تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن11%

تنزيه القران عن المطاعن مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 501

تنزيه القران عن المطاعن
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80733 / تحميل: 4501
الحجم الحجم الحجم
تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن

مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وهممت فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وهذا كقوله( إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) والمراد إذا أردتم ذلك ومثل ذلك يستعمل في اللغة بقول القائل لغيره إذا سافرت فاستعد لسفرك يريد إذا هممت بذلك وقوله تعالى من بعد( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) يدل على أن سلطان الشيطان ليس الا بالوسوسة فقط فمن يقبل منه يوصف بأن له عليه سلطانا دون من لا يقبل ولذلك قال( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ) كيف يصح أن يفعل تعالى ما يدعوهم إلى تكذيبه وذلك مفسدة. وجوابنا أنّه تعالى ذكر ما يقولون عند إبدال آية مكان آية ولم يذكر أنه السبب في هذا القول بل كانوا في تكذيب الرسول على طريقتهم ومثل ذلك جائز عندنا ولا يكون مفسدة وإنّما يكون مفسدة متى وقعت المعصية عنده ولولاه كانت لا تقع. وبيّن تعالى ما به يدفع عنهم هذه الشبهة فقال( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ) وإنّما أحالهم على علمهم برتبة القرآن في الفصاحة ولو لا ذلك لقالوا له ومن أين روح القدس أنزله فبطل بذلك ما أوردوه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ ) أليس هذا يدل على أن من لم يؤمن لم يهده الله كما يقوله المخالف. وجوابنا أنّ المراد لا يهديهم إلى الجنة والثواب من حيث لم يؤمنوا ولذلك أتبعه بقوله( وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) أليس ظاهرة يقتضي اباحة الكفر والكذب وذلك قبيح لا يجوز على الله تعالى. وجوابنا أنّ قوله

٢٢١

( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ) استثناء منقطع ومعناه لكن من اكره وقلبه مطمئن بالايمان. فان قال قائل إن السؤال عليكم في ذلك لازم لأنه كأنه قال لكن من أكره على الكفر والكذب والاكراه لا يحسن ذلك. قيل له إنه تعالى لم يبين ما يكره عليه وما يأتيه المكره والذي يكره عليه هو غير الذي يأتيه المكره لان المكره انما يكرهه على الكفر والكذب والذي ينبغي أن يأتيه المكره هو ما أباحه الله تعالى له من التعريض فكأنه يقول ان لم تقل ان الله ثالث ثلاثة قتلتك فيقول هو عند الاكراه ذلك على وجه الحكاية أو على وجه دفع الضرر من غير أن يقصد الخبر فيحسن منه ذلك عند الاكراه فأما نفس الكذب فلا يحسن من العاقل على وجه وفي العلماء من يقول إذا كذب فالاثم مرفوع عنه وان كان قبيحا لمكان الاكراه والذي قدمناه هو الصحيح ولذلك قال تعالى بعده( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) فمدحه ثمّ ذمه بقوله( وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ) اذ كانوا مختارين والاكراه زائل وقوله تعالى( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ) يدل على قدرتهم على الطاعة والمعصية فصحّ بذلك أن يؤثروا أحد الامرين على الآخر لان قوله استحبوا الحياة الدنيا المراد به آثروا ما يشتهونه من الباطل وقوله( عَلَى الْآخِرَةِ ) المراد به على ما يؤدي إلى عمارة الآخرة من الحق ثمّ قال تعالى( وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) مع علمنا بأنه قد بين لهم ودلهم على ما يلزمهم ولو لا ذلك لـما كفروا يدل على أنه أراد بما نفاه الهدى إلى الثواب والجنة على ما بيّناه من قبل ثمّ بين تعالى حال الكافرين بأنه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم والمراد به تشبيه حالهم بحال من هذا صفته ولو لا ذلك لم يكن ليذمهم ولذلك قال بعده( وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) ومن يمنعه الله من هذه الافعال لا يسمى غافلا ثمّ حقق ذلك بقوله( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) وقوله تعالى من بعد( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) يدخل في

٢٢٢

جملته من أكره على الكفر بمكة حتّى صبر وعرّض ثمّ تخلص بالهجرة وذلك يبين أن كلا الامرين يحسن من المكره وأن الأفضل أن يصبر على ما يخوف به ولا يدخل على طريق الاباحة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ) أليس ذلك يدل على اثبات نفسين لنا وذلك لا يصح عندكم.

وجوابنا ان المراد بالنفس غير المكلف فكأنه قال يوم تأتي كل مكلف تجادل عن نفسه وهذا أحد ما يدل على صحة القول بالعدل لانه لو لم يكن له فعل وكان الله تعالى يفعل فيه ان يشاء الكفر وان يشاء الايمان لم يكن للمجادلة وجه ثمّ قال تعالى بعده( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ ) والمراد جزاء ما عملت لان نفس عملها وقد تقضي لا يجوز أن توفاه فليس الا ما ذكرناه ولذلك قال بعده( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) والظلم انما يصح في المجازاة لا في نفس العمل.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ) بعد ذكر كفرهم أليس ذلك يدل على انه تعالى يعاقب في الدنيا الكفار وعندكم ان ما يلحقهم من فقر ومرض لا يكون عقابا. وجوابنا أنّه يحتمل ان الصلاح عند كفرهم ما يفعله بهم من جوع وخوف لأن ذلك عقوبة كما تأولنا عليه قوله تعالى( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) أليس الفاعل مع الجهالة معذورا فيما يأتيه فكيف أوجب الغفران بالتوبة من ذلك. وجوابنا أنّه قد يقال ذلك فيمن دخلته الشبهة فيعمل السوء عندها فلا يكون معذورا والاصل في الجهالة انه موضع للذم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) أليس ذلك يوجب انه متعبد بشرائع ابراهيم صلّى الله عليه وسلم

٢٢٣

وذلك بخلاف قولكم. وجوابنا أنّه إذا كان يتبع ما يعرفه من شرائعه فذلك جائز عندنا وإنّما ننكر كونه صلّى الله عليه وسلم متعبدا بشرائع من تقدم على معنى انه عرف ما دعوا اليه فتمسك بذلك من دون أمر مبتدأ من قبله تعالى أوحى به اليه ثمّ أوجب تعالى بقوله( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) على رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يدعو إلى توحيد الله وعدله والى سائر ما يكون دينا وحقا وبين له كيف يدعو وذلك واجب على غير الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يفعله بمن يجهل الدين كما قال تعالى( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ) وبين هذا بقوله تعالى( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) على ان من أقدم في باب الدين على ما لا يحل فهو مؤاخذ على ذلك. ودل به على ان الضلال والاهتداء من قبل العبد وقوله تعالى( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) وهو مجاز لأن ما يفعله العبد لا يكون عقابا في الحقيقة فهو كقوله تعالى( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) ثمّ بين تعالى ان الصبر على ذلك والاخذ بالعفو خير من الانتقام وبين ان صبره صلّى الله عليه وسلم يكون بالله تعالى بقوله( وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ ) فدل بذلك على ان الصبر وسائر الطاعات انما تقع عند الطاقة وتيسيره وتسهيله وبيّن بقوله تعالى من بعد( إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) انه تعالى يخص بالغفران والرحمة من يوصف بانه متق ومحسن وذلك يدل على قولنا في الوعيد.

٢٢٤

سورة الاسراء

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) كيف يصحّ قطع هذه المسافة في هذه الاوقات القصيرة وما فائدة ذلك ويصحّ منه تعالى أن يريه الآيات من دون ذلك وان كان المراد أنه عرج به إلى السماء كما روي في الخبر فذلك ممكن من المدينة. وجوابنا أنّ ذلك من معجزاته صلّى الله عليه وسلم ولا ننكر في يسير من الاوقات ذلك كما جعل الله تعالى معجزة سليمان الريح بقوله تعالى( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ) واذا كان الصلاح أن يريه الآيات التي ببيت المقدس فلا بد من أن يسري به إلى هناك. وما روي في خبر المعراج ففيه ما يجوز أن يصحّ وفيه ما لا يصحّ كما ذكر فيه أنه تعالى في مكانه وأنه صلّى الله عليه وسلم كان يذهب اليه ويعود. تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقوله تعالى من بعد في كتاب موسى( وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) يدل على ان الهدى هو الدلالة والبيان لا نفس الايمان كما يقوله المجبرة. وقوله تعالى من بعد( وَقَضَيْنا إلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) فالمراد به الاعلام كقوله تعالى( وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ ) ولذلك أضاف الفساد اليهم بقوله تعالى( لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) وقوله تعالى( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) يدل على قدرتهم على الامرين وأنهم إذا أساءوا فمن جهتهم وبيّن تعالى بقوله( إِنَّ

تنزيه القرآن (١٥)

