تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن11%

تنزيه القران عن المطاعن مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 501

تنزيه القران عن المطاعن
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80732 / تحميل: 4500
الحجم الحجم الحجم
تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن

مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

سورة هود

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) كيف يصح ذلك والتفصيل ليس بشيء غير الأحكام. وجوابنا أنّ الله تعالى كتب القرآن في اللوح المحفوظ ثمّ أنزله مفصلا إلى الرسول لا جملة واحدة بحسب المصلحة فهذا معنى قوله ثمّ قال( ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) لانه تعالى أمر بانزاله على هذا الحال من التفصيل بعد إحكام الجميع وهذه الآية تدل على أن القرآن فعله تعالى من حيث وصفه بأنه أحكمه وذلك لا يتأتى إلّا في الافعال ومن حيث وصفه بأنه فصلت آياته ومن حيث وصفه بأنه من لدن القديم تعالى وإنّما يقال ذلك في الأفعال كما يقال ان هذه النعم من فضله وبين ما تقتضيه آيات الكتاب بقوله( أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) فبين ما تضمنه الكتاب وبين حال التائب وانه يمتعه متاعا حسنا( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) وبين حكم المصر بقوله( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) ثمّ بين ان المرجع إلى الله تعالى والمراد إلى يوم لا حاكم ولا مالك سواه وهو يوم القيامة وبيّن بقوله تعالى( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها ) تكفله بإرزاق كل حي. ومتى قيل فاذا تكفل بذلك فلما ذا يلزمه السعي. فجوابنا أنّ تكفله هو على هذا الوجه لا على حد الابتداء كما ان تكفله برزق الولد هو على وجه المباشرة لا على وجه الابتداء وبين ان كل ذلك مكتوب

١٨١

في الكتاب المبين وفائدة كتابة ذلك في اللوح المحفوظ ان الملائكة تعتبر بذلك وتعرف قدرة الله تعالى وعلمه إذا وافق ما يحدث من الامور ذلك المكتوب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ما الفائدة في خلقهما في هذه الايام وهو قادر على أن يخلقهما في لحظة واحدة. وجوابنا أنّه تعالى خلقهما في هذه المدة مصلحة للملائكة لكي يعتبروا بذلك كما انه قادر على جمع كل رزق لنا في يوم واحد لكنه للمصلحة يفعله حالا بعد حال ولذلك قال بعده( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) وبين تعالى بقوله ولئن قلت انكم مبعوثون من بعد الموت انكارهم للاعادة وبين بقوله( وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ ) استعجالهم بما كان يخوف به الرسول صلّى الله عليه وسلم وبين آخرا بقوله( أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ) ان ذلك مؤخر لانه تعالى حليم لا يعجل العقوبة ويمهل توقعا للتوبة وبين تعالى طريقة الانسان المذمومة بقوله( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) فبين انهم عند الاحسان اليهم يفرحون فاذا نزع ذلك لمصلحة يوجد منهم كفر النعمة واذا أجزل النعم عليهم يسلكون طريقة الفخر والفرح دون الانقطاع إلى الله وتعالى والتواضع له وذلك تأديب من الله تعالى فيما ينبغي أن يفعله المرء عند الغنى والفقر وفيما يكره منه ولذلك قال بعده( إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) فاستثناهم من القوم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) ما الفائدة في هذا الابتداء ولا خبر له. وجوابنا أنّ الخبر قد يحذف إذا كان كالمعلوم والمراد أفمن كان بهذا الوصف كمن هو يكفر ولا يسلك طريقة العبادة وما توجبه البينة.

١٨٢

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ) أنه يدل على جواز المكان عليه لان العرض لا يصح إلّا على هذا الوجه. وجوابنا أنهم لـما عرضوا في الموضع الذي جعله الله تعالى مكانا للعرض صح ذلك ومعنى قوله تعالى من بعد( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ) انهم من حيث لم يقبلوا ولم ينتفعوا بما سمعوا ورأوا كانوا في حكم ما لا يسمع ولا يبصر ولو أراد الحقيقة لـما ذمهم من قبل بقوله( وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ) أن ذلك على أنه تعالى يريد الضلال. وجوابنا أنّ مراد نوح٧ عند مخاطبة قومه بذلك انه ان كان تعالى يريد حرمانهم وخيبتهم من الفوز بالثواب وانزال العقاب فنصحه لا ينفع وذلك احالة على المعلوم من حالهم أورده على وجه الزجر لهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) أليس في ذلك دلالة على انه تعالى وعده تخليص ابنه مع القوم ثمّ لم يقع فكيف يصح ذلك. وجوابنا أنّه تعالى قد كان وعد بنجاة أهله وأراد من آمن منهم وظن نوح أن ابنه منهم ولذلك قال تعالى بعده( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ ) ان ذلك يدل على أن الطاعات

١٨٣

من فعل الله تعالى. وجوابنا أنّ التوفيق من فعل الله تعالى في الحقيقة وهو ما يفعله مما يدعو العبد إلى العبادة كخلق الولد والغنى وما شاكله فنحن نقول بالظاهر والقوم لا يمكنهم ذلك إذ قالوا إن الله تعالى يخلق أعمال العباد لأنّ خلقه ذلك مما يغني عن اللطف والتوفيق والمعونة والهداية فكان ذلك على مذهبهم يحب أن لا يصح.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) أليس ذلك يدل على انقطاع العذاب من حيث وقته بدوام السموات والارض الذين يفنيان وأنتم تقولون بالخلود فكيف يصح ذلك. وجوابنا أنّ للنار سماء وأرضا وكذلك الجنة ولا يفنيان فهذا هو المراد وقد قيل أنّ المراد بذلك تبعيد خروجهم فعلقه تعالى بما يبعد في العقول زواله على مذهب العرب في مثل قول الشاعر.

اذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ ) ان ذلك الاستثناء يدل على انقطاع العقاب فكيف يصح ذلك مع قولكم بالخلود.

وجوابنا أن المراد أوقات الموقف للمحاسبة قبل دخول النار وعلى هذا الوجه ذكر الله تعالى في السعداء مثل ما ذكره في الأشقياء فقال( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ ) وقوله تعالى من بعد لرسوله صلّى الله عليه وسلم( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ) على وجه الزجر لغيره على نحو ما قدمناه من قبل.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ

١٨٤

رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ) كيف يصح أن يوفيهم نفس العمل. وجوابنا أنّ المراد جزاء العمل من ثواب وعقاب وهو الذي يصح أن يفي به وعده.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) كيف يصح ذلك وقد أبيح لنا مخالطتهم. وجوابنا أنّ المراد الركون اليهم فيما يتصل بالمدح والاعظام ويجري مجرى الموالاة ولم يرد ما يتصل بالمعاشرة ومعنى قوله من بعد( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ان التوبة تزيل عقاب المعاصي وكثرة الطاعات تكفر السيئات ومعنى قوله تعالى( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ) بالالجاء والاكراه لكنه انما شاء منهم ذلك على وجه الاختيار لكي يفوزوا بالثواب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) أليس ذلك يدل على أنه خلقهم للاختلاف الذي في جملته المعصية وذلك يدل على أنه تعالى مريد منهم ذلك. وجوابنا أنّ المراد للرحمة خلقهم لانه قال( إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) فلذلك راجع إلى الرحمة لا إلى الاختلاف والرحمة من الله تعالى لا تكون إلّا بارادته فكأنه قال ولكي يرحمهم خلقهم وهو أقرب مذكور اليه وقد ثبت بالدليل أن الاختلاف الباطل لا يريده الله تعالى بل يكرهه أشد كراهة فقد نهى وزجر عن فعله.

