تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن7%

تنزيه القران عن المطاعن مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 501

تنزيه القران عن المطاعن
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88230 / تحميل: 5651
الحجم الحجم الحجم
تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن

مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

مع الذي كانوا عليه من المباينة الشديدة ومن الآنفة والحمية.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا ) كيف يصح ان يضيف ذلك إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو منزه عن الرغبة في الدنيا ولا يريد إلّا ما أراده الله تعالى. وجوابنا أنّه لم يضف ذلك إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم على الحقيقة حتّى يلزم ما ذكرته وإنّما نسبه إلى غيره ممن كان بغيته الغنائم وقد يصح ايضا من الانبياء إرادة عرض الدنيا من المباحات وان كان تعالى يريد العبادات ومعنى قوله تعالى( لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) فالمراد ما كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ من كون ما وقع من باب الصغائر المغفورة وقيل لو لا كتاب سبق نزوله ما أحدثتموه من الاسرى والكتاب هو القرآن فآمنتم به واستحققتم بالايمان غفران صغائر ذنوبكم لمسكم فيما أخذتم من الامر عذاب عظيم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ) أليس يدل ذلك على حدوث علم من الله تعالى. وجوابنا أنّه تعالى يذكر العلم ويريد المعلوم من حيث صح أن معلوم العلم يكون على ما تناوله وعلى هذا الوجه يمدح أحدنا صاحبه ويقول قد علمت ما أنت عليه من الخير والفضل وذلك كثير في القرآن.

تنزيه القرآن (١١)

١٦١
١٦٢

سورة التوبة

[ مسألة ] وربما سألوا عن قوله تعالى( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) ثمّ قوله( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) وانسلاخها بانقضاء المحرم وذلك ينقض الأول. وجوابنا أنّه كان في الكفار من له عهد ومن لا عهد له ومن له عهد يختلف عهده فقوله تعالى( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) هو لمن هذا عهده وقوله تعالى( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) هو لمن لا عهد له أو لمن ينقضى عهده بانقضاء هذه المدة فلا اختلاف بين الكلامين.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ) كيف يتولون. وجوابنا أنّ هذه اللفظة تفيد التهديد والمراد أنه تعالى قادر على انزال العقوبة فلم لا يجوز عليه المنع وما أكثر ما يرد في القرآن هذا اللفظ على الوجه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) كيف يصح أن يستثنيهم لمكان العهد وذلك لا ينجيهم من العذاب الاليم. وجوابنا أنّ قوله وبشر الذين كفروا يوهم أن الاقدام على كل كافر بالقتل يجوز فانزال الله تعالى هذا الايهام بقوله( إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ ) والمراد لكن الذين عاهدتم من المشركين فليس لكم إذا وفوا إلّا الوفاء لهم ومعنى قوله تعالى من بعد ان الله يحب المتقين ان الوفاء بالعهد يحبه الله وهو من باب التقوى.

١٦٣

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ ) كيف يستقيم تشبيه سقاية الحاج بمن آمن بالله. وجوابنا أنّ المراد أجعلتم القيم بسقاية الحاج كمن آمن بالله. أو يكون أجعلتم سقاية الحاج كايمان من آمن بالله ومثل هذا الحذف يحسن في اللغة إذا كان الثابت في الكلام يدل على المحذوف.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ثمّ قوله( حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) كيف يصح فيمن يكفر بالله تعالى أن يسوغ له الكفر ببذل الجزية. وجوابنا أنّ قتلهم لأجل كفرهم وهو شرعي لا عقلي ويجوز ان يكون الصلاح في ذلك ما لم يعطوا الجزية. فاذا أعطوا حرم قتلهم وربما يكون في ذلك هدايتهم للاسلام إذا أقروا ثمّ سمعوا الشرائع وقد قيل ان قتلهم على الشرك لو لم يجز تركه لأدى إلى الاكراه وقد قال تعالى( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) فان قيل فأنتم متى قلتم ذلك فان في الكفار من لا يرضى منه إلّا بالقتل فيجب أن يكون مكرها على الاسلام. وجوابنا أنّه لا كافر إلّا وقد يجوز أن يتخلص ببعض الوجوه وان كان مقيما على الكفر فلا يلزم ذلك.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ) ما فائدة وصف قولهم بذلك وكل الاقوال هذا سبيلها. وجوابنا أنّ المراد به ان هذا القول لا حقيقة له لانه قد يوصف ما لا حاصل له من الأقوال بذلك وقد يقبل أحدنا على من يتكلم بما لا يصح فيقول هذا قولك بلسانك ولا تقوله عن قلبك ويراد به ما ذكرنا ولذلك قال بعده( يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) فبين ان ذلك من الافك الذي لا حاصل تحته.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) كيف يصح ذلك وليس

١٦٤

فيهم من يتخذ أحبارهم أربابا وإنّما يقول بعضهم ذلك في عيسى فقط. وجوابنا أنّ المروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم انه قال في معناه انهم لـما أطيعوا فيما أمروا به ونهوا عنه وصفوا بأنهم اتخذوا أربابا وذلك صحيح فيهم وعلى هذا الوجه يوصف مالك العبد بأنه ربه إذا أطاعه فالأمر مستقيم وبين تعالى بعده بقوله( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ان الطاعة والعبادة لا تحق إلّا لله وكل من يطيع غيره فانما يطيعه بأمر الله فتكون طاعته طاعة لله ثمّ قال تعالى( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ) فوصف باطلهم بهذا الوصف وقال تعالى( وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) فوصف الحق بهذا الوصف لصحته وبيانه ثمّ أردف ذلك بقوله تعالى( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ ) فبين ان الذي يؤديه صلّى الله عليه وسلم هو الدين الحق ووصفه بأنه يظهره على الدين كله تحقيقا لقوله جل وعز( وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) ثمّ بين ما عليه الاحبار والرهبان بقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) فبين أن طاعتهم محرمة إلّا من أمر الله بذلك فيه على ما قلنا، ثمّ أتبعه بالوعيد العظيم لمن امتنع عن الزكاة بقوله تعالى( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ ) واكثر المفسرين على أن المراد به مانع الزكاة وبين أن الأموال التي منعت منها الزكاة( يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ) وذلك من أعظم الوعيد.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ) كيف خصها بالنهي عن الظلم وحال جميع الشهور سواء في ذلك. وجوابنا أنّ للاشهر الحرم التي هي رجب وشوال وذو القعدة وذو الحجة مزية في أن الظلم فيها يكون اعظم كما أن لنفس

١٦٥

الحرم مزية على الاماكن في الظلم فلذلك خصه بالذكر ولا يمنع ذلك فيما عداه انه بمنزلته.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ ) كيف يصح ذلك وقد أمرهم بالجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وجوابنا أنّه لـما كان في خروجهم مضرة على المسلمين لنفاقهم اذ كانوا يضمرون التخريب جاز ان يقول تعالى ذلك لان الصلاح في صرفهم عن الخروج ولو خرجوا على الوجه الصحيح لـما كره الله ذلك ولذلك قال تعالى بعده( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ) وقال( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ ) وكل ذلك يشهد بصحة ما ذكرناه وبين تعالى بعد ذلك ما يدل على أنه مع الفسق لا يتقبل من المرء شيء من الطاعات فقال( قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أو كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ ) والتقبل لا يصح إلّا في الطاعات فيدل ذلك على أن الفسق والكفر لا يمنعان من وقوع الطاعة وان منعا من التقبل.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يصح قوله تعالى( وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ ) في صفة المنافقين وفاعل الانفاق لا يجوز أن يكون كارها له. وجوابنا أنّ المراد أنهم يكرهون ذلك الانفاق على الوجه الذي أمروا وإنّما ينفقون خوفا ولا يمتنع ان يراد الشيء على وجه ويكره على وجه آخر كما يراد من الغير ان يصلي لله ويكره منه أن يصلي على وجه الرياء والسمعة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) كيف يصح ان يريد تعالى أن يعذبهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا. وجوابنا أنّ تكثير الاموال والاولاد في

