تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن11%

تنزيه القران عن المطاعن مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 501

تنزيه القران عن المطاعن
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80752 / تحميل: 4502
الحجم الحجم الحجم
تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن

مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمرا عجيبا ولا يمكن تصوّره وقبوله ، في حين أنّ الأمرين متماثلان : «وحكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد».

وهكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة ، فتارة عن طريق علم الله ، وأخرى عن طريق قدرته ، ثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات ، وأخيرا عن طريق الالتفات إلى الخلق الأوّل.

ومتى ما عدنا إلى آيات القرآن الاخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة أخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلّة ، وقد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والأسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين وبيّنه بأحسن وجه فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنّبوا الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمرا ملتويا وعسيرا.

* * *

٢١

الآيات

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) )

التّفسير

كتابه جميع الأقوال :

يثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد ، وهو ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدّث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) .

كلمة «توسوس» مشتقّة من الوسوسة وهي ـ كما يراه الراغب في مفرداته ـ الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان ، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.

والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ الله لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره ، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده

٢٢

وأعماله وأقواله ، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.

وجملة( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه؟! الخلق الدائم والمستمر ، لأنّ الفيض أو الجود منه يبلغ البشر لحظة بعد لحظة ، ولو انقطع الفيض لحظة لهلكنا ، كنور الشمس الذي ينتشر في الفضاء من منبع الفيض وهو الكرة الشمسية «بل كما سنبيّن فإنّ ارتباطنا بذاته المقدّسة أسمى ممّا مثّلنا ـ (بنور الشمس)».

أجل ، هو الخالق ، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات ، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا؟!

ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلا :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) .

ما أبلغ هذا التعبير!! فحياتنا الجسمانية متعلّقة بعصب يوصل الدم إلى القلب ويخرجه منها بصورة منتظمة وينقله إلى جميع أعضاء البدن ، ولو توقّف هذا العمل لحظة واحدة لمات الإنسان فالله أقرب إلى الإنسان من هذا العصب المسمّى بحبل الوريد.

وهذا ما أشار إليه القرآن في مكان آخر إذ قال :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .(١)

وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي ، والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب ، فمع هذه الإحاطة لله تعالى بمخلوقاته ، وكوننا في قبضة قدرته ، فإنّ تكليفنا واضح ، فلا شيء يخفى عليه لا الأفعال ولا الأقوال ولا الأفكار والنيّات ولا تخفى عليه حتّى الوساوس التي تخطر في القلوب!

__________________

(١) سورة الأنفال ، ٢٤.

٢٣

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان ، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واع ملتزم ورع تقيّ ورد في حديث أنّ أبا حنيفة جاء إلى الصادقعليه‌السلام يوما فقال : رأيت ولدك موسى يصلّي والناس يعبرون من أمامه إلّا أنّه لم ينههم عن ذلك ، مع أنّ هذا العمل غير صحيح!.

فقال الصادقعليه‌السلام ادعوا لي ولدي موسى فدعي له فكرّر الإمام الصادق حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر قائلا : إنّ الذي كنت اصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول اللهعزوجل :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) فاحتضنه الإمام الصادق وقال : بأبي أنت وأمّي يا مستودع الأسرار(١) .

وللمفسّرين آراء عديدة في معنى «الوريد» فمنهم من يعتقد بأنّ «الوريد» هو العصب المتّصل بقلب الإنسان أو كبده ، ويعتقد بعضهم بأنّ الوريد جميع الأعصاب في بدن الإنسان في حين أنّ بعضهم يعتقد بأنّه عصب الرقبة فحسب! إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر تناسبا ، ولا سيّما إذا لا حظنا الآية ٢٤ من سورة الأنفال آنفة الذكر!

وكلمة «الوريد» ـ ضمنا ـ مأخوذة من الورود ، ومعناه الذهاب نحو الماء ، وحيث إنّ الدم ـ يرد من هذا العصب إلى القلب ويخرج منه إلى سائر أعضاء بدن الإنسان سمّي بالوريد.

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الاصطلاح المتداول في هذا العصر في شأن «الوريد والشريان» ـ يعني المجاري التي توصل الدم من سائر أعضاء الجسم إلى قلب الإنسان ، وبالعكس ـ هذا الاصطلاح خاصّ بعلم الأحياء ولا علاقة له بالمفهوم اللغوي للوريد.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٠٨.

