تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن11%

تنزيه القران عن المطاعن مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 501

تنزيه القران عن المطاعن
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80758 / تحميل: 4503
الحجم الحجم الحجم
تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن

مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

2 - حواره مع أصحاب الأديان

قال الحسن بن محمد النوفليّ: لمّا قدم علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر، وأصحاب زردهشت وقسطاس الرّومي والمتكلّمين ليسمع كلامه وكلامهم فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم المأمون باجتماعهم، فقال: أدخلهم عليّ، ففعل، فرحّب بهم المأمون.

ثم قال لهم: إني إنّما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليَّ ولا يتخلّف منكم أحد، فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكّرون إن شاء الله.

قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضاعليه‌السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولّى أمر أبي الحسنعليه‌السلام فقال: يا سيدي إنّ أمير المؤمنين يقرئك السلام فيقول: فداك أخوك إنه اجتمع إليّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلّمون من جميع الملل، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم وإن كرهت كلامهم فلا تتجشّم وإن أحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا.

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك

١٨١

بكرة إن شاء الله. قال الحسن بن محمّد النوفلي: فلمّا مضى ياسر التفت إلينا، ثم قال لي: يا نوفليّ أنت عراقي ورقّة العراقي غير غليظ فما عندك في جمع ابن عمّك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟ فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحبّ أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس - والله - ما بنى.

فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء وذلك أنّ العالم لا ينكر غير المنكر وأصحاب المقالات والمتكلّمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، وإن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحّح وحدانيّته وإن قلت: إن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجّته، ويغالطونه حتى يترك قوله فاحذرهم جعلت فداك.

قال: فتبسّمعليه‌السلام ثم قال: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا عليّ حجّتي؟

قلت: لا والله ما خفت عليك قطّ وإنّي لأرجو أن يظفرك الله لهم إن شاء الله.

فقال لي: يا نوفلي تحبّ أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت: نعم.

قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزّبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الرّوم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم فإذا قطعت كلّ صنف ودحضت حجّته وترك مقالته ورجع إلي قولي علم المأمون أنّ الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ابن عمّك ينتظرك، وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه؟

فقال الرضاعليه‌السلام : تقدمني فإنّي صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم، توضأعليه‌السلام

١٨٢

وضوء الصلاة وشرب شربة سويق وسقانا منه، ثمّ خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله ومحمّد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقوّاد حضور.

فلما دخل الرضاعليه‌السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وقام جميع بني هاشم فما زالوا وقوفاً والرضاعليه‌السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدّثه ساعة، ثم التفت إلى الجاثليق، فقال: يا جاثليق هذا ابن عمّي علي بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام فأحب أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه.

فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلاً يحتجّ عليّ بكتاب أنا منكره ونبيّ لا أؤمن به؟

فقال له الإمام الرضاعليه‌السلام : يا نصرانيّ فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقرّ به؟!

قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل، نعم والله أقرّ به على رغم أنفي.

فقال له الرضاعليه‌السلام : سل عمّا بدا لك وافهم الجواب.

قال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسىعليه‌السلام وكتابه هل تنكر منهما شيئاً؟

قال الرضاعليه‌السلام : أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمته وأقرّ به الحواريون وكافر بنبوّة كل عيسي لم يقرَّ بنبوة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكتابه ولم يبشّر به أمته.

قال الجاثليق: أليس إنّما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟

قال: بلى.

قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوّة محمد ممّن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.

قال الرضاعليه‌السلام : الآن جئت بالنصفة يا نصراني، ألا تقبل منّي العدل المقدّم عند

١٨٣

المسيح عيسى بن مريم؟

قال الجاثليق: ومن هذا العدل؟ سمه لي؟

قال: ما تقول في يوحنا الدّيلمي.

قال: بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح.

قال: فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنا قال إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشّرني به إنه يكون من بعده، فبشّرت به الحواريين فآمنوا به؟!

قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوّة رجل وبأهل بيته ووصيّه ولم يلخّص متى يكون ذلك ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضاعليه‌السلام : فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟

قال: شديداً.

قال الرضاعليه‌السلام لقسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟

قال: ما أحفظني له.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: ألست تقرأ الإنجيل؟!

قال: بلى لعمري.

قال: فخذ على السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته وأمته سلام الله عليهم فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي.

ثم قرأعليه‌السلام السّفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف، ثم قال: يا نصراني، إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟ قال: نعم، ثم تلا علينا ذكر محمّد وأهل بيته وأمته ثم قال: ما تقول يا نصرانيّ؟ هذا قول عيسى بن مريم فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت عيسى وموسىعليهما‌السلام ومتى أنكرت هذا الذّكر وجب عليك القتل لأنّك تكون قد كفرت بربّك وبنبيّك وبكتابك.

١٨٤

قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل وإنّي لمقرّ به.

قال الرضاعليه‌السلام : اشهدوا على إقراره. ثم قال: يا جاثليق، سل عمّا بدا لك.

قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدّتهم، وعن علماء الإنجيل كم كانوا.

قال الرضاعليه‌السلام : على الخبير سقطت، أمّا الحواريون فكانوا اثنى عشر رجلاً وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا.

وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنّا الأكبر بأج، ويوحنّا بقرقيسيا، ويوحنّا الدّيلمي بزجان، وعنده كان ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر أهل بيته وأُمته وهو الذي بشر أُمة عيسى وبني إسرائيل به، ثم قالعليه‌السلام : يا نصراني، والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ننقم على عيساكم شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعّفت أمرك، وما كنت ظننت إلاّ أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضاعليه‌السلام : وكيف ذلك؟

قال الجاثليق: من قولك: إنّ عيساكم كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قطّ، ولا نام بليل قطّ، ومازال صائم الدّهر، قائم الليل.

قال الرضاعليه‌السلام : فلمن كان يصوم ويصلي؟

قال: فخرس الجاثليق وانقطع.

قال الرضاعليه‌السلام : يا نصراني! إني أسألك عن مسألة.

قال: سل فإن كان عندي علمها أجبتك.

قال الرضاعليه‌السلام : ما أنكرت أنّ عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله عَزَّ وجَلَّ؟

قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل، إنّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه

١٨٥

والأبرص فهو ربّ مستحق لأن يعبد.

