها من القواعد، وإنّ معنى ذلك كون بلاغة القرآن والحديث والخطب المرويّة من باب واحد هو باطل، والله سبحانه يقول:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء: ٨٨ ).

وقد حقّق في محلّه أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه، لا يشبه كلام الإنسان من حيث

__________________

(١) رواه الكاتب المتتبع المعاصر أبو ريّه عن الحافظ بن عبد ربه والبيهقي في أضواء على السنّة المحمديّة ص ٤٣.

٤٥٤

الصياغة والانسجام، والحديث وحي بمعناه دون لفظه، فهو من جهة اللفظ والصياغة كلام بشريّ يمكن مباراته.

وهناك عذر آخر لا يقلّ في الوهن والضعف عن الأوّل جاء به بعض المعاصرين قال: يمكن أن تكون حكمة النهي عن كتابة الحديث هو أن لا تكثر أوامر التشريع، ولا تتّسع أدلّة الأحكام وهو ما كان يتحاشاهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى كان يكره كثرة السؤال، أو يكون من أحاديث في اُمور خاصّة بوقتها بحيث لا يصح الاستمرار في العمل بها. ونحن لا نعلّق عليها إلّا شيئاً طفيفاً إذ القارئ الكريم أعرف بحالها، إذ أي صلة بين كتابة حديث نافع وسنّة متّبعة تتّصل بحياة المسلمين الفرديّة والاجتماعيّة وتحتلّ مكاناً سامياً في استنباط كثير من الأحكام التي كانوا يواجهونها بعد عصر الرسالة عندما توسّعت الحكومة الإسلاميّة وتلوّنت حياتهم بألوان حضارة جديدة، ولم يكن لهم بها عهد في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين كثرة السؤال عن أشياء لا تهمّ السائل معرفتها.

على أنّ ما اعتذر به الكاتب في تصحيح النهي عن تدوين السنّة يستدعي النهي عن كتابة القرآن وهما في المقام سواسية، لأنّ عمق معاني القرآن وغزارة مقاصده تؤدّي بالباحث إلى كثرة التساؤل واتّساع أدلّة الأحكام وتكثر أوامر التشريع، وبالتالي يستلزم تسلسل الأسئلة.

ولا يتردّد المحقّق الباحث في أنّ ما عزوه إلى النبيّ من مخاريق الأوهام الباطلة التي نحتوها لأغراض سياسيّة، لتصحيح فعل الخليفة ونهيه عن كتابة الحديث وسنّة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وما ارتكبه الخليفة عثرة لا تقال، فالله يعلم كم خسر الإسلام والمسلمون من جرّائها لولا أن تدارك الخسران العظيم عمر بن عبد العزيز فكتب من الشام إلى أبي بكر ابن حزم وهو من كبار المحدّثين بالمدينة: انظر من حديث رسول الله فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء(١) .

__________________

(١) صحيح البخاريّ ١: ٢٧ كتاب العلم.

٤٥٥

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٢

الحكومة الإسلاميّة

والحقوق الفرديّة والاجتماعيّة

حاجة المجتمعات إلى الحقوق

بما أنّ الإنسان بطبيعته ذو تطلّعات وحاجات تزداد بتوسّع التمدّن وتقدّم الحضارة، وبما أنّ الحياة الاجتماعيّة لا تنفكّ عن إقامة العلاقات والروابط بين أبناء البشريّة، وبما أنّ وصول الأفراد إلى تطلّعاتهم وحاجاتهم لا ينفكّ عن التزاحم والتصادم والاختلاف والتشاجر، كان لا بدّ من حلّ هذا الاختلاف والتنازع، ووضع العلاقات الاجتماعيّة في الإطار الصحيح.

وقد كان هذا الحلّ يتمّ ـ في العصور السابقة ـ بالقوّة، وقدرة السلاح وكان المنطق الحاكم هو ( الحقّ لمن غلب )، غير أنّ تقدّم البشريّة في مدارج التربية أوجد لديها فكرة التنظيم وحلّ الاختلافات بين أفراد البشر بغير وسيلة القوّة، والسلاح، ومن هنا تكوّن ما يسمّى بعلم الحقوق، فعلم الحقوق عبارة عن الاُصول والقواعد التي تنظّم علاقات الأفراد، والتي يجب أن تسود المجتمعات حتماً، ولا يتخلّف عنها أحد أبداً.

٤٥٦

وبعبارة اُخرى ؛ إنّ الحقوق عبارة عن ( مجموع القواعد والقوانين المقرّرة لحفظ الأفراد وترقية المجتمع البشريّ، وعلى ذلك ينطبق علم الحقوق على قسم من الفقه الإسلاميّ، ويكون شعبة من الفقه ).

ولقد كان الفقه الإسلاميّ القانون الوحيد الحافظ لحقوق الأفراد والجماعات في الشرق الإسلاميّ إلى أوائل القرن الرابع عشر حتّى أن قامت الثورات الشعبية (؟) وأسّست مجالس الاُمّة، وسنّت القوانين الجديدة، وتركت القوانين الإسلاميّة جانباً وقد خسر المسلمون، بالعدول عن القوانين الإسلاميّة إلى تلك القوانين البشريّة المقتبسة من الغرب، خسر المسلمون ـ بسبب ذلك ـ العدل والرحمة، والإنسانيّة والاستقرار والدقّة.

تقسيمات الحقوق

لقد قسّم علماء الحقوق القوانين والحقوق(١) إلى :

أ ـ داخليّة ؛ تختصّ بالعلاقات المتقابلة بين أفراد الاُمّة الواحدة.