١٦٦

الدنيا لا يكون عقوبة لان الله تعالى يفعله تفضلا أو مصلحة في الدين لكنهما لـما جاز أن يكونا فتنة ومحنة وسببا للعقوبة من حيث يغتر المرء بهما فينصرف عن طريق الطاعة إلى خلافه جاز أن يقول تعالى ذلك بعثا للعباد عن هذا الجنس من الاغترار وهذا كقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) ويحتمل أن يريد أنه يعذبهم في الآخرة بها فيكون التعذيب متناولا الآخرة دون الدنيا.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) كيف يصح أن يأمر الله تعالى ببذل المال تالفا على الدين ومتى صاروا إلى الدين للمال لم ينتفعوا به. وجوابنا أنّ ذلك وان كان في الحال لا ينتفع به فقد يكون تلطفا في الاستدراج اليه فيصير الواحد منهم بذلك من أهل الدين وقد أمرنا الله تعالى بأن نأخذ أولادنا بالصلاة لمثل هذا المعنى وان كانوا لا ينتفعون بالصلاة وليسوا مكلفين. واختلف العلماء في المؤلفة هل يدخلون الآن في سهم من الزكاة فأكثرهم يمنع من ذلك لظهور الاسلام وقوته واستغنائه عن تألف قوم في الذّبّ عنه والمجاهدة فيه ومن العلماء من يقول بل سهمهم ثابت ابدا واذا وجد من ليس يقوى على الايمان ويظن أنه يصير من أهل القوة فيه إذا دفع ذلك اليه فيكون حاله كحال سهم في سبيل الله للذين يجاهدون.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) كيف يصح ان يكون خيرا وما يسمع قد يكون الخير والشر والصواب والخطأ. وجوابنا أنّه تعالى قيد ذلك فقال بعده( يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) فبين انه اذن يقبل ما تكون هذه صفته وقبول الخير وما يؤدي إلى الخير هو طريقة الصالحين.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ

١٦٧

يُرْضُوهُ ) فذكرهما ثمّ وحّد كيف ذلك. وجوابنا أنّ الواجب ان لا يذكر تعالى مع غيره بل يجب أن يفرد بالذكر إعظاما وقد روي انه صلّى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول الله ورسوله فقال الله ثمّ رسوله، ولذلك قال تعالى بعد ذكر نفسه ورسوله( وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) فأفرد ذكره وقد أفرد الله ذكر جبريل وميكائيل عن الملائكة تفخيما لهما وتعظيما، فما ذكرناه أحق وأولى.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) كيف يصح ذلك وأكثر الفساق لا يوصفون بالنفاق. وجوابنا أنّه تعالى بيّن في المنافقين انهم كذلك لأن جميع المنافقين هم فاسقون، وإنّما كان يحب ذلك لو قال ان الفاسقين هم المنافقون.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ ) كيف يصح ذلك في تعذيب المنافقين وإنّما يستعمل حسب في الخير ويستعمل في خلافه حسيب. وجوابنا أنّ المراد بذلك الزجر عن النفاق كما تزجر من ينهمك في شرب الخمر، فتقول حسبك هذا الفعل فيكون على وجه الزجر لا على وجه الوصف ولذلك قال تعالى بعده( وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ) ثمّ انه تعالى بعد ذكر قصة المنافقين ذكر ما يحقق عدله وحكمته فقال( فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ولو كان الظلم خلقا لله تعالى لكان هو الظالم دون أنفسهم ثمّ ذكر بعده جل وعز طريقة المؤمنين فقال( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ ) فوقف رحمته تعالى على من هذه صفته، وبين انها صفة المؤمنين وان من ليس هو كذلك لا يمدح بالايمان، وبين انه وعدهم جنات عدن على ما وصف ووعدهم برضوان من الله وان ذلك من باب الانعام الاكبر

١٦٨

والاعظم. وبين ان ذلك هو الفوز العظيم لان من اوتي ذلك فقد أدرك نهاية المطلوب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) كيف يصح ذلك ومن حكم المنافقين ان لا يجاهدوا وان يجروا مجرى المؤمنين في أحكام الدنيا. وجوابنا أنّ النفاق ما دام مكتوما فحاله ما وصفه فأما إذا ظهر فحال المنافقين في المجاهدة كحال الكفار، وإنّما ذكر تعالى ذلك عند ظهور نفاقهم على ما تقدم ذكره ولو صح ما ذكرته لحملنا مجاهدة المنافقين على غير الوجه الذي تحمل عليه مجاهدة الكفار.

ولذلك قال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ) وقال بعده( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) فنبه بذلك على ظهور النفاق.

[ مسألة ] وربما قيل كيف قال تعالى في وصفهم( وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) وكانوا لم يزالوا على النفاق. وجوابنا أنّ المراد أظهروا الكفر بعد إظهار الاسلام وذلك دلالة على ما قلنا من أن نفاقهم ظهر فأوجب الله تعالى فيهم ما تقدم ذكره، ولذلك قال تعالى بعده( وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) ثمّ قال تعالى بعده( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا ) فنبه بذلك على عظم الذم في نقض العهد والمواثيق وأن من نقضه يكون أعظم حالا ممن ابتدأ بذلك.

[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله جل وعز( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) فأضاف نفاقهم إلى نفسه وأنه أدامه فيهم

١٦٩

كيف يصح ذلك مع حكمته. وجوابنا أنّه تعالى لـما خلاهم ونفاقهم ولم يلطف بهم من حيث كان المعلوم أنه لا لطف لهم لتقدم النفاق فيهم جاز أن يضيف ذلك إلى نفسه وذلك قوله( أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ ) والمراد به التخلية ولذلك قال تعالى بعده( بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ ) فبين أن المراد هو ذلك لا أنه خلق فيهم النفاق وقال تعالى بعده( وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ) وكل ذلك لا يليق إلّا بزجرهم عن النفاق ولو كان هو الخالق لذلك فيهم لـما صح ولذلك قال تعالى بعده( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أو لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) فبين أن استغفاره لا يؤثر وكذلك سائر الالطاف( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ ) لان تقدم ايمانهم صير ما يفعله لطفا لهم فاذا لم يتقدم حرموا أنفسهم ذلك وخرجوا بسوء اختيارهم عن أن يتأتى فيهم اللطف فيكون ذلك كالجناية منهم على أنفسهم وهو معنى قوله تعالى( كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ويقال ان المعاصي إذا اجتمعت وكثرت بلغ القلب في القسوة ما لا تؤثر فيه الالطاف.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ) كيف يصح مع ذلك أن يقول( وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) وذلك كالمتناقض. وجوابنا أنّ الكلام إذا اتصل دل آخره على أوّله فالمراد بذلك البعض ويحتمل أن يراد بالاعراب من امتنع عن المهاجرة فقد كان يقال مهاجر واعرابي. وبين ذلك قوله تعالى( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ) فميزهم من الأعراب الذين أرادهم بهذه الآية.

