زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579
المشاهدات: 48292
تحميل: 3435


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48292 / تحميل: 3435
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-09-4
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ) يعني: القرآن، فإنّه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر لغيره ممّا فيه شرحه وبيانه( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) فمجاز عليه.

( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ) ظرف لـ «تنبّؤنّ» أو لـ «خبير» لـما فيه من معنى الوعيد، كأنّه قيل: والله معاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار: اذكر. وقرأ يعقوب: نجمعكم بالنون.

( لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) لأجل يوم يجمع فيه الأوّلون والآخرون للحساب في الجزاء( ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ ) يغبن فيه بعضهم بعضا، لنزول السعداء منازل الأشقياء الّتي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء الّتي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. وفيه تهكّم بالأشقياء، لأنّ نزولهم ليس بغبن.

وفي حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلّا أري مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكرا. وما من عبد يدخل النار إلّا أري مقعده من الجنّة لو أحسن، ليزداد حسرة».

ويوم التغابن بهذا المعنى مستعار من: تغابن القوم في التجارة. واللام فيه للدلالة على أنّ التغابن الحقيقي في أمور الآخرة لعظمها ودوامها.

وقيل: تغابن تفاعل من الغبن، وهو أخذ شرّ وترك خير، وهو المغبون، أو أخذ خير وترك شرّ، فهو الغابن. فالمؤمن ترك حظّه من الدنيا، وأخذ حظّه من الآخرة، فترك ما هو شرّ له، وأخذ ما هو خير له، فكان غابنا. والكافر ترك حظّه من الآخرة، وأخذ حظّه من الدنيا، فترك الخير وأخذ الشرّ، فكان مغبونا. فيظهر في ذلك اليوم الغابن والمغبون.

فعلى هذا ؛ الآيتان المذكورتان بعد ذلك تفصيل للتغابن، وهما قوله:( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً ) أي: عملا صالحا( يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ) معاصيه( وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) مؤبّدين فيها، ولا يفنى

٨١

ما هم فيه من النعيم أبدا. وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما.( ذلِكَ ) الإشارة إلى مجموع الأمرين، ولذلك جعله الفوز العظيم بقوله:( الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) لأنّه جامع للمصالح، من دفع المضارّ وجلب المنافع.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ) بحججنا ودلائلنا( أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) المآل والمرجع.

( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) إلّا بتقديره وعلمه ومشيئته، فكأنّه أذن للمصيبة أن تصيبه. أو إلّا بتخلية الله بينكم وبين من يريد فعلها.

( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ ) يصدّق به، ويرض بقضائه( يَهْدِ قَلْبَهُ ) يلطف به ويشرحه، للازدياد من الطاعة والخير، والثبات عليه. وقيل: هو الاسترجاع عند حلول المصيبة. وعن مجاهد: إن ابتلي صبر، وإن ظلم غفر. ويجوز أن يكون المعنى: أنّ المؤمن واجد لقلبه مهتد إليه، كقوله:( لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) (١) . والكافر ضالّ عن قلبه بعيد منه.

( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) حتّى يعلم ما يؤثّر فيه اللطف من القلوب ممّا لا يؤثّر فيه، فيمنحه ويمنعه.

( وَأَطِيعُوا اللهَ ) في جميع ما أمركم به( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) في جميع ما آتاكم به( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) أعرضتم عن القبول منه( فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) أي: فإن تولّيتم فلا بأس عليه، لأنّه لم يكتب عليه طاعتكم وتولّيكم، إذ وظيفته التبليغ وقد بلّغ.

ثمّ بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على التوكّل عليه والتقوّي به في أمره، حتّى ينصره على من كذّبه وتولّى عنه، فقال:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) لأنّ الإيمان يقتضي التوكّل عليه.

__________________

(١) ق: ٣٧.

٨٢

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) )

عن ابن عبّاس ومجاهد: أنّ قوما أرادوا الهجرة عن مكّة فثبّطهم نساؤهم وأولادهم عنها، فقالوا: تنطلقون وتضيّعوننا، فرقّوا لهم ووقفوا. فلمّا هاجروا بعد ذلك ورأوا الّذين سبقوهم قد فقهوا في الدين، أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم.