ب ـ خارجيّة ؛ تختص بالعلاقات المتقابلة بين الأمم والدول المختلفة.

وكلّ من الداخليّة والخارجيّة ينقسمان إلى خاصّة، وعامّة، وإليك فيما يأتي تفصيل هذه التقسيمات إجمالاً :

أ ـ الحقوق الداخليّة

والعامّة منها تنقسم إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / القانون الأساسيّ الذي يقوم في إطاره كلّ الروابط والعلاقات بين الأفراد، وتقوم كلّ التشكيلات الحاكمة على حياة الاُمّة فهو بمثابة ( الاُسس الكليّة لأي

__________________

(١) ليس المراد بالحقوق ـ هنا ـ هو المعنى الخاصّ له، بل هو مطلق القوانين ولذلك يكون الحقوق بمعناه الخاصّ المصطلح فقهياً جزءاً من هذا البحث.

٤٥٧

نظام ).

الثانية / القوانين المختصّة بالدوائر الحكوميّة وحدود وظائفها، وما يحدّد علاقات الأفراد ( موظّفين ومراجعين ) بها.

الثالثة / الحقوق والقوانين الجزائيّة التي يتميّز بها المعتدي عن غير المعتدي والمجرم عن غير المجرم، وتكون مانعة للأفراد عن الأعمال والتصرّفات المخلّة بالنظام.

وأمّا الخاصّة فهي تنقسم أيضاً إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / الحقوق المدنيّة وهي المتعلّقة بالأفراد في إطار العلاقات العائليّة والتي تسمّى الآن بالأحوال الشخصيّة، كالنكاح والطلاق والميراث وما شابه.

الثانية / القوانين والمسائل المرتبطة بالقضاء التي يستطيع الأفراد بالتوسّل بها أن يستوفوا حقوقهم الضائعة.

الثالثة / القوانين المتعلّقة بالعلاقات والمبادلات التجاريّة.

ب ـ الحقوق الخارجيّة ( الدوليّة )

والعامّة منها هي التي تبيّن وترسم كيفية علاقات الدول مع الدول، والحكومات مع الحكومات، ويندرج في ذلك المعاهدات وغيرها ممّا يدور بين الدول.

والخاصّة، هي التي ترتبط بعلاقة الدولة أو أفراد الشعب مع أتباع دولة اُخرى.

هذه هي ثمانية أنواع من القوانين والحقوق حسب التقسيم الحديث.

الإسلام والحقوق

لقد حظيت الحقوق ـ في الفقه الإسلاميّ ـ بأفضل مكانة في تشريعاته وتعاليمه بل إنّ الحقوق التي رسمها الإسلام وبيّنها على لسان القرآن أو السنّة الشريفة تعتبر من أدقّ، وأمتن الحقوق، وأكثرها إنسانيّة ورحمة وعقلانيّة. غير أنّ هناك ـ مضافاً إلى ذلك ـ خصائص تمتاز بها الحقوق الإسلاميّة عن الحقوق التي تطرحها القوانين البشريّة

٤٥٨

الوضعيّة هي :

أوّلاً: انّ الحقوق والقوانين التي جاء بها الإسلام تستمدّ اُصولها، وجزئياتها من ( الوحي الإلهيّ )، ولذلك فهي لا تقبل التغيير والتبديل، ولكنّ الحقوق التي طرحتها الأنظمة البشريّة فحيث أنّها تنبع من العلم البشريّ المحدود فهي تتعرّض دائماً للتغيير والتطوير لضيق آفاق العقل البشريّ.

ثانياً: أنّ الحقوق في الإسلام حيث تكون تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ونابعة من الملاكات الحقيقيّة فإنّها لا تخضع لأيّ زيادة أو نقصان وأيّ تطوير وتحوير، لانّها تقوم على أساس الواقع الإنسانيّ الثابت، والفطرة الحقيقيّة التي لا تتغيّر، والمصالح والمفاسد الموجودة في أفعال الإنسان وأعماله، ولكنّ الحقوق التي عرضتها الأنظمة والقوانين الوضعيّة حيث تنبع من الأهواء والميول والرغبات الفرديّة أو الجماعيّة فإنّها كثيراً ما تنالها أيدي التطوير والحذف لما يظهر فيها من عجز وضعف.

نعم إنّ القوانين والحقوق الإسلاميّة وإن كان بعضها يتغيّر شكلاً وإطاراً لكنّها لا تتغيّر جوهراً ومضموناً، ولقد أشبعنا القول في هذا الأمر في بحث الخاتميّة(١) .

ثالثاً: إنّ القوانين الإسلاميّة حيث تكون صادرة من مصدر ربّانيّ وتكون موجّهة إلى مؤمنين معتقدين بشرائعه ووعوده ومواعيده تتمتّع طبعاً وبالذات بخاصّية الانقياد النفسيّ والخضوع الكامل والطاعة التامّة لها.

وحيث تكون القوانين الوضعيّة البشريّة صادرة من الأدمغة البشريّة لا يجد الإنسان أي دافع ذاتيّ إلى التقيّد بها وتطبيق العمل عليها إلّا بدافع الإكراه وتحت طائلة القانون، وخوفاً من سلطات الدولة.

ولا يخفى على أي ذي لبّ رجحان الأوّل على الثاني في ميزان الحياة.

ثمّ إنّ اُمّهات هذه التقسيمات الحديثة الثمانية من القوانين والحقوق موجودة

__________________

(١) راجع هذا البحث في الجزء الثالث من المجموعة القرآنيّة التي تفسير الآيات تفسيراً موضوعياً وفي ضوء القرآن.