قال الرضاعليه‌السلام : فإنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم يتّخذه أُمته رباً ولم يعبده أحد من دون الله عَزَّ وجَلَّ، ولقد صنع حزقيل النبيعليه‌السلام مثل ما صنع عيسى بن مريمعليه‌السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستّين سنة.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة أختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدّس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله عَزَّ وجَلَّ إليهم فأحياهم، هذا في التوراة لا يدفعه إلاّ كافر منكم.

قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه.

قال: صدقت. ثم قالعليه‌السلام : يا يهوديّ، خذ على هذا السفر من التوراة فتلاعليه‌السلام علينا من التوراة آيات، فأقبل يهودي يترجّح لقراءته ويتعجّب.

ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟

قال: بل كانوا قبله.

قال الرضاعليه‌السلام : لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسألوه أن يحيي لهم موتاهم فوجّه معهم علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال له: اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك، يا فلان و يا فلان و يا فلان، يقول لكم محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قوموا بإذن الله عَزَّ وجَلَّ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم.

ثم أخبروهم أنّ محمّداً قد بعث نبيّاً، وقالوا: وددنا أنا أدركناه فنؤمن به ولقد ابرأ الأكمه والأبرص والمجانين وكلّمه البهائم، والطير والجن والشياطين ولم نتخذه ربّاً من دون

١٨٦

الله عَزَّ وجَلَّ ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم، فمتى اتّخذتم عيسى رباً جاء لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربّاً لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى وغيره، أنّ قوماً من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت.

فأماتهم الله في ساعة واحدة فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميماً، فمرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجّب منهم ومن كثرة العظام البالية فأوحى الله إليه: أتحبّ أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا ربّ، فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه أن نادهم.

فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عَزَّ وجَلَّ فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم ثم إبراهيمعليه‌السلام خليل الرحمن حين أخذ الطيور وقطعهنّ قطعاً ثمّ وضع على كل جبل منهنّ جزءً، ثم ناديهن فأقبلن سعياً إليه، ثم موسى بن عمران وأصحابه والسبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنّك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته.

فقال لهم: إني لم أره. فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيداً، فقال: يا ربّ اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم وارجع وحدي فكيف يصدّقني قومي بما أخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أفتهلكنا بما فعل السفهاء منّا، فأحياهم الله عَزَّ وجَلَّ من بعد موتهم.

وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه، لأنّ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتّخذ ربّاً من دون الله، فاتّخذ هؤلاء كلّهم أرباباً، ما تقول يا نصراني؟

قال الجاثليق: القول قولك ولا إله إلاّ الله.

ثم التفتعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال: يا يهوديّ أقبل عليَّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمرانعليه‌السلام ، هل تجد في التوراة مكتوباً نبأ محمّد وأُمته

١٨٧

إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبّحون الربّ جداً جداً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد، فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئنّ قلوبهم فإنّ بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض. هكذا هو في التوراة مكتوب؟!

قال رأس الجالوت: نعم إنّا لنجده كذلك.

ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال: أعرفه حرفاً حرفاً.

قال الرضاعليه‌السلام لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر.

فقالا: قد قال ذلك شعيا.

قال الرضاعليه‌السلام : يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول عيسى: إني ذاهب إلى ربّي وربّكم والفار قليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له وهو الذي يفسّر لكم كلّ شيء وهو الذي يبدي فضائح الأمم، وهو الذي يكسر عمود الكفر؟

فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئاً ممّا في الإنجيل إلاّ ونحن مقرّون به.

فقال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتاً يا جاثليق؟!

قال: نعم.

قال الرضاعليه‌السلام : يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأوّل حين افتقدتموه عند من وجدتموه ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟

قال له ك ما افتقدنا الإنجيل إلاّ يوماً واحداً حتى وجدناه غضّاً طريّاً فأخرجه إلينا يوحنّا ومتي.

فقال له الرضاعليه‌السلام : ما أقلّ معرفتك بسرّ الإنجيل وعلمائه، فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل؟ إنّما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم فلو كان على العهد الأوّل لم تختلفوا فيه، ولكني مفيدك علم ذلك، اعلم أنّه لمّا افتقد الإنجيل الأوّل

١٨٨

اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى بن مريمعليه‌السلام وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم؟

فقال لهم لوقا ومرقابوس: إنّ الإنجيل في صدورنا، ونحن نخرجه إليكم سفراً سفراً في كل أحد، فلا تحزنوا عليه ولا تخلّوا الكنائس، فإنّا سنتلوه عليكم في كلّ أحد سفراً سفراً حتّى نجمعه لكم كلّه، فقعد لوقاء ومرقابوس ويوحنّا ومتي ووضعوا لهم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأوّل وإنّما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأوّلين، أعلمت ذلك؟

قال الجاثليق: أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء ممّا علمته، شهد قلبي أنّها حقّ فاستزدت كثيراً من الفهم.

فقال له الرضاعليه‌السلام : فكيف شهادة هؤلاء عندك؟

قال: جائزة، هؤلاء علماء الإنجيل وكلّ ما شهدوا به فهو حقّ.

فقال الرضاعليه‌السلام للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن غيرهم: اشهدوا عليه، قالوا: قد شهدنا.

ثم قال للجاثليق: بحقّ الابن وأمه هل تعلم أنّ متي قال: إن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهودا بن خضرون، وقال مرقابوس: في نسبة عيسى بن مريم: إنه كلمة الله أحلّها في جسد الآدمي فصارت إنساناً، وقال الوقا: إن عيسى بن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس.

ثم إنّك تقول من شهادة عيسى على نفسه، حقّاً أقول لكم يا معشر الحواريين إنّه لا يصعد إلى السماء إلاّ ما نزل منها إلاّ راكب البعير خاتم الأنبياء، فإنّه يصعد إلى السماء وينزل، فما تقول في هذا القول؟

قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره.

١٨٩

قال الرضاعليه‌السلام : فما تقول في شهادة الوقا، ومرقابوس ومتي على عيسى وما نسبوه إليه؟

قال الجاثليق: كذبوا على عيسى.

قال الرضاعليه‌السلام : يا قوم أليس قد زكّاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حقّ؟

فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين أحبّ أن تعفيني من أمر هؤلاء.

قال الرضاعليه‌السلام : فإنا قد فعلنا، سل يا نصراني، عمّا بدالك؟

قال الجاثليق: ليسألك غيري فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك.

فالتفت الرضاعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك؟

قال: بل أسألك، ولست أقبل منك حجة إلاّ من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود أو ممّا في صحف إبراهيم وموسى.