[ مسألة ] وربما سألوا عن قوله تعالى( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ) كيف يصح ذلك إذا لم يكن هو الخالق لتصرف الحيوان. والجواب عنه أن المراد أنه قادر على تصريفها كما يشاء والعرب تذكر ذلك على هذا المعنى فتقول ناصية فلان بيد فلان.

١٨٥

[ مسألة ] وربما سألوا في قوله تعالى( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) كيف يجوز منه وهو نبي أن يجادل الملائكة في ذلك. وجوابنا أنّه جادل ليعرف ما لأجله استحقوا العذاب وهو أحد الوجوه التي يجادل المجادل لأجلها.

١٨٦

سورة يوسف

أوّل ما نذكر في هذه السورة أنها مشتملة من آداب الانبياء صلوات الله عليهم ومن آداب الاخلاق والتمسك بالصبر والحلم وتوقع الفرج بعد حين والتشدد في الصبر على المعاصي واحتمال المكاره على ما لو تأمله القارئ وتمسك بكله أو بعضه لعظم موقع ذلك في دينه ودنياه، فليتأمل القارئ أولا رؤيا يوسف للكواكب والشمس والقمر وان أباه صلّى الله عليهما وسلم كيف تقدم بكتمان ذلك عن اخوته والصبر في كتمان ذلك صعب فاحتمله تحرزا من حسدهم. وليتأمل ثانيا كيف جاد به على اخوته لئلا يستوحشوا وظن السلامة مع خوفه منهم عليه حتّى أقدموا على ما أقدموا. وليتأمل ثالثا أنه بعد ظهور ذلك منهم كيف احتملهم ولم يجازهم على ما فعلوه بقطعهم واخراجهم عن محبته وعن النظر لهم.

وليتأمل رابعا صورة يوسف فيما وقع اليه من امرأة العزيز وكيف تشدد في الاحتراز عنها واحتمل لذلك الحبس الطويل حتّى كانت عاقبة صبره ما حصل من اعتراف الكل بصيانته ووصوله إلى الملك والبغية. وليتأمل خامسا ما دفع اليه اخوته في تلك السنين الصعبة من التردد إلى يوسف يطلبون من جهته القوت واحتمالهم لـما عاملهم به. وليتأمل سادسا كيف صبر عليهم وكيف احتمل في تخليص أخيه إلى حضرته واحتباسه عنده على مهل وقد كان يمكنه التعجل.

وليتأمل سابعا كيف حسنت معاملته مع إخوته حين ظفر بهم وقد كانوا عاملوه من قبل بما عاملوه به. وليتأمل ثامنا كيف توصل إلى إزالة الغمة عن قلب أبيه وصبر إلى أن ظفر بالوقت الذي أمكنه فيه إحضاره عنده على أحسن

١٨٧

الوجوه. وليتأمل تاسعا كيف كان صبر يعقوب صلّى الله عليه وسلم في بابه وفي باب غيبة أخيه وهو كالراجي لعودهما اليه واجتماعه معهما. وليتأمل عاشرا كيف قبل يوسف عذر إخوته وقد اعتذروا اليه مع تلك الجنايات العظام فكان جوابه( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ) . وليتأمل حادي عشر كيف قبل يعقوب أيضا عذرهم وزاد بان قال( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) إلى وجوه أخر تركنا ذكرها ثمّ أنّه تعالى قال في آخر السورة لرسوله صلّى الله عليه وسلم ولجماعة المكلفين( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) فنبّه بذلك على وجوب التمسك بهذه الاخلاق والآداب وكذلك قال تعالى في أوّل السورة( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) لان النفع يعظم بذلك لمن تأمله وهذا معنى قوله( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) لان من تدبر القرآن وتمسك باحكامه وآدابه وأخلاقه انفتح قلبه للخيرات دينا ودنيا فاذا قرأه من غير تدبر يصير قلبه كأنّ عليه قفلا لا يتغير عما هو عليه فهذه المقدمة التي قدمناها في هذه السورة تنفع فيها وفي القرآن ثمّ نذكر ما فيها من المتشابه على طريقتنا في هذا الكتاب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى لرسوله( وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ ) كيف يقول ذلك ولم يكن موصوفا من قبل بذلك. وجوابنا أنّ المراد من الغافلين عن هذه القصة وما شاكلها والا فمعلوم من حاله صلّى الله عليه وسلم التيقظ لكل ما يتعلق بالدين.

[ مسألة ] وربما قيل كيف قص يوسف رؤياه على يعقوب كأنه مصدق بها وكيف أمره أبوه بكتمان ذلك بقوله( لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ ) كانه عالم بصدق الرؤية مع أنها قد تخطئ وتصيب وكيف قال( فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً ) فأخبر عن أمر مستقبل لا يعرفه. وجوابنا

١٨٨

أن مثل ذلك قد يعمل فيه بالظن فلا ينبغي أن لا يفعل إلّا اليقين ويحتمل أنّه عرف من إخوته من قبل ما يوجب أن يأمره بالكتمان وما يعلم عنده أنّهم لو وقفوا على هذه الرؤيا لكادوا له ولو كان مثل ذلك لا يصح الا مع العلم لقلنا إنه تعالى قد أوحى اليه أما جملة وأما مفصلا.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ ) أهو من قول يعقوب أو من قوله تعالى، فان كان من قول يعقوب فكيف عرف ذلك. وجوابنا أنّه من قول يعقوب وقد كان الله أعلمه ذلك، يبين ما قلناه قوله أخيرا( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) . فان قيل فاذا عرف ذلك فكيف يجوز أن يغتم على ما ذكره الله تعالى في الكتاب ويخفى عليه حال يوسف. وجوابنا أنّه قد عرف ذلك من جهة الله تعالى على شرط أن يبقى، فلذلك كان خائفا.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) كيف يجوز ذلك منهم وهم أنبياء أو مرشحون للنبوّة. وجوابنا أنّ محل الولد من أبيه أن ينزله منزلة سائر أولاده فلا يقبح قولهم ان أبانا لفي ضلال مبين اذ مرادهم ذهابه عن انزالهم هذه المنزلة أيضا وبعد فلو قبح لكان ذلك قبل حال التكليف على ما يدل عليه قوله تعالى( أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ) لان هذا القول لا يليق الا بحال الصبي وفقد كمال العقل وقولهم( اقْتُلُوا يُوسُفَ أو اطْرَحُوهُ ) انما صح أيضا لان الحال حال الصبا وفقد كمال العقل فكذلك سائر ما فعلوه بيوسف لـما أرسله يعقوب معهم ( فان قيل ) كيف كانت الحال حال الصبا وقد قال تعالى بعده( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) . وجوابنا أنّه يحتمل أن يكون بمنزلة قوله تعالى( وَأَوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ )

١٨٩

ويكون بطريقة الالهام أو اظهار أمارة ويحتمل في هذا الايحاء أن يكون إلى يعقوب لتقدم ذكر يعقوب.