٤٥٩

بمغزاها في التشريع الإسلاميّ وإن لم تكن تحت العناوين والتسميات الحديثة فالقانون الأساسيّ في الإسلام هو عبارة عن الأحكام والاُصول الكليّة الموجودة في الكتاب والسنّة غير المتغيّرة عبر الزمان والمكان، والتي يجب أن يقوم عليها كلّ تخطيط وتنظيم لحياة المسلمين في جميع المجالات.

أمّا النظام الإداريّ ( وهو القسم الثاني من الحقوق الداخليّة العامّة ) فتجدها مذكورة بتوسّع وتفصيل في كتب الفقه وقد أخذها فقهاء الإسلام من سيرة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنّته الشريفة، وسيرة الإمام عليّ وكلماتهعليه‌السلام وغيرهما في المجال الإداريّ والتدبير الحكوميّ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على الكثير منها في الكتابين التاليين :

١. الراعي والرعيّة للفكيكيّ.

٢. نظام الحكم والإدارة في الإسلام للقرشيّ وغيرهما.

وأمّا الحقوق والقوانين الجزائيّة فقد ألّف فيها علماء الإسلام المطوّلات والمختصرات التي تحتوي على تفصيلاتها وجزئيّاتها فلاحظ كتب الحدود والقصاص والديات هذا كلّه في مجال الحقوق والقوانين الداخليّة العامّة.

وأمّا الداخليّة الخاصّة الراجعة إلى العلاقات العائليّة والشخصيّة فقد بسط فيها الفقهاء القول تحت عنوان « الأحوال الشخصيّة » والمذكورة ـ قديماً ـ تحت عناوين النكاح والطلاق والميراث والوصايا وما شابهها.

وأمّا ما يرجع إلى القضاء فقد بحث عنها الفقهاء تحت عنوان القضاء والشهادات.

وأمّا ما يرجع إلى ( العلاقات التجاريّة ) فقد بيّن الفقهاء أحكامها المفصّلة في كتبهم تحت العناوين التالية: التجارة، الخيار، السلف، المفلس، الحجر، الضمان، الصلح، العارية، الوديعة، الشركة، المضاربة، المزارعة، المساقاة، الإجارة، الوكالة، الوقف، السبق والرماية.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

(١١٠)

سورة النصر

مدنيّة. وهي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «ومن قرأها فكأنّما شهد مع محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتح مكّة».

وروى كرام الخثعمي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ) في نافلة أو فريضة نصره الله على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق، قد أخرجه الله من جوف قبره، فيه أمان من حرّ جهنّم، ومن النار، ومن زفير جهنّم، يسمعه بأذنيه، فلا يمرّ على شيء يوم القيامة إلّا بشّره، وأخبره بكلّ خير حتّى يدخل الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣) )

ولـمّا ختم الله سبحانه السورة المتقدّمة بذكر الدين، افتتح هذه السورة بظهور الدين، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ) وإغاثته، أي: إظهاره إيّاك على

٥٤١

أعدائك. ومنه: نصر الله الأرض، أغاثها.( وَالْفَتْحُ ) وفتح مكّة. وقيل: المراد جنس نصر الله المؤمنين، وفتح سائر بلاد الشرك عليهم. وإنّما عبّر عن الحصول بالمجيء تجوّزا، للإشعار بأنّ المقدّرات متوجّهة من الأزل إلى أوقاتها المعيّنة لها، فيقرب المقدّر من الوقت شيئا فشيئا، وقد قرب النصر من وقته، فكن مترقّبا لوروده، مستعدّا لشكره. والأكثر على القول الأوّل.

وكان فتح مكّة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان، ومع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة.

ثمّ خرج إلى هوازن، وهم أهل حنين، وحين دخلها وقف على باب الكعبة، ثمّ قال: لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثمّ قال: يا أهل مكّة ما ترون أنّي فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فأعتقهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ بايعوه على الإسلام.

وعن ابن مسعود قال: دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستّون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحقّ وما يبدئ الباطل وما يعيد، جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا.

وعن ابن عبّاس قال: لـمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت صورة إبراهيم وإسماعيلعليهما‌السلام وفي أيديهما الأزلام، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قاتلهم الله أما والله لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ.

( وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ ) حال على أنّ «رأيت» بمعنى: أبصرت. أو مفعول ثان على أنّه بمعنى: علمت.( فِي دِينِ اللهِ ) في ملّة الإسلام الّتي لا دين له يضاف إليه غيرها، لقوله:( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) (١) ( أَفْواجاً ) جماعات كثيفة، أي: كانت تدخل في الإسلام قبيلة بعد قبيلة، كأهل مكّة والطائف

__________________

(١) آل عمران: ٨٥.

٥٤٢

وهوازن وسائر قبائل العرب، بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين.

وعن جابر بن عبد اللهرضي‌الله‌عنه : أنّه بكى ذات يوم، فقيل له. فقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: دخل الناس في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا.

وقيل: أراد بالناس أهل اليمن.

قال أبو هريرة: لـمّا نزلت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن، قوم رقيقة قلوبهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانيّة». وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أجد نفير ربّكم من قبل اليمن».

وعن الحسن: لـمّا فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا: أما إذ ظفرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وعن كلّ من أرادهم، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال.

وتفصيل قصّة فتح مكّة مذكور في سورة الفتح(١) ، فلتطلب هناك.