٢٤

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) (١) .

أي أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم الله «التامّة» على ظاهر الإنسان وباطنه ، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله ، وهما معه دائما ولا ينفصلان عنه لتتمّ الحجّة عليه عن هذا الطريق أكثر ، ولتتأكّد مسألة الحساب (حساب الأعمال).

كلمة «تلقّى» معناها الأخذ والتسلّم ، و «المتلقّيان» هما ملكان مأموران بثبت أعمال الناس.

وكلمة «قعيد» مأخوذة من القعود ومعناها «جالس»(٢) والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان ، وبتعبير آخر أنّ الآية هذه لا تعني أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله ، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارة ، واخرى في حال الجلوس ، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصّدان أعماله.

ويحتمل أيضا أنّهما قعيدان على كتفي الإنسان الأيمن والأيسر ، أو أنّهما قعيدان عند نابيه أو ناجذيه دائما ويسجّلان أعماله ، وهناك إشارة إلى هذا المعنى في بعض الرّوايات غير المعروفة «كما في بحار الأنوار ج ٥٩ ص ١٨٦ رقم الرّواية ٣٢».

وممّا يجدر التنويه عليه أنّه ورد في الرّوايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب

__________________

(١) كلمة إذ في جملة (إذ يتلقّى المتلقّيان) ظرف متعلّق بمحذوف وتقديره واذكروا إذ يتلقّى المتلقّيان ولهذا المعنى ذهب إليه جماعة من المفسّرين ، إلّا أنّ جماعة اخرى يرون بأنّ إذ متعلّقة بكلمة أقرب الواردة في الآية الآنفة إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أصحّ لأنّ كلّا من الجملتين «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» و «إذ يتلقّى المتلقّيان» إلخ تحتفظ باستقلالها دون أن يتقيّد كلّ بالأخرى ولا يتناسب الصدر والذيل في التّفسير الثاني.

(٢) كلمة قعيد مفردة مع أنّ كلمة المتلقّيان تثنية لأنّ في الآية حذفا وتقديرها إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد» وقد وقع هذا الحذف بقرينة ذكر الآخر.

٢٥

الحسنات ، وملك الشمال كاتب السيّئات ، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل الإنسان حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات ، فإذا استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء ، وإن لم يستغفر الله كتب له سيّئة واحدة.

كما يظهر من بعض الرّوايات أنّهما يقولان بعد موت المؤمن : ربّنا قبضت روح عبدك فإلى أين؟ قال : سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي(١) .

وفي رواية اخرى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلّا أمر الله تعالى الحفظة فقال : اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي» ثمّ أضافصلى‌الله‌عليه‌وسلم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما»(٢) .

وهذه الرّوايات جميعها إشارة إلى لطف الله الواسع.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن الملكين أيضا فتقول :( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٣) .

وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان ، وفي هذه الآية اهتمام بخصوص ألفاظه ، وهذا الأمر هو للأهميّة القصوى للقول وأثره في حياة الناس ، حتّى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدّي إلى تغيير مسير المجتمع

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٦ ، ص ١٦٥ ذيل الآيات محل البحث ، وهذا المضمون نفسه منقول عن الإمام الصادق في كتاب الكافي وكذلك بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ١٨٧ في الرّوايتين ٣٤ و٣٥».

(٣) الضمير في لديه يرجع إلى كلمة قول كما يحتمل أن يكون عائدا على الذي يلفظ القول ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أنسب.

٢٦

نحو الخير أو الشرّ!! كما أنّ بعض الناس لا يعتقدون بأنّ الكلام جزء من أعمالهم ويرون أنفسهم أحرارا في الكلام مع أنّ أكثر الأمور تأثيرا وأخطرها في حياة الناس هو الكلام!.

فبناء على ذلك فإن ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدّمة هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كلمة «الرقيب» معناها المراقب و «العتيد» معناها المتهيئ للعمل ، لذلك يطلق على الفرس المعدّة للركض بأنّها فرس عتيد كما يطلق على من يعدّ شيئا أو يدّخره بأنّه عتيد ، وهي من مادّة العتاد على زنة الجهاد ومعناها الادّخار!.