فقال الرضاعليه‌السلام : لا تقبل منّي حجة إلاّ بما تنطق به التوراة، على لسان موسى بن عمران، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم، والزبور على لسان داود.

فقال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوّة محمد؟

قال الرضاعليه‌السلام : شهد بنبوّته (صلّى الله عليه وآله) موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفة الله عَزَّ وجَلَّ في الأرض.

فقال له: أثبت قول موسى بن عمران.

قال الرضاعليه‌السلام : هل تعلم يا يهوديّ أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم: إنّه سيأتيكم نبيّ هو من إخوتكم فيه فصدّقوا، ومنه فاسمعوا، فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيمعليه‌السلام ؟

فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه.

١٩٠

فقال له الرضاعليه‌السلام : هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد (صلّى الله عليه وآله).

قال: لا.

قال الرضاعليه‌السلام : أوليس قد صحّ هذا عندكم؟!

قال: نعم ولكنّي أحب أن تصحّحه لي من التوراة.

فقال له الرضاعليه‌السلام : هل تنكر أن التوراة تقول لكم: جاء النور من جبل طور سيناء، وأضاء لنا من جبل ساعير واستعلن علينا من جبل فاران؟

قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.

قال الرضاعليه‌السلام : أنا أخبرك به، أما قوله: جاء النّور من جبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسىعليه‌السلام على جبل طور سيناء، وأما قوله: وأضاء لنا من جبل ساعير، فهو الجبل الذي أوحى الله عَزَّ وجَلَّ إلى عيسى بن مريمعليه‌السلام وهو عليه، وأما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران، فذلك جبل من جبال مكّة بينه وبينها يوم.

وقال شعيا النبيعليه‌السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة: رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما راكب على حمار، والآخر على جمل، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟!

قال رأس الجالوت: لا أعرفهما فخبّرني بهما.

قالعليه‌السلام : أما راكب الحمار فعيسى بن مريم، وأما راكب الجمل، فمحمد (صلّى الله عليه وآله) أتنكر؟ هذا من التوراة، قال لا، ما أنكره.

ثم قال الرضاعليه‌السلام : هل تعرف حيقوق النبي؟ قال: نعم إنّي به لعارف، قالعليه‌السلام فإنّه قال وكتابكم ينطق به: جاء الله بالبيان من جبل فاران، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأُمته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البرّ يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدّس - يعني بالكتاب القرآن - أتعرف هذا وتؤمن به؟

١٩١

قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقوقعليه‌السلام ولا ننكر قوله.

قال الرضاعليه‌السلام : وقد قال داود في زبوره وأنت تقرأ: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبياً أقام السنّة بعد الفترة غير محمد (صلّى الله عليه وآله)؟

قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره، ولكن عنى بذلك عيسى، وأيّامه هي الفترة.

قال الرضاعليه‌السلام : جهلت أنّ عيسى لم يخالف السنّة وقد كان موافقاً لسنّة التوراة حتى رفعه الله إليه، وفي الإنجيل مكتوب: إن ابن البرّة ذاهب والفارقليطا جاء من بعده وهو الذي يخفّف الآصار، ويفسّر لكم كلّ شيء، ويشهد لي كما شهدت له، أنا جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل أتؤمن بهذا في الإنجيل؟

قال: نعم لا أنكره.

فقال الرضاعليه‌السلام : يا رأس الجالوت أسألك عن نبيّك موسى بن عمران؟

فقال: سل.

قال: ما الحجّة على أنّ موسى ثبتت نبوّته؟

قال اليهوديّ: إنّه جاء بما لم يجيء به أحد من الأنبياء قبله.

قال له: مثل ماذا؟

قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حيّة تسعى وضربه الحجر فانفجرت منه العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها.

قال له الرضاعليه‌السلام : صدقت إذا كانت حجة على نبوّته أنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله أفليس كلّ من ادّعى أنّه نبيّ ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟

قال: لا؛ لأن موسى لم يكن له نظير لمكانته من ربّه، وقربه منه ولا يجب علينا الإقرار بنبوّة من ادّعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به.

١٩٢

قال الرضاعليه‌السلام : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسىعليه‌السلام ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشرة عيناً، ولم يخرجوا أيديهم بيضاء مثل إخراج موسى يده بيضاء ولم يقلب العصا حيّة تسعى؟!

قال له اليهودي: قد خبرتك أنه متى جاءوا على دعوى نبوّتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو جاءوا بما لم يجيء به موسى، أركان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم.

قال الرضاعليه‌السلام : يا رأس الجالوت فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم، وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله؟

قال رأس الجالوت: يقال إنّه فعل ذلك ولم نشهده.

قال له الرضاعليه‌السلام : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته؟! أليس إنّما جاء في الأخبار به من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك.

قال: بلى.

قال: فكذلك أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم فكيف صدقتم بموسى ولم تصدّقوا بعيسى.

فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : وكذلك أمر محمد (صلّى الله عليه وآله) وما جاء به وأمر كلّ نبي بعثه الله ومن آياته أنه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً لم يتعلّم كتاباً ولم يختلف إلى معلّم، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفاً حرفاً وأخبار من مضى ومن بقى إلى يوم القيامة.

ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى.

قال رأس الجالوت: لم يصحّ عندنا خبر عيسى ولا خبر محمّد ولا يجوز لنا أن نقرّ لهما بما لم يصحّ.

١٩٣

قال الرضاعليه‌السلام : فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد (صلّى الله عليه وآله) شاهد زور.

فلم يحر جواباً.

ثم دعاعليه‌السلام بالهربذ الأكبر فقال له الرضاعليه‌السلام : أخبرني عن زردهشت الذي تزعم أنه نبي ما حجّتك على نبوّته؟

قال: إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده، ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل لنا ما لم يحلّه غيره فاتّبعناه.

قالعليه‌السلام : أفليس إنّما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟!

قال: بلى.

قال: فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيّون، وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم فما عذركم في ترك الإقرار لهم، إذ كنتم أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة، بأنّه جاء بما لم يجيء به غيره؟!

فانقطع الهربذ مكانه.

فقال الرضاعليه‌السلام : يا قوم إن كان فيكم أحدٌ يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم.

فقام إليه عمران الصابي وكان واحداً في المتكلمين فقال: يا عالم الناس لو لا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً ليس غيره قائماً بوحدانيّته أفتأذن لي أن أسألك؟

قال الرضاعليه‌السلام : إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو!

فقال: أنا هو.

فقالعليه‌السلام : سل يا عمران وعليك بالنصفة وإيّاك والخطل والجور!