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) فتعجّب لتيسير الله ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم، حامدا له عليه زيادة في عبادته والثناء عليه، لزيادة إنعامه عليك. أو فصلّ له حامدا على نعمه.

روي: أنّه لـمّا دخل مكّة بدأ بالمسجد، فدخل الكعبة وصلّى ثمان ركعات. أو فنزّهه عمّا كانت الظلمة يقولون فيه، حامدا له على أن صدق وعده. أو فأثن على الله بصفات الجلال، حامدا له على صفات الإكرام.

( وَاسْتَغْفِرْهُ ) هضما لنفسك، واستقصارا لعملك، واستدراكا لـما فرط منك من الالتفات إلى غيره. وعنهعليه‌السلام : «إنّي لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرّة».

وقيل: استغفره لأمّتك. وتقديم التسبيح على الحمد، ثمّ الحمد على الاستنفار، على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله.

( إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ) لمن استغفره مذ خلق المكلّفين. وروي: أنّه كان يكثر قبل

__________________

(١) راجع ج ٦ ص ٣٧١.

٥٤٣

موته أن يقول: «سبحانك أللّهمّ وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك».

وقيل: الأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين، من الجمع بين الطاعة والاحتراس من ترك الأولى، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمّته. ولأنّ الاستغفار من التواضع لله وهضم النفس، فهو عبادة في نفسه.

وعن أمّ سلمة قالت: «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآخرة لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلّا قال: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه. فسألناه عن ذلك. فقال: إنّي أمرت بها، ثمّ قرأ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ) .

وروي: أنّه لـمّا قرأها على أصحابه استبشروا، وبكى العبّاس. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يبكيك يا عمّ. قال: نعيت إليك نفسك. فقال: إنّه لكما تقول. فعاش بعدها سنتين لم ير فيهما ضاحكا مستبشرا.

وقيل: إنّ ابن عبّاس هو الّذي قال ذلك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا».

وروي: أنّه لـمّا نزلت خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: «إنّ عبدا خيّره الله بين الدنيا وبين لقاء ربّه، فاختار لقاء الله».

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه دعا فاطمةعليهما‌السلام فقال: «يا بنتاه، إنّه نعيت إليّ نفسي. فبكت. فقال: لا تبكي، فإنّك أوّل أهلي لحوقا بي».

٥٤٤

(١١١)

سورة أبي لهب

وتسمّى سورة المسد. مكّيّة. وهي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «ومن قرأها رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة».

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «إذا قرأتم «تبّت» فادعوا على أبي لهب، فإنّه كان من المكذّبين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبما جاء به من عند الله».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥) )

ولـمّا ذكر سبحانه في سورة النصر وعده بالنصر والفتح، بيّن في هذه السورة ما كفاه الله من أمر أبي لهب، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * تَبَّتْ ) هلكت، أو خسرت. من التباب، وهو خسران يؤدّي إلى الهلاك. ومنه قولهم: أشابّة أم تابّة؟ أي: هالكة من الهرم.( يَدا

٥٤٥

أَبِي لَهَبٍ ) بن عبد المطّلب عمّ النبيّ. والمراد نفسه، كقوله:( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (١) . وقيل: معناه: صفرت يداه من كلّ خير.

وإنّما خصّتا لـما روي أنّهعليه‌السلام لـمّا نزل عليه( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) رقى الصفا وقال: «يا صباحاه، فاجتمع إليه الناس من كلّ أوب. فقال: يا بني عبد المطّلب، يا بني فهر، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقيّ؟

قالوا: نعم. قال: فإنّي نذير بين يدي الساعة».

فقال أبو لهب: تبّا لك ألهذا دعوتنا؟

وأخذ حجرا ليرميه، فنزلت. وقيل: المراد بهما دنياه وأخراه.

وإنّما كنّاه والتكنية تكرمة، لاشتهاره بكنيته دون اسمه، لحسنه وإشراق وجهه، وكانت وجنتاه كأنّهما تلتهبان. أو لأنّ اسمه عبد العزّى، فاستكره ذكره. أو لأنّه لـمّا كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله. أو ليجانس قوله: «ذات لهب». أو ليتهكّم به وبافتخاره بذلك. وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء.

( وَتَبَ ) إخبار بعد إخبار. والتعبير بالماضي لتحقّق وقوعه، كقوله :

جزاني جزاه الله شرّ جزائه

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

أو الأوّل إخبار عمّا كسبت يداه، والثاني عن عمل نفسه.

روي: أنّه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقّا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي. فردّ الله تعالى عليه ذلك القول بقوله:( ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ ) إمّا نفي لإغناء المال عنه حين نزل به التباب، أو استفهام إنكار، ومحلّها النصب( وَما كَسَبَ ) موصولة أو مصدريّة، أي: وما كسبه. يعني: مكسوبه أو وكسبه بماله، من النتائج والأرباح، والوجاهة والأتباع والخدم. أو عمله الّذي ظنّ أنّه ينفعه. أو ولده عتبة.

__________________

(١) البقرة: ١٩٥.

(٢) الشعراء: ٢١٤.

٥٤٦

وحكي: أنّ بني أبي لهب احتكموا إلى ابن عبّاس فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع، فغضب ابن عبّاس فقال: أخرجوا عنّي الكسب الخبيث. ومنه: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه».

وقد افترس أسد عتبة في طريق الشام وقد أحدق به العير. ومات أبو لهب بالعدسة ـ وهي بثرة(١) تخرج بالإنسان ـ بعد وقعة بدر بأيّام معدودة، وترك ثلاثا حتّى أنتن، ثمّ استأجروا بعض السودان حتّى دفنوه. فهو إخبار عن الغيب طابقه وقوعه.

( سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ) اشتعال. يريد نار جهنّم. وفي هذا دلالة على صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحّة نبوّته، لأنّه أخبر بأنّ أبا لهب يموت على كفره، وكان كما قال.

وقال صاحب المجمع: «وإذا قيل: هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة؟ وهل كان يقدر على الإيمان؟ ولو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنّه سيصلى نارا ذات لهب.

فالجواب: أنّ الإيمان يلزمه، لأنّ تكليف الإيمان ثابت عليه، وإنّما توعّده الله بشرط أن لا يؤمن. ألا ترى إلى قوله سبحانه في قصّة فرعون( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) (٢) . وفي هذا دلالة على أنّه لو تاب قبل وقت اليأس لكان يقبل منه، ولهذا خصّ ردّ التوبة عليه بذلك الوقت. وأيضا فلو قدّرنا أنّ أبا لهب سأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: لو آمنت هل أدخل النار؟ لكانعليه‌السلام يقول له: لا، وذلك لعدم الشرط»(٣) .

( وَامْرَأَتُهُ ) عطف على المستكن في «سيصلى» أي: سيصلاها هو وامرأته، وهي أمّ جميل بنت حرب أخت أبي سفيان( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) صفتها. والمراد

__________________

(١) البثرة: خراج صغير، كالدمّلة.

(٢) يونس: ٩١.

(٣) مجمع البيان ١٠: ٥٦٠.

٥٤٧

حطب جهنّم، فإنّها كانت تحمل الأوزار بمعاداة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحمل زوجها على إيذائه. أو حزمة الشوك، لـما روي أنّها كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك(١) فتنثرها بالليل في طريق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقيل: كانت تمشي بالنميمة. ويقال للمشّاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي: يوقد بينهم نائرة الخصومة، ويورّث الشرّ.

وقرأ عاصم بالنصب على الشتم. وهذه القراءة أحسن، لأنّها قد توسّل بها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجميل: من أحبّ شتم أمّ جميل.

ويجوز أن يكون قوله: «امرأته» مرفوعا بالابتداء، وخبره( فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) أي: ممّا مسد، أي: فتل من الحبال فتلا شديدا، من ليف كان أو جلد، أو غيرهما. ومنه: رجل ممسود الخلق، أي: مجدوله(٢) . وعلى الأوّل فالظرف موضع الحال. وهو تصوير لها بصورة الحطّابة الّتي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها، تحقيرا لشأنها، أو بيانا لحالها في نار جهنّم، حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنّم من شجر الزقّوم والضريع، وفي جيدها سلسلة من النار، كما يعذّب كلّ مجرم بما يجانس حاله في جرمه.

وعن ابن عبّاس: في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا، تدخل من فيها، وتخرج من دبرها، وتدار على عنقها في النار.

ويروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لـمّا نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أمّ جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر(٣) ، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في المسجد

__________________

(١) الحسك: نبات شائك.

(٢) يقال: رجل مجدول، أي: لطيف القصب محكم الفتل. والقصب جمع القصبة: الخصلة الملتوية من الشعر.

(٣) الفهر: حجر رقيق تسحق به الأدوية.

٥٤٨

ومعه أبو بكر. فلمّا رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت، وأنا أخاف أن تراك. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّها لن تراني، وقرأ قرآنا فاعتصم به، كما قال:( وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) (١) . فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت: يا أبا بكر أخبرت أنّ صاحبك هجاني. فقال: لا وربّ الكعبة ما هجاك. قال: فولّت وهي تقول: قريش تعلم أنّي بنت سيّدها. ويروى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ما زال ملك يسترني عنها».

__________________

(١) الإسراء: ٤٥.

٥٤٩
٥٥٠

(١١٢)

سورة الإخلاص

مكّيّة. وقيل: مدنيّة. وسمّيت سورة الإخلاص، لأنّه ليس فيها إلّا التوحيد، وكلمة التوحيد تسمّى كلمة الإخلاص.

وقيل: إنّما سمّيت بذلك، لأنّ من تمسّك بما فيها اعتقادا وإقرارا كان مؤمنا مخلصا.

وقيل: لأنّ من قرأها على سبيل التعظيم أخلصه الله من النار، أي: أنجاه منها.

وتسمّى أيضا سورة الصّمد. وتسمّى أيضا بفاتحتها. وتسمّى أيضا نسبة الربّ. وروي في الحديث: «لكلّ شيء نسبة، ونسبة الله سورة الإخلاص».

وفي الحديث أيضا: «أنّه كان يقول لسورتي( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) و( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) المقشقشتان». سمّيتا بذلك لأنّهما تبرّئان من الشرك والنفاق.

يقال: تقشقش المريض من مرضه إذا أفاق وبرىء. وقشقشه: أبرأه، كما يقشقش الهناء(١) الجرب.

وعدد آيها أربع.

في حديث أبيّ: «من قرأها فكأنّما قرأ ثلث القرآن، واعطي من الأجر عشر

__________________

(١) الهناء: القطران. وهو: سيّال دهني يتّخذ من بعض الأشجار، كالصنوبر. والجرب: داء يحدث في الجلد بثورا صغارا لها حكّة شديدة.

٥٥١

حسنات، بعدد من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر».

وعن أبي الدرداء، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في كلّ ليلة؟ قلت: يا رسول الله من يطيق ذلك؟ قال: اقرؤا( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ».