١٧٠

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) ما فائدة ذلك والله تعالى يقبل التوبة ممن لم يعمل إلّا السيئات كما يقبلها ممن خلط الصالح بالسيّئ. وجوابنا أنّه تعالى نبه بقوله( اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) على وقوع التوبة منهم والندامة فلذلك خصهم بقبول التوبة لا أنه نفى قبول التوبة عن غيرهم ممن ذكره تعالى بقوله( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ) لأن هؤلاء لم يتوبوا بل أصروا فلذلك قال تعالى( إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) لأنهم إذا بقوا فاما أن يصروا فالعذاب وإما أن يتوبوا فتوبتهم مقبولة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ) كيف يصح الأخذ من قبل الرسول صلّى الله عليه وسلم وبفعل غيرهم لا يلحقهم المدح حتّى يوصفوا بأنهم مطهرون مزكون وكيف يقول( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) . وجوابنا أنّ المراد بذلك من تاب وقبل الله توبته. فبين أنه إذا أخذ منهم الصدقة فهذه حالهم وأمره بأن يدعو لهم بالرحمة والثواب وهي معنى قوله( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) ولذلك قال بعده( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ) والمراد بهذا الاخذ القبول وذلك لا يليق إلّا بالمؤمن التائب الذي يسر ويرضى بما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلم من أخذ الزكاة منه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) كيف يصح من الرسول والمؤمنين أن يعلموا أعمالهم ولا سبيل إلى ذلك لا فيما بطن ولا فيما ظهر. وجوابنا أنّ المراد الاعمال الظاهرة التي يشهد الرسول بها ويشهد المؤمنون كما ذكره الله تعالى في الشهداء.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

١٧١

أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) كيف يدخل قتل الكفار لهم فيما به يستحقون المدح وذلك كفر منهم. وجوابنا أنّ قتل الكفار لهم يتضمن وقوع الصبر الشديد على الجهاد فيدل على هذه الطاعة العظيمة فلذلك ذكره تعالى وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه يوصف المقتول في الجهاد بانه شهيد لـما دل القتل له على ما ذكرناه ودل تعالى بقوله فيما بعد( التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) على ان المؤمن لا يتكامل كونه مؤمنا إلّا بهذه الخصال ونبه تعالى بقوله( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) على انهم مستحقون العقاب لا يجوز لنا أن نستغفر لهم ونترحم عليهم وإنّما يجوز ذلك في المؤمن الذي نقطع بايمانه أو تظهر منه دلالة ذلك ودل تعالى بقوله( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ) على انه تعالى يريد بالضلال المضاف اليه العقاب وما شاكله فلذلك قال( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) فنبه على ان اضلاله بالعقاب لا يكون إلّا بعد هذا البيان وأضاف الايمان والكفر إلى السورة في قوله( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ) إلى آخر الآية على وجه المجاز لـما كان الايمان منهم عند نزولها ولما كان الرجس والكفر من الكفار عند نزولها وذلك معلوم وهو كقوله تعالى( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) اذ معلوم لكل واحد ان المراد أهلها وزجر تعالى عباده بقوله( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) فبين أنه لا يدع بما ينزل بهم من الامراض والمصائب والمحن سترا يحجبهم عن الطاعة والتوبة وهم مع ذلك غافلون وذلك زجر عظيم عن الاعراض وترك التوبة.

١٧٢

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) ان ذلك يدل على أنه جل وعز يصرفهم عن الطاعة فما تأويل ذلك. وجوابنا أنّ المراد ثمّ انصرفوا بترك الطاعة والتوبة صرف الله قلوبهم أي عاقبهم على انصرافهم كما قال تعالى «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ » وقوله( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ان هذا كالنص في انه تعالى خلق الكفر فيهم. وجوابنا أنهم كانوا يؤخرون الحج من شهر إلى شهر، فبين تعالى انهم يضلّون بذلك لا ان الله تعالى يفعله فالاضلال منسوب اليهم لا اليه تعالى.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ) ان ذلك يدل على أنه يمنعهم من الطاعة. وجوابنا أنّ كلامنا في الطبع وانه علامة كالختم وانه لا يمنع من الايمان كما تقدم.

١٧٣
١٧٤

سورة يونس

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) ان ذلك كالنص في انه تعالى جسم يجوز عليه المكان. وجوابنا أنّ المراد بالاستواء الاستيلاء والاقتدار كما يقال استوى الخليفة على العراق وكما قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وقد ثبت بدليل العقل أن ما يصح عليه الاستواء من الأجسام. ولا يكون إلّا محدثا مفعولا فلا بد من هذا التأويل ( فإن قيل ) فلما ذا قال الله تعالى( ثُمَّ اسْتَوى ) ومعلوم أن اقتداره لم يتجدد. وجوابنا أنّ ثمّ في اللفظ دخلت على الاستواء والمراد دخولها على التدبير وهو قوله( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) والتدبير من الله تعالى حادث.

ومتى قيل فلما ذا خص العرش بالذكر وهو مقتدر على كل شيء فجوابنا لعظم العرش وهذا كقوله تعالى( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وان كان ربا لغيرهما ومعنى قوله بعد ذلك( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ) ان مرجع الخلق اليه حيث لا مالك سواه، كما يقال رجع أمرنا إلى الخليفة إذا كان هو الناظر. في أمرهم وليس المراد بذلك المكان.

١٧٥

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ) ان ذلك يدل على جواز لقائه بالرؤية والمشاهدة. وجوابنا أنّ المراد لا يرجون لقاء ثوابنا واكرامنا ولا يرجون المجازاة على ما يكون في الدنيا وهذا كقوله( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) وكقوله( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) وبعد فقد يقال لقي فلان فلانا وان لم يره وقد يوصف بذلك الضرير إذا حضر غيره وقد يرى الرجل غيره من بعد ولا يقال لقيه، فليس معنى اللقاء الرؤية ولذلك قال تعالى بعده( وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها ) فنبه بذلك على ان المراد انهم لا يؤمنون بيوم القيامة وقوله تعالى بعد ذلك( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) يدل على أن الهدى هو الثواب فيكون حجة على ما نتأول عليه وربما قيل في قوله تعالى( فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ ) ان ذلك يدل على ارادته لذلك، وجوابنا أنّ المراد نخلي بينهم وبين ذلك وان كنا لا نأمر ولا نريد إلّا الطاعة وهذا كقوله( أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) والمراد التخلية وكما يقال أرسل فلان كلبه على من يدخل داره إذا لم يمنعه من الوثوب على الناس.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) أليس في ذلك دلالة على أنه تعالى لا يعلم الشيء حتّى يكون. وجوابنا أنّ المراد بذلك لننظر نفس العمل وهو تعالى يراه بعد وجوده وأما علمه فلم يزل ولا يزال.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَاللهُ يَدْعُوا إلى دارِ السَّلامِ ) فعمم ذلك ثمّ قال( وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فخص كيف يصح ذلك. وجوابنا أنّه يدعو إلى دار السلام الكافة ومعنى قوله ويهدي

١٧٦

من يشاء أي من قبل ما كلفه دون من لم يقبل. ويحتمل ان يراد بهذه الهداية نفس الثواب فيكون قد دعا كل الخلق وأثاب من آمن منهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) أليس المراد بها الرؤية على ما روي في الخبر. وجوابنا أنّ المراد بالزيادة التفضيل في الثواب فتكون الزيادة من جنس المزيد عليه وهذا مروي وهو الظاهر فلا معنى لتعلقهم بذلك وكيف يصح ذلك لهم وعندهم ان الرؤية أعظم من كل الثواب فكيف تجعل زيادة على الحسنى ولذلك قال بعده( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ) فبيّن أن الزيادة هي من هذا الجنس في الجنة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) كيف يصح ذلك وكثير من الأحكام يعول فيها على الظن وجوابنا أنّه تعالى ذكر ذلك في محاجة من يعبد الاصنام في قوله تعالى( هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ ) إلى غير ذلك والظن في هذا الحق لا يقبل وإنّما يقبل الاجتهاد.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ) ما الفائدة في هذا الجواب. وجوابنا أنّه لا يقول ذلك على وجه الحجاج لكنه إذا أقام الحجة واستمروا على التكذيب صح أن يزجرهم بهذا القول، وقد كان صلّى الله عليه وسلم يغتم بمثل ذلك فكان تسلية من الله تعالى له وما بعده من قوله( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ) وقوله( أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ ) كل ذلك يدل أن المراد طريقة الزجر لهم ثمّ ذكر تعالى بعده بقوله( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ان الظلم من قبلهم ولم