قال: والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به فلا أجوزه.

١٩٤

قالعليه‌السلام : سل عمّا بدا لك، فازدحم عليه الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض.

فقال عمران الصابي: أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق.

قالعليه‌السلام : سألت فافهم أما الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض، ولا يزال كذلك ثمّ خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة لا في شيء أقامه ولا في شيء حدّه ولا على شيء حذاه ولا مثّله له.

فجعل من بعد ذلك الخلق صفوة وغير صفوة واختلافاً وائتلافاً وألواناً وذوقاً وطمعاً لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً، تعقل هذا يا عمران؟

قال: نعم والله يا سيدي.

قالعليه‌السلام : واعلم يا عمران! أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلاّ من يستعين به على حاجته ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق، لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة أخرى ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضّل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضّل ولا نقمةٍ منه على من أذلّ، فلهذا خلق.

قال عمران: يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه؟

قال الرضاعليه‌السلام : إنّما تكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه وليكون الشيء نفسه بما نفي عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه فتدعوه الحاجة إلى نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد علم منها، أفهمت ياعمران؟

قال: نعم والله يا سيدي فأخبرني بأيّ شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ذلك؟

قال الرضاعليه‌السلام : أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بدّاً من أن تجعل لذلك الضمير حداً ينتهى إليه المعرفة؟!

١٩٥

قال عمران: لابدّ من ذلك.

قال الرضاعليه‌السلام : فما ذلك الضمير؟

فانقطع ولم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : لا بأس، إن سألتك عن الضّمير نفسه تُعرّفُه بضمير آخر؟!

ثم قال الرضاعليه‌السلام : أفسدت عليك قولك ودعواك يا عمران، أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزئة كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم فاعقل ذلك وابن عليه ما علمت صواباً.

قال عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه؟ كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يتكوّن؟

قالعليه‌السلام : قد سألت فافهم إنّ حدود خلقه على ستّة أنواع: ملموس وموزون ومنظور إليه، وما لا وزن له، وهو الروح ومنها منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولا حسّ ولا ذوق والتقدير، والأعراض، والصور والعرض والطول، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعلمها وتغييرها من حال إلى حال وتزيدها وتنقصها.

وأما الأعمال والحركات فإنّها تنطلق لأنّها لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرق من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره.

قال له عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره ولا شيء معه، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق.

قال الرضاعليه‌السلام : يتغير عَزَّ وجَلَّ بخلق الخلق، ولكن الخلق يتغير بتغييره.

قال عمران: فبأي شيء عرفناه.

قالعليه‌السلام : بغيره.

قال: فأي شيء غيره؟

١٩٦

قال الرضاعليه‌السلام : مشيّته واسمه وصفته وما أشبه ذلك، وكلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر.

قال عمران: يا سيدي فأيّ شيء هو؟

قالعليه‌السلام : هو نور بمعنى أنه هاد لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض، وليس لك عليَّ أكثر من توحيدي إيّاه.

قال عمران: يا سيدي أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق ثم نطق؟

قال الرضاعليه‌السلام : لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله، والمثل في ذلك أنّه لا يقال للسراج هو ساكت لا ينطق ولا يقال إنّ السراج ليضيء فيما يريد أن يفعل بنا، لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون وإنّما هو ليس شيء غيره، فلما استضاء لنا قلنا قد أضاء لنا حتى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك.

قال عمران: يا سيدي فإنّ الذي كان عندي أن الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق.

قال الرضا: أحلت يا عمران في قولك: إن الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيره، يا عمران هل تجد النار تغير نفسها؟ أو هل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قطّ رأى بصره؟

قال عمران: لم أرَ هذا، ألا تخبرني أهو في الخلق أم الخلق فيه.

قال الرضاعليه‌السلام : جلّ يا عمران عن ذلك ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه، تعالى عن ذلك، وسأعلّمك وتعرفه به، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك؟! فان كان ليس واحد منكما في صاحبه، فبأي شيء استدللت بها على نفسك؟

قال عمران: بضوء بيني وبينها.

فقال الرضاعليه‌السلام : هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر ممّا تراه في عينك؟

قال نعم.

١٩٧

قال الرضاعليه‌السلام : فأرناه؟ فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك ودلّ المرّاة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ولله المثل الأعلى.

ثم التفتعليه‌السلام إلى المأمون قال: الصلاة قد حضرت.

فقال عمران: يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي فقد رقّ قلبي.

قال الرضاعليه‌السلام : نصلّي ونعود، فنهض ونهض المأمون، فصلّى الرضاعليه‌السلام داخلاً وصلّى الناس خارجاً خلف محمد بن جعفر، ثم خرجاً، فعاد الرضاعليه‌السلام إلى مجلسه ودعا بعمران فقال: سل يا عمران.

قال: يا سيدي ألا تخبرني عن الله عَزَّ وجَلَّ هل يوحد بحقيقة أم يوحد بوصف؟

قال الرضاعليه‌السلام : إنّ الله المبدئ الواحد الكائن الأوّل، لم يزل واحداً لا شيء معه، فرداً لا ثاني معه لا معلوماً ولا مجهولاً، ولا محكماً ولا متشابهاً، ولا مذكوراً ولا منسياً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون ولا بشيء قام ولا إلى شيء يقوم، ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكن، وذلك كلّه قبل الخلق إذ لا شيء وما أوقعت عليه من الكلّ فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم.

واعلم أنّ الإبداع والمشيّة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه وإرادته ومشيّته الحروف التي جعلها أصلاً لكل شيء ودليلاً على كلّ مدرك وفاصلاً لكلّ مشكل. وتلك الحروف تفريق كلّ شيء من اسم حقّ وباطل أو فعل أو مفعول أو معنى أو غير معنى، وعليها اجتمعت الأمور كلّها، ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهي ولا وجود لأنها مبدعة بالإبداع، والنّور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض.

١٩٨

والحروف هي المفعول بذلك الفعل وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات كلّها من الله عَزَّ وجَلَّ، علّمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على اللغات السريانيّة، والعبرانيّة، ومنها خمسة أحرف متحرّفة في سائر اللغات من العجم لأقاليم اللغات كلّها وهي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية والعشرين الحرف من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً.

فأمّا الخمسة المختلفة فتحجج لا يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه ثمّ جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدّتها فعلاً منه كقوله عَزَّ وجَلَّ:( كُنْ فَيَكُونُ ) وكن منه صنع وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عَزَّ وجَلَّ الإبداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حسّ.

والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون، وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلّها محسوساً ملموساً ذا ذوق منظوراً إليه والله تبارك وتعالى سابق للإبداع لأنّه ليس قبله عَزَّ وجَلَّ شيء، ولا كان معه شيء والإبداع سابق للحروف والحروف لا تدلّ على غير أنفسها.

قال المأمون: وكيف لا تدلّ على غير أنفسها؟ قال الرضاعليه‌السلام : لأن الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألّف منها أحرفاً أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك أو أقلّ لم يؤلفها لغير معنى ولم يك إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً.

قال عمران: فكيف لنا بمعرفة ذلك؟

قال الرضاعليه‌السلام : أمّا المعرفة فوجه ذلك وبابه أنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فرداً فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، فإذا ألفتها وجمعت منها أحرفاً وجعلتها اسماً وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته؟ قال: نعم.

١٩٩

قال الرضاعليه‌السلام : واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف ولا اسم لغير معنى ولا حدّ لغير محدود، والصفات والأسماء كلّها تدلّ على الكمال والوجود ولا تدلّ على الإحاطة كما تدلّ على الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس، لأنّ الله عَزَّ وجَلَّ وتقدّس تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد بالطول والعرض والقلّة والكثرة واللّون والوزن وما أشبه ذلك، وليس يحلّ بالله جلّ وتقدّس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا.

ولكن يدلّ على الله عَزَّ وجَلَّ بصفاته ويدرك بأسمائه ويستدلّ عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين، ولا استماع أذن ولا لمس كفّ ولا إحاطة بقلب، فلو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدلّ عليه وأسماؤه لا تدعو إليه والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلو لا أنّ ذلك كذلك لمكان المعبود الوحد غير الله تعالى، لأنّ صفاته وأسماءه غيره، أفهمت؟ قال: نعم يا سيدي زدني.

قال الرضاعليه‌السلام : إياك وقول الجهّال أهل العمى والضلال الذي يزعمون أن الله عَزَّ وجَلَّ وتقدّس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عَزَّ وجَلَّ نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً، ولكنّ القوم تاهوا وعموا وصمّوا عن الحقّ من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عَزَّ وجَلَّ:( وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلّ سَبِيلاً ) يعنى أعمى عن الحقائق الموجودة.

وقد علم ذوو الألباب أنّ الاستدلال على ما هناك لا يكون إلاّ بما ههنا، ومن أخذ علم ذلك برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً، لأنّ

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

سورة الذاريات

[ مسألة ] وربما قالوا كيف أقسم بالذاريات التي هي الرياح وبغيرها؟ وجوابنا أنّه تعالى قد بيّن مراده بقوله تعالى( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) وبقوله تعالى( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) وبين الرسول حيث قال من كان حالفا فليحلف بالله فيجب إذا أن يكون المراد بكل ذلك ورب الذاريات ورب الطور ورب القرآن وهذا أحد ما يدل على ان القرآن من جملة أفعاله وأن الله تعالى ربه ومعنى رب الذاريات أنه المالك ولا يجوز ان يملك إلا ما يفعله ويقدر عليه فجميع ما أقسم الله تعالى به في أوائل السور يجب أن يحمل على هذا الوجه لكن مع ذلك فيه فائدة وهي تعريف العباد إنعامه بما ذكر كقوله تعالى( وَالْفَجْرِ ) وكقوله( وَالضُّحى ) وكقوله تعالى( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) إلى غير ذلك.

[ مسألة ] وربما قيل لـما ذا قال تعالى( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ) ومعلوم من رزقنا أنه في الارض. وجوابنا أنّ المراد ما هو الاصل لأرزاقنا وهو الماء النازل من السماء ولولاه لـما حصل ما نأكل ونشرب ونلبس إلى غير ذلك وقوله تعالى( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يدل على ان الايمان

تنزيه القرآن (٢٦)

٤٠١

والاسلام واحد والا كان لا يكون لمن نفى من المسلمين تعلق بمن أخرج من المؤمنين.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ) أليس ذلك يدل على جواز الجوارح على الله تعالى؟ وجوابنا أنّ المراد به القوّة والقدرة ولو لا ذلك لوجب إثبات أيدي كثيرة له تعالى عن ذلك.

[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله تعالى( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) وفي الاشياء ما لا زوج له كالجمادات وغيرها. وجوابنا أنّه لا شيء الا وقد خلق الله تعالى ما يخالفه بعض المخالفة ليدل بذلك على قدرته ولتتكامل به نعمته وهذا كالذّكر والأنثى وكما نعلمه في الثمار والفواكه وكالليل والنهار وكالحجر الصلب والرخو من الاشياء وذلك تنبيه من الله تعالى على عظم قدرته وانعامه فلذلك قال تعالى( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) فأما قوله تعالى( فَفِرُّوا إلى اللهِ ) فلا يدل على أنه تعالى في مكان بل المراد الفرار إلى طاعته وعبادته والتخلص من عقابه فلذلك قال تعالى( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) فأما قوله جل وعز( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) فدلالة على أنه تعالى أراد من جميعهم عبادته وأنه خلقهم لذلك لا كما يقوله المخالف من أنه أراد من المؤمنين الايمان ومن الكافرين الكفر وأنه خلق بعضهم للنار وبعضهم للجنة وقد بينا أن قوله تعالى( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) لا يعارض ذلك لان المراد ذرأناهم للعبادة لكن مصيرهم إلى جهنم من حيث لم يختاروها فهذه اللام لام العاقبة كقوله عز وجل( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) وقوله من بعد( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) فالمراد به وصفه بالاقتدار على الامور لا أن المراد اثبات قوة له تعالى الله عن الحاجة علوّا كبيرا ولو كان المراد ظاهره لوجب مع قوته أن يوصف بالمتانة التي هي الصلابة وذلك من صفات الاجسام.

٤٠٢

سورة الطور

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ) أن ذلك يدل على ان لله علينا كما يقوله بعض المشبهة. وجوابنا أنّه إن دل على ذلك دل على عيون وليس أقله بأن يدل أولى من أكثره وليس ذلك قولا لأحد فالمراد به أنك بمرأى منا ومسمع وإنا نعلم تعيين أحوالك وذكرها تعالى ليبعثه على التشدد في الابلاغ والصبر على كل عارض دونه.