وعن أنس، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) مرّة بورك عليه.

ومن قرأها مرّتين بورك عليه، وعلى أهله. فإن قرأها ثلاث مرّات بورك عليه، وعلى أهله، وعلى جميع جيرانه. فإن قرأها اثنتي عشرة مرّة بني له اثنا عشر قصرا في الجنّة. فتقول الحفظة: انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا. فإن قرأ مائة مرّة كفّر عنه ذنوب خمس وعشرين سنة، ما خلا الدماء والأموال. فإن قرأها أربعمائة مرّة كفّر عنه ذنوب أربعمائة سنة. فإن قرأها ألف مرّة لم يمت حتّى يرى مكانه في الجنّة، أو يرى له».

وعن سهل بن سعد الساعدي قال: «جاء رجل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشكا إليه الفقر وضيق المعاش. فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا دخلت بيتك فسلّم إن كان فيه أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلّم واقرأ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) مرّة واحدة. ففعل الرجل، فأدرّ الله عليه رزقا حتّى أفاض على جيرانه».

السكوني، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : «أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى على سعد بن معاذ، فلمّا صلّى عليه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد وافى من الملائكة سبعون ألف ملك ـ وفيهم جبرئيل ـ يصلّون عليه. فقلت: يا جبرئيل بم استحقّ صلاتكم عليه؟ فقال: بقراءة( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) قائما، وقاعدا، وراكبا، وماشيا، وذاهبا، وجائيا».

منصور بن حازم، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من مضى به يوم واحد، فصلّى فيه بخمس صلوات، ولم يقرأ فيها بـ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ، قيل: يا عبد الله لست من المصلّين».

إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من مضت له جمعة ولم يقرأ

٥٥٢

فيها بـ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ثمّ مات مات على دين أبي لهب».

هارون بن خارجة، عنهعليه‌السلام قال: «من أصابه مرض أو شدّة، فلم يقرأ في مرضه أو شدّته بـ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ثمّ مات في مرضه أو في تلك الشدّة الّتي نزلت به، فهو من أهل النار».

أبو بكر الحضرمي، عنهعليه‌السلام قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة بـ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) فإنّ من قرأها جمع له خير الدنيا والآخرة، وغفر له ولوالديه وما ولدا».

عبد الله بن حجر قال: «سمعت أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: من قرأ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) إحدى عشرة مرّة في دبر الفجر، لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب، وأرغم أنف الشيطان».

إبراهيم بن مهزم، عمّن سمع أبا الحسنعليه‌السلام يقول: «من قدّم( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) بينه وبين كلّ جبّار منعه الله منه. ومن يقرؤها بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، رزقه الله خيره ومنعه شرّه». وقال: «إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آية من القرآن حيث شئت، ثمّ قل: أللّهمّ اكشف عنّي البلاء، ثلاث مرّات».

عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّعليه‌السلام قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) مائة مرّة حين يأخذ مضجعه، غفر الله له ذنوب خمسين سنة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤) )

٥٥٣

واعلم أنّه سبحانه لـمّا ذمّ أعداء أهل التوحيد في السورة المتقدّمة، ذكر في هذه السورة بيان التوحيد، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) الضمير للشأن، كقولك: هو زيد منطلق. وارتفاعه بالابتداء، وخبره الجملة. ولا حاجة إلى العائد، لأنّها هي هو، فحكم هذه الجملة حكم المفرد. أو لـما سئل عنه، أي: الّذي سألتم عنه هو الله، إذ روي أنّ قريشا قالوا: يا محمّد صف لنا ربّك الّذي تدعونا إليه. يعني: الّذي سألتموني وصفه هو الله المستجمع لجميع صفات الكمال. وعلى هذا قوله: «أحد» بدل، أو خبر ثان. وأصله: وحد. يدلّ على مجامع صفات الجلال، كما دلّ لفظ الله على مجامع صفات الكمال، إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزّها بالذات عن أنحاء التركيب والتعدّد، وما يستلزم أحدهما، كالجسميّة والتحيّز والمشاركة في الحقيقة وخواصّها، كوجوب الوجود، والقدرة الذاتيّة، والحكمة التامّة المقتضية للألوهيّة.

وقيل: إنّما قال «أحد»، ولم يقل: واحد، لأنّ الواحد يدخل في الحساب، ويضمّ إليه آخر. وأمّا الأحد فهو الّذي لا يتجزّأ، ولا ينقسم في ذاته، ولا في معنى صفاته بحسب الاعتبار. ويجوز أن يجعل للواحد ثانيا، ولا يجوز أن يجعل للأحد ثانيا. ألا ترى إنّك لو قلت: فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقاومه اثنان. ولو قلت: لا يقاومه أحد، لم يجز أن يقاومه اثنان ولا أكثر. فهو أبلغ.

وقال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام في معنى( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) : «أي: قل: أظهر ما أوحينا إليك وما أنبأناك به، بتأليف الحروف الّتي قرأناها عليك، ليهتدي بها من ألقى السمع وهو شهيد».

«و «هو» اسم مكنيّ مشار إلى غائب. فالهاء تنبيه عن معنى ثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن الحواسّ، كما أنّ «هذا» إشارة إلى الشاهد عند الحواسّ.

وذلك أنّ الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة إلى المشاهد المدرك، فقالوا: هذه

٥٥٤

آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار، فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الّذي تدعو إليه حتّى ندركه، فأنزل الله سبحانه( قُلْ هُوَ ) . فالهاء تثبيت للثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواسّ، وأنّه يتعالى عن ذلك، بل هو مدرك الأبصار ومبدع الحواسّ».