ويعتقد أغلب المفسّرين أنّ الرقيب والعتيد اسمان للملكين المذكورين في الآية المتقدّمة وهما «المتلقيان» فاسم ملك اليمين «رقيب» واسم ملك الشمال «عتيد» ، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث ليس فيها قول صريح على هذا الأمر ، إلّا أنّ هذا التّفسير وبملاحظة مجموع الآيات يبدو غير بعيد!

ولكن أيّ كلام يكتب هذان الملكان؟ هناك أقوال بين المفسّرين قال بعضهم يكتبان كلّ كلام حتّى الصرخات من الألم ، في حين أنّ بعضهم الآخر يعتقد بأنّهما يكتبان ألفاظ الخير والشرّ والواجب والمستحبّ أو الحرام والمكروه ، ولا يكتبان ما هو مباح!

إلّا أنّ عموميّة التعبير يدلّ على أّ الملكين يكتبان كلّ لفظ وقول يقوله الإنسان.

الطريف أنّنا نقرأ رواية عن الإمام الصادق يقول فيها : «إنّ المؤمنين إذا قعدا يتحدّثان قالت الحفظة بعضها لبعض اعتزلوا بنا فلعلّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما!

يقول الراوي : ألم يقل الله تعالى( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )

٢٧

فيجيب الإمامعليه‌السلام : إن كانت الحفظة لا تسمع فإنّ عالم السرّ يسمع ويرى»(١) .

ويستفاد من هذه الرّوايات أنّ الله سبحانه يكتم بعض أحاديث المؤمن التي فيها (جانب سرّي) احتراما وإكراما له ، إلّا أنّه حافظ لجميع هذه الأسرار.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ حفظة الليل غير حفظة النهار ، كما بيّنا هذا المعنى في تفسير الآية ٧٨ من سورة الإسراء من نفس هذا التّفسير.

* * *

ملاحظة

الحبيب أقرب إلى الإنسان من نفسه!!

يقول بعض الفلاسفة : كما أنّ شدّة البعد توجب الخفاء فإنّ شدّة القرب كذلك ، فمثلا لو كانت الشمس بعيدة عنّا جدّا لما رأيناها ولو كانت قريبة منّا جدّا أو اقتربنا منها كثيرا فإنّ نورها سيذهلنا إلى درجة بحيث لا نستطيع رؤيتها.

وفي الحقيقة إنّ ذات الله المقدّسة كذلك : «يا من هو اختفى لفرط نوره»!

وفي الآيات محلّ البحث تشبيه رائع لقرب الله إلى العباد إذ قالت حاكية عنه سبحانه:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) أي أنّ الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

والتشبيهات التي تقول مثلا العالم جميعه جسم والله روحه ، أو العالم كشعاع الشمس وهو قرصها وأمثال هذه لا يمكن أن توضّح العلاقة القريبة كما وصفتها الآية.

ولعلّ أفضل تعبير هو ما ورد على لسان أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبته الاولى من نهج البلاغة إذ قال عنه سبحانه : «مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا

__________________

(١) اصول الكافي طبقا لما نقل في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

٢٨

بمزايلة».

وقد شبّه بعض الفلاسفة لبيان هذا القرب تشبيها آخر ، فقالوا إنّ ذات الله المقدّسة هي المعنى الاسمي والموجودات هي المعنى الحرفي.

وتوضيح ذلك : حين نقول : توجّه إلى الكعبة ، فإنّ كلمة (إلى) لا مفهوم لها وحدها ، وما لم تضف الكعبة إليها فستبقى مبهمة ، فعلى هذا ليس للمعنى الحرفي مفهوم إلّا تبعا للمفهوم الاسمي ، فوجود جميع موجودات العالم على هذه الشاكلة ، إذ دون ارتباطها بذاته لا مفهوم لها ولا وجود ولا بقاء لها أصلا وهذا يدلّ على نهاية قرب الله إلى العباد وقربهم إليه وإن كان الجهلة غافلين عن ذلك.

* * *

٢٩

الآيات

( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) )

التّفسير

القيامة ـ والبصر الحديد ـ

تعكس الآيات أعلاه مسائل اخرى تتعلّق بيوم المعاد : «مشهد الموت» و «النفخ في الصور» و «مشهد الحضور في المحشر»!