[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله تعالى( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) وما معنى( وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) فكيف يصح منهم الكذب ووصف الدم بالكذب. وجوابنا أنّه يحتمل في قولهم أكله الذئب انهم قالوه تعريضا لا خبرا على التحقيق ويحتمل أن يكونوا قد كذبوا لكنه وقع منهم في حال الصبا فاما قوله( بِدَمٍ كَذِبٍ ) فمن أحسن ما يوجد في مجاز الكلام فانهم صوروه بخلاف صورته فصار كالكذب ويحتمل أن يكون المراد بدم واقع من كاذب على معنى قوله( وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً ) أي أهلها وسكانها وقوله تعالى( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ) يدل على ما قلناه من انه كان ذلك في حال الصبا.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ) أليس ذلك كان بعد البلوغ والنبوّة فكيف يصح من الانبياء العزم على الزنا. وجوابنا أنّ المراد بقوله( هَمَّتْ ) العزيمة منها وبقوله( وَهَمَّ ) الرغبة والشهوة وان كان شديدا في الانصراف عن ذلك وقد يقال هم فلان بكيت وكيت بمعنى اشتهى ويحتمل ما قيل انه هم بها لو لا أن رأى برهان ربه فنفاه عنه بشرط قد وجد ولذلك قال تعالى( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ) وقال بعد ذلك بآيات حاكيا عنها انها قالت( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ

١٩٠

الصَّادِقِينَ ) كيف يصح الحكم بمثل ذلك مع تجويز خلافه. وجوابنا أنّه لا يمنع في شريعة ذلك الزمان الحكم بمثل ذلك وقد يجوز مثل ذلك في شريعتنا أيضا في أشياء كثيرة كالحكم بالقافة عند بعضهم وكإلحاق الولد بالفراش عند جميعهم وكرد للقطة بالعلامات عن بعضهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) كيف يصح ذلك من جماعة العقلاء حتّى يتفق منهن قطع اليد عند مشاهدته. وجوابنا أنّ حديث يوسف إذا كان قد تمكن في قلبهن لـما سمعن من خبر امرأة العزيز وشدة كلفها به لم يمتنع وبين أيديهن فاكهة ومعهن ذلك السكين أن يخرجن في حال ارادتهن لقطع ذلك وأكله إلى أن يقع منهن خطأ وليس في القرآن ان ذلك القطع كيف كان وفي أي موضع كان في اليد ولا في القرآن كم كان عدد النسوة ولا فيه ان ذلك وقع من جميعهن أو من أكثرهن ومثل ذلك لا يستنكر.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى في جواب منام الفتيين كيف يصح أن يقطع بذلك فيقول( أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ ) ويقول( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) وذلك كلام قاطع بهذا الأمر. وجوابنا أنّه يجوز أن يكون قاله من وحي، فقد كانت الحال حال نبوّة ولو لم يثبت ذلك لجاز أن يحمل على وجه الظن على أن الخبر في ذلك كان يثبت لديه، فالقرآن يدل على ان نفس يعقوب ونفس ابراهيم صلّى الله عليهما وسلم كانوا قد أوتوا المعرفة بتأويل الرؤيا وقد قيل في الخبر أنهما قالا بعد اظهارهما ما رأياه أنهما كذبا، فقال يوسف( قُضِيَ الْأَمْرُ ) وذلك لا يكون إلا عن وحي.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يصح وهو في السجن أن يظهر أن آباءه ابراهيم

١٩١

واسحاق ويعقوب ولا يظهر ذلك في القوم وكيف يصح ممن نجا منهما أن لا يذكر يوسف الا بعد زمان والا بعد رؤيا الملك أو ليس كل ذلك نقيض العادات. وجوابنا أنّ يوسف٧ كان في صورة العبد الرقيق لذلك الملك وكان يخاف أن يظهر من كلامه ما يدل على خلاف ذلك خاصة فيمن كان خادما لذلك الملك وراجيا لان يعود إلى الخدمة فلذلك أخفى نسبه فأما النسيان فقد يصح في مثل ذلك إذا قل الحرص في مثله فلذلك قال تعالى( فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) وقال( وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) ثمّ ما كان من جوابه لرؤيا الملك وموافقة الصدق في ذلك، يدل على نبوّته.

[ مسألة ] وربما قيل أن يوسف لـما أجاب في رؤيا الملك( قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ) ولم يذكر له جواب الرؤيا، كيف يصح ذلك وجوابنا أنّه في هذه السورة قد ذكر تعالى أشياء حذف جزء منها اختصارا ولدلالة الكلام عليه وذلك يحسن.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يجوز وقد أمر الملك أن يخلص من السجن ان يختار أن يبقى فيه ويقول( ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) وقد كان يمكنه ان يخرج ثمّ يفتش عند ذلك. وجوابنا أنّه رأى وقد أحب الملك حضوره عنده أن التفتيش عن ذلك يكون أقوى وموقعه أحسن فأوهم أنّه لا يخرج من السجن إلا وقد ظهرت براءة ساحته كالشمس فلذلك قال ما قال فلما قلن ما قلن من قولهن( حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ) أيقن بظهور أمره فيما كان اتّهم به فعند ذلك خرج إلى حضرة الملك.

[ مسألة ] وربما قيل كيف جاز من يوسف ان يمدح نفسه فيقول

١٩٢

( اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ومدح النفس مكروه ومنهيّ عنه بقول الله تعالى( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) وكيف يجوز للنبي أن يتولّى من قبل الكفار. وجوابنا أنّ مدح النفس عند الحاجة إليه يحسن فلا يكون المراد المدح بل يكون المراد ذلك الوجه الذي يقع به النفع وعلى هذا الوجه قال صلّى الله عليه وسلم « أنا سيّد ولد آدم ولا فخر » فنبه بقوله ولا فخر على أن مراده ليس مدح النفس فيوسف صلّى الله عليه وسلم أظهر ذلك لـما كان في توليته الخزائن من المصلحة خصوصا في تلك السنين الشديدة فاما تولي ذلك من جهة الكفّار فانه يحسن إذا لم يمنع الشرع منه فان كان ذلك الملك كافرا فذاك حسن وان كان مؤمنا فلا سؤال.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يجوز في اخوته وهم جماعة ان لا يعرفوا يوسف كما قال تعالى( فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) وذلك بخلاف العادة في الجماعة. وجوابنا أنّ القوم فقدوا يوسف وهو في سن الصبي فتغير وجهه وقد كان لباسه أيضا من قبل بخلاف لباسه وقد صار له الملك وكذلك سائر أحواله وكان القوم يتهيّبونه عند المخاطبة لشدة الحاجة اليه وكلّ ذلك مما يجوز أن لا يعرفه القوم فيجوز أن حالته في معرفته لهم بخلاف حالهم لتمكنه من الامور وفراغ قلبه لتأملهم.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يجوز مع المجاعة الشديدة أن لا يكيل لهم مع الحاجة حتّى يأتوا بأخيه ومثل ذلك لا يحل. وجوابنا أنّه عرف أن الحاجة ليست في ذلك الوقت وكان له بغية في حضور أخيه وأنه سينتهي ذلك إلى حضور أبويه أيضا فلذلك فعل.