تنزيه القرآن (١٢)

١٧٧

يؤتوا فيه إلّا من جهة تقصيرهم وأنهم ممكنون من تركه والعدول عنه كما نقول في هذا الباب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) كيف يجوز من موسى أن يسأل ربه ذلك وأن يعتقد انه تعالى رزقهم لكي يضلوا. وجوابنا أنّ المراد أنعمت عليهم بهذه النعم فسيروها سببا لضلالتهم فمعنى قوله( لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) أن عاقبتهم ذلك كقوله( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) وأما قوله تعالى( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ) فهو دعاء عليهم وقد ضلوا ويجوز أن يدعى على من قد ضل وكفر بضروب العقاب ويجوز أنه يدعو عليهم بالاخترام والاماتة الذين معهما لا يؤمنون حتّى يروا العذاب الاليم في الآخرة لأنه من المعلوم أنه لا يؤمن أبدا كلما عجل اخترامه يكون عقابه أخف وبين تعالى بقوله( حَتَّى إذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ) ثمّ قال( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) أن الايمان مع الالجاء لا ينفع وإنّما ينفع والمرء متمكن من اختيار الطاعة والمعصية وداعيته مترددة بين الامرين.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ ) كيف يصح في العلم ان يكون سببا للاختلاف والقول الباطل. وجوابنا أنّ المراد بذلك انهم اختلفوا وقد أقام الحجة وأوضح الطريق لهم على جهة الندم لهم، ولذلك قال بعده( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ

١٧٨

الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل كيف يجوز أن يقول تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ) ومعلوم ان الشك في ذلك لا يجوز عليه. وجوابنا أنّه تعالى ذكره والمراد من شك في ذلك على وجه الزجر أو قال ذلك لاهل الكتاب الذين يجوز أن يسألهم غيرهم عما في الكتب من تصديق محمّد صلّى الله عليه وسلم.

[ مسألة ] وربما قالوا في قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) أليس ذلك يدل على ان تقدم كلمته تعالى يمنع من الايمان. وجوابنا أنّ المراد ان من المعلوم انه لا يؤمن وقد سبقت الكتابة من الله تعالى بذلك في اللوح المحفوظ لا يؤمن لكنه انما لا يؤمن اختيارا وكما سبق ذلك في الكتاب فقد سبق فيه أيضا انه يمكن من الايمان فيعدل عنه بسوء اختياره ولذلك قال تعالى( وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ) ولو كان ذلك يمنع من الايمان لم يكن في مجيء الآيات فائدة وقوله تعالى من بعد( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ) دلالة على انه لم يشأ إيمانهم على وجه الاكراه مع قدرته على أن يكرههم عليه وإنّما سأل ذلك على وجه التطوع والاختيار لكي يفوزوا بما عرضوا له من الثواب، وقوله تعالى من بعد( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) بعد تقدم ذكر العقاب يدل على ان من ليس بمؤمن من الفساق والكفار لا ينجيهم الله من العقاب.

[ مسألة ] وربما قيل كيف جاز أن يقول موسى للسحرة( أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) وذلك معصية لا يحسن الأمر بها. وجوابنا أنّه قال لهم لا على وجه الأمر لكن على وجه التعريف بأنهم مبطلون وان باطلهم ينكشف بما

١٧٩

سيأتيه فهو قريب من تحدي الانبياء بالمعجزات.

[ مسألة ] وربما قيل ما فائدة قوله تعالى( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ) والتنجية لا تكون إلّا بالبدن. وجوابنا أنّ المراد انا ننجيك خاصة دون غيرك.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) كيف يفعل من ذلك ما لم يغن عنهم شيئا. وجوابنا أنّ ذلك كالزجر من حيث ينصرفون عما فيه حظهم ويحتمل انه لا يغني عنهم في الآخرة إذا عوقبوا من حيث تركوا القبول.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) كيف يجوز وقد سألوه أن يقتصر على الجواب واليمين دون الحجة. وجوابنا أنّه قد أقام الحجة وإنّما أراد منه الفتوى فأفتاهم وأكد ذلك باليمين.

١٨٠

سورة هود

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) كيف يصح ذلك والتفصيل ليس بشيء غير الأحكام. وجوابنا أنّ الله تعالى كتب القرآن في اللوح المحفوظ ثمّ أنزله مفصلا إلى الرسول لا جملة واحدة بحسب المصلحة فهذا معنى قوله ثمّ قال( ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) لانه تعالى أمر بانزاله على هذا الحال من التفصيل بعد إحكام الجميع وهذه الآية تدل على أن القرآن فعله تعالى من حيث وصفه بأنه أحكمه وذلك لا يتأتى إلّا في الافعال ومن حيث وصفه بأنه فصلت آياته ومن حيث وصفه بأنه من لدن القديم تعالى وإنّما يقال ذلك في الأفعال كما يقال ان هذه النعم من فضله وبين ما تقتضيه آيات الكتاب بقوله( أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) فبين ما تضمنه الكتاب وبين حال التائب وانه يمتعه متاعا حسنا( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) وبين حكم المصر بقوله( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) ثمّ بين ان المرجع إلى الله تعالى والمراد إلى يوم لا حاكم ولا مالك سواه وهو يوم القيامة وبيّن بقوله تعالى( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها ) تكفله بإرزاق كل حي. ومتى قيل فاذا تكفل بذلك فلما ذا يلزمه السعي. فجوابنا أنّ تكفله هو على هذا الوجه لا على حد الابتداء كما ان تكفله برزق الولد هو على وجه المباشرة لا على وجه الابتداء وبين ان كل ذلك مكتوب

١٨١

في الكتاب المبين وفائدة كتابة ذلك في اللوح المحفوظ ان الملائكة تعتبر بذلك وتعرف قدرة الله تعالى وعلمه إذا وافق ما يحدث من الامور ذلك المكتوب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ما الفائدة في خلقهما في هذه الايام وهو قادر على أن يخلقهما في لحظة واحدة. وجوابنا أنّه تعالى خلقهما في هذه المدة مصلحة للملائكة لكي يعتبروا بذلك كما انه قادر على جمع كل رزق لنا في يوم واحد لكنه للمصلحة يفعله حالا بعد حال ولذلك قال بعده( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) وبين تعالى بقوله ولئن قلت انكم مبعوثون من بعد الموت انكارهم للاعادة وبين بقوله( وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ ) استعجالهم بما كان يخوف به الرسول صلّى الله عليه وسلم وبين آخرا بقوله( أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ) ان ذلك مؤخر لانه تعالى حليم لا يعجل العقوبة ويمهل توقعا للتوبة وبين تعالى طريقة الانسان المذمومة بقوله( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) فبين انهم عند الاحسان اليهم يفرحون فاذا نزع ذلك لمصلحة يوجد منهم كفر النعمة واذا أجزل النعم عليهم يسلكون طريقة الفخر والفرح دون الانقطاع إلى الله وتعالى والتواضع له وذلك تأديب من الله تعالى فيما ينبغي أن يفعله المرء عند الغنى والفقر وفيما يكره منه ولذلك قال بعده( إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) فاستثناهم من القوم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) ما الفائدة في هذا الابتداء ولا خبر له. وجوابنا أنّ الخبر قد يحذف إذا كان كالمعلوم والمراد أفمن كان بهذا الوصف كمن هو يكفر ولا يسلك طريقة العبادة وما توجبه البينة.