فتقول أوّلا :( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) .

سكرة الموت : هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الاضطراب والانقلاب والتبدّل ، وربّما استولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.

وكيف لا تكون كذلك مع أنّ الموت مرحلة انتقالية مهمّة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال سنين طويلة ، وأن يخطو في

٣٠

عالم جديد عليه مليء بالأسرار ، خاصّة أنّ الإنسان ـ لحظة الموت ـ يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد ـ فهو يلاحظ عدم استقرار هذا العالم بعينيه ويرى الحوادث التي بعد الموت ، وهنا تتملّكه حالة الرعب والاستيحاش من قرنه إلى قدمه فتراه سكرا وليس بسكر(١) .

حتّى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت باطمئنان كامل ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب ، ويصابون ببعض العقبات في حالة الانتقال ، كما قد ورد في حالات انتقال روح النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بارئها عند اللحظات الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنّه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها على وجهه ويقول :( لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) ثمّ يقول : إن للموت سكرات(٢) .

وللإمام علي كلام بليغ يرسم لحظة الموت وسكراتها بعبارات حيّة بليغة إذ يقول : «اجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثمّ إزداد الموت فيهم ولوجا فحيل بين أحدهم ومنطقه وانّه لبيّن أهله ينظر ببصره ويسمع باذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها»(٣) .

كما أنّ هذا المعلّم الكبير ينذر في مكان آخر البشرية فيقول : «إنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب»(٤) .

__________________

(١) السّكر ـ على زنة المكر ـ معناه في الأصل سدّ طريق الماء ، والسكر ـ على زنة الفكر ـ معناه المحلّ المسدود ، وحيث أنّ حالة الثمل تقع حاجزا وسدّا بين الإنسان وعقله فقد سمّيت بالسكر على زنة الشكر.

(٢) روح المعاني ، ج ٩ ، ص ١١٨

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٩.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٠.

٣١

ثمّ يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا :( ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (١) أجل إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناء لا نافذة إلى عالم البقاء ، أو أنّهم لعلائقهم وارتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها ، أو لسواد صحيفة أعمالهم.

أيّا كان فهم منه يهربون ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في انتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه ، ولا بدّ أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون!!.

وقائل هذا الكلام ربّما هو الله أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع!.

والقرآن بيّن هذه الحقيقة في آيات أخر كما هو في الآية (٧٨) من سورة النساء إذ يقول :( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) !.

وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها بامّ عينيه على أثر حبّ الدنيا وحبّ الذات حتّى يبلغ درجة يقسم فيها أنّه خالد كما يقول القرآن في هذا الصدد :( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ ) .

ولكن سواء أقسم أم لم يقسم ، وصدّق أم لم يصدّق فإنّ الموت حقيقة تحدق بالجميع وتحيق بهم ولا مفرّ لهم منها.

ثمّ يتحدّث القرآن عن النفخ في الصور فيقول :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) .

والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية ، لأنّه كما نوّهنا آنفا فإنّ الصور ينفخ فيه مرّتين : فالنفخة الاولى تدعى بنفخة الفزع أو الصعق وهي التي تكون في نهاية الدنيا ويموت عند سماعها جميع الخلق ويتلاشى نظام العالم الدنيوي ، والنفخة الثانية هي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية

__________________

(١) كلمة تحيد مشتقّة من مادّة حيد ـ على وزن صيد ـ ومعناها العدول عن الشيء والفرار منه.

٣٢

البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.

«النفخ» معناه معروف ، و «النفخة» بمعنى المرّة منه ، و «الصور» هو المزمار أو «البوق» والذي يستعمل في القضايا العسكرية عادة لجمع الجنود أو تفريقهم أو الاستعداد أو الذهاب للراحة والنوم ، واستعماله في صور إسرافيل نوع من الكناية والتشبيه «وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآية ٦٨ من سورة الزمر».

وعلى كلّ حال ، فمع الالتفات وملاحظة جملة «ذلك يوم الوعيد» يتّضح أنّ المراد من نفخة الصور هنا هو النفخة الثانية ويوم النشور والقيامة.

وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل الله ، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ السائق هو من يسوق الصالحين نحو الجنّة والصالحين نحو جهنّم ، ولكن مع ملاحظة كلمة «الشهيد» معها يكون المعنى الأوّل وهو السوق نحو محكمة عدل الله أنسب.