وقيل: قالوا لهم: أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم؟ فغضبوا عليهم وقالوا: إن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير. فلمّا هاجروا منعوهم الخير، فنزلت :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) و «من» للتبعيض، أي: بعضا منهنّ بهذه الصفة( وَأَوْلادِكُمْ ) أي: بعضا منهم( عَدُوًّا لَكُمْ ) يشغلكم عن طاعة الله. أو يخاصمكم في أمر الدين أو الدنيا.

( فَاحْذَرُوهُمْ ) ولا تأمنوا غوائلهم( وَإِنْ تَعْفُوا ) عن ذنوبهم بترك المعاقبة( وَتَصْفَحُوا ) بالإعراض، وترك التثريب عليها( وَتَغْفِرُوا ) بإخفائها، وتمهيد معذرتهم فيها( فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يعاملكم بمثل ما عملتم، ويتفضّل عليكم.

( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ

٨٣

لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) )

وقيل: كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل ومال، فإذا أراد أن يغزوا تعلّقوا به وبكوا إليه ورقّقوه، فهمّ بأذاهم. فنزلت :

( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) بلاء ومحنة، لأنّهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما. ألا ترى إلى قوله:( وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) لمن آثر محبّة الله وطاعته على محبّة الأموال والأولاد والسعي لهم. وفي الحديث: «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته».

وعن بعض السّلف: العيال سوس الطاعات.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّه كان يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجره على المنبر فقال: صدق اللهعزوجل ( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) . رأيت هذين الصبيّين فلم أصبر عنهما. ثمّ أخذ في خطبته».

وعن ابن مسعود قال: لا يقولنّ أحدكم: أللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، فإنّه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلّا وهو مشتمل على فتنة. ولكن ليقل: أللّهمّ إنّي أعوذ بك من مضلّات الفتن.

( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) أي: ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. ولا تنافي بين هذا وبين قوله:( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (١) لأنّ كلّ واحد منهما إلزام لترك جميع المعاصي، فمن فعل ذلك فقد اتّقى عقاب الله، لأنّ من لم يفعل قبيحا ولا أخلّ بواجب فلا عقاب عليه. إلّا أنّ في أحد الكلامين تبيينا أنّ التكليف لا يلزم العبد إلّا

__________________

(١) آل عمران: ١٠٢.

٨٤

فيما يطيق، وكلّ أمر أمر الله به فلا بدّ أن يكون مشروطا بالاستطاعة.

( وَاسْمَعُوا ) مواعظه( وَأَطِيعُوا ) أوامره( وَأَنْفِقُوا ) في وجوه الخير الّتي وجبت عليكم النفقة فيها خالصا لوجهه( خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ ) نصب بمحذوف، تقديره: ائتوا خيرا لأنفسكم، أي: افعلوا ما هو خير لها وأنفع. وهو تأكيد للحثّ على امتثال هذه الأوامر، وبيان لأنّ هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد، وما أنتم عاكفون عليه من حبّ الشهوات وزخارف الدنيا. ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف، أي: إنفاقا خيرا، أو خبرا لـ «كان» مقدّرا جوابا للأوامر.

( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) حتّى يعطي حقّ الله من ماله( فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) سبق تفسيره.

( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ ) بصرف الأموال فيما أمره لكم( قَرْضاً حَسَناً ) مقرونا بإخلاص وطيب قلب( يُضاعِفْهُ لَكُمْ ) يجعل لكم بالواحد عشرا إلى سبعمائة وأكثر. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: يضعّفه.( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) ببركة الإنفاق( وَاللهُ شَكُورٌ ) مجاز، أي: يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب، فيعطي الجزيل بالقليل. وكذلك قوله:( حَلِيمٌ ) أي: يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء، فلا يعاجلكم بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم.

( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ) عالم السرّ والعلانية، لا يخفى عليه شيء( الْعَزِيزُ ) الغالب على ما سواه( الْحَكِيمُ ) تامّ القدرة والعلم.

٨٥
٨٦

(٦٥)

سورة الطلاق

مدنيّة بالإجماع. وهي إحدى عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة الطلاق مات على سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضته أعاذه الله تعالى من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن، وعوفي من النار، وأدخله الله الجنّة بتلاوته إيّاهما ومحافظته عليهما، لأنّهما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ

٨٧

يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة التغابن بذكر النساء والتحذير منهنّ، افتتح هذه السورة بذكرهنّ وذكر أحكامهنّ وأحكام فراقهنّ، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) ناداه بهذا النداء تشريفا له، وتعليما لعباده كيف يحاورونه في أثناء محاوراتهم، ويذكرونه في خلال كلامهم.

وخصّ النداء وعمّ الخطاب بالحكم، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمام أمّته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، إظهارا لتقدّمه، واعتبارا لترؤّسه، ونظرا إلى أنّه الّذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدّون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلّهم، وسادّا مسدّ جميعهم، فنداؤه كندائهم.

وعن الجبائي: تقديره: قل إذا طلّقتم. أو لأنّ الكلام معه، والحكم يعمّهم.

وهذا أحسن الوجوه. ولا يلزم خروجه عن الحكم على هذا الوجه، لأنّه إنّما جعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمرا تنزيها له عن فعل المكروه بغير داع يدعو إليه، فإنّ الطلاق من غير داع مكروه، لكونه خلاف النكاح المرغوب، ولما رواه الثعلبي عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «تزوّجوا ولا تطلّقوا، فإنّ المطلّق يهتزّ منه العرش».

وعن ثوبان يرفعه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنّة».

والمعنى: إذا أردتم تطليقهنّ، على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة

٨٨

الشارع فيه، كقوله تعالى:( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) (١) ( وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ) (٢) .

كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قتل قتيلا فله سلبه».

( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ ) أي: وقتها. وهو الطهر، فإنّ اللام في الأزمان للتأقيت، كأنّه قال: فطلّقوهنّ في طهرهنّ الّذي يحصينه من عدّتهنّ، ولا تطلّقوهنّ لحيضهنّ الّذي لا يعتددن به من زمان العدّة. فظاهره يدلّ على أنّ العدّة بالأطهار، كما هو مذهب أصحابنا والشافعيّة، ومرويّ عن ابن عبّاس وابن مسعود والحسن ومجاهد وابن سيرين وقتادة والضحّاك والسدّي. وأنّ طلاق المعتدّة بالأقراء ينبغي أن يكون في الطهر، وأنّه يحرم في الحيض من حيث إنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه. وهذا يدلّ على عدم وقوعه، إذ النهي يستلزم الفساد عندنا، فإنّ النهي عن نفس الطلاق، وقد نقل عن المحقّقين أنّ النهي عن الشيء نفسه أو جزئه أو لازمه يدلّ على الفساد، كما حقّق في الأصول.

وروى البخاري عن سليمان بن حرب، وروى مسلم عن عبد الرحمان بن بشر عن بهز، وكلاهما عن شعبة، عن أنس بن سيرين، قال: «سمعت يقول: طلّق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلّقها إن شاء»(٣) .

وفي هذه الرواية دلالة على أنّه يشترط الطهر في الطلاق.

والّذي يدلّ على أنّه يشترط أن يكون الطلاق في طهر لا يقربها الزوج فيه بجماع، ما روى البخاري ومسلم عن قتيبة، عن ليث بن سعد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: «أنّه طلّق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة، فأمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن

__________________

(١) المائدة: ٦.

(٢) الإسراء: ٤٥.

(٣) صحيح البخاري ٧: ٥٢، صحيح مسلم ٢: ١٠٩٧ ذيل ح ١٢.

٨٩

يراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر، ثمّ تحيض عنده حيضة اخرى، ثمّ يمهلها حتّى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلّقها فليطلّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدّة الّتي أمر الله أن يطلّق لها النساء»(١) .