وحدّثني أبي عن أبيه، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «رأيت الخضرعليه‌السلام في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علّمني شيئا أنتصر به على الأعداء. فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلّا هو. فلمّا أصبحت قصصتها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لي: يا عليّ علّمت الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر».

قال: «وقرأعليه‌السلام يوم بدر( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) فلمّا فرغ قال: يا هو، يا من لا هو إلّا هو، اغفر لي وانصرني على القوم الكافرين. وكان يقول ذلك يوم صفّين وهو يطارد. فقال له عمّار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: اسم الله الأعظم وعماد التوحيد: الله لا إله إلّا هو. ثمّ قرأ:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) (١) وآخر الحشر. ثمّ نزل فصلّى أربع ركعات قبل الزوال».

قال: «وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : الله معناه: المعبود الّذي يأله فيه الخلق، ويؤله إليه الله، المستور عن إدراك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات».

قال الباقرعليه‌السلام : «الله معناه: المعبود الّذي أله الخلق عن إدراك ماهيّته والإحاطة بكيفيّته.

ويقول العرب: أله الرجل إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علما.

ووله إذا فزع إلى شيء. قال: والأحد: الفرد المتفرّد. والأحد والواحد بمعنى المتفرّد الّذي لا نظير له. والتوحيد: الإقرار بالوحدة، وهو الانفراد. والواحد: المباين الّذي لا ينبعث من شيء، ولا يتّحد بشيء. ومن ثمّ قالوا: إنّ بناء العدد من الواحد، وليس الواحد من العدد، لأنّ العدد لا يقع على الواحد، بل يقع على الاثنين. فمعنى قوله

__________________

(١) آل عمران: ١٨.

٥٥٥

( اللهُ أَحَدٌ ) أي: المعبود الّذي يأله الخلق عن إدراكه والإحاطة بكيفيّته، فرد بإلهيّته، متعال عن صفات خلقه».

( اللهُ الصَّمَدُ ) فعل بمعنى المفعول، أي: السيّد المصمود إليه في الحوائج.

من: صمد إليه إذا قصد. وهو الموصوف به على الإطلاق، فإنّه يستغني عن غيره مطلقا، وكلّ ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته.

وقال الباقرعليه‌السلام : «حدّثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن عليّعليه‌السلام أنّه قال: الصمد: الّذي قد انتهى سؤدده. والصمد: الدائم الّذي لم يزل ولا يزال.

والصمد: الّذي لا يأكل ولا يشرب».

أراد بذلك أنّه الحيّ الّذي لا يحتاج إلى شيء أصلا.

وتعريفه لعلمهم بصمديّته، بخلاف أحديّته. وتكرير لفظ «الله» للإشعار بأنّ من لم يتّصف به لم يستحقّ الألوهيّة. وإخلاء الجملة عن العاطف، لأنّها كالنتيجة للأولى، أو الدليل عليها.

وقال أبو البختري وهب بن وهب: حدّثني الصادق جعفر بن محمد، عن الباقر، عن أبيهعليهم‌السلام : «أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليّعليهما‌السلام يسألونه عن الصمد. فكتب إليهم: بسم الله الرّحمن الرّحيم. أمّا بعد ؛ فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تتكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار، وإنّ الله سبحانه قد فسّر الصمد بقوله:( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .

( لَمْ يَلِدْ ) لأنّه لم يجانس حتّى تكون من جنسه صاحبة فيتوالدا، كما قال:( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ ) (١) . ولم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه، لامتناع الحاجة والفناء عليه. ولعلّ الاقتصار على لفظ الماضي لوروده ردّا على من

__________________

(١) الأنعام: ١٠١.

٥٥٦

قال: الملائكة بنات الله أو المسيح ابن الله، أو ليطابق قوله:( وَلَمْ يُولَدْ ) لأنّ كلّ مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أوّل لوجوده، وليس بجسم.

( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) أي: ولم يكن أحد يكافئه ـ أي: يماثله ـ من صاحبة أو غيرها. ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، نفيا للصاحبة. وكان الأصل أن يؤخّر الظرف الّذي هو لغو غير مستقرّ، وقد نصّ سيبويه على امتناع تقديمه، لكن لـمّا كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدّم، تقديما للأهمّ.

ويجوز أن يكون حالا من «أحد». ولعلّ ربط الجمل الثلاث بالعطف لأنّ المراد منها نفي أقسام المكافأة، فهي كجملة واحدة منبّهة عليها بالجمل.

وقرأ حمزة ويعقوب ونافع في رواية: كفؤا بالتخفيف. وحفص كفوا، بالحركة وقلب الهمزة واوا.

ولاشتمال هذه السورة ـ مع قصرها ـ على جميع المعارف الإلهيّة، والردّ على من ألحد فيها، جاء في الحديث أنّها تعدل ثلث القرآن، فإنّ مقاصده محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص. ومن عدلها بكلّه اعتبر المقصود بالذات من ذلك، فإنّ هذه السورة إنّما هي في بيان الأوّل، لأنّها مشتملة على صفاته الجلال والكمال، فإنّ قوله:( هُوَ اللهُ ) إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء وفاطرها. وفي طيّ ذلك وصفه بأنّه قادر عالم، لأنّ الخلق يستدعي القدرة والعلم، لكونه واقعا على غاية إحكام واتّساق وانتظام. وفي ذلك وصفه بأنّه حيّ سميع بصير. وقوله: «أحد» وصف بالوحدانيّة ونفي الشركاء. وقوله: «الصمد» وصف بأنّه ليس إلّا محتاجا إليه، وإذا لم يكن إلّا محتاجا إليه فهو غنيّ. وفي كونه غنيّا مع كونه عالما أنّه عدل غير فاعل للقبائح، لعلمه بقبح القبيح، وعلمه بغناه عنه. وقوله:( وَلَمْ يُولَدْ ) وصف بالقدم والأوّليّة. وقوله:( لَمْ يَلِدْ ) نفي للشبه والمجانسة. وقوله:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) تقرير لذلك، وبتّ للحكم به.