[ مسألة ] وربما قيل كيف يجوز أن يخفى خبره عليهم المدة الطويلة مع قرب المسافة بين مصر وبين البدو الذي كانوا فيه حتّى يجري الأمر على ما ذكره

تنزيه القرآن (١٣)

١٩٣

الله عز وجل في كتابه. وجوابنا أنّ إخوة يوسف لـما أقدموا على ما فعلوه في أمر يوسف وجملة جماعة من السيارة وقد اشتروه بثمن بخس ظنوا فيه خلاف ما ظهر فقلّ تفتيشهم عنه ولما حمل واشتراه ذلك العزيز لامرأته واتخذاه كالولد كان كالمكتوم عن الناس مع حسن صورته ومثله ربما يخشى ظهوره ثمّ أقام محبوسا ما أقام وتردد في المجلس فعمي أمره وقد طالت المدة فلذلك ولأمثاله خفي خبره على أبيه وإخوته فأما خبرهم فلم يخف عليه لأن الذي عامل به اخوته يدل على أنّه كان بذلك عارفا وكان يتلطف في تحصيل أخيه ثمّ أبيه بالوجوه التي أباحها الله تعالى ومثل هذا السبب قد يخفى عنده الخبر فلذلك خفي على يعقوب وعلى اخوته خبره ( فان قيل ) كيف يجوز مع شدة محبة يعقوب أن لا يفتش عن خبره وقد كان قال لهم ما يدل على أنّه اتهمهم في أن الذئب أكله. وجوابنا أنّ يعقوب ما كان يعرف الاخبار الا من جهة أولاده لأن سائر الناس كان يقبض عنهم وأولاده كانوا لا يفتشون عن ذلك لأن سبب الجناية كان منهم وظنوا أنّه مفقود في الحقيقة ولأن شدة حزنه وما لقي من المحن في تلك السنين كان يشغل عن مثله ( فان قيل ) كيف يجوز من يعقوب وهو نبي ان يحزن كل ذلك الحزن على يوسف أو ليس ذلك يصرف عن أمور الآخرة. قيل له قد أبيح للوالد محبة الولد والسرور بأحواله خصوصا إذا كان الولد على مثل صفات يوسف أو ما يقاربها ويحتمل أيضا أنّه كان اشتد حزنه لانه ظن أنّه قصّر في حفظه وأنه فرّط في أن سلمه من اخوته فتضاعف حزنه لذلك أيضا. فان قيل له كيف جاز أن يقول يوسف وقد جعل السقاية في رحل أخيه إنهم لسارقون وهذا في الظاهر كذب. وجوابنا أنّ جعل السقاية في رحل أخيه يجوز أن يكون من قبله بأمره فأما ما قاله المؤذن من أنهم سارقون فهو من قبل المؤذن لا من قبل يوسف. فان قيل فكيف قال( فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) . وجوابنا أنّ كل ذلك ليس من قول يوسف فأما تملك السارق فقد كان بين ذلك الملك ويجوز ان يكون في بعض شرائع الانبياء فلذلك قالوا فهو جزاؤه. فان قيل

١٩٤

وكيف قال تعالى( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) وأخذه على هذا الوجه معصية لا يجوز أن يشاءه الله فكيف يصح ذلك. وجوابنا أنّ المراد مشيئة حصوله هناك حتّى يصح أخذه لأنّ كل ذلك مما يجوز أن يشاءه الله ولذلك قال بعده( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ) . فان قيل كيف يصح أن يقول يعقوب صلّى الله عليه وسلم( إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) فيضيف اليهم التنفيذ والذم له وكيف جاز أن يقولوا له( إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) فينسبون الضلال اليه. وجوابنا أنّه لا يمتنع أن يجد ريح يوسف وأمارات حياته وأن يكون الله تعالى قوي ذلك لـما أراده من اجتماعهم وأما الضلال في اللغة فهو الذهاب عن الشيء الذي فيه نفع فأرادوا بقولهم إنك لفي ضلالك القديم انك تجري على عادتك في العدول عما ينفعك ومثل ذلك قد يجوز أن يقال للانبياء فيما يتعلق بأمور الدنيا فان قيل كيف يعود بصيرا بالقاء القميص اليه قيل له أنّه نبي وفي أيام الانبياء قد يصح ظهور ما يخرج عن العادة فان لم يكن من معجزات يعقوب فهو من معجزات يوسف فلا سؤال في ذلك. واختلفوا فقال بعضهم كان بصره قد ضعف لا أنّه قد زال ومثل ذلك كالمعتاد إذا كان المرء شديد الخوف ثمّ يعود له الفرج والسرور فتعود قوة بصره ومنهم من قال بل كان بصره قد زال على ما يدل الظاهر عليه فيكون الجواب ما تقدم. فان قيل كيف قال وقد عاد بصره( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) أو ليس ذلك يدل على أنّه كان عالما بحياة يوسف. وجوابنا أنّه لا يمتنع أن يكون عالما بذلك من جهة الوحي ولا يمتنع أن يكون ظانا لذلك لعلامات وأمارات واذا علم فقد يجوز أن يكون عالما بشرط لا يحل معه القطع ويجوز خلافه وأحواله كانت تدل على أنّه لم يكن قاطعا على موته ولا يمتنع أن يكون قد أوحي اليه بما يدل على عوده اليه آخرا. فان قيل كيف يجوز أن يقولوا( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ) وهذا كلام معتذر تائب فيكون جوابه( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) فلم يقبل عذرهم

١٩٥

في الحال وذلك لا يجوز على الانبياء. وجوابنا أنّه قبل عذرهم في الوقت وإنّما وعدهم باستغفار مستقبل يقتضي استدعاء حصول المغفرة من قبل الله تعالى فاراد الدعاء لله تعالى وذلك مما لا يجب في الوقت وإنّما الذي يلزم في الحال قبول العذر فقط كما قال يوسف٧ ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) ويحتمل أنّه٧ لم يعرف أن مقصدهم بقولهم( اسْتَغْفِرْ لَنا ) الاعتذار الخالص وان كانوا قد تابوا من قبل فقال سوف استغفر لكم ربي إذا عرفت منكم الاخلاص. فان قيل كيف قالوا وقد دخلوا عليه أنك لأنت يوسف وقد ترددوا عليه حالا بعد حال حتّى قال( أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي ) وكيف يخفى عليهم حديث أخيهم خاصة وكيف قال لهم( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) وكانوا أنبياء. وجوابنا ما تقدم من أن حال يوسف كان قد تغير في صورته وفي محله وكانوا لا يتأملون تأمل متعرف فلذلك خفى عليهم فأما أخوه فكانوا يعرفونه ولم يقل يوسف( وَهذا أَخِي ) لانهم لم يعرفوه لكنه أراد اظهار نعمة الله عليه باجتماع أخيه معه ولذلك قال( قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) فاما قوله( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) فالمراد به أيام الصبا وقد يقال لمن لا يعرف الامور أنّه جاهل لا على طريق الذم. فان قيل فما معنى قوله وقد آوى اليه أبويه( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ) وكانوا قد دخلوا. وجوابنا انهما التقيا به خارج مصر فقال ما قال وذلك صحيح وهذا كما يستقبل المرء من يعظمه خارج البلد وأراد بذلك تعريفهم انهم تخلصوا مما كانوا عليه من المحق والمجاعة في ذلك البدو. فان قيل فما معنى( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) وكيف يسجدون له وذلك من العبادات التي لا تليق الا بالله تعالى. وجوابنا أنّ رفعه لهما على العرش كان على وجه الاعظام وايصال السرور اليهما برفعهما على السرير المرتفع فاما السجود فقد يحسن شكرا لله إذا وصل المرء إلى نعم عظيمة فيجوز أن يكون سجودهما له على هذا الوجه وأضيف السجود اليه لـما كان سبب ذلك كما يضاف