واحتجّ الفقهاء من الجمهور على وقوع طلاق الحائض وإن كان حراما بهذين الحديثين، من حيث قوله: «مره فليراجعها» في الأوّل، وفي الثاني أمر أن يراجعها، والمراجعة تدلّ على وقوع الطلاق.

وفيه نظر، فإنّه لا دلالة في ذلك، لأنّه كما يحتمل الأمر بالمراجعة وقوع الطلاق، يحتمل أيضا أن يراد بالمراجعة التمسّك بمقتضى العقد وبقاء الزوجيّة، فإنّ من طلّق طلاقا فاسدا وظنّ أنّه واقع فاعتزل زوجته صحّ أن يقال له: راجعها.

فيكون المراد حينئذ المراجعة اللغويّة لا الاصطلاحيّة، يعني: بعد الطلاق. ومن عدّ العدّة بالحيض ـ كما هو مذهب الحنفيّة ـ علّق اللام بمحذوف، مثل: مستقبلات لعدّتهنّ، أي: قبل عدّتهنّ، كقولك: أتيته لثلاث بقيت من المحرّم، أي: مستقبلا لها.

( وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) واضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء. وإنّما أمر بإحصاء العدّة لمراعاة حقّ المطلّقة فيها كالنفقة والسكنى، ومراعاة حقّ الزوج، كالرجعة ومنعها من الزواج.

واعلم أنّ عموم الأمر بالطلاق مخصوص بأمرين: أحدهما غير المدخول بها. وثانيهما: الغائب عنها زوجها غيبة يعلم انتقالها من طهر إلى آخر، أو خرج عنها في طهر لم يقربها فيه بجماع، فإنّ هاتين يصحّ طلاقهما من غير تحريم، وعلى ذلك إجماع أصحابنا وتظافر أخبارهم. وبواقي أحكام الطلاق وأنواعه مذكورة في كتب الفقه.

( وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ ) في تطويل العدّة والإضرار بهنّ، وغير ذلك من مخالفة

__________________

(١) صحيح البخاري ٧: ٥٢، صحيح مسلم ٢: ١٠٩٣ ح ١.

٩٠

ما أمركم به( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ ) من مساكنهنّ الّتي يسكنّها وقت الطلاق حتّى تنقضي عدّتهنّ. والمراد بيوت الأزواج. وأضيف إليهنّ لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى. والمعنى: لا تخرجوهنّ منها غضبا عليهنّ، وكراهة لمساكنتهنّ، أو لحاجة لكم إلى المساكن.

( وَلا يَخْرُجْنَ ) باستبدادهنّ وإن لم تخرجوهنّ. أمّا لو اتّفقا على الانتقال جاز، إذ الحقّ لا يعدوهما. وفي الجمع بين النهيين دلالة على استحقاقها السكنى، ولزومها ملازمة مسكن الفراق.

وقوله:( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) مستثنى من الأوّل. والمعنى: إلّا أن يبذون(١) على أهل الأزواج، في أذيّتهنّ أهلهم وشتمهنّ إيّاهم، فإنّه كالنشوز، فيسقط حقّهنّ بذلك. أو إلّا أن يزنين، فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ. أو من الثاني، للمبالغة في النهي، والدلالة على أنّ نفس خروجهنّ فاحشة. والأحكام المذكورة في عدّة الطلاق الرجعي، بخلاف البائن، فإنّه يجوز خروجها وإخراجها.

ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّ تلك الأحكام المذكورة أمور محدودة مقدّرة واجبة الوقوع، وأنّ مع مخالفتها يستحقّ الذمّ والعقاب، فقال :

( وَتِلْكَ ) إشارة إلى الأحكام المذكورة( حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ ) بأنّ يطلّق على غير ما أمر الله به( فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) بأن عرّضها للعقاب( لا تَدْرِي ) أي: النفس، أو أنت أيّها النبيّ، أو أيّها المطلّق( لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ ) بعد الطلاق( أَمْراً ) وهو أن يقلّب قلبه من بغضها إلى محبّتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها. وهو كالتعليل لعدم الإخراج والخروج من البيوت. فالجملة المترجّية متعلّقة بالأمر بالتطليقة المذكورة وإحصاء العدّة. والمعنى: فطلّقوهنّ لعدّتهنّ، وأحصوا العدّة، لعلّكم ترغبون

__________________

(١) البذاءة: الفحش والكلام القبيح. تقول: بذا على القوم يبذو.