١٨٢

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ) أنه يدل على جواز المكان عليه لان العرض لا يصح إلّا على هذا الوجه. وجوابنا أنهم لـما عرضوا في الموضع الذي جعله الله تعالى مكانا للعرض صح ذلك ومعنى قوله تعالى من بعد( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ) انهم من حيث لم يقبلوا ولم ينتفعوا بما سمعوا ورأوا كانوا في حكم ما لا يسمع ولا يبصر ولو أراد الحقيقة لـما ذمهم من قبل بقوله( وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ) أن ذلك على أنه تعالى يريد الضلال. وجوابنا أنّ مراد نوح7 عند مخاطبة قومه بذلك انه ان كان تعالى يريد حرمانهم وخيبتهم من الفوز بالثواب وانزال العقاب فنصحه لا ينفع وذلك احالة على المعلوم من حالهم أورده على وجه الزجر لهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) أليس في ذلك دلالة على انه تعالى وعده تخليص ابنه مع القوم ثمّ لم يقع فكيف يصح ذلك. وجوابنا أنّه تعالى قد كان وعد بنجاة أهله وأراد من آمن منهم وظن نوح أن ابنه منهم ولذلك قال تعالى بعده( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ ) ان ذلك يدل على أن الطاعات

١٨٣

من فعل الله تعالى. وجوابنا أنّ التوفيق من فعل الله تعالى في الحقيقة وهو ما يفعله مما يدعو العبد إلى العبادة كخلق الولد والغنى وما شاكله فنحن نقول بالظاهر والقوم لا يمكنهم ذلك إذ قالوا إن الله تعالى يخلق أعمال العباد لأنّ خلقه ذلك مما يغني عن اللطف والتوفيق والمعونة والهداية فكان ذلك على مذهبهم يحب أن لا يصح.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) أليس ذلك يدل على انقطاع العذاب من حيث وقته بدوام السموات والارض الذين يفنيان وأنتم تقولون بالخلود فكيف يصح ذلك. وجوابنا أنّ للنار سماء وأرضا وكذلك الجنة ولا يفنيان فهذا هو المراد وقد قيل أنّ المراد بذلك تبعيد خروجهم فعلقه تعالى بما يبعد في العقول زواله على مذهب العرب في مثل قول الشاعر.

اذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ ) ان ذلك الاستثناء يدل على انقطاع العقاب فكيف يصح ذلك مع قولكم بالخلود.

وجوابنا أن المراد أوقات الموقف للمحاسبة قبل دخول النار وعلى هذا الوجه ذكر الله تعالى في السعداء مثل ما ذكره في الأشقياء فقال( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ ) وقوله تعالى من بعد لرسوله صلّى الله عليه وسلم( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ) على وجه الزجر لغيره على نحو ما قدمناه من قبل.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ

١٨٤

رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ) كيف يصح أن يوفيهم نفس العمل. وجوابنا أنّ المراد جزاء العمل من ثواب وعقاب وهو الذي يصح أن يفي به وعده.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) كيف يصح ذلك وقد أبيح لنا مخالطتهم. وجوابنا أنّ المراد الركون اليهم فيما يتصل بالمدح والاعظام ويجري مجرى الموالاة ولم يرد ما يتصل بالمعاشرة ومعنى قوله من بعد( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ان التوبة تزيل عقاب المعاصي وكثرة الطاعات تكفر السيئات ومعنى قوله تعالى( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ) بالالجاء والاكراه لكنه انما شاء منهم ذلك على وجه الاختيار لكي يفوزوا بالثواب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) أليس ذلك يدل على أنه خلقهم للاختلاف الذي في جملته المعصية وذلك يدل على أنه تعالى مريد منهم ذلك. وجوابنا أنّ المراد للرحمة خلقهم لانه قال( إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) فلذلك راجع إلى الرحمة لا إلى الاختلاف والرحمة من الله تعالى لا تكون إلّا بارادته فكأنه قال ولكي يرحمهم خلقهم وهو أقرب مذكور اليه وقد ثبت بالدليل أن الاختلاف الباطل لا يريده الله تعالى بل يكرهه أشد كراهة فقد نهى وزجر عن فعله.

[ مسألة ] وربما سألوا عن قوله تعالى( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ) كيف يصح ذلك إذا لم يكن هو الخالق لتصرف الحيوان. والجواب عنه أن المراد أنه قادر على تصريفها كما يشاء والعرب تذكر ذلك على هذا المعنى فتقول ناصية فلان بيد فلان.

١٨٥

[ مسألة ] وربما سألوا في قوله تعالى( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) كيف يجوز منه وهو نبي أن يجادل الملائكة في ذلك. وجوابنا أنّه جادل ليعرف ما لأجله استحقوا العذاب وهو أحد الوجوه التي يجادل المجادل لأجلها.

١٨٦

سورة يوسف

أوّل ما نذكر في هذه السورة أنها مشتملة من آداب الانبياء صلوات الله عليهم ومن آداب الاخلاق والتمسك بالصبر والحلم وتوقع الفرج بعد حين والتشدد في الصبر على المعاصي واحتمال المكاره على ما لو تأمله القارئ وتمسك بكله أو بعضه لعظم موقع ذلك في دينه ودنياه، فليتأمل القارئ أولا رؤيا يوسف للكواكب والشمس والقمر وان أباه صلّى الله عليهما وسلم كيف تقدم بكتمان ذلك عن اخوته والصبر في كتمان ذلك صعب فاحتمله تحرزا من حسدهم. وليتأمل ثانيا كيف جاد به على اخوته لئلا يستوحشوا وظن السلامة مع خوفه منهم عليه حتّى أقدموا على ما أقدموا. وليتأمل ثالثا أنه بعد ظهور ذلك منهم كيف احتملهم ولم يجازهم على ما فعلوه بقطعهم واخراجهم عن محبته وعن النظر لهم.

وليتأمل رابعا صورة يوسف فيما وقع اليه من امرأة العزيز وكيف تشدد في الاحتراز عنها واحتمل لذلك الحبس الطويل حتّى كانت عاقبة صبره ما حصل من اعتراف الكل بصيانته ووصوله إلى الملك والبغية. وليتأمل خامسا ما دفع اليه اخوته في تلك السنين الصعبة من التردد إلى يوسف يطلبون من جهته القوت واحتمالهم لـما عاملهم به. وليتأمل سادسا كيف صبر عليهم وكيف احتمل في تخليص أخيه إلى حضرته واحتباسه عنده على مهل وقد كان يمكنه التعجل.

وليتأمل سابعا كيف حسنت معاملته مع إخوته حين ظفر بهم وقد كانوا عاملوه من قبل بما عاملوه به. وليتأمل ثامنا كيف توصل إلى إزالة الغمة عن قلب أبيه وصبر إلى أن ظفر بالوقت الذي أمكنه فيه إحضاره عنده على أحسن

١٨٧

الوجوه. وليتأمل تاسعا كيف كان صبر يعقوب صلّى الله عليه وسلم في بابه وفي باب غيبة أخيه وهو كالراجي لعودهما اليه واجتماعه معهما. وليتأمل عاشرا كيف قبل يوسف عذر إخوته وقد اعتذروا اليه مع تلك الجنايات العظام فكان جوابه( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ) . وليتأمل حادي عشر كيف قبل يعقوب أيضا عذرهم وزاد بان قال( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) إلى وجوه أخر تركنا ذكرها ثمّ أنّه تعالى قال في آخر السورة لرسوله صلّى الله عليه وسلم ولجماعة المكلفين( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) فنبّه بذلك على وجوب التمسك بهذه الاخلاق والآداب وكذلك قال تعالى في أوّل السورة( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) لان النفع يعظم بذلك لمن تأمله وهذا معنى قوله( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) لان من تدبر القرآن وتمسك باحكامه وآدابه وأخلاقه انفتح قلبه للخيرات دينا ودنيا فاذا قرأه من غير تدبر يصير قلبه كأنّ عليه قفلا لا يتغير عما هو عليه فهذه المقدمة التي قدمناها في هذه السورة تنفع فيها وفي القرآن ثمّ نذكر ما فيها من المتشابه على طريقتنا في هذا الكتاب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى لرسوله( وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ ) كيف يقول ذلك ولم يكن موصوفا من قبل بذلك. وجوابنا أنّ المراد من الغافلين عن هذه القصة وما شاكلها والا فمعلوم من حاله صلّى الله عليه وسلم التيقظ لكل ما يتعلق بالدين.