١٩٦

السجود إلى القبلة على قريب من هذه الطريقة. ويحتمل في السجود أن يكون وقع منهما على وجه الاعظام له فان ذلك يحسن على بعض الوجوه. وقد قيل ان الله تعالى ذكر السجود وأراد الخضوع بضرب من الميل إلى الارض أقرب إلى الظاهر بين ذلك قوله تعالى( وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) ودل بقوله( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) على أنّه قد زال عن قلبه ما عملوه به فاضافه إلى الشيطان تحقيقا لذلك ودل بقوله وقد جعله الله نبيّا( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) بعد التحية وقوله( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) على وجوب الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع له في المسألة مع العلم بالغفران فمنّ الله تعالى على نبينا صلّى الله عليه وسلم بقوله( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) لان في قصة يوسف من العجائب والعبر ما يوجب الشكر ودل بقوله( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) على ان من يؤمن من الناس قليل من كثير وان كان الانبياء يحرصون على ايمانهم ودل بقوله( وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) على ان دعاء الغير إلى الايمان لا يكاد يؤثر الا مع رفع الطمع ودل تعالى بقوله( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ) على ان الواجب على العاقل التفكر في الآيات إذا شاهدها وان ذلك من أعظم ما يأتيه المرء وكذلك قال بعده( وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) ثمّ بين ما يلحقهم إذا أعرضوا عن الآيات من العقاب فقال( أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أو تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ) فنبه بذلك على وجوب الحذر من قرب الساعة وقرب الاجل ثمّ أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلم بأن يقول( هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إلى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) ودل بذلك على ان هذا الدعاء كما يلزم الرسول يلزم من اتبعه من أهل المعرفة واليقين ودل بقوله( وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ

١٩٧

الْمُشْرِكِينَ ) على وجوب تنزيه الله تعالى ممن يدعو إلى الدين عما لا يليق به وقوي من نفسه صلّى الله عليه وسلم من بعد بقوله( حَتَّى إذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ) وبين ما في قصص الانبياء من النفع في الدين فقال( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) وهذا أحد ما يدل على ان الواجب أن يقرأ القرآن بتدبر حتّى ينتفع المرء بذلك.

١٩٨

سورة الرعد

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) كيف يصح أن يرفعها بعمد ونحن لا نراها. وجوابنا أنّ المراد أنّه يرفعها ويمسكها لا بعمد أصلا ودل بذلك على قدرته لان أحدنا لا يصح أن يرفع الثقيل الا بعمد وعلى هذا الوجه قال( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) وذلك من عظم نعم الله تعالى فلولا ذلك لم يصح التصرف على الارض ولا أن يدور الفلك والشمس والقمر والنجوم.

[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله تعالى( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) اذ لم يجز عليه المكان. وجوابنا أنّ المراد الاستيلاء والاقتدار وذكر ثمّ في الاستواء والاقتدار وأراد ما بعد من تسخيره الشمس والقمر لان اقتداره ليس بحادث ولا متجدد فكأنه قال ثمّ( سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) وهو مستول على ذلك مقتدر ثمّ يدبر الأمور التي قدر آجالها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) ما الفائدة في قوله اثنين وقد عقل ذلك مما تقدم. وجوابنا أنّه تأكيد يفيد فائدة زائدة لأن الزوجين قد يراد بهما أربعة فبين بقوله اثنين المراد وهو خلقه من كل شيء الذكر والانثى وما يجري مجراه وفي قوله( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) دلالة على نعمه وان الواجب التفكر فيها

١٩٩

ليستدل بها على قدرته وليعرف ما يلزم من شكره وعبادته وجعل جل وعز ذلك مبطلا لقول من أنكر الاعادة فلذلك قال( وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

[ مسألة ] وربما قيل ما فائدة قوله تعالى( وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ) وإنّما يحسن ذلك منا لانا لا نقدر على التعذيب والمنع الا بالآلات. وجوابنا أنّه تعالى يزجر المكلف عن المعاصي بما جرت العادة أن يعظم خوفه لاجله كما يرغب في الطاعة بما جرت العادة به من الملاذ والمناظر والا فهو قادر على أن يؤلم المعاقب بغير هذه الامور.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) أما يدل ذلك على ان كل شيء مخلوق من جهته. وجوابنا أنّه تعالى ذكر ذلك بقوله( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ) فبين بعده ان كل شيء عنده بمقدار لانه عالم بكل ذلك وقد يقال عنده ويراد به في علمه كما يقال ذلك ويراد القدرة ويراد الفعل ولذلك قال بعده( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) أليس ذلك يدل على أنّه الفاعل لهذه التغيرات. وجوابنا أنّه أضافها اليهم كما أضافها إلى نفسه والمراد انهم إذا غيروا طريقتهم في الشكر والطاعة غير الله تعالى أحوالهم بالمحن وغيرها زجر بذلك المكلف عن المعاصي. فان قيل فقال بعده( وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) وذلك يدل على ان السوء من عنده. وجوابنا أنّ المراد المحن والشدائد وتوصف بالسوء مجازا وليس في الآية أنّه يفعل ذلك وإنّما فيها أنّه إذا أراده لا مرد له لان ما يريده الله تعالى يكون أبدا بالوجود أولى إذا كان ذلك المراد من فعله. فأما إذا أراد من عباده الطاعات فانما يريدها على وجه اختيار وقد يجوز أن لا تقع لسوء اختيار المكلف.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(٢) ، كما نصّ عليه في كتابه ، ولا خالق سواه

ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب والمعاصي ، ويلوم العباد بالكسب الذميم ، وهو يخلق الأشياء ، والله يخلق الإعراض ، ولكنّ العبد مباشر للإعراض فهو معرض ، والمعرض من يباشر الفعل لا من يخلق ، وكذا المنع(٣) .

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٢.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٠٢ ، سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، سورة الزمر ٣٩ : ٦٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٢.

(٣) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦٩ ـ ٩١ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ـ ٣٤٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٦ ـ ٩٣ ، المسائل الخمسون : ٥٩ ـ ٦١ ، شرح العقائد النسفية : ١٣٥ ـ ١٣٩.

٣٤١

وأقول :

لا يخفى أنّ قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) وارد في مقامين من الكتاب المجيد

الأوّل : قوله تعالى في سورة الأنعام : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ )(١) .

وهو ظاهر في غير أفعال العباد ؛ لأنّه سبحانه قد جعل الأمر بعبادته واستحقاقه لها فرعا عن وحدانيّته وخلقه للكائنات.

ومن الواضح أنّ تفريع الأمر بالعبادة على خلق الكائنات إنّما يتمّ إذا كانت العبادة فعلا للعبد ، إذ لا معنى لقولنا : لا إله إلّا هو خالق عبادتكم وغيرها فاعبدوه.

الثاني : قوله تعالى في سورة الرعد : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ )(٢) .

وقد استدلّ المجبّرة بهذه الآية على مذهبهم من حيث اشتمالها على العموم ، وعلى إنكار من يخلق كخلقه(٣) .

وأجيب بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار ، فلو أريد بها العموم

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ١٠٢.

(٢) سورة الرعد ١٣ : ١٦.

(٣) تمهيد الأوائل : ٣٤٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٨ ـ ٨٩ ، تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٣٨.