٩١

وتندمون فتراجعون.

وفيه دلالة على أنّ المراد بذلك الطلاق الرجعي لا البائن، ولهذا قال بعد ذلك:( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ ) أي: شارفن آخر عدّتهنّ، فإنّ المراد ببلوغه مقاربته ومشارفة انقضائه، لا انقضاؤه، وإلّا لـما كان للزوج رجوع( فَأَمْسِكُوهُنَ ) فراجعوهنّ( بِمَعْرُوفٍ ) بحسن عشرة وإنفاق مناسب، من النفقة والكسوة والسكنى( أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) بإيفاء الحقّ واتّقاء الضرار، مثل أن يراجعها ثمّ يطلّقها فيراجعها ثمّ يطلّقها وهكذا، تطويلا لعدّتها.

( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) على الرجعة، أو الفرقة. وفائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، وأن لا يتّهم في إمساكها، ولئلّا يموت أحدهما فيدّعي الآخر ثبوت الزوجيّة ليرث. والأمر بالإشهاد للندب عند أبي حنيفة، كقوله:( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (١) . وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب في الفرقة. والمرويّ عن أئمّتنا معناه: وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم. وهذا أليق بالظاهر، لأنّا إذا حملناه على الطلاق كان أمرا يقتضي الوجوب، وهو من شرائط صحّة الطلاق، بخلاف المراجعة.

( وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ ) أيّها الشهود عند الحاجة( لِلَّهِ ) خالصا لوجهه، بأن تقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه، ولا لغرض آخر من الأغراض، سوى إقامة الحقّ والقيام بالقسط، كقوله:( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ) (٢) .

( ذلِكُمْ ) يريد الحثّ على الإشهاد والإقامة، أو على جميع ما في الآية( يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) فإنّه المنتفع به، والمقصود تذكيره ذلك اليوم.

__________________

(١) البقرة: ٢٨٢.

(٢) النساء: ١٣٥.

٩٢

( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ ) يطعه فيما يأمره وينهاه، فيصبر على ضيقه( يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) من الشدّة إلى الرخاء، ومن الحرام إلى الحلال، ومن النار إلى الجنّة( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) هذه الشرطيّة جملة معترضة مؤكّدة لـما سبق، بالوعد على الاتّقاء عمّا نهى عنه صريحا أو ضمنا، من الطلاق في الحيض، والإضرار بالمعتدّة، وإخراجها من المسكن، وتعدّي حدود الله، وكتمان الشهادة، وتوقّع جعل على إقامتها، بأن يجعل الله له مخرجا ممّا في شأن الأزواج من المضايق والغموم، فينفّس كربه، ويرزقه فرجا وخلفا من وجه لم يخطر بباله ولا يحتسبه، إن أوفى المهر وأدّى الحقوق والنفقات. أو بالوعد لعامّة المتّقين بالخلاص عن مضارّ الدارين، والفوز بخيرهما من حيث لا يحتسبون. ويجوز أن يكون هذا الكلام جيء به على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله:( ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ ) .

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قرأها فقال: «مخرجا من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة».

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم:( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ ) فما زال يقرؤها ويعيدها».

وروي: أنّ سالم بن عوف بن مالك الأشجعي أسره العدوّ، فشكا أبوه إلى رسول الله عن أسر ابنه وعن فاقته. فقال له: «اتّق الله واصبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله». ففعل، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدوّ فاستاقها. فنزلت هذه الآية. وفي رواية: رجع ومعه غنيمات ومتاع.

( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ومن يفوّض أمره إلى الله، ويثق بحسن تدبيره وتقديره( فَهُوَ حَسْبُهُ ) كافيه. وفي الحديث: «من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على الله».