٢٢٥

هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ) ان الواجب على من يتلوه أن يتدبر ذلك فيكون داعية له إلى التمسك بما هو اقوم وصارف عن طريقة من لا يؤمن بالآخرة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ) كيف يصح ذلك ومعلوم ان كون آية النهار مبصرة دون الليل لا صحة له مع وجود القمر. وجوابنا أنّ ذلك يدل على انه تعالى يحرك الشمس في سمائها فاذا كانت بحيث يصحّ أن ترى كان نهارا واذا كانت بخلافه كان ليلا وان ذلك لا يكون بالطبع ولا بغيره على ما ذهب اليه بعض الملحدة وذلك من عظيم نعم الله تعالى كما قال( لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) ان ذلك لا يعرف في اللغة لأنه لا يقال فيمن له الحق أو عليه أنه طائر في عنقه. وجوابنا أنّ كتاب الله تعالى وصف بأنه عربي فما يوجد فيه يجب أن يعلم أنه لغة إما مجاز وإما حقيقة واذا كنا نقبل ذلك متى ورد به شعر منظوم أو كلام منثور فلأن يلزم ذلك لـما ذكرنا أولى والمراد ألزمناه جزاء عمله وما يستحقه وذلك من فصيح الكلام وقد يقال فيما يخرج من سبب وحظ خرج لفلان الطائر بكذا فلا وجه لـما قالوه والوجه فيه ظاهر لان الطائر يلزم المرء لا بحسب اختياره وربما يجتهد في دفعه فلا يصح فجعل تعالى ما يستحقه على ذنوبه بهذه المنزلة ولذلك قال تعالى( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) فبين أن المطوي المكتوم الذي يمكن المرء إصلاحه بالتوبة يصير في الآخرة ظاهرا ولذلك قال تعالى بعده( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) قال الحسن البصري لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك فكل ذلك زجر عن المعاصي وبين بقوله تعالى( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) أن

٢٢٦

الاهتداء بالايمان والضلال بالكفر من قبل العبد وحقق ذلك بقوله تعالى( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) وأن أحدا لا يؤاخذ بما يفعله غيره أكّد ذلك بقوله تعالى( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) فإذا كان تعالى لا يعذب حتّى يقيم الحجة بالرسل وبالبينات فكيف يجوز أن يعذب المرء على أمر لم يقدر عليه وكيف يجوز أن يعذب الطفل بذنب أبيه وهو من لا يقدر ولا يعرف الخير من الشر وكل ذلك يبطل قول هؤلاء المجبرة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) أليس ذلك يدل على أنه أراد منهم ذلك الفسق. وجوابنا أنّه تعالى لم يذكر ما أمرهم به ومعلوم أنه لم يأمرهم بالفسق بل أمرهم بخلافه فكأنه قال تعالى( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) بالطاعة( فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ) أي الوعيد والهلاك المعجل ولذلك قال بعده( وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ) وقد قرئ( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) فتأويله أمرناهم بمنعهم عن المعاصي ففسقوا فيها وقد قيل ان معنى قوله( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) ارادة الطاعة منهم والعبادة دون الهلاك فان ذلك قد يستعمل في اللغة على هذا الوجه فقد يقال إذا أراد العليل الهلاك تعاطى التخليط في المأكل لا أنه في الحقيقة يريد الهلاك وإن أراد التاجر ان تأتيه البضائع من كل جهة فعل كيت وكيت لا أنه يريد ذلك في الحقيقة وما قدمناه أولا أقرب إلى المراد والذي يحكي من القراءة الثانية وهو قوله تعالى( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) فالمراد به يقرب مما قدمناه إذ المراد كثرناهم ليطيعوا ففسقوا فيها ولذلك قال بعده( وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ) وكل ذلك ترغيب في الطاعة وتخويف من خلافها وقوله تعالى من بعد( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ ) دلالة على انه يمكن العبد من الطاعة والمعصية فاذا أراد العاجلة وما

٢٢٧

يتصل بالهوى والشهوة لم يمنعه النعم وان كان يزجره عن ذلك وقوي هذا الزجر بقوله( ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) ثمّ قال تعالى( وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ ) يعني الفعل الذي يؤدي إلى الثواب في الآخرة( وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) واذا وصف تعالى سعي العبد بأنه مشكور فقد عظم موقعه ثمّ بيّن أنه لأجل المعصية لا يمنع من الانعام المعجل فقال( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) فان عطاء المعجل تفضل وقد تكفل تعالى بهذا التفضل للعاصي وللمطيع وإنّما يخص المؤمن بالثواب لأنه مما لا يحسن أن يفعل إلا بمن يستحقه كما لا يحسن منا الاعظام إلا لمن يستحق وان حسن منا الهبات لمن يستحق ولمن لا يستحق. ثمّ بين أنه فضل بعضهم على بعض وان الفضل العظيم هو الفضل في الآخرة فقال تعالى( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) وبين تعالى في قوله( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) وقضاؤه لا يكون الا حقا ان المراد بذلك الالزام وبين في هذه الآيات جل جلاله جملة مما إذا تمسك بها المرء عظمت منزلته إلى قوله( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) فدل بذلك على أنه كاره للسيئات لا كما يقوله كثير من العامة أنه يريد ذلك ويشاؤه كيف يجوز ذلك مع شدة نهيه عنها وزجره وتخويفه ووعيده وذكر تعالى في هذه الآيات من الآداب والاحكام نحو عشرين خصلة إذا تدبرها القارئ عظم نفعه بها وفي جملتها ما يلزم في حق الابوين وما يجب أن يتعاطاه في تدبير النفقات وما ينبغي أن يستعمله في حق الاولاد واليتامى وبسط ذلك يطول. فان قيل كيف يقول تعالى( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ) وذلك مما لا يقع من أحد فكيف نهى عنه قيل له ليس المراد بذلك ما يقتضيه ظاهره بل المراد أن لا يضيق على نفسه وعلى من تلزمه نفقته وهذا من أفصح الكلام في وصف البخل ولذلك قال تعالى بعده( وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) منع بذلك من التبذير ثمّ نبه على

٢٢٨

ما يقتضي ذلك من الحسرة فيما بعد فقال( فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) ثمّ بين تكفله تعالى بالرزق فقال( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) يعني بحسب المصالح وبعث النبي صلّى الله عليه وسلم على تدبر هذه الآيات بقوله تعالى من بعد( ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ) والمرء يلزمه أن ينظر ويتدبر في وصية الله للصالحين.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) كيف يصح ذلك من الجمادات. وجوابنا أنّ من تدبر ذلك عرف المراد فانه تعالى قال من قبل( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ) يعني اتخاذ قوم لآلهة سواه ثمّ أتبعه بذكر الدلائل على التوحيد فقال( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ ) يعني انها تدل على توحيده وتنزيهه عن الاشباه فالمراد بتسبيح السموات والارض ومن فيهن ما ذكرناه لا أن المراد به القول الذي يسمّى تسبيحا لأن دلالة هذه الامور على توحيد الله تعالى أوكد من دلالة القول فهذا معناه وكذلك قوله تعالى( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) يجب أن يحمل على ما ذكرناه لأنه لا شيء إلا وله حظ في الدلالة على توحيد الله وكذلك قال تعالى( وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) لأن ذلك إنما يعرفه من ينظر ويتدبر ومن هذا حاله قليل في الناس.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) كيف يصح أن يمنعهم من سماع القرآن الذي فيه الشفاء والبيان. وجوابنا أنّ المراد بذلك من المعلوم انه لا ينتفع بل يظهر منه الاذى للرسول ولذلك قال تعالى( أَكِنَّةً ) والمراد انهم لشدة انصرافهم عن الانتفاع به صار قلبهم بهذا الوصف وصاروا كالصم ولذلك قال تعالى( وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ

٢٢٩

وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ ) فبين انهم لا ينتفعون ويؤذون ولذلك قال من بعد( إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً ) ثمّ قال( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) أما يدل ذلك على أنهم لا يقدرون على خلاف هذا الضلال. وجوابنا انهم لا سبيل لهم بالطعن في نبوّتك إلى تحقيق ما نسبوه إليك من سحر وغيره وليس المراد أنهم لا يقدرون على الطاعة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) كيف يجوز في تكذيبهم من قبل أن يكون مانعا لذلك. وجوابنا أنّ المراد الآيات التي لا ينتفع القوم باظهارها فقد كانوا يطلبون عين المعجزات الظاهرة على الأنبياء كقوله تعالى( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ) إلى غير ذلك فبين تعالى أن جرى العادة بتكذيب الامم بمثل ذلك يمنع من أن يفعله تعالى ويحتمل أن يريد بذلك اهلاك المكذبين الذين لا يؤمنون كما جرت به عادته تعالى فيمن يكذب الأنبياء من الغرق وغيره من ضروب الاهلاك ولذلك قال بعده( وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً ) فأما قوله تعالى( قُلْ كُونُوا حِجارَةً أو حَدِيداً ) فالامر فيه ظاهر أنه ليس بأمر وكذلك قوله( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) أنه تهديد وزجر فليس لأحد أن يسأل عن ذلك ولذلك قال بعده( وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً ) وبيّن من بعد أنه لا سلطان للشيطان إلا من جهة الوسوسة الضعيفة فقال( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) ويحتمل أنه يريد تعالى بذلك أهل الايمان والصلاح من حيث لا تؤثر فيهم وسوسة الشيطان.