[ مسألة ] وربما تعلق بعض المجبرة بقوله تعالى( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) وزعموا أن ذلك يدل على أن الايمان من فعل الله. وجوابنا أنّ المراد من يبلغ من الذرية ويؤمن فبين تعالى أنه لأجل مشاركتهم لهم في الايمان ألحقهم بهم وبين ذلك قوله( وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) والعامل لا يكون الا مكلفا وقوله تعالى من بعد( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) يدل على أن احدا لا يؤخذ بكسب غيره فيبطل قول من خالفنا وزعم أن أطفال المشركين يؤخذون بذنب آبائهم.

٤٠٣
٤٠٤

سورة النجم

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) أن ذلك يدل على انه صلّى الله عليه وسلم رأى ربه مرة بعد أخرى. وجوابنا أنّ المراد بذلك جبرائيل٧ لأنه المذكور من قبل بقوله تعالى( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ) ثمّ قال بعد ذلك( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) فأثبته رائيا له ثمّ قال( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) فأثبته رائيا له ثانيا وأراد رؤيته له على صورته التي هو عليها فقد كان ينزل على غير صورته في سائر الحالات وبين ما قلناه قوله تعالى( ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنى ) وذلك لا يليق إلا بجبرائيل٧ وقوله تعالى من بعد( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) يدل على أنه يغفر إلمام الانسان بصغائر المعاصي إذا اجتنبت الكبائر وقوله تعالى( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ) فيه دلالة على أن أحدا لا يؤخذ بذنب غيره.

[ مسألة ] وربما قالوا ان قوله تعالى( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ) يدل على أن أفعالنا مخلوقة لله تعالى. وجوابنا أنّ ذلك إن دل فانما يدل على أنه فعل الضحك والبكاء ولا عموم فيهما فان فعلهما تعالى باثنين ثمّ الظاهر فمن أين أن كل ضحك وبكاء من فعل الله تعالى. فان قيل فما قولكم في الضحك أهو من فعل العبد أو من فعل الله وقد يتعذر على المرء ترك الضحك فكيف يكون من

٤٠٥

فعله. وجوابنا أنّ الضحك هو التفتح المخصوص الذي يظهر في الوجه وذلك يكون من فعل العبد ولا حال يضحك فيها الا ويجوز أن يتركه لأنه لو خوّف من الضحك لتركه فأما الابكاء فهو من فعله تعالى لأنه إنزال ما يدفع صفة الوجه فحقيقته أنه تعالى تعالى هو الذي يبكي العبد وإن كان العبد قد يتسبب في ذلك وقد قيل أنّ المراد بقوله( أَضْحَكَ ) انه أنعم على أهل الثواب بالجنة والثواب( وَأَبْكى ) انه عاقب أهل النار واستدلوا على ذلك بقوله تعالى( ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ) وذلك لا يليق الا بأمر الآخرة فشبه ما ينالهم من النعيم والسرور بالضحك وما ينالهم من العقاب بالبكاء.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إذا تُمْنى ) كيف يصح ذلك ونحن نعلم ما لا يخلق من النطفة من الذكر والانثى؟ وجوابنا أنّ جميع ما فعله من الذكر والأنثى أصل الخلقة فيه النطفة وإن كانت ربما تكون بواسطة وربما لا تكون وما يوجد على غير هذا الوجه لا نعلم فيه الذكر من الانثى وقوله عز وجل( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ) يدل على وجوب الاعادة لاجل الاثابة لان في قوله( وَأَنَّ عَلَيْهِ ) دلالة الوجوب. وقوله تعالى( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) ظاهره أن بعد عاد عادا ثانيا فيكون هو الأوّل وقد روى ذلك في الاخبار. ومن قال أنه واحد تأول على ما قاله الحسن لانه قال هم الأوّل لنا من حيث كانوا قبلنا ونحن كالآخر لهم.

٤٠٦

سورة القمر

[ مسألة ] وربما قيل كيف يصح قوله( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) ولو كان قد انشق القمر على الحقيقة لنقل ذلك نقلا ظاهرا؟ وجوابنا أنّ في العلماء من يقول المراد به وانشق القمر في الساعة لأنه عند السابق ينشق القمر إلى غير ذلك من الشرائط لكن الصحيح ما قاله مشايخنا من أنه في أيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم انشق القمر وهو ظاهر القرآن فإذا كان قد انشق بالمدينة أو بمكة وفي سائر الأماكن غيوم تحجب عن رؤية ذلك وكان أهل ذلك البلد في غفلة عنه إلا طبقة مخصوصة فليس من الواجب نقل ذلك بالتواتر بل يجوز ان ينقله الآحاد وقد نقل ابن مسعود وغيره هذا كما نقل رد الشمس في ايام الرسول صلّى الله عليه وسلم فلم يجب في نقله الظهور لأن ذلك ظهر آخر النهار لقوم مخصوصين. وقوله( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ) على وجه الذم يدل على أنّ ذلك قد كان. وقوله من بعد( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) الجواب فيه ما قدمنا من قبل. وما كرره الله من قوله( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) يدل على انه تعالى يكرر هذه الامور لكي يعتبر الناس بها وأنه تعالى أراد من جميعهم الادّكار لا تركه على ما يقوله من خالفنا وقوله تعالى من بعد( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) لا يدل على ما يقوله مخالفنا وذلك لأنه تعالى قال( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ

٤٠٧

بِقَدَرٍ ) يعني في الآخرة في معاقبة أهل النار لانه تعالى يعاقب كل أحد بقدر استحقاقه ولذلك قال بعده( وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) وذلك لا يليق إلا بالآخرة التي لا يقع فيها من احد مخالفة لله تعالى. وقوله( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) يدل على ان كل ذلك يكتبه الحفظة ثمّ يقع التمييز عند المحاسبة ويحتمل ان يريد ان ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ كما كتب تعالى الآجال والأرزاق.

٤٠٨

سورة الرحمن

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) أن ذلك يدل على أن علمه بالقرآن والبيان من فعل الله تعالى وذلك ممّا لا نخالف فيه وإنّما القول في العلم بالله وتوحيده وعدله وأنه اكتساب من العبد.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ) ان ذلك تكرارا لا معنى له. وجوابنا أنّ وضع الميزان المراد به ما تستقيم به المعاملات من الموازين وقوله تعالى( أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ) المراد به كيفية استعماله في المعاملات فأحد الأمرين مخالف للآخر.