[ مسألة ] وربما قيل كيف قص يوسف رؤياه على يعقوب كأنه مصدق بها وكيف أمره أبوه بكتمان ذلك بقوله( لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ ) كانه عالم بصدق الرؤية مع أنها قد تخطئ وتصيب وكيف قال( فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً ) فأخبر عن أمر مستقبل لا يعرفه. وجوابنا

١٨٨

أن مثل ذلك قد يعمل فيه بالظن فلا ينبغي أن لا يفعل إلّا اليقين ويحتمل أنّه عرف من إخوته من قبل ما يوجب أن يأمره بالكتمان وما يعلم عنده أنّهم لو وقفوا على هذه الرؤيا لكادوا له ولو كان مثل ذلك لا يصح الا مع العلم لقلنا إنه تعالى قد أوحى اليه أما جملة وأما مفصلا.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ ) أهو من قول يعقوب أو من قوله تعالى، فان كان من قول يعقوب فكيف عرف ذلك. وجوابنا أنّه من قول يعقوب وقد كان الله أعلمه ذلك، يبين ما قلناه قوله أخيرا( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) . فان قيل فاذا عرف ذلك فكيف يجوز أن يغتم على ما ذكره الله تعالى في الكتاب ويخفى عليه حال يوسف. وجوابنا أنّه قد عرف ذلك من جهة الله تعالى على شرط أن يبقى، فلذلك كان خائفا.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) كيف يجوز ذلك منهم وهم أنبياء أو مرشحون للنبوّة. وجوابنا أنّ محل الولد من أبيه أن ينزله منزلة سائر أولاده فلا يقبح قولهم ان أبانا لفي ضلال مبين اذ مرادهم ذهابه عن انزالهم هذه المنزلة أيضا وبعد فلو قبح لكان ذلك قبل حال التكليف على ما يدل عليه قوله تعالى( أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ) لان هذا القول لا يليق الا بحال الصبي وفقد كمال العقل وقولهم( اقْتُلُوا يُوسُفَ أو اطْرَحُوهُ ) انما صح أيضا لان الحال حال الصبا وفقد كمال العقل فكذلك سائر ما فعلوه بيوسف لـما أرسله يعقوب معهم ( فان قيل ) كيف كانت الحال حال الصبا وقد قال تعالى بعده( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) . وجوابنا أنّه يحتمل أن يكون بمنزلة قوله تعالى( وَأَوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ )

١٨٩

ويكون بطريقة الالهام أو اظهار أمارة ويحتمل في هذا الايحاء أن يكون إلى يعقوب لتقدم ذكر يعقوب.

[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله تعالى( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) وما معنى( وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) فكيف يصح منهم الكذب ووصف الدم بالكذب. وجوابنا أنّه يحتمل في قولهم أكله الذئب انهم قالوه تعريضا لا خبرا على التحقيق ويحتمل أن يكونوا قد كذبوا لكنه وقع منهم في حال الصبا فاما قوله( بِدَمٍ كَذِبٍ ) فمن أحسن ما يوجد في مجاز الكلام فانهم صوروه بخلاف صورته فصار كالكذب ويحتمل أن يكون المراد بدم واقع من كاذب على معنى قوله( وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً ) أي أهلها وسكانها وقوله تعالى( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ) يدل على ما قلناه من انه كان ذلك في حال الصبا.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ) أليس ذلك كان بعد البلوغ والنبوّة فكيف يصح من الانبياء العزم على الزنا. وجوابنا أنّ المراد بقوله( هَمَّتْ ) العزيمة منها وبقوله( وَهَمَّ ) الرغبة والشهوة وان كان شديدا في الانصراف عن ذلك وقد يقال هم فلان بكيت وكيت بمعنى اشتهى ويحتمل ما قيل انه هم بها لو لا أن رأى برهان ربه فنفاه عنه بشرط قد وجد ولذلك قال تعالى( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ) وقال بعد ذلك بآيات حاكيا عنها انها قالت( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ

١٩٠

الصَّادِقِينَ ) كيف يصح الحكم بمثل ذلك مع تجويز خلافه. وجوابنا أنّه لا يمنع في شريعة ذلك الزمان الحكم بمثل ذلك وقد يجوز مثل ذلك في شريعتنا أيضا في أشياء كثيرة كالحكم بالقافة عند بعضهم وكإلحاق الولد بالفراش عند جميعهم وكرد للقطة بالعلامات عن بعضهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) كيف يصح ذلك من جماعة العقلاء حتّى يتفق منهن قطع اليد عند مشاهدته. وجوابنا أنّ حديث يوسف إذا كان قد تمكن في قلبهن لـما سمعن من خبر امرأة العزيز وشدة كلفها به لم يمتنع وبين أيديهن فاكهة ومعهن ذلك السكين أن يخرجن في حال ارادتهن لقطع ذلك وأكله إلى أن يقع منهن خطأ وليس في القرآن ان ذلك القطع كيف كان وفي أي موضع كان في اليد ولا في القرآن كم كان عدد النسوة ولا فيه ان ذلك وقع من جميعهن أو من أكثرهن ومثل ذلك لا يستنكر.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى في جواب منام الفتيين كيف يصح أن يقطع بذلك فيقول( أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ ) ويقول( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) وذلك كلام قاطع بهذا الأمر. وجوابنا أنّه يجوز أن يكون قاله من وحي، فقد كانت الحال حال نبوّة ولو لم يثبت ذلك لجاز أن يحمل على وجه الظن على أن الخبر في ذلك كان يثبت لديه، فالقرآن يدل على ان نفس يعقوب ونفس ابراهيم صلّى الله عليهما وسلم كانوا قد أوتوا المعرفة بتأويل الرؤيا وقد قيل في الخبر أنهما قالا بعد اظهارهما ما رأياه أنهما كذبا، فقال يوسف( قُضِيَ الْأَمْرُ ) وذلك لا يكون إلا عن وحي.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يصح وهو في السجن أن يظهر أن آباءه ابراهيم

١٩١

واسحاق ويعقوب ولا يظهر ذلك في القوم وكيف يصح ممن نجا منهما أن لا يذكر يوسف الا بعد زمان والا بعد رؤيا الملك أو ليس كل ذلك نقيض العادات. وجوابنا أنّ يوسف7 كان في صورة العبد الرقيق لذلك الملك وكان يخاف أن يظهر من كلامه ما يدل على خلاف ذلك خاصة فيمن كان خادما لذلك الملك وراجيا لان يعود إلى الخدمة فلذلك أخفى نسبه فأما النسيان فقد يصح في مثل ذلك إذا قل الحرص في مثله فلذلك قال تعالى( فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) وقال( وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) ثمّ ما كان من جوابه لرؤيا الملك وموافقة الصدق في ذلك، يدل على نبوّته.

[ مسألة ] وربما قيل أن يوسف لـما أجاب في رؤيا الملك( قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ) ولم يذكر له جواب الرؤيا، كيف يصح ذلك وجوابنا أنّه في هذه السورة قد ذكر تعالى أشياء حذف جزء منها اختصارا ولدلالة الكلام عليه وذلك يحسن.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يجوز وقد أمر الملك أن يخلص من السجن ان يختار أن يبقى فيه ويقول( ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) وقد كان يمكنه ان يخرج ثمّ يفتش عند ذلك. وجوابنا أنّه رأى وقد أحب الملك حضوره عنده أن التفتيش عن ذلك يكون أقوى وموقعه أحسن فأوهم أنّه لا يخرج من السجن إلا وقد ظهرت براءة ساحته كالشمس فلذلك قال ما قال فلما قلن ما قلن من قولهن( حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ) أيقن بظهور أمره فيما كان اتّهم به فعند ذلك خرج إلى حضرة الملك.