٢٣٠

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ) كيف يصح ذلك مع علمنا بخلافه. وجوابنا أنّ المراد من ذهل عن تمييز الخير والشر في الدنيا فهو بأن يذهل عن ذلك في الآخرة أولى وليس المراد اثبات العمى في الحقيقة بل هو ترغيب في التمسك بالطاعة وبين تعالى بعد ذلك ألطافه التي خص بها الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله تعالى( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) وبقوله( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) وإنّما صلّى الله عليه وسلم يمنع من هذه الامور بما جرت به عادة الله تعالى من صرفه عنها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ) كيف يصح منهم اخراجه من الارض. وجوابنا أنّ المراد الارض المعهودة فهذه الالف واللام دخلتا على معهود فبيّن تعالى ما كانوا عليه من شدة المعاداة حتّى همّوا بإخراجه من الأرض المعروفة به صلّى الله عليه وسلم وبين أن ذلك لو تم لـما لبثوا إلا قليلا على سنة الله تعالى فيمن تقدم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إذا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ) ما فائدة اضافة الضعف إلى الحياة والى الممات. وجوابنا أنّ ذلك وعيد بالعذاب المعجل في حال الحياة في الدنيا والمؤخر إلى الآخرة فاضاف ذلك العذاب إلى الممات لـما كان لا يموت الا بعده.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) ما الفائدة في ذكر الحمد في استجابتهم يوم القيامة. وجوابنا أنّ المراد إنكم حامدون لله تعالى على نعمه المتقدمة وأن أمر بكم إلى النار والى المحاسبة الشديدة ويحتمل( فَتَسْتَجِيبُونَ ) استجابة حامد شاكر لا يمكن من جهتكم الامتناع.

٢٣١

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) كيف يصح ان يخصه بأنه مشهود والله تعالى شاهد لكل شيء وكيف يضيف القرآن إلى الفجر. وجوابنا أنّ المراد أقم القرآن الفجر فنبه بذلك على وجوب القراءة في الصلاة وبين ما لهذه الصلاة من الخصوصية بأنه يشهدها ملائكة الليل والنهار وقوله تعالى من بعد( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) يدل على أن موقع هذا التهجد عند الله عظيم وإن كان نفلا ومعنى عسى هو وقوع ذلك لا بمعنى الشك وعلى هذا الوجه قال المتقدمون في عسى ولعل انهما من الله واجبان.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) أليس يوجب ذلك أن بعضه شفاء ورحمة دون بعض. وجوابنا أنّ المراد أنه ينزل ما يدعوهم إلى التمسك بالايمان ولا يجب ذلك في كل القرآن وبعد فان ذكر بعضه بهذا الوصف لا يدل على ان سائره بخلافه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) كيف يصح أن يكون هذا جوابه. وجوابنا أنّ المراد أنهم سألوه عن الروح ولما ذا يحتاج الحيّ منا إليها فبيّن تعالى أن ذلك ممّا لا يعلمه إلا الله تعالى ولم يسألوه عن نفس الروح ما هو وقد قيل إنهم سألوه عن جبريل صلّى الله عليه وسلم في وقت نزوله بالوحي دون آخر وذلك مما لا حاجة بهم إلى معرفته ولذلك قال بعده( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ثمّ بين تعالى عظم شأن القرآن بقوله( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) فنبه بذلك على أن له من الرتبة في

٢٣٢

الفصاحة ما لا تدركه العباد انفردوا أو اجتمعوا ولو كانوا يقدرون عليه وإنّما صرفوا عنه لم يكن لهذا القول معنى وبين تعالى بقوله( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ) أنه تعالى لا يجعل معجزات أنبيائه ما يوافق شهوة القوم وإنّما يظهر من ذلك ما يعلمه أصلح فلذلك قال وقد طلبوا تفجيرا لينبوع وطلبوا البيت من الزخرف وأن يرقى في السماء وأن ينزّل عليهم الكتب والجنة من النخل والعنب وإسقاط الكسف من السماء وأن يأتي بالله والملائكة قبيلا بالكلمة الواحدة ما كان جوابا لهم وهو قوله تعالى( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) والمراد ان معرفتي بالمصالح مفقودة وأنه تعالى هو العالم بذلك. فبين أن بعثة الملك ليست لصلاح كبعثة البشر بقوله تعالى( قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً ) فبين أن قبول الشرع للبشر من البشر أقرب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ) كيف يصح ذلك وهم يسمعون في الآخرة ويتكلمون. وجوابنا أنّه تعالى لم يذكر الا أنهم يحشرون كذلك لا أنهم يكونون بهذا الوصف أبدا فلا تناقض في الآيات الواردة في ذلك.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) كيف يجوز أن يقول لفرعون ذلك مع ادعائه أنه الاله دون الله تعالى. وجوابنا أنّه لا يمتنع أن يجحد ذلك وان كان يعلمه طالبا لثبات ملكه وقد اتفق منه أشياء تدل على ذلك نحو قوله( يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إلى إِلهِ مُوسى ) وغير ذلك وإنّما يصح أن يسأل عن ذلك على أحد القراءتين فإما إذا قرئ لقد علمت فانما المراد موسى وقد عنى نفسه بذلك.

٢٣٣

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قُلِ ادْعُوا اللهَ أو ادْعُوا الرَّحْمنَ ) كيف يصح ذلك والمدعو هو الله تعالى. وجوابنا أنّ المراد الدعاء بذكر الله تعالى أو بذكر الرحمن فنبه تعالى على أنه متى دعا داع بأي اسم من اسمائه الحسنى جاز ولذلك قال تعالى( أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) .

٢٣٤

سورة الكهف

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً ) كيف يصح أن ينفي عنه أن يكون قيما كما نفى عنه العوج. وجوابنا أنّه لم يدخل في العوج وصار قوله قيّما من صفات الكتاب كما أن قوله لينذر من صفات الكتاب فكأنه قال( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ) وجعله( قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ) وقد قيل إنه مؤخر في الذكر وهو مقدم فكأنه قال الحمد لله الّذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وذلك في المعنى يؤدي إلى ما قدمناه في الفائدة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ) كيف يصح ذلك وعلى الارض ما لا يصح كونه زينة للارض كالحشرات وغيرها. وجوابنا أنّ المراد على الأرض من شجر وزرع ونبات دون غيره لان قوله زينة لها يدل على ذلك ولان عد ذلك في جملة النعم يدل عليه ولذلك قال بعده( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) وبين بعده بقوله( وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) أنه يجعل الأرض عند الحشر بخلاف ما هي عليه الآن.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) كيف يصح أن يبتديه بذلك وهو لم يعرف شيئا من

٢٣٥

أحوالهم. وجوابنا أنّ مثل ذلك قد يقال في اللغة ابتداء لتوكيد ما يورد من الحديث وعلى هذا الوجه قال تعالى( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أو يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ ) وقد قيل إنه صلّى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فصح أن يعلمه الله تعالى به على هذا الوجه من القول.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ) كيف يصح ذلك ومعلوم أن صفة الراقد خلاف صفة المستيقظ فيما يشاهد. وجوابنا انهم كانوا وهم رقود بصفة المستيقظ في فتح العيون والتبسم وذلك من آيات الله تعالى العجيبة وظاهر ذلك أنهم بقوا تلك المسافة الطويلة رقودا وذلك من آياته العجيبة وان كان في الناس من تأوّل الآية على أنهم كانوا موتى لاجل قوله تعالى( وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ) ولا يقال ذلك إلا فيمن أحياه الله تعالى بعد الممات والاقرب الأوّل لانه إذا جعلهم راقدين هذه المدة الطويلة صح أن يقول بعده( وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) أليس ذلك يدل على أنه تعالى يشاء كل أمر واقع قبيح وحسن. وجوابنا أنّ ذلك تأديب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ولأمته في أن لا يقع منهم القطع على ما ذكر أنهم يخبرون به من الافعال لان القاطع على ذلك لا يأمن أن يكون كاذبا فينبغي أن يقيده بالمشيئة لأنها تخرج الخبر من ان يكون مقطوعا به ولو لا صحة ذلك لوجب أن يكون صلّى الله عليه وسلم لا يخبر بأمر المستقبل إلاّ مع العلم بأن الله تعالى قد شاءه وذلك لا يصح وقد كان صلّى الله عليه وسلم يعزم على المباح كما يعزم على ما هو عبادة والله تعالى لا يشاء الا الطاعة ولو لا صحة ذلك لحسن من أحدنا كما يقول تقول الصدق غدا إن شاء الله أن يقول أسرق وأزني ان شاء الله وذلك محظور على لسان الأمة فالمراد إذا تعليق الكلام بالمشيئة ليخرج من أن يكون خبرا قاطعا لا ان تعلقه به على وجه الشرط.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ

٢٣٦

عَنْ ذِكْرِنا ) أليس أضاف جل وعز ذلك إلى نفسه. وجوابنا أنّ المراد من وجدناه غافلا ولو لا ذلك لـما صح أن يقول تعالى من بعد( وَاتَّبَعَ هَواهُ ) وأن يذمه على ذلك وقد قيل أنّ المراد جعلنا قلبه خاليا عن الكتابة التي ذكر الله تعالى أنه يسم بها قلوب المؤمنين في قوله( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ) فلما أخلى قلبه عن ذلك وصفه بهذا الوصف فأما قوله تعالى( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) فهو تهديد ولذلك قال بعده( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ) وذكر الحسن بن أبي الحسن; في قوله تعالى( وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ ) ان ذلك يدل على انه تعالى لا يشاء الا الطاعة فكأنه قال قلت القول الذي يشاؤه الله دون ما أوردته من قولك( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) وبين تعالى بقوله( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها ) كيف يتحسر على ما أنفقه وأمل فيه المنافع إذا خاب أمله وجعل ذلك لطفا في المحافظة على طاعة الله تعالى على ما يستحقه من ثواب الآخرة ثمّ ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا فقال( كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ) وبعث بذلك المكلف على الحرص على عمل الآخرة من حيث يدوم نعيمها وبين تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات أولى بتكلف المرء لها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا ) كيف يصح في جميعهم أن يكونوا كذلك في حال المحاسبة. وجوابنا أنّه ليس المراد أنهم يعرضون صفا واحدا بل المراد أنهم يعرضون من دون اختلال واختلاط فيشاهد بعضهم بعضا فمن ظهر أنه من أهل الخير يكون سروره بمعرفة الناس بحاله أعظم لوقوف الخلائق على صورة أمره ومن هو من أهل النار يعظم

٢٣٧

غمه وهو معنى قوله( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) وبين تعالى بعده التخويف الشديد من المعاصي بقوله( وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها ) وذلك يدل على ان المرء يؤاخذ بالصغائر كما يؤاخذ بالكبائر إذا مات على غير توبة ومعنى( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) ثواب ما عملوا حاضرا لأن عملهم قد فنى في الحقيقة وقوله من بعد( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) يدل على أن المعاقب يستحق العقوبة على فعله وعلى أنه تعالى منزه عن الظلم وسائر القبائح وقوله تعالى( إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ ) يدل على انه ليس من الملائكة وقوله( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) يدل على أن الفسق هو الخروج إلى عداوة الله وقوله( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ) تحذير شديد عن اتخاذه وليّا والقرب منه ولذلك قال( وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) وقوله تعالى( وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) يدل على أن المضل لاجل إضلاله لا يعينه تعالى ولو كان الاضلال من قبله كما يقول المجبرة لـما صح ذلك وقوله تعالى( وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) يدل على أن الفعل للعبد فلذلك بكّتهم على اتخاذ الشركاء من دون الله.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ) وصفهم بالظن وهم يعلمون ذلك في الآخرة. وجوابنا أنّه أراد بالظن العلم ولذلك قال عقبه( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) وقد يذكر في الامور المستقبلة الظن مع العلم لأنه من باب ما يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع فمن حيث كان هذا شأن الشيء في نفسه وهذا حاله جاز أن يعبّر عنه بذلك.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا

٢٣٨

الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) كيف يصح ذلك وإنّما ذكر تعالى فيه بعض الامثال. وجوابنا أنّ ذلك مبالغة كقوله تعالى( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) ومذهب العرب في ذلك معروف والمراد من كل مثل يحتاج العباد اليه في أمر دينهم وما هذا حاله موجود في القرآن من صفات الامور الدنيوية وصفات الآخرة وغيرهما وقوله تعالى( وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) يدل على أنه الفاعل فيصح أن يجادل عن نفسه ولو كان كل تصرف مخلوقا فيه لـما صح ذلك وقوله تعالى( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ) من أقوى الادلة على ان الايمان فعلهم والامتناع منه كذلك لأنه لا يصح أن يقال للمرء ما منعك أن تكون طويلا صحيحا أو مريضا لـما كان ذلك من خلق الله فيه وقوله تعالى من بعد( إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ) يدل على ان الهدى هو البيان والدلالة ويدل على ان الاهتداء بهذا الهدى من قبله وقوله تعالى من بعد( وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ) يدل على ان العبد يستحق على فعله الطاعة ما يبشر به من الثواب وعلى المعصية ما ينذر به من العقاب ولو كان الأمر كما يقوله المجبرة في أنه عز وجل يخلق الافعال فيهم وان له أن يعاقب من أطاعه ويثيب من عصاه لـما صح ذلك وقوله تعالى( وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) لا يصح لو لا أن الكفر من قبلهم ولو كان الله هو الخالق له فيهم لكان لهم أن يقولوا لا عيب علينا في ذلك وان كان باطلا لأن الله جل وعز خلقه فينا ولما صح أن يقول تعالى( وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً ) وقد منعوا من خلاف ذلك وقوله تعالى من بعد( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها ) كيف يصح أن يبالغ تعالى في وصفه بظلم نفسه وهذا الاعراض من قبل الله تعالى ولو شاء خلاف ذلك لـما صح وبعد ذلك وصفهم بالاكنة والوقر لـمّا لم يقبلوا ما أمروا به على وجه المبالغة والمراد ان ذلك ما يؤنس منهم ان يختاروه فصاروا بمنزلة ما لا يفقه ولا يسمع ولذلك قال تعالى( وَإِنْ تَدْعُهُمْ إلى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إذا أَبَداً ) ثمّ بيّن تعالى رحمته بتأخير العقاب عنهم

٢٣٩

وهذه حالتهم فقال( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ) ولذلك يوصف تعالى بأنه حليم محسن إلى من أساء كما أنه محسن إلى من أحسن فيمهل ولا يعجل لئلا يكون للمعاصي حجة يتعلق بها وليصح أن يقال له ما أوتيت فيما قدمت عليه الا من قبل نفسك وقوله تعالى( بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ) يدل على ان وعيده تعالى حق لا يقع فيه خلف.

[ مسألة ] وربما قيل كيف قال تعالى( فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما ) فاضاف النسيان اليهما ثمّ قال تعالى من بعد( قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا ) ثمّ قال( فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ) حاكيا عن فتاه ثمّ قال تعالى( وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) وذلك كالمتناقض. وجوابنا أنّه تعالى أضاف اليهما النسيان لـما بلغا مجمع بينهما ثمّ أضاف ذلك إلى الفتى لـما جاوزا واذا اختلف الحالان صح وقد يصح فيما تحمله المسافران أن ينسب الحال فيه اليهما لـما كان لا يتم ذلك إلا بهما وقوله تعالى( وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ ) دليلنا على ان الفعل للعبد لأنه لو كان خلقا لله تعالى لكان قوله لو قال وما أنسانيه إلاّ الرحمن أولى وأصوب ومتى قيل النسيان عندكم من فعل الله تعالى فكيف يصح ذلك. فجوابنا أنّ المراد بالنسيان هنا التقاعد والاهمال وذلك من فعل العبد فعلى هذا الوجه حصلت الاضافة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) كيف قطع في ذلك وهو أمر مستقبل لا يعرفه إلا علاّم الغيوب. وجوابنا أنّ ذلك من قول صاحب موسى وكان نبيّا فيجوز انه تعالى عرفه ذلك ويحتمل انه لـما كان عارفا بأن الذي يفعله من خرق السفينة وقتل الغلام بالغ في التعجب منه مبلغا عظيما وان ذلك مما يتعذر الصبر عن معرفة علته( قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) لـما قوي ذلك في ظنه ولذلك قال تعالى( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) وقول موسى صلّى الله عليه وسلم

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

- عندنا وعند الشافعيّة(١) - عن الجميع بالأداء ، ورجع على الذي ضمن عنه بخمسة ؛ لأنّها هي التي تثبت في ذمّته ، ولم يرجع على الآخَر بشي‌ء ؛ لأنّه لم يضمن عنه ، وإنّما قضى الدَّيْن عنه تبرّعاً.

وعند الشافعيّة يكون له الرجوع على الذي ضمن عنه بالعشرة ، ولا يرجع على الآخَر بشي‌ء ؛ لأنّه لم يضمن عنه ، وإذا رجع على الذي ضمن عنه ، رجع على الآخَر بنصفها ؛ لأنّه ضمنها عنه وقضاها(٢) .

ولو كان المضمون عنه دفع مال الضمان إلى الضامن بإذنه وقال له : اقض هذا المال للمضمون له عنّي ، فقضاه ، كان أمانةً في يده ؛ لأنّه نائب عنه في دفعه إلى صاحب الدَّيْن ، فإن(٣) تلف قبل الدفع بغير تفريطٍ منه ، لم يضمنه.

وإن دفعه إليه عن الذي ضمنه وقال له : خُذْ هذا عوضاً عمّا ضمنته ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : يصحّ ويملكه ؛ لأنّ رجوعه عليه يتعلّق بسبب الضمان والغرم ، فإذا وجد أحد السببين ، جاز أن يدفعه ، كالزكاة.