[ مسألة ] وربما قيل إنه تعالى ذكر في أوّل السورة أنّه( خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) فكيف قال من بعد( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) . وجوابنا أنّه بعد ذلك ذكر مع الانس الجن فقال( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) ثمّ عطف على ذلك بقوله تعالى( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) لأنه كلف تعالى في الأرض الانس والجن وإنّما كرّر تعالى في هذه الآيات الكثيرة( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) لأنه ذكر نعمة بعد

٤٠٩

نعمة فاتبعه ذلك وهذا مما يحسن مما يذكر نعمه وأياديه فان قال ففي جملة الآيات ما ليس فيه نعمة كقوله( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) إلى غير ذلك. وجوابنا أنّ ذلك من النعم إذا تدبره المرء وخاف منه فصار زاجرا له عن المعاصي.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) كيف يصح ذلك وإنّما يخرج من أحد البحرين؟ وجوابنا أنّه إذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما والمراد من هذا المجموع وقد قيل إنه لا يخرج من البحر الذي ليس بعذب إلا إذا مازجه الماء العذب.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) كيف يصح ذلك مع أنه تعالى قد ذكر أنه يسألهم أجمعين في غير آية؟ وجوابنا أنّ المراد انهم لا يسألون على وجه التعرف لان ذلك مكتوب معلوم وان كانوا قد يسألون على غير ذلك وقد تقدم كلامنا في مثل هذه الآية.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) كيف يصح ذلك ولا يجوز على الله تعالى الشغل والفراغ؟ وجوابنا أنّ ذلك مما يستعمل في الوعيد لأنه اقوى في الزجر والتهديد فالقائل يقول لمن يخوفه سأفرغ لك إن خالفت فلاجل هذه المبالغة ذكره تعالى وإلاّ فالفراغ لا يصح الا على من يشغله فعل عن فعل من حيث يفعل ولا يصح أن يضيف إلى السكون حركة ولا إلى القيام قعودا.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ) كيف يصح وصف البطائن التي هي دون الظهائر التي هي الارفع؟ وجوابنا أنّه بذكر البطائن قد دلّ على الظهائر فإن كانت الظهائر ارفع

٤١٠

فقد دلّ بذلك انها ارفع من الإستبرق وقوله تعالى( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) لا يدل على جواز المكان على الله تعالى لأنه تعالى خوّف بذلك والتخويف لا يكون بالمكان فالمراد ولمن خاف مقامه للمسائلة والمحاسبة فأضاف المقام إليه وإن كان مقاما للعبد لأنه معد من قبله لمقام العبد ولوقوفه فيه وقوله تعالى( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ) احد ما يدل على قولنا لأنه عز وجل بيّن ان من أحسن جازاه الله تعالى بالاحسان وعلى قولهم قد يؤمن ثمّ يخلق الله تعالى الكفر فيه فلا يصح ذلك على مذهبهم.

٤١١
٤١٢

سورة الواقعة

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ ) كيف زاد السابقين على اصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة وفي سائر القرآن لم يذكر سواهما؟ وجوابنا أنّه تعالى اراد ان يبيّن أن في العباد من له تقدم في عظم الثواب كالأنبياء وغيرهم فخصهم بالذكر وإن كانوا من أصحاب اليمين.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) كيف يصح في الآخرة ذبح الطيور وأكل لحمها وعندكم ان الآخرة ليست بدار تكليف للمرء؟ وجوابنا أنّ المراد بهذه الأطعمة انها على هيئة لحم الطير وصورته لا أنّ هناك طيورا تذبح.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ) كيف يصح التوعد بما لا يعرف من جملة الأشجار؟ وجوابنا أنّ لفظة الزّقّوم معروفة بأنها تستعمل في الكريه من الأشياء. فجاز ان يتوعّد الله تعالى بذكرها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) أليس ذلك يدل على ان فعل العباد

٤١٣

مخلوق لله تعالى؟ وجوابنا أنّ إنزال النطفة ليس من فعل العبد عندنا ولذلك يختلف الحال فيه فمن النّاس من يمني أسرع ممّا يمني غيره كثر أو نقص وإذا كان ذلك من فعل الله وكذلك استقراره في الرحم فلا سؤال علينا في ذلك.

فإن قيل فما قولكم في قوله( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) أليس ذلك يدل على أنّ الزّرع من فعل الله تعالى؟

وجوابنا أن الزرع اسم للنبات الظاهر وذلك من خلقه تعالى وإنّما يفعل العبد مقدمته وبين ذلك أنه اضاف الحرث إليهم ثمّ أضاف الزرع إلى نفسه وبين ذلك انه عدّه في نعمه وطرح البذر ليس بنعمة وإنّما النعمة النبات فأما قوله تعالى( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ ) فلا دليل للمشبهة فيه لأن الكلام فيمن حضره الموت فالمراد إذا إحاطة علمه بذلك فأما قوله تعالى( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) فقد يقال فيه إن الكذب لا يجور عندكم في الآخرة فما معنى ذلك؟ فجوابنا أنّ المراد وصفهم بذلك في الدنيا فإن قيل فما تعلق بالكذب بالرزق. فجوابنا انهم كانوا يكذبون على المطر والغيم ويقولون إنا سقينا بنوء كذا فأنكر الله ذلك عليهم فأما قوله تعالى من بعد( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ ) فالمراد به الملائكة الموكّلة بقبض الأرواح وهو كقوله( وَجاءَ رَبُّكَ ) والمراد ملائكة ربك.

٤١٤

سورة الحديد

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( هُوَ الأوّل وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ) كيف يصح هذا الوصف لله تعالى مع تضاده؟ وجوابنا أنّ المراد هو الأوّل لأنه لا موجود إلا موجود بعده وهو الآخر لأنه لا موجود إلا ويفنيه فيبقى بعده وكلاهما في وصف الله تعالى صحيح. ومعنى قوله والظاهر أنه المقتدر القاهر من ظهور القوم على الفعل كقوله( فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ ) ومعنى الباطن انه عالم بالسرائر وكل ذلك صحيح في أوصاف الله عز وجل ويدل قوله( هُوَ الأوّل ) على بطلان قول من يثبت لله تعالى علما وقدرة وحياة وقدما لأنه لو ثبت ذلك لم يصح كونه اولا ويدل على انه تعالى يفني الخلق ليصح ان يكون آخرا إذا الأدلة قد دلت على ان الجنة لا يفنى ثوابها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) ثمّ قال في آخر الآية الثانية( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) كيف يصح ان يقول آمنوا( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) وجوابنا أنّ قوله( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) جعله تعالى شرطا في اخذ الميثاق لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يأخذه بشرط الايمان ويحتمل ان يريد به إن رغبتم في الايمان وتمسكتم به وقوله تعالى( هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ ) احد ما يدل على ان مراده بإنزال القرآن إلى

٤١٥

الرسول صلّى الله عليه وسلم وبعثته من بين الجميع ان يخرجوا من الكفر إلى الايمان. فان قيل فقد قال تعالى( لِيُخْرِجَكُمْ ) فيجب ان يكون الايمان من خلقه.