[ مسألة ] وربما قيل كيف جاز من يوسف ان يمدح نفسه فيقول

١٩٢

( اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ومدح النفس مكروه ومنهيّ عنه بقول الله تعالى( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) وكيف يجوز للنبي أن يتولّى من قبل الكفار. وجوابنا أنّ مدح النفس عند الحاجة إليه يحسن فلا يكون المراد المدح بل يكون المراد ذلك الوجه الذي يقع به النفع وعلى هذا الوجه قال صلّى الله عليه وسلم « أنا سيّد ولد آدم ولا فخر » فنبه بقوله ولا فخر على أن مراده ليس مدح النفس فيوسف صلّى الله عليه وسلم أظهر ذلك لـما كان في توليته الخزائن من المصلحة خصوصا في تلك السنين الشديدة فاما تولي ذلك من جهة الكفّار فانه يحسن إذا لم يمنع الشرع منه فان كان ذلك الملك كافرا فذاك حسن وان كان مؤمنا فلا سؤال.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يجوز في اخوته وهم جماعة ان لا يعرفوا يوسف كما قال تعالى( فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) وذلك بخلاف العادة في الجماعة. وجوابنا أنّ القوم فقدوا يوسف وهو في سن الصبي فتغير وجهه وقد كان لباسه أيضا من قبل بخلاف لباسه وقد صار له الملك وكذلك سائر أحواله وكان القوم يتهيّبونه عند المخاطبة لشدة الحاجة اليه وكلّ ذلك مما يجوز أن لا يعرفه القوم فيجوز أن حالته في معرفته لهم بخلاف حالهم لتمكنه من الامور وفراغ قلبه لتأملهم.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يجوز مع المجاعة الشديدة أن لا يكيل لهم مع الحاجة حتّى يأتوا بأخيه ومثل ذلك لا يحل. وجوابنا أنّه عرف أن الحاجة ليست في ذلك الوقت وكان له بغية في حضور أخيه وأنه سينتهي ذلك إلى حضور أبويه أيضا فلذلك فعل.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يجوز أن يخفى خبره عليهم المدة الطويلة مع قرب المسافة بين مصر وبين البدو الذي كانوا فيه حتّى يجري الأمر على ما ذكره

تنزيه القرآن (١٣)

١٩٣

الله عز وجل في كتابه. وجوابنا أنّ إخوة يوسف لـما أقدموا على ما فعلوه في أمر يوسف وجملة جماعة من السيارة وقد اشتروه بثمن بخس ظنوا فيه خلاف ما ظهر فقلّ تفتيشهم عنه ولما حمل واشتراه ذلك العزيز لامرأته واتخذاه كالولد كان كالمكتوم عن الناس مع حسن صورته ومثله ربما يخشى ظهوره ثمّ أقام محبوسا ما أقام وتردد في المجلس فعمي أمره وقد طالت المدة فلذلك ولأمثاله خفي خبره على أبيه وإخوته فأما خبرهم فلم يخف عليه لأن الذي عامل به اخوته يدل على أنّه كان بذلك عارفا وكان يتلطف في تحصيل أخيه ثمّ أبيه بالوجوه التي أباحها الله تعالى ومثل هذا السبب قد يخفى عنده الخبر فلذلك خفي على يعقوب وعلى اخوته خبره ( فان قيل ) كيف يجوز مع شدة محبة يعقوب أن لا يفتش عن خبره وقد كان قال لهم ما يدل على أنّه اتهمهم في أن الذئب أكله. وجوابنا أنّ يعقوب ما كان يعرف الاخبار الا من جهة أولاده لأن سائر الناس كان يقبض عنهم وأولاده كانوا لا يفتشون عن ذلك لأن سبب الجناية كان منهم وظنوا أنّه مفقود في الحقيقة ولأن شدة حزنه وما لقي من المحن في تلك السنين كان يشغل عن مثله ( فان قيل ) كيف يجوز من يعقوب وهو نبي ان يحزن كل ذلك الحزن على يوسف أو ليس ذلك يصرف عن أمور الآخرة. قيل له قد أبيح للوالد محبة الولد والسرور بأحواله خصوصا إذا كان الولد على مثل صفات يوسف أو ما يقاربها ويحتمل أيضا أنّه كان اشتد حزنه لانه ظن أنّه قصّر في حفظه وأنه فرّط في أن سلمه من اخوته فتضاعف حزنه لذلك أيضا. فان قيل له كيف جاز أن يقول يوسف وقد جعل السقاية في رحل أخيه إنهم لسارقون وهذا في الظاهر كذب. وجوابنا أنّ جعل السقاية في رحل أخيه يجوز أن يكون من قبله بأمره فأما ما قاله المؤذن من أنهم سارقون فهو من قبل المؤذن لا من قبل يوسف. فان قيل فكيف قال( فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) . وجوابنا أنّ كل ذلك ليس من قول يوسف فأما تملك السارق فقد كان بين ذلك الملك ويجوز ان يكون في بعض شرائع الانبياء فلذلك قالوا فهو جزاؤه. فان قيل

١٩٤

وكيف قال تعالى( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) وأخذه على هذا الوجه معصية لا يجوز أن يشاءه الله فكيف يصح ذلك. وجوابنا أنّ المراد مشيئة حصوله هناك حتّى يصح أخذه لأنّ كل ذلك مما يجوز أن يشاءه الله ولذلك قال بعده( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ) . فان قيل كيف يصح أن يقول يعقوب صلّى الله عليه وسلم( إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) فيضيف اليهم التنفيذ والذم له وكيف جاز أن يقولوا له( إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) فينسبون الضلال اليه. وجوابنا أنّه لا يمتنع أن يجد ريح يوسف وأمارات حياته وأن يكون الله تعالى قوي ذلك لـما أراده من اجتماعهم وأما الضلال في اللغة فهو الذهاب عن الشيء الذي فيه نفع فأرادوا بقولهم إنك لفي ضلالك القديم انك تجري على عادتك في العدول عما ينفعك ومثل ذلك قد يجوز أن يقال للانبياء فيما يتعلق بأمور الدنيا فان قيل كيف يعود بصيرا بالقاء القميص اليه قيل له أنّه نبي وفي أيام الانبياء قد يصح ظهور ما يخرج عن العادة فان لم يكن من معجزات يعقوب فهو من معجزات يوسف فلا سؤال في ذلك. واختلفوا فقال بعضهم كان بصره قد ضعف لا أنّه قد زال ومثل ذلك كالمعتاد إذا كان المرء شديد الخوف ثمّ يعود له الفرج والسرور فتعود قوة بصره ومنهم من قال بل كان بصره قد زال على ما يدل الظاهر عليه فيكون الجواب ما تقدم. فان قيل كيف قال وقد عاد بصره( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) أو ليس ذلك يدل على أنّه كان عالما بحياة يوسف. وجوابنا أنّه لا يمتنع أن يكون عالما بذلك من جهة الوحي ولا يمتنع أن يكون ظانا لذلك لعلامات وأمارات واذا علم فقد يجوز أن يكون عالما بشرط لا يحل معه القطع ويجوز خلافه وأحواله كانت تدل على أنّه لم يكن قاطعا على موته ولا يمتنع أن يكون قد أوحي اليه بما يدل على عوده اليه آخرا. فان قيل كيف يجوز أن يقولوا( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ) وهذا كلام معتذر تائب فيكون جوابه( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) فلم يقبل عذرهم