والثاني : لا يصحّ ولا يملكه ؛ لأنّه يدفعه عوضاً عمّا يغرم ، ولم يغرم بَعْدُ ، فلا تصحّ المعاوضة على ما لم يجب له(٤) .

ويمكن أن يقال : هذا لا يجي‌ء على مذهب الشافعيّة ؛ لأنّ لصاحب الحقّ أن يطالب مَنْ عليه الدَّيْن بذلك ، فكيف تصحّ المعاوضة عنه مع‌

____________________

(١ و ٢) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر ، وراجع : المغني والشرح الكبير ٥ : ٨٩ - ٩٠.

(٣) في « ج » : « وإن ».

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٧.

٣٨١

توجّه المطالبة به!؟ فإن قلنا : إنّه يملك ، صحّ له التصرّف فيه ، وإلّا فلا ، ويكون مضموناً عليه ؛ لأنّه قبضه على وجه المعاوضة.

مسألة ٥٥٣ : لو ادّعى على رجلٍ حاضرٍ أنّه باع منه ومن الغائب شيئاً بألفٍ وكلٌّ منهما ضامن لصاحبه‌ ، فإن أقرّ الحاضر ، لم يلزمه عندنا إلّا النصف الذي ضمنه ، بناءً على أصلنا من انتقال المال إلى ذمّة الضامن ، وعند الشافعيّة من اشتراك الذمّتين في المال(١) : يؤدّي الحاضر الألف ، فإذا قدم الغائب وصدّقه ، رجع عليه. وإن أنكره وحلف ، لم يكن له الرجوع عليه(٢) .

وأمّا إن أنكر الحاضر الضمانَ ، فإن لم يكن للمدّعي بيّنةٌ ، قُدّم قول المنكر مع يمينه. فإذا(٣) حلف ، سقطت الدعوى عنه.

فإذا قدم الغائب فإن أنكر(٤) ، حلف وبرئ ، وإن اعترف ، لزمه خمسمائة التي ادّعاها عليه ، ويسقط(٥) عنه الباقي ؛ لأنّ المضمون عنه سقطت عنه بيمينه ، قاله بعض الشافعيّة(٦) .

وقال بعضهم : إنّه غير صحيح ؛ لأنّ اليمين لم تبرئه من الحقّ ، وإنّما أسقطت عنه في الظاهر ، فإذا أقرّ به الضامن ، لزمه ، ولهذا لو أقام البيّنة عليه بعد يمينه ، لزمه ولزم الضامن ، فإذَنْ الحقُّ لم يسقط عنه ولا عن الضامن(٧) .

وأمّا إذا أقام على الحاضر البيّنة ، وجب عليه الألف عندهم ، فإذا قدم‌

____________________

(١) راجع المصادر في الهامش (٢) من ص ٣٤٤.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤٨ ، حلية العلماء ٥ : ٨٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٣ - ١٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٣ - ٥٠٤.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « وإذا ».

(٤) في الطبعة الحجريّة : « فأنكر » بدل « فإن أنكر ».

(٥) في « ر » والطبعة الحجريّة : « سقط ».

(٦ و ٧) حلية العلماء ٥ : ٨٧.

٣٨٢

الغائب ، لم يكن للحاضر الرجوعُ على الغائب ؛ لأنّه منكرٌ لما شهدت به البيّنة ، مكذّبٌ لها ، مدّعٍ أنّ ما أخذه ظلم ، فلم يرجع(١) .

ونقل المزني أنّه يرجع بالنصف على الغائب(٢) .

وتأوّله الشافعيّة بأُمور ، أحدها : أنّه يجوز أن تُسمع البيّنة مع إقراره ؛ لأنّه يثبت بذلك الحقُّ على الغائب ، فتُسمع عليهما ، أو يكون أنكر شراءه ولم ينكر شراء شريكه والضمان عنه ، بل سكت(٣) .

مسألة ٥٥٤ : لو شرط في الضمان الأداء من مالٍ بعينه ، صحّ الضمان والشرط معاً‌ ؛ لتفاوت الأغراض في أعيان الأموال ، فلو تلف المال قبل الأداء بغير تفريط الضامن ، فالأقرب : فساد الضمان ؛ لفوات شرطه ، فيرجع صاحب المال على الأصيل.

وهل يتعلّق الضمان بالمال المشروط تعلُّقُه به تعلُّقَ الدَّيْن بالرهن أو الأرش بالجاني؟ الأقرب : الأوّل ، فيرجع على الضامن لو تلف.

وعلى الثاني يرجع على المضمون عنه.

وكذا لو ضمن مطلقاً ومات معسراً على إشكالٍ.

ولو بِيع متعلَّق الضمان بأقلّ من قيمته ؛ لعدم الراغب ، رجع الضامن بتمام القيمة ؛ لأنّه يرجع بما أدّى.

ويُحتمل بالثمن خاصّةً ؛ لأنّه الذي قضاه.

ولو لم يساو المال قدر الدَّيْن ، فالأقرب : الرجوع على الضامن ، ويرجع على المضمون عنه.

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٨٨.

(٢) مختصر المزني : ١٠٨ ، حلية العلماء ٥ : ٨٨.

(٣) حلية العلماء ٥ : ٨٨.

٣٨٣

وقد بيّنّا أنّ ضمان المجهول صحيح ، فلو ضمن عنه ما في ذمّته ، صحّ ، ولزمه ما تقوم به البيّنة على ثبوته وقت الضمان ، لا ما يتجدّد ، ولا ما يوجد في دفتر وكتاب ، ولا ما يُقرّ به المضمون عنه أو يحلف عليه المالك بردّ اليمين من المديون.

ولو ضمن ما تقوم به البيّنة ، لم يصح ؛ لعدم العلم بثبوته حينئذٍ.

مسألة ٥٥٥ : لو ضمن الدَّيْنَ اثنان على التعاقب مع صاحب الحقّ عن المديون ، طُولب الضامن الأوّل ، وبطل الثاني‌ ؛ لأنّ الحقّ انتقل من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فالضامن الثاني لم يصادف ضمانه حقّاً على المضمون عنه للمضمون له.

ولو قال الضامن الثاني : ضمنت لك هذا الدَّيْن على مَنْ كان ، فإن قلنا : يصحّ الضمان عن المجهول ، صحّ هذا الضمان ، وكان ضامناً عن الضامن السابق ، وإلّا بطل.

ولو ضمن الثاني من وكيل صاحب الحقّ ، بطل الثاني.

ولو اتّفق ضمان الأوّل مع صاحب الحقّ وضمان الثاني مع وكيله في الزمان الواحد ، بطل الضمانان معاً ؛ لعدم أولويّة أحدهما بالصحّة والآخَر بالبطلان.

مسألة ٥٥٦ : لو شرط الضمان في مالٍ بعينه ثمّ أفلس وحجر عليه الحاكم ، كان حقّ الضمان في العين التي تعلّق الضمان بها - كالرهن - مقدّماً على حقّ الغرماء‌ ، فإن فضل شي‌ء من حقّ الضمان ، تعلّق حقّ الغرماء بالفاضل ، وإلّا فلا.

٣٨٤

ولو ضمن كلٌّ من المديونين ما على صاحبه ، تعاكست الأصالة والفرعيّة فيهما إن أجازهما المضمون له على ما بيّنّاه ، وتتساقطان إذا أدّى كلّ واحدٍ منهما مالَ الضمان عن صاحبه ، فلو شرط أحدهما كونَ الضمان من مالٍ بعينه وحُجر عليه بفلسٍ قبل الأداء ، رجع على الموسر بما أدّى ، ويضرب الموسر مع الغرماء.

ولو أجاز ضمانَ أحدهما خاصّةً ، رجع عليه بالجميع ، ويرجع المؤدّي على الآخَر بنصيبه ، فإن دفع النصف ، انصرف إلى ما قصده ، ويُصدَّق باليمين ، وينصرف الإبراء إلى ما قصده المبرئ ، فإن أطلق فالتقسيط.

ولو ادّعى الأصيل قصده ، ففي توجّه اليمين عليه أو على الضامن إشكال ينشأ : من عدم توجّه اليمين لحقّ الغير ، ومن خفاء القصد.

ولو تبرّع بالضمان ثمّ سأل ثالثاً الضمانَ عنه فضمن ، رجع عليه ، دون الأصيل وإن أذن له الأصيل في الضمان والأداء.

مسألة ٥٥٧ : لو دفع الأصيل الدَّيْنَ إلى المستحقّ أو إلى الضامن ، فقد برئ ، سواء أذن له الضامن في الدفع أو لا.

ولو ضمن فأنكر الأصيل الإذنَ في الضمان ، قُدّم قوله مع اليمين ، وعلى الضامن البيّنة بالإذن ؛ لأصالة عدمه.

وكذا لو أنكر الأصيل الدَّيْنَ الذي ضمنه عنه الضامن ؛ لأصالة براءة ذمّته.

ولو أنكر الضامن الضمانَ فاستوفى المستحقّ بالبيّنة ، لم يرجع على‌

٣٨٥

الأصيل إن أنكر الدَّيْنَ أيضاً أو الإذنَ ، وإلّا رجع اقتصاصاً ، إلّا أن ينكر الأصيل الإذنَ ولا بيّنة.