وجوابنا انه بيّن أنه يخرجهم بهذا السبب ولو كان الاخراج والايمان من خلقه لم يصحّ ذلك لأنه سواء أنزل القرآن أو لم ينزل فالحال واحدة وقوله تعالى( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ ) أحد ما يدل على فضل أكابر الصحابة ومن تقدم إسلامه كالعشرة وغيرهم وإنّما كان كذلك لأن موقع الانفاق من قبل كان اعظم من موقعه من بعد ثمّ قال تعالى( وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ) منبّها بذلك على ان الثواب يعمّ الكلّ.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) أليس ذلك يدل على ان الّذين آمنوا لم يكونوا خاشعين وأنه كان فيهم من هو قاسي القلب وذلك بخلاف قوله تعالى( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) . وجوابنا أنّ المؤمن لا يكون في الجملة إلا خاشعا خاضعا لله وإنّما امر تعالى أن يخشعوا لذكر الله وعند سماع القرآن لان فيهم من يسمع غافلا لاهيا فهو كقوله تعالى( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) فأما قوله تعالى( فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) فهو من وصف الكفار من قبل وقوله تعالى( وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) انما قاله فيمن أوتي الكتاب ثمّ آمن فيما بعد.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ) كيف يصح ذلك وفي جملتهم الفساق وأصحاب الكبائر؟ وجوابنا أنّ المراد بذلك من آمن بالرسول في أيامه وكذلك كانوا ولو

٤١٦

صح فيه العموم لحملناه على التخصيص لان المجاهر بالفسوق والفجور لا يسمّى من الصدّيقين.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ ) أتقولون ان الميزان أنزله الله؟ وجوابنا أنّه قد قيل ذلك على ما تقدم ذكره. وقيل إن المراد العدل وبيان صحة المعاملات بالميزان والظاهر هو الأوّل وكذلك قوله تعالى( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) يتأول على ما قدمنا وقوله تعالى بعد ذلك( وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) والمراد به وقوع النصرة التي هي حادثة دون العلم فانه تعالى عالم بكل شيء لم يزل.

[ مسألة ] وربما قالوا في قوله تعالى( وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) أليس يدل ذلك على ان الرأفة والرحمة من خلق الله تعالى؟ وجوابنا أنّ المراد بذلك ما لا ينكر أنه من قبله وهو لين القلب وما به يفارق الرحيم غيره فلا يدل على ما قالوه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) كيف يصح وقوع المشي بالنور؟ وجوابنا أنّ المراد بهذا المشي التصرف أجمع. لأن ذلك لا يصحّ إلا بالنور الذي ينفصل من الشمس وبالعقل الذي يوصف بذلك مجازا وبعد فإن حمل على الظاهر جاز لأن المشي يحتاج صحيحه ومقصوره إلى ضياء ليقع على الوجه الصحيح وقوله جل وعز( لِئَلاَّ يَعْلَمَ أهل الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ) لا يدل على ان أفعال العباد يخلقها الله تعالى وذلك لأن المراد بهذا الفضل النعم التي هي الاجسام فيدخل فيها الاكل والشرب واللباس وغيرها.

تنزيه القرآن (٢٧)

٤١٧

سورة المجادلة

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ ) أليس ذلك كله يدل على جواز المكان على الله تعالى؟ وجوابنا بل يدلّ ذلك على خلافه لأنه قال تعالى( وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ ) فالمراد به العلم والتّبيّن لا أنه كائن معهم ولذلك خصّ تعالى النّجوى التي تستر ليبيّن أنه عالم بكل ما يخفي على سواه ولذلك قال تعالى بعده( فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ ) ولو لا صحّة ذلك لوجب أن يكون تعالى مع كل واحد منّا حتّى يكون في الاماكن كلّها وحتى إذا انتقل أحدنا من مكان إلى مكان يجب أن يكون تعالى منتقلا ليكون معه وذلك يوجب فيه انه محدث تعالى الله عزّ وجلّ وقوله تعالى من قبل في صيام الظّهار( فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) يدل على قولنا لأن عندهم أن الصحيح القوي لم يدخل في الصوم ولو يستطيع الصيام فلا يكون لهذا الشرط فائدة بل يلزم الكل الاطعام والقول في الاطعام كالقول في الصيام وقوله تعالى من بعد( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ ) ولم يقل من الرحمن يدل على انه فعل العباد لا خلق الله تعالى وقوله( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) يعني أن كل ضرر من غمّ وغيره يحصل عند الوسوسة

٤١٨

فليس من فعل الشيطان بل هو من قبل الله تعالى وهذا خلاف قولهم إن الشيطان يحبط الأعمال.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) كيف يصح أن يحلفوا على الكذب في الآخرة وقوله تعالى بعده( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ ) ؟ وجوابنا أنّ المراد بذلك أنهم يحلفون أنهم كانوا مؤمنين عند أنفسهم لا كفارا فلا يكون ذلك كذبا منهم وقوله تعالى( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ ) يعني في الدنيا فلا سؤال علينا فيه وقوله تعالى( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ ) المراد به فعل ما عنده فسقوا وأطاعوه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ) أليس ذلك يدل على أنه خلق الايمان؟ وجوابنا أنّ المراد أنه كتب ما يعلم به الملائكة ايمانهم فنحن نحمله على الحقيقة وان كان الايمان من فعل العبد.

٤١٩

سورة الحشر

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ ) أنه يدل على ان اخراجهم من خلق الله. وربما قيل أيضا ما معنى( لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) فسمى خروجهم حشرا؟ وجوابنا أنّه تعالى لـما فعل سبب إخراجهم أضيف ذلك إليه ولما أمر بإخراجهم أضيف اليه أيضا ولذلك قال تعالى( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ) وذلك لا يصح الا والخروج من قبلهم وإنّما سمّاه حشرا من حيث وقع خروجهم على وجه الجمع والسوق كقوله تعالى( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) وقوله تعالى من بعد( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ) يدل على قولنا لأن مشاقّة العبد لله ورسوله بأن الله تعالى يخلق ذلك فيه لا تصح وقوله تعالى( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) قد قيل فيه ان المراد بالاذن العلم وقد قيل بل المراد فبأمر الله ولذلك قال تعالى من بعد( وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) أليس ذلك كالمتناقض؟ وجوابنا أنّه بين بقوله تعالى( ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) أنه لا نصرة يجدونها بعد هذه النصرة وعلى ذلك صح.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501