٣٤٢

لأفعال العباد لانقلبت الحجّة بها للكفّار ؛ لأنّه إذا كان هو الخالق لشركهم لمّا صلح الإنكار عليهم به ، وكان لهم أن يقولوا : إذا كنت قد فعلت ذلك بنا فلم تنكر علينا بفعل فعلته فينا ونحن لا أثر لنا فيه أصلا؟!

مضافا إلى أنّ المراد الإنكار عليهم في جعل آلهة لا يمكن الاشتباه بإلهيّتهم ، إذ لم يجعلوا لله تعالى شركاء لهم خلق يشبه خلقه حتّى يحصل به الالتباس في الإلهية.

وهذا إنّما يراد به المخلوقات المناسبة للإلهية كالسماوات والأرض والأجسام والأعراض ، فيكون عموم قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إنّما هو بالنسبة إلى تلك المخلوقات ، لا مثل الشرك والإلحاد والظلم والفساد ونحوها ، ممّا يصدر من البشر ويتنزّه عنه خالق العجائب وعظام الأمور وبديع السماوات والأرضين.

ولو أعرضنا عن ذلك كلّه فالعموم مخصّص بالأدلّة العقلية والنقلية ، الكتابية وغيرها ، الدالّة على إنّ العباد هم الفاعلون لأفعالهم ، كما ستعرف إن شاء الله.

وأمّا قوله : « ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب ».

ففيه : إنّ الكسب إن كان من فعلهم فقد خرج عن مذهبه ، وإن كان من فعل الله تعالى فالإشكال بحاله ؛ إذ كيف يعاقبهم على فعله؟!

وأمّا قوله : « والمعرض من يباشر الإعراض لا من يخلق ».

ففيه : إنّ المصنّف لم يدّع صدق المعرض على الله تعالى بناء على مذهبهم حتّى يجيبه بذلك ، بل يقول في تقرير مذهبهم : إنّه سبحانه يخلق الإعراض في الناس ، وينكر على المعرض أي المحلّ الذي يخلق فيه الإعراض ، كما هو مراد الخصم بمباشر الإعراض.

٣٤٣

وبالضرورة أنّ الإنكار على المحلّ الذي لا أثر له بوجه أصلا جزاف لا يرتضيه العقل ، وإنّما حقّ الإنكار أن يقع على الفاعل المؤثّر.

ومثله الكلام في قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا )(١) ؛ إذ كيف ينكر عليهم وهو الذي منعهم؟!

* * *

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ٩٤.

٣٤٤

قال المصنّف ـ عطّر الله ثراه ـ(١) :

وقالت الإمامية : إنّ الله تعالى لم يفعل شيئا عبثا ، بل إنّما يفعل لغرض ومصلحة ، وإنّما يمرض لمصالح العباد ، ويعوّض الثواب ، بحيث ينتفي العبث والظلم(٢) .

وقالت الأشاعرة : لا يجوز أن يفعل الله تعالى شيئا لغرض من الأغراض ، ولا لمصلحة ، ويؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض(٣) .

بل يجوز أن يخلق خلقا في النار مخلّدين فيها من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا(٤) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٤.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ رقم ٢٦ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٨ وما بعدها ، تقريب المعارف : ١١٤ وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : ١١٠ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٨.

(٣) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢٨ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

(٤) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٥ ـ ١١٧ ، تمهيد الأوائل : ٣٨٢ ـ ٣٨٦ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤.

٣٤٥

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض.

وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض(٢) ـ كما سيجيء بعد هذا ـ ، ووافقهم في ذلك جماهير الحكماء والإلهيّين.

وهو يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، إن أراد تخليد عباده في النار فهو المطاع والحاكم ، ولا تأثير للعصيان في أفعاله ، بل هو المؤثّر المطلق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٤.

(٢) المسائل الخمسون : ٦٢ المسألة ٣٧ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، طوالع الأنوار : ٢٠٣ المسألة ٥ ، المواقف : ٣٣١ المقصد ٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٣٤٦

وأقول :

ليس في كلامه إلّا ما يتضمّن تصديق المصنّف بما حكاه عنهم والالتزام بنسبتهم إلى العدل الرحمن ما لا يرضى بنسبته إليه ذو وجدان ، فإنّهم إذا أجازوا عليه سبحانه إيلام عبيده بلا غرض ولا مصلحة ، وتخليد عباده بالنار بلا غرض ولا غاية ، فقد أجازوا أن يكون من العابثين وأظلم الظالمين.

وليت شعري ما الذي حسّن لهم تلك المقالات الجائرة الفاجرة في حقّ خالقهم تبعا لإنسان خطأه أكثر من صوابه؟!

وما زعمه من موافقة الفلاسفة محلّ نظر ؛ إذ لا يبعد أنّ الفلاسفة إنّما ينفون الغرض الذي به الاستكمال دون كلّيّ الغرض(١) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) انظر مثلا : تهافت التهافت : ٤٩١ ، شرح التجريد : ٤٤٣.

٣٤٧

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

وقالت الإمامية : لا يحسن في حكمة الله تعالى أن يظهر المعجزات على يد الكذّابين ، ولا يصدّق المبطلين ، ولا يرسل السفهاء والفسّاق والعصاة(٢) .

وقالت الأشاعرة : يحسن كلّ ذلك(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٤.

(٢) النكت الاعتقادية : ٣٧ ، تنزيه الأنبياء ـ للشريف المرتضى ـ : ١٧ ـ ١٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

(٣) مقالات الإسلاميّين : ٢٢٦ ، المواقف : ٣٤١ و ٣٥٨ ـ ٣٦٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٣٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ و ٢٦٥ و ٢٨١.

٣٤٨

وقال الفضل(١) :

لا حسن ولا قبح بالعقل عند الأشاعرة ، بل جرى عادة الله تعالى بعدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ، لا لقبحه في العقل ، وهو يرسل الرسل ، وهم الصادقون.

ولو شاء الله أن يبعث من يريد من خلقه ، فهو الحاكم في خلقه ، ولا يجب عليه شيء ، ولا شيء منه قبيح ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٦.

٣٤٩

وأقول :

لا يخفى أنّ تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب ـ عقلا ـ مناف لما يذكرونه عند الكلام في عصمة الأنبياء ، من دلالة المعجزة عقلا على عصمتهم عن الكذب ، في دعوى الرسالة وما يبلّغونه عن الله تعالى.

ولكن إذا كان الكلام تبعا للهوى ومبنيّا على شفا جرف هار ، يجوز الاختلاف فيه بمثل ذلك.

وأمّا دعوى جريان العادة بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فمحتاجة إلى دعوى علم الغيب ممّن لم يقبح عقله إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فإنّه لم يعرف كلّ كاذب ، ولم يطّلع على أحوالهم ، فلعلّ بعض من يعتقد نبوّته لظهور المعجزة على يده كان كاذبا ، ولا يمكن العلم بعدم المعجزة لكلّ كاذب من إخبار نبيّنا ٦ ـ إذ لعلّه لم يكن نبيّا ـ وإن تواتر ظهور المعجزات على يده ، على إنّه لم يثبت عنه ذلك الإخبار.

ولو ثبت مع نبوّته فخبره لا يفيد العلم ، لتجويز الأشاعرة الكذب في مثل ذلك على الأنبياء سهوا ، بل عمدا(١) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وأمّا تجويزهم أن يرسل الله السفهاء والفسّاق ، فأفظع من ذلك ، وسيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٢٨٤ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٣٢٠.