٥٥٧

وعن عبد خير قال: سأل رجل عليّاعليه‌السلام عن تفسير هذه السورة فقال: «قل هو الله أحد بلا تأويل عدد، الصمد بلا تبعيض بدد، لم يلد فيكون والدا، ولم يولد فيكون إلها مشاركا، ولم يكن له من خلقه كفوا أحد».

وقال بعض العرفاء المحقّقين: إنّا وجدنا أنواع الشرك ثمانية: النقص، والتقلّب، والكثرة، والعدد، وكونه علّة، أو معلولا، والأشكال، والأضداد. فنفى الله سبحانه عن صفته نوع الكثرة والعدد بقوله:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) . ونفى التقلّب والنقص بقوله:( اللهُ الصَّمَدُ ) . ونفى العلّة والمعلول بقوله:( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ) . ونفى الأشكال والأضداد بقوله:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) . فحصلت الوحدانيّة البحت.

وروى عمران بن الحصين: «أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث سريّة واستعمل عليها عليّاعليه‌السلام ، فلمّا رجعوا سألهم عن عليّعليه‌السلام . فقالوا كلّ خير، غير أنّه كان يقرأ بنا في صلاته( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) . فقال: يا عليّ لم فعلت هذا؟ قال: لحبّي( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) . فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أحببتها حتّى أحبّك اللهعزوجل ».

ويروى: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقف عند كلّ آية من هذه السورة.

وروى الفضيل بن يسار قال: «أمرني أبو جعفرعليه‌السلام أن أقرأ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) .

وأقول إذا فرغت منها: كذلك الله ربّي، ثلاثا».

٥٥٨

(١١٣)

سورة الفلق

مدنيّة في أكثر الأقوال. وقيل: مكّيّة. وهي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «ومن قرأ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) و( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) فكأنّما قرأ جميع الكتب الّتي أنزلها الله على الأنبياء».

وعن عقبة بن عامر، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنزلت عليّ آيات لم ينزل مثلهنّ: المعوّذتان». أورده مسلم في الصحيح(١) .

وعنه، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «يا عقبة ألا أعلّمك سورتين هما أفضل القرآن، أو من أفضل القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله. فعلّمني المعوذّتين، ثم قرأ بهما في صلاة الغداة. وقال لي: اقرأهما كلّما قمت ونمت».

أبو عبيدة الحذّاء عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من أوتر بالمعوذّتين و( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) قيل له: يا عبد الله أبشر فقد قبل الله وترك».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥) )

__________________

(١) صحيح مسلم ١: ٥٥٨ ح ٢٦٥.

٥٥٩

ولـمّا ذمّ الله سبحانه أعداء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة تبّت، ثمّ ذكر التوحيد في سورة( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) رغما عليهم، ذكر الاستعاذة منهم في هاتين السورتين، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) ما يفلق عنه، أي: يفرّق عنه، كالفرق. فعل بمعنى مفعول. وهو في الأصل يعمّ جميع الممكنات، فإنّه تعالى فلق ظلمة العدم بنور الإيجاد عنها، سيّما ما يخرج من أصل، كالعيون من الجبال، والأمطار من السحاب، والنبات من الأرض، والأولاد من الأرحام، والحبّ من النوى، وغير ذلك. ويختصّ عرفا بالصبح، فإنّ الليل يفرق عنه. يقال في المثل: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح. ولذلك فسّر به. وتخصيصه لـما فيه من تغيّر الحال، وتبدّل وحشته بالليل بسرور النور، ومحاكاة فاتحة يوم القيامة، والإشعار بأنّ من قدر أن يزيل به ظلمة الليل عن هذا العالم، قدر أن يزيل عن العائذ به ما يخافه. ولفظ الربّ هنا أوقع من سائر أسمائه، لأنّ الإعاذة من مصالح الربوبيّة.

وقيل: هو واد في جهنّم، أوجبّ فيها. وعن بعض الصحابة: أنّه قدم الشام فرأى دور أهل الذمّة، وما هم فيه من خفض العيش، وما وسع عليهم من دنياهم، فقال: لا أبالي، أليس من ورائهم الفلق؟ فقيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنّم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه.

( مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ ) من شرّ خلقه. وشرّهم: ما يفعله المكلّفون، من المعاصي والمآثم. ومضارّة بعضهم بعضا، من ظلم وبغي وقتل وضرب وشتم، وغير ذلك. وما يفعله غير المكلّفين منه، من الأكل والنهش(١) واللدغ والعضّ الصادرة من السباع والحشرات. وغير ذلك من أنواع الضرر، كالإحراق بالنار، والإغراق بالماء، والقتل بالسمّ، والهدم، والسقوط من المواضع المرتفعة. وخصّ عالم الخلق بالاستعاذة عنه

__________________

(١) نهشه: تناوله بفمه ليعضّه، فيؤثّر فيه ولا يجرحه.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579