ولكن من هما السائق والشهيد؟ أهما «ملكان» من الملائكة أو سواهما ، هناك تفاسير متعدّدة.

قال بعضهم : إنّ «السائق» هو الملك الذي يكتب الحسنات ، و «الشهيد» هو الملك الذي يكتب السيّئات ، فيكون المراد بهما الملكين الوارد ذكرهما في الآيات المتقدّمة.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ «السائق» ملك الموت و «الشهيد» رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن هذه الرّواية مع ملاحظة لحن الآيات تبدو ضعيفة.

٣٣

وقال بعضهم : «السائق» الملك الذي يسوق كلّ إنسان و «الشهيد» عمل الإنسان.

كما قيل أنّ «السائق» ملك و «الشهيد» أعضاء جسم الإنسان أو صحيفة أعماله أو الكتاب الذي في عنقه.

ويحتمل أنّ السائق والشهيد ملك واحد ، وعطف اللفظين بعضهما على الآخر هو لاختلاف الوصفين ، أي أنّ مع الإنسان ملكا يسوقه إلى محكمة عدل الله ويشهد عليه أيضا.

إلّا أنّ أغلب هذه التفاسير مخالف لظاهر الآية ، وظاهر الآية كما فهم منه أغلب المفسّرين أنّ ملكين يأتيان مع كلّ إنسان ، فواحد يسوقه والآخر يشهد على أعماله.

ومن الواضح أنّ شهادة بعض الملائكة لا تنفي وجود شهادة اخرى لبعض الشهود في يوم القيامة ، الشهود الذين هم من قبيل الأنبياء وأعضاء البدن ، وصحائف الأعمال والزمان والمكان الذين وقع عمل الإنسان فيهما أو أثم فيهما.

وعلى كلّ حال فالملك الأوّل يمنع الإنسان عن الفرار ، والملك الثاني يمنع عن الإنكار ، وهكذا فإنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مبتلى بأعماله ولا مفرّ له من جزاء أعماله أبدا.

وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فردا فردا) فيقال :( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) .

أجل ، إنّ أستار عالم المادّة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور ، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة ، وتماط عنك حجب الجهل والتعصّب واللجاجة ، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال ، وما كان مستورا وراء حجاب الغيب يبدو ظاهرا اليوم ، لأنّ هذا اليوم يوم البروز

٣٤

ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر!

ولذلك فقد وجدت عينا حادّة البصر ويمكن أن تدرك جميع الحقائق بصورة جيّدة.

أجل ، إنّ وجه الحقيقة لم يكن مخفيا ولا لثام على جمال الحبيب ، ولكن ينبغي أن ينفض غبار الطريق ليمكن رؤيته.

إلّا أنّ الغرق في بحر الطبيعة والابتلاء بأنواع الحجب لا يسمحان للإنسان أن يرى الحقائق بصورة واضحة ، لكنّه في يوم القيامة حيث تنقطع كلّ هذه العلائق فمن البديهي أن يحصل للإنسان إدراك جديد ونظرة ثاقبة ، وأساسا فإنّ يوم القيامة يوم الظهور وبروز الحقائق!

حتّى في هذه الدنيا استطاع البعض تخليص أنفسهم من قبضة الأهواء واتّباع الشهوات وأن يلقوا الحجب عن عيون قلوبهم لرزقوا بصرا حديدا يرون به الحقائق ، أمّا أبناء الدنيا فمحرومين منه.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الحديد نوع من المعدن كما يطلق على السيف والمدية ، ثمّ توسّعوا فيه فأطلقوه على حدّة البصر وحدّة الذكاء ، ومن هنا يظهر أنّ المراد بالبصر ليس العين الحقيقية الظاهرة ، بل بصر العقل والقلب.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في أولياء الله في أرضه : «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استعوره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ الكلمة ١٤٧.

٣٥

بحوث

١ ـ حقيقة الموت

يتصوّر أغلب الناس أنّ الموت أمر عدمي ومعناه الفناء ، إلّا أنّ هذه النظرة لا تنسجم مع ما ورد في القرآن المجيد وما تدلّ عليه الدلائل العقلية ولا توافقها أبدا.