٣٥٠

قال المصنّف ـ أعلى الله منزلته ـ(١) :

وقالت الإمامية : إنّ الله سبحانه لم يكلّف أحدا فوق طاقته(٢) .

وقالت الأشاعرة : لم يكلّف الله أحدا إلّا فوق طاقته ، وما لا يتمكّن من تركه وفعله ، ولامهم على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله.

وجوّزوا أن يكلّف الله مقطوع اليد الكتابة ، ومن لا مال له الزكاة ، ومن لا يقدر على المشي للزمانة الطيران إلى السماء ، وأن يكلّف العاطل الزمن المفلوج خلق الأجسام ، وأن يجعل القديم محدثا والمحدث قديما.

وجوّزوا أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة ، ويأمرهم بالكتابة الحسنة ، ولا يخلق لهم الأيدي والآلات ، وأن يكتبوا في الهواء بغير دواة ولا مداد ولا قلم ولا يد ما يقرأه كلّ أحد(٣) .

وقالت الإمامية : ربّنا أعدل وأحكم من ذلك(٤) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٥.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ رقم ٢٦ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٠ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٨ ـ ١٠٠ و ١١٢ ، تمهيد الأوائل : ٣٢٨ ـ ٣٢٩ و ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٦ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠.

(٤) النكت الاعتقادية : ٣٢ ، أوائل المقالات : ٥٦ ـ ٥٧ رقم ٢٤ و ٢٦.

٣٥١

وقال الفضل(١) :

تكليف ما لا يطاق جائز عند الأشاعرة ؛ لأنّه لا يجب على الله شيء ، ولا يقبح منه فعل ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا(٢) .

والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ الله أخبرهم بعدم إيمان أبي لهب وكلّفه الإيمان ، فهذا تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ إيمانه محال وفوق طاقته ؛ لأنّه إن آمن لزم الكذب في خبر الله تعالى ، وهو محال اتّفاقا.

وهذا شيء يلزم المعتزلة القول بتكليف ما لا يطاق.

ثمّ ما لا يطاق على مراتب : أوسطها ما لا يتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومة كخلق الأجسام أم لا ، بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، والأمثلة التي ذكرها الرجل الطامّاتي فهذا شيء يجوّزه الأشاعرة ، وإن لم يقع بالاستقراء ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(٣) .

وقد عرّفناك معنى هذا التجويز في ما سبق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٧.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٣ و ٢٩٥ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٥٢

وأقول :

لا أدري كيف يقع الكلام مع هؤلاء القوم؟! فإنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية ، وهؤلاء جعلوا نزاعهم في الضروريات!

ليت شعري إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى الله العبد عن الفعل ، ويخلقه فيه اضطرارا ، ويعاقبه عليه ، فقل لي أيّ أمر يدركه العقل؟!

قيل : اجتمع النظّام والنجّار للمناظرة ، فقال له النجّار : لم يدفع أن يكلّف الله عباده ما لا يطيقون؟!

فسكت النظّام ، فقيل له : لم سكتّ؟!

قال : كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف ما لا يطاق ، فإذا التزمه ولم يستح فبم ألزمه؟!(١) .

وجلّ مسائل هذا الكتاب من هذا الباب كما رأيت وترى إن شاء الله تعالى.

وكفاك إنكارهم أن يجب على الله شيء ، فإنّه إذا لم يجب عليه شيء بعدله وحكمته ورحمته ، فأيّ إله يكون؟! وكيف يكون حال الدنيا والآخرة؟!

ومثله تجويز أن يفعل ما يشاء ممّا لا غرض فيه ولا غاية ولا حكمة ولا عدل ، كتكليف ما لا يطاق ؛ تعالى الله عن ذلك.

__________________

(١) انظر مضمونه في : شرح الأصول الخمسة : ٤٠٠.

٣٥٣

وأمّا قوله : « والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ الله أخبر بعدم إيمان أبي لهب »

فمدفوع بأنّه تعالى إنّما أخبر بأنّه سيصلى نارا ، وهو لا يستلزم الكفر ؛ لجواز تعذيب المسلم الفاسق

والأولى أن يقول : إنّ الله سبحانه أخبر نبيّه ٦ ، بقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )(١) ونحوه في القرآن كثير ، ومع ذلك كلّف الناس جميعا بالإيمان ، وأخبر بصدور المعاصي من الناس وكلّفهم بالطاعة.

والجواب : إنّ الإخبار بعدم الإيمان مثلا لا يستوجب امتناعه ، بل غاية ما يقتضيه صدور ما أخبر به على ما هو عليه في نفسه من الإمكان ، والممكن مطاق في نفسه ، يصحّ التكليف به أو بخلافه ، وإن علم بعدم وقوعه من المكلّف لاختياره العدم.

فيكون صدق الخبر تابعا لوقوع المخبر به على ما هو عليه في نفسه لا العكس ، نظير تبعية العلم للمعلوم ، فإنّ علمه تعالى بالممكنات لا يجعل خلاف ما علمه ممتنعا ، بل هو تابع للمعلوم ؛ لأنّه عبارة عن انكشاف المعلوم على ما هو عليه.

ولو كان المعلوم تابعا للعلم لما صحّ التكليف أصلا ؛ لصيرورة كلّ مكلّف به ، إمّا واجبا حيث يعلم بوقوعه ، أو ممتنعا حيث يعلم بعدم وقوعه ، ولا يقوله عارف.

وأمّا ما ذكره من أنّ ما لا يطاق على مراتب ، أوسطها إلى قوله :

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ : ١٠٣.

٣٥٤

« هذا شيء نجوّزه » فهو مشعر بأنّهم لا يجوّزون التكليف بالرتبة العليا ، وهي ما يمتنع لنفس مفهومه ، كالجمع بين الضدّين وإعدام الواجب.

والظاهر أنّه من باب تقليل الشناعة ، وإلّا فالمناط عندهم في جواز التكليف بالرتبة الوسطى والسفلى ، هو أنّه تعالى لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، وهو يقتضي صحّة التكليف بالرتبة العليا ـ كما ستعرفه وتعرف تمام الكلام فيه في المطلب الثامن ـ ، وكلام القوم في المقام مضطرب ؛ ولذا جعل الخصم أمثلة المصنّف من الوسطى ، والحال أنّ بعضها من العليا ، كجعل القديم محدثا.

ثمّ إنّ الخصم ذكر عدم وقوع التكليف بما لا يطاق بالاستقراء ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(١) ، وهو مناف لقوله سابقا بتكليف أبي لهب بالإيمان وأنّه فوق طاقته.

ومن المضحك وصفه للمصنّف رحمه الله تعالى بالطامّاتي ، والحال أنّ الطامّات هي أقوالهم ، وقد اعترف بها ، وليس للمصنّف إلّا النقل عنهم!

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٥٥

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

وقالت الإمامية : ما أضلّ الله أحدا من عباده عن الدين ، ولم يرسل رسولا إلّا بالحكمة والموعظة الحسنة(٢) .

وقالت الأشاعرة : قد أضلّ الله كثيرا من عباده عن الدين ، ولبّس عليهم ، وأغواهم ، وأنّه يجوز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلّا بسبّه ومدح إبليس.

فيكون من سبّ الله تعالى ومدح الشيطان ، واعتقد التثليث والإلحاد وأنواع الشرك مستحقّا للثواب والتعظيم.