ولو أنكر المستحقّ دفع الضامن بسؤالٍ ، قُدّم إنكاره.

فإن شهد الأصيل ولا تهمة ، قُبلت ، ومع التهمة يغرم ثانياً ، ويرجع على الأصيل بالأوّل مع مساواته الحقّ أو قصوره.

ولو لم يشهد ، رجع بالأقلّ من الثاني والأوّل والحقّ.

مسألة ٥٥٨ : كما ينبغي التنزّه عن الدَّيْن ينبغي التنزّه عن الضمان مع الإعسار ؛ لما فيه من التغرير بمال الغير.

وقد روى أبو الحسن الخزّاز عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سمعته يقول لأبي العباس الفضل : « ما مَنَعك من الحجّ؟ » قال : كفالة تكفّلت بها ، قال : « ما لك والكفالات؟ أما علمت أنّ الكفالة هي التي أهلكت القرون الأُولى؟ »(١) .

وعن داوُد الرقّي عن الصادقعليه‌السلام قال : « مكتوب في التوراة : كفالة ندامة غرامة »(٢) .

وقد روى الحسن(٣) بن خالد عن الكاظمعليه‌السلام ، قال : قلت له : جُعلت فداك ، قول الناس : الضامن غارم ، قال : فقال : « ليس على الضامن غُرْمٌ ، الغُرْم على مَنْ أكل المال »(٤) . والمراد منه أنّ الضمان يستقرّ على الأصيل.

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٠٩ / ٤٨٤.

(٢) التهذيب ٦ : ٢١٠ / ٤٩٢.

(٣) في المصدر : « الحسين ».

(٤) الكافي ٥ : ١٠٤ - ١٠٥ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٠٩ / ٤٨٥.

٣٨٦

٣٨٧

الفصل الثاني : في الكفالة‌

وفيه مباحث :

الأوّل : العقد.

مسألة ٥٥٩ : الكفالة عقد شُرّع للتعهّد بالنفس ، ويشابه الضمان ، فإنّ الشي‌ء المضمون قد يكون حقّاً على الشخص ، وقد يكون نفسَ الشخص.

وهي عقد صحيح عند عامّة أهل العلم ، وبه قال الثوري ومالك والليث وأبو حنيفة وأحمد والشافعي(١) ، ولا نعرف فيه مخالفاً ، إلّا ما نُقل عن الشافعي من قوله في كتاب الدعاوي : إنّ الكفالة بالبدن ضعيفة(٢) .

وقال في اختلاف العراقيّين وفي الإقرار وفي المواهب وفي كتاب اللعان : إنّ الكفالة بالبدن جائزة(٣) .

واختلف أصحابه.

فقال بعضهم : إنّ الكفالة صحيحة قولاً واحداً ، وأراد بقوله : « إنّها‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٩٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٥ ، المعونة ٢ : ١٢٣٠ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٨٧ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٠ : ٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٥٣ / ١٩٧٥ ، النتف ٢ : ٧٥٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٠ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، الوجيز ١ : ١٨٤ ، الوسيط ٣ : ٢٣٩ ، حلية العلماء ٥ : ٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٦.

(٢) الأُم ٣ : ٢٣١ ، و ٦ : ٢٢٩ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، حلية العلماء ٥ : ٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٩ ، المغني ٥ : ٩٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٨.

(٣) الأُم ٧ : ١١٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩.

٣٨٨

ضعيفة » أي ضعيفة في القياس وإن كانت ثابتةً بالإجماع والأثر.

ومنهم مَنْ قال : إنّ فيها قولين :

أحدهما : أنّها صحيحة ، وهو قول عامّة العلماء.

والثاني : أنّها غير صحيحة ؛ لأنّها كفالة بعين فلم تصح ، كالكفالة بالزوجة وبدن الشاهدَيْن(١) .

والحقّ : الأوّل ؛ لقوله تعالى :( قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) (٢) فطلب يعقوبعليه‌السلام من بنيه كفيلاً ببدن يوسفعليه‌السلام ، وقالوا ليوسفعليه‌السلام :( إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ ) (٣) وذلك كفالة بالبدن.

وما رواه العامّة من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الزعيم غارم »(٤) .

ومن طريق الخاصّة : قول الباقرعليه‌السلام : « إنّ عليّاًعليه‌السلام أُتي برجل كفل برجلٍ بعينه فأخذ الكفيل ، فقال : احبسوه حتى يأتي بصاحبه »(٥) .

ولإطباق الناس عليه في جميع الأعصار في كلّ الأصقاع ، ولو لم تكن صحيحةً امتنع إطباق الخلق الكثير عليه. ولأنّ الحاجة تدعو إليه ، وتشتدّ الضرورة إليه ، فلو لم يكن سائغاً لزم الحرج والضرورة. ولأنّ ما وجب تسليمه بعقدٍ وجب تسليمه بعقد الكفالة ، كالمال ووجوب تسليم البدن‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، حلية العلماء ٥ : ٨٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٩ ، المغني ٥ : ٩٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٨.

(٢) يوسف : ٦٦.

(٣) يوسف : ٧٨.

(٤) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٤ / ٢٤٠٥ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٧ / ٣٥٦٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٥ / ١٢٦٥ ، سنن الدار قطني ٤ : ٧٠ / ٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٧٢ ، سنن سعيد ابن منصور ١ : ١٢٥ - ١٢٦ / ٤٢٧ ، مسند أحمد ٦ : ٣٥٨ / ٢١٧٩٢ ، و ٣٩٧ / ٢٢٠٠١.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٠٩ / ٤٨٦ ، وفيه : « بالمكفول » بدل « الكفيل ».

٣٨٩

يكون بعقد النكاح والإجارة.

مسألة ٥٦٠ : ويصحّ عقد الكفالة حالّةً ومؤجَّلةً عند أكثر علمائنا‌(١) - وبه قال الشافعي(٢) - للأصل الدالّ على الجواز.

وقال الشيخرحمه‌الله : لا يصحّ ضمان مال ولا نفس إلّا بأجلٍ معلوم(٣) .

وهو ممنوع.

إذا ثبت هذا ، فإذا أطلق عقد الكفالة أو شرط الحلول ، كانت حالّةً ؛ لأنّ كلّ عقدٍ دَخَله الحلول إذا أطلق اقتضى الحلول ، كالثمن.

وإذا ذكر أجلاً ، وجب تعيينه ، فإن أبهم ، كان العقد باطلاً عندنا - وبه قال الشافعي وأحمد(٤) - لما فيه من الغرر بجهالة الأجل. ولأنّه ليس له وقت يستحقّ مطالبته فيه.

وكذا الضمان.

فإن جَعَله إلى الحصاد والجذاذ والقطاع(٥) ، لم يصح عندنا ، وهو أحد قولَي الحنابلة(٦) .

والأولى عندهم : صحّته ؛ لأنّه تبرّع من غير عوضٍ جعل له أجلاً لا يمنع من حصول المقصود فيه ، فصحّ(٧) .

وعن أحمد رواية : أنّه إذا قيّد الكفالة بساعةٍ ، صحّ ، ولزمه. وتوقّف‌

____________________

(١) منهم : الشيخ الطوسي في المبسوط ٢ : ٣٣٧ ، والحلّي في السرائر ٢ : ٧٧ ، والمحقّق في شرائع الإسلام ٢ : ١١٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠.

(٣) النهاية : ٣١٥.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، الوسيط ٣ : ٢٤٤ ، الوجيز ١ : ١٨٥ ، حلية العلماء ٥ : ٧٢ و ٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٣ ، المغني ٥ : ١٠٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٦.

(٥) في « ث » : « القطاف » بدل « القطاع ».

(٦ و ٧) المغني ٥ : ١٠٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٦.

٣٩٠

لو عيّن الوقت المتّسع(١) .

ولأنّه شرط فيها شرطاً فاسداً فلم يصح مطلقها ؛ لعدم الرضا به ، ولا مقيّدها بهذا الشرط ؛ لفساده.

وللشافعي وجهٌ آخَر : أنّها تصحّ كالعاريّة بأجلٍ مجهول(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ العاريّة لا تلزم ، ولهذا لو قال له : أعرتك أحد هذين الثوبين ، جاز ، وكان له الانتفاع بأحدهما ، ولو قال : كفلت لك بأحد هذين ، لم يصح ، كذا هنا.

مسألة ٥٦١ : عقد الكفالة يصحّ دخول الخيار فيه‌ ، فإن شرط الخيار فيها مدّة معيّنة ، صحّ ؛ لقولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم »(٣) .

وقولِه تعالى :( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٤) أمر بالوفاء بالعقد ، وإنّما وقع العقد على هذا الشرط ، وليس منافياً لمقتضاه ، كما لا ينافي غيره من العقود.

وقال الشافعي : إذا شرط في الكفالة الخيار ، بطل العقد ؛ لأنّه عقد لا يجوز فيه شرط الخيار ، فإذا شرطه بطل ، كالسَّلَم والصرف(٥) .