٩٣

وعن الربيع: إنّ الله قد قضى على نفسه أنّ من توكّل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به أنجاه، ومن دعاه أجابه ولبّاه. وتصديق ذلك في كتاب اللهعزوجل :( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) .( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) (١) .

( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ ) (٢) .( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٣) .( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ) (٤) الآية.

( إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) نافذ أمره، يبلغ ما يريد من قضاياه، ولا يفوته مراد.

وقرأ حفص بالإضافة.( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) تقديرا وتوقيتا، أو مقدارا، أو أجلا بحسب المصلحة لا يتأتّى تغييره. وهو بيان لوجوب التوكّل على الله، وتفويض الأمر إليه، لأنّه إذا علم أنّ كلّ شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلّا بتقديره وتوقيته، لم يبق إلّا التسليم للقدر والتوكّل. وتقرير لـما تقدّم من تأقيت الطلاق بزمان العدّة والأمر بإحصائها، وتمهيد لـما سيأتي من مقاديرها.

( وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) )

__________________

(١) التغابن: ١١.

(٢) التغابن: ١٧.

(٣) آل عمران: ١٠١.

(٤) البقرة: ١٨٦.

٩٤

روي: أنّه لـمّا نزل:( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (١) . قالوا: قد عرفنا عدّة ذوات الأقراء، فما عدّة اللائي لا يحضن؟ فنزلت :

( وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ ) شككتم في عدّتهنّ، فلا تدرون لكبر ارتفع حيضهنّ أم لعارض( فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ) .

وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضة؟ فعدّتهنّ ثلاثة أشهر.

والأوّل موافق لمذهب أكثر أصحابنا من كون الآيسة لا عدّة لها، لـما رواه جماعة منهم عبد الرحمان بن الحجّاج عن الصادقعليه‌السلام : «ثلاث يتزوّجن على كلّ حال: الّتي لم تحض، ومثلها لا تحيض. قال: قلت: وما حدّها؟ قال: إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين. والّتي لم يدخل بها. والّتي قد يئست من الحيض، ومثلها لا تحيض. قال: قلت: فما حدّها؟ قال: إذا كان لها خمسون سنة».

فعلى هذا يكون العدّة المذكورة ـ أعني: الأشهر الثلاثة ـ لمن هي في سنّ من تحيض، أو يقطع عنها الحيض لعارض، من مرض أو رضاع وغير ذلك، سواء كان ذلك الانقطاع مع الشكّ في سنّها أو لا معه، بل الشكّ في سبب الانقطاع، وهو المشار إليه بقوله: «إن ارتبتم». أو لا للشكّ، بل مع القطع بانقطاعه والجزم بسببه.

وهو المشار إليه بقوله:( وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) بعد بسبب علّة معلومة من مرض أو غيره ومثلهنّ يحضن، فعدّتهنّ أيضا ثلاثة أشهر، فحذف لدلالة المذكور عليه.

فعلى هذا يكون المراد بقوله:( وَاللَّائِي يَئِسْنَ ) أي: حصل لهنّ صفة الآيسات، وهو انقطاع الحيض، إمّا مع الريبة أو مع القطع، فعدّتهنّ ثلاثة أشهر. ولا يكون في الآية دليل على عدم العدّة على الآيسة والصغيرة، ولا على وجودها.

نعم، الحقّ أن لا عدّة عليهما، لأنّ الحكمة في شرعيّتها العلم باستبراء الرحم، وهو منتف فيهما.

__________________

(١) البقرة: ٢٢٨.

٩٥

وقال أكثر المفسّرين والسيّد المرتضىرحمه‌الله : إنّ الارتياب في وجوب العدّة لا في السنّ، كأنّه قيل: إن أشكل عليكم حكمهنّ وجهلتم كيف تعتدون. وإنّ المراد باللائي لم يحضن، أي: لم يبلغن سنّ الحيض، عدّتهنّ ثلاثة أشهر. واحتجّوا بوجهين :

الأوّل: سبب النزول، وهو أنّ أبيّ بن كعب قال: يا رسول الله إنّ عددا من عدد النساء لم يذكر في الكتاب: الصغار والكبار وأولات الأحمال. فنزلت.