١٩٥

في الحال وذلك لا يجوز على الانبياء. وجوابنا أنّه قبل عذرهم في الوقت وإنّما وعدهم باستغفار مستقبل يقتضي استدعاء حصول المغفرة من قبل الله تعالى فاراد الدعاء لله تعالى وذلك مما لا يجب في الوقت وإنّما الذي يلزم في الحال قبول العذر فقط كما قال يوسف7 ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) ويحتمل أنّه7 لم يعرف أن مقصدهم بقولهم( اسْتَغْفِرْ لَنا ) الاعتذار الخالص وان كانوا قد تابوا من قبل فقال سوف استغفر لكم ربي إذا عرفت منكم الاخلاص. فان قيل كيف قالوا وقد دخلوا عليه أنك لأنت يوسف وقد ترددوا عليه حالا بعد حال حتّى قال( أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي ) وكيف يخفى عليهم حديث أخيهم خاصة وكيف قال لهم( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) وكانوا أنبياء. وجوابنا ما تقدم من أن حال يوسف كان قد تغير في صورته وفي محله وكانوا لا يتأملون تأمل متعرف فلذلك خفى عليهم فأما أخوه فكانوا يعرفونه ولم يقل يوسف( وَهذا أَخِي ) لانهم لم يعرفوه لكنه أراد اظهار نعمة الله عليه باجتماع أخيه معه ولذلك قال( قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) فاما قوله( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) فالمراد به أيام الصبا وقد يقال لمن لا يعرف الامور أنّه جاهل لا على طريق الذم. فان قيل فما معنى قوله وقد آوى اليه أبويه( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ) وكانوا قد دخلوا. وجوابنا انهما التقيا به خارج مصر فقال ما قال وذلك صحيح وهذا كما يستقبل المرء من يعظمه خارج البلد وأراد بذلك تعريفهم انهم تخلصوا مما كانوا عليه من المحق والمجاعة في ذلك البدو. فان قيل فما معنى( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) وكيف يسجدون له وذلك من العبادات التي لا تليق الا بالله تعالى. وجوابنا أنّ رفعه لهما على العرش كان على وجه الاعظام وايصال السرور اليهما برفعهما على السرير المرتفع فاما السجود فقد يحسن شكرا لله إذا وصل المرء إلى نعم عظيمة فيجوز أن يكون سجودهما له على هذا الوجه وأضيف السجود اليه لـما كان سبب ذلك كما يضاف

١٩٦

السجود إلى القبلة على قريب من هذه الطريقة. ويحتمل في السجود أن يكون وقع منهما على وجه الاعظام له فان ذلك يحسن على بعض الوجوه. وقد قيل ان الله تعالى ذكر السجود وأراد الخضوع بضرب من الميل إلى الارض أقرب إلى الظاهر بين ذلك قوله تعالى( وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) ودل بقوله( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) على أنّه قد زال عن قلبه ما عملوه به فاضافه إلى الشيطان تحقيقا لذلك ودل بقوله وقد جعله الله نبيّا( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) بعد التحية وقوله( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) على وجوب الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع له في المسألة مع العلم بالغفران فمنّ الله تعالى على نبينا صلّى الله عليه وسلم بقوله( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) لان في قصة يوسف من العجائب والعبر ما يوجب الشكر ودل بقوله( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) على ان من يؤمن من الناس قليل من كثير وان كان الانبياء يحرصون على ايمانهم ودل بقوله( وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) على ان دعاء الغير إلى الايمان لا يكاد يؤثر الا مع رفع الطمع ودل تعالى بقوله( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ) على ان الواجب على العاقل التفكر في الآيات إذا شاهدها وان ذلك من أعظم ما يأتيه المرء وكذلك قال بعده( وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) ثمّ بين ما يلحقهم إذا أعرضوا عن الآيات من العقاب فقال( أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أو تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ) فنبه بذلك على وجوب الحذر من قرب الساعة وقرب الاجل ثمّ أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلم بأن يقول( هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إلى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) ودل بذلك على ان هذا الدعاء كما يلزم الرسول يلزم من اتبعه من أهل المعرفة واليقين ودل بقوله( وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ

١٩٧

الْمُشْرِكِينَ ) على وجوب تنزيه الله تعالى ممن يدعو إلى الدين عما لا يليق به وقوي من نفسه صلّى الله عليه وسلم من بعد بقوله( حَتَّى إذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ) وبين ما في قصص الانبياء من النفع في الدين فقال( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) وهذا أحد ما يدل على ان الواجب أن يقرأ القرآن بتدبر حتّى ينتفع المرء بذلك.

١٩٨

سورة الرعد

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) كيف يصح أن يرفعها بعمد ونحن لا نراها. وجوابنا أنّ المراد أنّه يرفعها ويمسكها لا بعمد أصلا ودل بذلك على قدرته لان أحدنا لا يصح أن يرفع الثقيل الا بعمد وعلى هذا الوجه قال( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) وذلك من عظم نعم الله تعالى فلولا ذلك لم يصح التصرف على الارض ولا أن يدور الفلك والشمس والقمر والنجوم.

[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله تعالى( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) اذ لم يجز عليه المكان. وجوابنا أنّ المراد الاستيلاء والاقتدار وذكر ثمّ في الاستواء والاقتدار وأراد ما بعد من تسخيره الشمس والقمر لان اقتداره ليس بحادث ولا متجدد فكأنه قال ثمّ( سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) وهو مستول على ذلك مقتدر ثمّ يدبر الأمور التي قدر آجالها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) ما الفائدة في قوله اثنين وقد عقل ذلك مما تقدم. وجوابنا أنّه تأكيد يفيد فائدة زائدة لأن الزوجين قد يراد بهما أربعة فبين بقوله اثنين المراد وهو خلقه من كل شيء الذكر والانثى وما يجري مجراه وفي قوله( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) دلالة على نعمه وان الواجب التفكر فيها

١٩٩

ليستدل بها على قدرته وليعرف ما يلزم من شكره وعبادته وجعل جل وعز ذلك مبطلا لقول من أنكر الاعادة فلذلك قال( وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

[ مسألة ] وربما قيل ما فائدة قوله تعالى( وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ) وإنّما يحسن ذلك منا لانا لا نقدر على التعذيب والمنع الا بالآلات. وجوابنا أنّه تعالى يزجر المكلف عن المعاصي بما جرت العادة أن يعظم خوفه لاجله كما يرغب في الطاعة بما جرت العادة به من الملاذ والمناظر والا فهو قادر على أن يؤلم المعاقب بغير هذه الامور.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) أما يدل ذلك على ان كل شيء مخلوق من جهته. وجوابنا أنّه تعالى ذكر ذلك بقوله( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ) فبين بعده ان كل شيء عنده بمقدار لانه عالم بكل ذلك وقد يقال عنده ويراد به في علمه كما يقال ذلك ويراد القدرة ويراد الفعل ولذلك قال بعده( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) أليس ذلك يدل على أنّه الفاعل لهذه التغيرات. وجوابنا أنّه أضافها اليهم كما أضافها إلى نفسه والمراد انهم إذا غيروا طريقتهم في الشكر والطاعة غير الله تعالى أحوالهم بالمحن وغيرها زجر بذلك المكلف عن المعاصي. فان قيل فقال بعده( وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) وذلك يدل على ان السوء من عنده. وجوابنا أنّ المراد المحن والشدائد وتوصف بالسوء مجازا وليس في الآية أنّه يفعل ذلك وإنّما فيها أنّه إذا أراده لا مرد له لان ما يريده الله تعالى يكون أبدا بالوجود أولى إذا كان ذلك المراد من فعله. فأما إذا أراد من عباده الطاعات فانما يريدها على وجه اختيار وقد يجوز أن لا تقع لسوء اختيار المكلف.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501