والمقدّمة الأُولى ممنوعة ، والحكم في المقيس عليه ممنوع.

وقال أبو حنيفة : إذا شرط الخيار في الكفالة ، صحّ العقد ، وبطل الشرط ؛ لأنّ الضمان يتعلّق بغرر وخطر ، فلم يفسد بالشرط الفاسد ،

____________________

(١) المغني ٥ : ١٠٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٦.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٥ : ٧٢ و ٧٧.

(٣) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٤) المائدة : ١.

(٥) حلية العلماء ٥ : ٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٣.

٣٩١

كالنكاح(١) .

مسألة ٥٦٢ : لا بدَّ في العقد من صيغةٍ دالّةٍ على الإيجاب والقبول ، فيقول الكفيل : كفلت لك بدنَ فلان ، أو : أنا كفيل بإحضاره ، أو : كفيل به ، أو بنفسه ، أو ببدنه ، أو بوجهه ، أو برأسه ؛ لأنّ كلّ ذلك يُعبَّر به عن الجملة.

ولو كفل رأسه أو كبده أو عضواً لا تبقى الحياة بدونه ، أو بجزء شائع فيه ، كثلثه أو ربعه ، قال بعض علمائنا : لا يصحّ ؛ إذ لا يمكن إحضار ما شرط مجرّداً ، ولا يسري العقد إلى الجملة(٢) .

وقال بعض الشافعيّة : تصحّ الكفالة ؛ لأنّه لا يمكن إحضار ذلك المكفول إلّا بإحضار كلّه(٣) . وهو الوجه عندي.

ولو تكفّل بعضو تبقى الحياة بعد زواله ، كيده ورِجْله وإصبعه وغيرها ، للشافعيّة وجهان :

أحدهما : الصحّة ؛ لأنّه لا يمكنه إحضار هذه الأعضاء على صفتها إلّا بإحضار البدن كلّه ، فأشبه الكفالة بالوجه والقلب. ولأنّه حكم تعلّق بالجملة ، فيثبت حكمه إذا أُضيف إلى البعض ، كالعتق.

والثاني : لا تصحّ ؛ لأنّه لا يمكن(٤) إحضاره بدون الجملة مع بقائها(٥) .

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٧.

(٢) راجع : شرائع الإسلام ٢ : ١١٨.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٥ : ٧٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٥.

(٤) في المغني والشرح الكبير : « يمكن » بدون « لا » النافية.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٥ : ٧٤ ، =

٣٩٢

وقال بعض الشافعيّة : لا تصحّ الكفالة في جميع ذلك كلّه ، سواء بقيت الحياة بدونه أو لا ، وسواء كان جزءاً مشاعاً أو لا ؛ لأنّ ما لا يسري إذا خصّ به عضواً لم يصح ، كالبيع والإعارة والوصيّة والإجارة(١) .

البحث الثاني : في الكفيل والمكفول والمكفول له.

مسألة ٥٦٣ : يُشترط في الكفيل البلوغُ والعقلُ والحُرّيّةُ وجوازُ التصرّف‌ ، فلا تصحّ كفالة الصبي ولا المجنون ولا العبد ولا مَنْ لا يجوز تصرّفه ، كالسكران والغافل والنائم والساهي والمحجور عليه للسفه والفلس ؛ لأنّ الكفالة تستلزم غرم المال مع عدم الإحضار ، وهؤلاء كلّهم ممنوعون من التصرّف في أموالهم.

ولا يُشترط ذلك في المكفول ولا في المكفول له ، فإنّه تجوز الكفالة للصبي والمجنون وغيرهما إذا قَبِل الوليّ.

مسألة ٥٦٤ : يُشترط رضا الكفيل ، فلا تصحّ كفالة المكره على الكفالة‌ ؛ لأنّه لا يصحّ أن يلزمه الحقّ ابتداءً إلّا برضاه. ولا نعلم فيه خلافاً.

وكذا يُعتبر رضا المكفول له ؛ لأنّه صاحب الحقّ ، فلا يجوز إلزامه شيئاً بغير رضاه ، وكما يُعتبر رضا المرتهن في الارتهان ، كذا المكفول له يُعتبر رضاه في الكفالة.

وقال أحمد : لا يُعتبر رضاه ؛ لأنّها(٢) التزام حقٍّ له من غير عوض ،

____________________

= التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٥ ، المغني ٥ : ٩٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٠ - ١٠١.

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٥ : ٧٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٥.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لأنّه ». وما أثبتناه كما في المصدر.

٣٩٣

فلم يُعتبر رضاه فيها(١) .

وليس بصحيح.

أمّا المكفول به فلا يُعتبر رضاه ، بل تصحّ الكفالة وإن كره المكفول به ، عند علمائنا - وبه قال ابن سريج من الشافعيّة(٢) - لأنّها وثيقة على الحقّ ، فصحّت بغير أمر مَنْ عليه ، كالضمان.

وقال عامّة الشافعيّة - وهو منقول عن الشافعي - : إنّه يُعتبر رضا المكفول(٣) به ؛ لأنّه إذا لم يأذن المكفول به في الكفالة لم يلزمه الحضور معه ، فلم يتمكّن من إحضاره ، فلم تصحّ(٤) كفالته ؛ لأنّها كفالة بغير المقدور عليه ، بخلاف الضمان ؛ لأنّه يمكنه الدفع من ماله ، ولا يمكنه أن ينوب عنه في الحضور(٥) .

ونمنع عدم لزوم الحضور.

وخلاف الشافعيّة هنا مبنيّ على أنّ الكفيل هل يغرم عند العجز؟ إن قلنا : لا يغرم ، لم تصح الكفالة ؛ لأنّه إذا تبرّع لم يتمكّن من إحضاره ؛ إذ لا تلزمه الإجابة ، فلا تفضي الكفالة إلى مقصودٍ. وإن قلنا : نعم ، يغرم عند العجز(٦) .

فعلى قولنا إذا تكفّل به بغير أمره فطالَبه المكفول له بإحضاره ، وجب‌

____________________

(١) المغني ٥ : ١٠٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٢.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٤ ، حلية العلماء ٥ : ٧٣.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « المضمون » بدل « المكفول ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) في النسخ الخطّيّة : « فلا تصحّ ».

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٥ : ٧٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩١ ، المغني ٥ : ١٠٣ - ١٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٢.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٥.

٣٩٤

عليه إحضاره ، ووجب على المكفول به الحضورُ ، لا من جهة الكفالة ، ولكن لأنّ المكفول له أمره بإحضاره ، فهو بمنزلة وكيله في مطالبته بحضوره.

ولو لم يقل المكفول له : أحضره ، ولكن قال : أُخرج إليَّ من كفالتك ، أو : أُخرج عن حقّي ، فهل يجب على المكفول به الحضور؟ الأقرب : ذلك ؛ لأنّ ذلك يتضمّن الإذن له في إحضاره ، وهو أحد وجهي الشافعيّة على قول ابن سريج.

والثاني : لا يلزمه ؛ لأنّه طالَبه بما عليه من الإحضار ، فعلى هذا له حبسه ، ولا يلزم المكفول به الحضور(١) .

وهو باطل ؛ لأنّه يحبس على ما لا يقدر عليه.

مسألة ٥٦٥ : يُشترط في المكفول به التعيينُ ، فلو قال : كفلت أحد هذين ، أو كفلت زيداً أو عمرواً ، لم يصح ؛ لأنّه لم يلتزم بإحضار أحدهما بعينه.

وكذا لو قال : كفلت لك ببدن زيد على أنّي إن جئت به وإلّا فأنا كفيل بعمرو ، لم يصح ؛ لأنّه لم يلتزم إحضار أحدهما بعينه. ولأنّه علّق الكفالة في عمرو بشرطٍ ، والكفالة لا تتعلّق بالشرط ، فلو قال : إن جئت فأنا كفيل به ، لم يصح. وكذا لو قال : إن جاء زيد فأنا كفيل به ، أو : إن طلعت الشمس ، وبذلك كلّه قال الشافعي(٢) .

ولو قال : أنا أُحضره ، أو أُؤدّي ما عليه ، لم يكن كفالةً.

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٥ - ١٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٢.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨١ و ١٩٠ و ١٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ و ١٦٧ و ١٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٧ و ٤٩٣ و ٤٩٦.

٣٩٥

مسألة ٥٦٦ : كلّ مَنْ عليه حقٌّ ماليٌّ صحّت الكفالة ببدنه‌ ، ولا يشترط العلم بمبلغ ذلك المال ؛ لأنّ الكفالة إنّما هي بالبدن لا بذلك المال ، والبدن معلوم ، فلا تبطل الكفالة لاحتمال عارضٍ. ولأنّا قد بيّنّا أنّ ضمان المجهول صحيح ، وهو التزام المال ابتداءً ، فالكفالة التي لا تتعلّق بالمال ابتداءً أولى ، وهو قول أكثر الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : لا تصحّ كفالة مَنْ عليه حقٌّ مجهول ؛ لأنّه قد يتعذّر إحضار المكفول به ، فيلزمه الدَّيْن ، ولا يمكن طلبه منه ؛ لجهله. ولأنّهم قالوا ذلك بناءً على أنّه لو مات ، غرم الكفيل ما عليه(٢) .