والثاني: أنّه لو أراد ما ذكر الأصحاب من الشكّ في ارتفاع الحيض لقال: إن ارتبتنّ، لأنّ المرجع في الحيض إليهنّ.

والجواب عن الأوّل: أنّه لو كان المراد ما ذكروه لقال: إن جهلتم، ولم يقل: إن ارتبتم، لأنّ سبب النزول كما ذكر يوجب ذلك، لأنّ ابيّا لم يشكّ في عدّتهنّ، بل جهل.

وعن الثاني: أنّه إنّما أتى بالضمير مذكّرا لكون الخطاب مع الرجال بقوله :

( وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ) . ولأنّ النساء يرجعن في تعرّف أحكامهنّ إلى رجالهنّ وإلى العلماء، فكان الخطاب لهم لا للنساء، لأنّهنّ يأخذن العلم منهم.

( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ ) أي: منتهى عدّتهنّ( أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) أي: مدّة وضع الحمل، فإنّ «أن» والفعل في تقدير المصدر. وهذا لا خلاف أنّه في الطلاق.

وهل هو كذلك في الوفاة؟ بمعنى أنّه لو تقدّم الوضع على الأربعة أشهر وعشرا تكون العدّة منقضية لذلك أم لا؟ قال أصحابنا: لا، بل عدّتها أبعد الأجلين. وهو قول عليّعليه‌السلام وابن عبّاس. وقال الفقهاء الأربعة والأوزاعي بالأوّل، محتجّين بعموم الآية.

احتجّ أصحابنا بدخولها في عموم قوله:( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) (١) . فقد دخلت تحت عامّين، ولا وجه للجمع بينهما إلّا بالقول بأبعد

__________________

(١) البقرة: ٢٣٤.

٩٦

الأجلين. ولطريقة الاحتياط. ولاختصاص آية الوضع بالمطلّقات. ولو سلّم عمومها فهي مخصوصة بإجماع الإماميّة، لدخول المعصوم فيهم. فأدلّة الجمهور في مدّعاهم كانت مدخولة.

( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ ) في أحكامه فيراعي حقوقها( يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ) يسهّل عليه أمره، ويوفّقه للخير في الدارين بميامن التقوى.

( ذلِكَ ) إشارة إلى ما ذكر من أحكام الطلاق والرجعة والعدّة وغيرها( أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ ) في أحكامه فيراعي حقوقها بالامتثال( يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ) فإنّ الحسنات يذهبن السيّئات( وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ) بالمضاعفة.

وخلاصة المعنى: أنّ من حافظ على الحقوق الواجبة عليه ممّا ذكر، من الإسكان، وترك الضرار، والنفقة على الحوامل، وإيتاء أجر المرضعات، وغير ذلك، استوجب تكفير السيّئات والأجر العظيم.

( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) )

ثمّ بيّن سبحانه حال المطلّقة في النفقة والسكنى، فقال:( أَسْكِنُوهُنَ ) . قال في الكشّاف: «هذا وما بعده بيان لـما شرط من التقوى في قوله تعالى:( وَمَنْ يَتَّقِ

٩٧

اللهَ ) . كأنّه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدّات؟ فقيل: أسكنوهنّ»(١) .

( مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ) «من» للتبعيض، ومبعّضها محذوف. ومعناه: أسكنوهنّ مكانا من حيث سكنتم، أي: بعض مكان سكناكم. قال قتادة: إن لم يكن إلّا بيت واحد فأسكنها في بعض جوانبه.( مِنْ وُجْدِكُمْ ) عطف بيان لقوله:( مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ) . والوجد: الوسع والطاقة. والمعنى: ممّا تطيقونه.

( وَلا تُضآرُّوهُنَ ) في السكنى. يعني: لا تستعملوا معهنّ الضرار.( لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ ) في المسكن ببعض الأسباب، من إنزال من لا يوافقهنّ، أو يشغل مكانهنّ، أو غير ذلك، حتّى تضطرّوهنّ فتلجأهنّ إلى الخروج.