ويكون من مدح الله تعالى طول عمره ، وعبده بمقتضى أوامره ، وذمّ إبليس دائما ، في العقاب المخلّد واللعن المؤبّد.

وجوّزوا أن يكون في من سلف من الأنبياء ممّن لم يبلغنا خبره من لم تكن شريعته إلّا هذا(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن ميثم ـ ٥ / ٢٧٨ ـ ٢٨٠ ، وانظر مؤدّى ذلك في : الذخيرة في علم الكلام : ٣٢٣ ، شرح جمل العلم والعمل : ١٦٩ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٧٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ و ٢١١ و ٢١٢.

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٦٨ ـ ١٧٠ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٦ ـ ٣٤٩ ، المواقف : ٣٢٠ ـ ٣٣٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢.

٣٥٦

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله خالق كلّ شيء ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ، بل يقولون : هو الهادي وهو المضلّ ، كما نصّ عليه في كتابه المجيد : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(٢) ، وهو تعالى يرسل الرسل ويأمرهم بإرشاد الخلائق.

وما ذكره الرجل الطامّاتي من جواز إرسال الرسل بغير هذه الهداية ، فقد علمت معنى هذا التجويز ، وأنّ المراد من هذا التجويز نفي وجوب شيء عليه.

وهذه الطامّات المميلة لقلوب العوامّ لا تنفع ذلك الرجل ، وكلّ ما بثّه من الطامّات افتراء ، بل هم أهل السنّة والجماعة والهداية.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٩١.

(٢) سورة النحل ١٦ : ٩٣ ، سورة فاطر ٣٥ : ٨.

٣٥٧

وأقول :

لا يخفى أنّ قوله : « لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء » من كلام أبي إسحاق الأسفراييني الشافعي(١) عندما دخل القاضي عبد الجبّار المعتزلي(٢) دار الصاحب بن عبّاد(٣) فرأى أبا إسحاق جالسا ، فقال : سبحان من تنزّه عن الفحشاء! ـ تعريضا بأبي إسحاق بأنّه من الأشاعرة الّذين ينسبون الفحشاء إلى الله تعالى ـ فقال أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء(٤) .

__________________

(١) تقدّمت ترجمته في صفحة ٥٩ من هذا الجزء.

(٢) هو : أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار بن أحمد الهمداني المعتزلي ، أحد كبار متكلّمي المعتزلة ، ولد سنة ٣٥٩ ه‍ ، كان ينتحل مذهب الشافعية في الفروع ، وهو من كبار فقهائهم ، ولّي القضاء بالريّ ، وله تصانيف كثيرة منها : المغني في علم الكلام ، شرح الأصول الخمسة ، طبقات المعتزلة ، وغيرها ، توفّى بالريّ سنة ٤١٥ ه‍.

انظر : تاريخ بغداد ١١ / ١١٣ ـ ١١٥ رقم ٥٨٠٦ ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ رقم ١٥٠ ، لسان الميزان ٣ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧ رقم ١٥٣٩ ، شذرات الذهب ٣ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، هديّة العارفين ٥ / ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

(٣) هو : أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عبّاد بن العبّاس الطالقاني ، كان نادرة الدهر في فضائله ومكارمه وكرمه ، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي ـ صاحب كتاب « المجمل في اللغة » ـ وكذا عن ابن العميد ، وغيرهما.

كان مولده سنة ٣٢٠ ه‍ بإصطخر ، وقيل بالطالقان ، وتوفّي ليلة الرابع والعشرين من صفر سنة ٣٨٥ ه‍ بالريّ ، ثمّ نقل إلى أصبهان ودفن هناك.

انظر : معجم الأدباء ٢ / ٢١٣ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٢٨ رقم ٩٦ ، سير أعلام النبلاء ١٦ / ٥١١ رقم ٣٧٧ ، شذرات الذهب ٣ / ١١٣.

(٤) شرح المقاصد ٤ / ٢٧٥ ، شرح العقائد النسفية : ١٤٠ ـ ١٤١ ، تحفة المريد على جوهرة التوحيد : ٤٢.

٣٥٨

وحاصله : إنّ كلّ ما يجري في ملكه من أنواع الفواحش ، والفجور ، والكفر ، والإلحاد ، والكذب ، والظلم ، والغواية ، ونحوها ، إنّما هو بإساءته ومن فعله!

فيا ليت شعري كيف يصلح مع هذا الزعم أن يسبّحه وينزّهه؟!

وأمّا قوله : « ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ».

فهو تعريض بأهل العدل حيث ينسبون تلك الأفعال الشنيعة والأحوال الفظيعة إلى العباد ، وينزّهون الله سبحانه عنها.

ومن المعلوم أنّ ذلك لا يستدعي القول بالشركة ، فإنّهم إنّما يرون أنّه تعالى أقدرهم على أفعالهم بلا حاجة منه إليهم ، ففعلوها بتمكينه لهم ، فلا استقلال لهم حتّى يكونوا آلهة ، فكيف يشبهون المجوس؟! وإنّما الذي يشبههم من يقول بزيادة صفاته على ذاته ، وقدمها مثله ، وحاجته إليها في الخلق ، بحيث لولاها لما خلق شيئا فهي شريكته في الإلهية ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(١) .

ففيه : إنّ استدلاله موقوف على أن يراد بالإضلال : خلق الضلال ، وبالهداية : خلق الهدى ؛ وهو ممنوع ؛ لجواز أن يراد بالإضلال : الخذلان والإضاعة ، وبالهداية : التوفيق ، كما قال ٧ : «تطاع بتوفيقك وتجحد بخذلانك »(٢) .

__________________

(١) سورة النحل ٦ : ٩٣ ، سورة فاطر ٣٥ : ٨.

(٢) إقبال الأعمال ١ / ٢٩٩ ب‍ ٢٠ دعاء الليلة ١٦ ، وفيه « تعبد » بدل « تطاع ».

٣٥٩

فإنّ الإنسان إذا اجتهد بفعل الخير كان محلّا للتوفيق ، وإذا أصرّ على الشرّ كان أهلا للخذلان ، وآل أمره إلى النفاق والكفر ، كما قال تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً )(١) وقال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ )(٢) ، ولا قرينة على إنّ المراد بالإضلال والهداية في الآية ما ادّعاه ، بل القرينة على خلافه عقلا ونقلا

أمّا العقل : فلأنّ ذلك يستلزم إبطال الثواب والعقاب ، ونفي العدل ، وفائدة الرسل والكتب ، والأوامر والنواهي ـ كما ستعرف إن شاء الله تعالى ـ ، ولأنّه لا يحسن لمن ينهى عن شيء أن يفعله ، ولذا قال شعيب : (ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ )(٣)

وقال الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم(٤)

وأمّا النقل : فقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى )(٥) ، ومن عليه الهدى كيف يتركه ويخلق الضلال؟!

وقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى )(٦) .

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٧٧.

(٢) سورة الروم ٣٠ : ١٠.

(٣) سورة هود ١١ : ٨٨.

(٤) البيت من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي ، مطلعها :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

انظر : ديوان أبي الأسود الدؤلي : ١٢٩ ـ ١٣٢ ، خزانة الأدب ٨ / ٥٦٨.

(٥) سورة الليل ٩٢ : ١٢.

(٦) سورة فصّلت ٤١ : ١٧.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501