وهذا عندنا غير صحيح.

مسألة ٥٦٧ : يُشترط أن يكون ذلك المال ثابتاً في الذمّة بحيث يصحّ ضمانه‌ ، فلو تكفّل ببدن مَنْ لا دَيْن عليه أو مَنْ جعل جعالة قبل الفعل والشروع فيه ، لم يصح.

ولو تكفّل ببدن المكاتب للنجوم التي عليه ، صحّ عندنا ؛ لأنّ مال الكتابة عندنا ثابت في ذمّة المكاتب على ما سلف(٣) .

وللشيخ قولٌ بعدم الثبوت ؛ لأنّ له أن يُعجّز نفسه(٤) ، وبه قال الشافعي(٥) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٩ - ١٦٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٦.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٦.

(٣) في ص ٣١٦ ، المسألة ٥٠٧.

(٤) المبسوط - للطوسي - ٢ : ١٩٧ و ٣٢٠.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، الوسيط ٣ : ٢٣٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٢.

٣٩٦

فعلى هذا لا تصحّ كفالة بدن المكاتب للنجوم التي عليه ؛ لأنّه لو ضمن النجوم لم يصح ، فالكفالة بالبدن للنجوم أولى أن لا تصحّ. ولأنّ الحضور لا يجب على المكاتب ، فلا تجوز الكفالة به ، كدَيْن الكتابة.

مسألة ٥٦٨ : إذا كان عليه عقوبة ، فإن كانت من حقوق الله تعالى - كحدّ الزنا والسرقة والشرب - لم تصح الكفالة ببدنه عليها‌ عند علمائنا - وهو المشهور من مذهب الشافعي(١) - لأنّ الكفالة للتوثيق ، وحقوق الله تعالى مبنيّة على الإسقاط ، وينبغي السعي في دفعها ما أمكن ، ولهذا لـمّا أقرّ ماعز بالزنا عرض له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرجوع والإنكار ، فقال له : « لعلّك قبّلتها ، لعلّك لامَسْتَها » وأعرض بوجههصلى‌الله‌عليه‌وآله عنه(٢) .

وطرّد القاضي ابن سلمة وابن خيران من الشافعيّة القولين فيه(٣) .

والخلاف في هذا الباب شبيه الخلاف في ثبوت العقوبات بالشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي.

وأمّا إن كانت العقوبة من حقوق الآدميّين - كالقصاص وحدّ القذف - فالأقرب عندي : ثبوتها في القصاص ، أمّا الحدّ فلا تصحّ الكفالة به ؛ لما رواه العامّة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ( عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه )(٤) قال : « لا كفالة في حدٍّ »(٥) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه الصدوقرحمه‌الله عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ،

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٦.

(٢) صحيح البخاري ٨ : ٢٠٧ ، سنن الدار قطني ٣ : ١٢١ / ١٣١ و ١٣٢ ، مسند أحمد ١ : ٣٩٤ / ٢١٣٠ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١١ : ٣٣٨ / ١١٩٣٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠.

(٤) بدل ما بين القوسين في « ج ، ر » : « أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

(٥) الكامل - لابن عدي - ٥ : ١٦٨١ ، تاريخ بغداد ٣ : ٣٩١.

٣٩٧

قال : قضى أنّه لا كفالة في حدٍّ(١) .

وهذا القول بعدم صحّة الكفالة في الحدّ قولُ أكثر العلماء ، وبه قال شريح والحسن البصري وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وأحمد(٢) .

واختلف قول الشافعي فيه.

فقال في باب اللعان : إنّه لا يكفل رجل في حدٍّ ولا لعان(٣) .

ونقل المزني عنه أنّه قال : تجوز الكفالة بمن(٤) عليه حقّ أو حدّ(٥) .

واختلف أصحابه في ذلك على طُرق أظهرها عندهم - ويُحكى عن ابن سريج - أنّه على قولين :

أحدهما : الجواز ؛ لأنّه حقٌّ لازم لآدميٍّ ، فصحّت الكفالة به ، كسائر حقوق الآدميّين. ولأنّ الحضور مستحقٌّ عليه ، فجاز التزام إحضاره.

والثاني : المنع ؛ لأنّ العقوبات مبنيّة على الدفع ، ولهذا قالعليه‌السلام : « ادرءوا الحدود بالشبهات »(٦) فينبغي إبطال الذرائع المؤدّية إلى توسيعها وتحصيلها. ولأنّه حقٌّ لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذّر إحضار المكفول به ، فلم تصح الكفالة بمن(٧) هو عليه ، كحدّ الزنا(٨) .

____________________

(١) الفقيه ٣ : ٥٤ / ١٨٤.

(٢) المغني ٥ : ٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٩.

(٣) الأُم ٥ : ٢٩٧ ، مختصر المزني : ٢١٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠ ، المغني ٥ : ٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١٦٠.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لمن » بدل « بمن ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠ ، المغني ٥ : ٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٠.

(٦) تاريخ بغداد ٩ : ٣٠٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٢٣ : ٣٤٧.

(٧) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ممّن » بدل « بمن ». والظاهر ما أثبتناه.

(٨) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠.

٣٩٨

وأبو حامد من الشافعيّة بنى القولين على أنّه إذا مات المكفول ببدنه هل يغرم الكفيل ما عليه من الدَّيْن؟ إن قلنا : نعم ، لم تصح الكفالة ؛ لأنّه لا يمكن مؤاخذته بما عليه. وإن قلنا : لا ، صحّت ، كما لو تكفّل ببدن مَنْ عليه مالٌ(١) .

وقضيّة هذا البناء أن يكون قول التصحيح أظهر.

وهو اختيار القفّال(٢) .

وادّعى الروياني أنّ المذهب المنعُ(٣) .

الطريق الثاني للشافعيّة : القطع بالجواز ، وحَمْلُ ما ذكره في اللعان على الكفالة بنفس الحدّ(٤) .

الطريق الثالث : القطع بالمنع ؛ لأنّه لا تجوز الكفالة بما عليه ، فلا تجوز ببدنه(٥) .

والضابط في ذلك أن نقول : حاصل كفالة البدن التزام إحضار المكفول ببدنه ، فكلّ مَنْ يلزمه حضور مجلس الحكم عند [ الاستدعاء ](٦) أو يستحقّ إحضاره تجوز الكفالة ببدنه.

مسألة ٥٦٩ : لو ادّعى شخصٌ زوجيّةَ امرأةٍ ، صحّت الكفالة ببدنها ؛ لوجوب الحضور عليها إلى مجلس الحكم. وكذلك الكفالة بها [ لمن ](٧) ثبتت زوجيّته.

وقال بعض الشافعيّة : الظاهر أنّ حكم هذه الكفالة حكم الكفالة ببدن‌

____________________

(١ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الاستعداء ». والظاهر ما أثبتناه.

(٧) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ثمّ ». والصحيح ما أثبتناه.

٣٩٩

مَنْ عليه القصاص ؛ لأنّ المستحقّ عليها لا يقبل النيابة(١) .

ولو تكفّل ببدن عبدٍ آبقٍ لمالكه ، صحّ ، ويلزمه السعي في ردّه.

ويتأتّى فيه ما قيل في الزوجة.

ومَنْ في يده مالٌ مضمون - كالغصب والمستام والعارية بشرط الضمان - تصحّ كفالتُه وضمانُ عين المغصوب والمستام ليردّها على مالكها ، فإن ردَّ ، برئ من الضمان. وإن تلفت ، ففي إلزامه بالقيمة وجهان ، الأقرب : العدم.

وتصحّ كفالة المستودع والأمين ؛ لوجوب ردّ الوديعة عليه.

والميّت قد يستحقّ إحضاره ليقيم الشهود الشهادة على صورته إذا تحمّلوها كذلك من غير معرفة النسب ولا الاسم ، فتصحّ الكفالة على إحضار بدنه.

وأيضاً الصبي والمجنون قد يستحقّ إحضارهما لإقامة الشهادة على صورتهما في الإتلاف وغيره ، فتجوز الكفالة ببدنهما.

ثمّ إن كفل بإذن وليّهما ، فله مطالبة وليّهما بإحضارهما عند الحاجة.

وإن كفل بغير إذنه ، فهو كالكفالة ببدن العاقل بغير إذنه ، وقد بيّنّا(٢) جوازه عندنا.

وللشافعي قولان(٣) .

قال(٤) الجويني : لو كفل رجل ببغداد ببدن رجل بالبصرة ، فالكفالة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٦.

(٢) في ص ٣٩٣ ، ضمن المسألة ٥٦٤.

(٣) حلية العلماء ٥ : ٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٧ ، وراجع الهامش ( ٢ و ٥ ) من ص ٣٩٣.

(٤) في الطبعة الحجريّة : « وقال ».

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501