وقيل: هو أن يراجعها إذا بقي من عدّتها يومان ليضيّق عليها أمرها.

وقيل: هو أن يلجئها إلى أن تفتدي منه.

( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) فيخرجن من العدّة.

واعلم أنّ وجوب السكنى للمطلّقات في الآية على الإجمال، من غير بيان كونه رجعيّا أو بائنا، لكن السنّة الشريفة بيّنت ذلك. فنقول: المطلّقة إن كانت رجعيّة فلها استحقاق الإنفاق والإسكان. وإن كانت بائنة، قال أبو حنيفة لها أيضا النفقة والسكنى. وهو مرويّ عن عمر وابن مسعود. وقال الشافعي: إنّ لها السكنى لا غير.

وقال الحسن وأبو ثور: إنّه لا سكنى لها ولا نفقة. وهو مذهب أصحابنا نقلا عن الأئمّةعليهم‌السلام . وأيضا نقل ذلك من طريق الجمهور عن الشعبي والزهري. فيكون إطلاق الآية مخصوصا بالمطلّقة الرجعيّة.

والمطلّقة الحامل تستحقّ النفقة والسكنى إجماعا، بائنة كانت أو رجعيّة، لإطلاق الآية من غير تقييد. لكن اختلف الفقهاء في نفقة الحامل البائن هل هي للحامل أو للحمل؟ فقيل: للحمل، إذ لولاه لـما كان لها شيء، فقد دار الوجوب مع

__________________

(١) الكشّاف ٤: ٥٥٨.

٩٨

الحمل وجودا وعدما. وهو الأقوى. وقيل: للحامل بشرط الحمل. وتظهر الفائدة في عدم وجوب قضائها على الأوّل، ووجوبها على الجدّ.

واعلم أنّ الحامل إذا وضعت وانقضت عدّتها لا يجب عليها إرضاع الولد، وسقطت نفقتها، لخروج العدّة. فإن تبرّعت بإرضاع الولد فلا بحث، وإلّا يجب على الأب أجرة رضاعه، لقوله:( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ) بعد انقطاع علقة النكاح( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) على الإرضاع( وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ ) وليأمر بعضكم بعضا، فإنّ الائتمار بمعنى التآمر، كالاشتوار بمعنى التشاور. يقال: ائتمر القوم إذا أمر بعضهم بعضا.

( بِمَعْرُوفٍ ) بجميل في الإرضاع والأجر. وهو المسامحة، وعدم مماكسة الأب، وعدم تعاسر الأمّ، لأنّه ولدهما معا، وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه، فلا يجوز لهما إرضاع الولد أقلّ من المقدّر الشرعي. والخطاب للآباء والأمّهات.

( وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ ) تضايقتم وتماكستم في الإرضاع والأجرة( فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) امرأة اخرى. يعني: فستوجد مرضعة غير الأمّ ترضعه له، أي: للأب.

والمعنى: سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمّه. وفيه طرف من معاتبة الأمّ على المعاسرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك.

تريد: لن تبقى غير مقضيّة وأنت ملوم.

( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ ) أي: لينفق على المطلّقة والمرضعة كلّ من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه، كما قال:( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) (١) .

( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ) أي: إلّا وسعها. وفيه تطييب لقلب المعسر، ولذلك وعد له باليسر، فقال:( سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) بعد ضيق سعة، وبعد

__________________

(١) البقرة: ٢٣٦.

٩٩

فقر غنى، وبعد صعوبة الأمر سهولة عاجلا، بأن يفتح عليه أبواب الرزق، أو آجلا بأن يعطيه أجرا جزيلا وثوابا جليلا.

( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢) )

ولـمّا بيّن الأحكام الشرعيّة وأمر بالتقوى في مراعاة حقوقها، خوّف العباد على تركها، بذكر تعذيب الأمم الماضية لأجل عتوّهم وتمرّدهم عن امتثال الأحكام، فقال :

١٠٠