فالموت في نظر القرآن أمر وجودي ، وهو انتقال وعبور من عالم إلى آخر ، ولذلك عبّر عن الموت في كثير من الآيات بـ «توفّي» ويعني تسلّم الروح واستعادتها من الجسد بواسطة الملائكة.

والتعبير في الآيات المتقدّمة( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) هو إشارة إلى هذا المعنى(١) أيضا ، وقد جاء في بعض الآيات التعبير عن الموت بالخلق :( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ ) (الملك ـ ٢).

وهناك تعبيرات متعدّدة عن حقيقة الموت في الرّوايات الإسلامية ، ففي رواية أنّ الإمام علي بن الحسين سئل : ما الموت؟ فقال :عليه‌السلام : «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفكّ قيود وأغلال ثقيلة والاستبدال بأفخر ثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل عن منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب».

وسئل الإمام محمّد بن عليّعليه‌السلام السؤال الآنف ذاته فقال : «هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلّا أنّه طويل مدّته لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة»(٢) .

وقد قلنا في المباحث المتعلّقة بالبرزخ أنّ حالات الأشخاص متفاوتة في البرزخ ، فبعضهم كأنّهم يغطّون في نوم عميق ، وبعضهم «كالشهداء في سبيل الله

__________________

(١) في المراد من الباء في كلمة بالحقّ هناك احتمالات عديدة ، فمنهم قال معناه التعدية والحقّ معناه الموت ، ويكون معنى الجملة إنّ سكرات الموت لها واقعية أي أنّ السكرات تصحب معها الموت ، وقيل أنّ الباء للملابسة ، أي أنّ سكرات الموت تأتي مع الحقّ.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٥ [ويظهر أنّ المراد من الإمام محمّد بن علي هو الإمام التاسع محمّد الجوادعليه‌السلام ].

٣٦

والمؤمنين الراسخين» ينعّمون بأنواع النعم بينما يعذّب الأشقياء والجبابرة بعذاب الله الأليم!

وقد بيّن الإمام الحسينعليه‌السلام لأصحابه حقيقة الموت يوم عاشوراء عند اشتداد المأزق والقتال بتعبير لطيف بليغ فقال : «صبرا بني الكرام ، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة ، والنعم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب إنّ أبي حدّثني عن رسول الله إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم»(١) .

ونقرأ في حديث آخر أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام دخل على رجل يعاني سكرات الموت ولم يكلّم أحدا ، فسأل الحاضرون الإمام موسى بن جعفر : يا بن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف هو حال صاحبنا؟

فقالعليه‌السلام : «الموت هو المصفاة يصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر بقي عليهم ويصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم وهو آخر ثواب حسنة تكون لهم ، وأمّا صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلا وصفّي من الآثام تصفية وخلص حتّى نقي كما ينقّى الثوب من الوسخ وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد»(٢) .

٢ ـ سكرات الموت

كان الكلام في الآيات الآنفة على سكرات الموت ، وقلنا أنّ «السكرات» جمع سكرة ، ومعناها الحالة التي تشبه حالة الثمل على أثر اشتداد حالة الإنسان اضطرب منها فيرى سكرا وليس بسكر!

صحيح أنّ الموت هو للمؤمنين بداية انتقال إلى عالم أوسع مليء بمواهب

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٢٨٩ باب معنى الموت الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق.

٣٧

الله ، إلّا أنّه مع ذلك فإنّ هذه الحالة الانتقالية ليست سهلة لأي إنسان ، لأنّ روحه تطبّعت مع البدن سنين طوالا وارتبطت به.

ولذلك فإنّه حين يسأل الإمام الصادقعليه‌السلام عن سبب اضطراب الجسد حين خروج الروح منه يجيب : لأنّه نما عليها البدن(١) .

وهذا يشبه تماما حالة قلع السنّ الفاسد من اللثّة ، فإنّه عند قلعه يحسّ الإنسان بالألم إلّا أنّه يشعر بالراحة بعدئذ.

ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان يستوحش من ثلاثة أيّام ، يوم يولد فيه فيرى هذا العالم الذي لم يعرفه ، ويوم يموت ويرى عالم ما بعد الموت ، ويوم القرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا :( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) (٢) ويحكى على لسان عيسى بن مريم مثل هذا الكلام ، فهذان النبيّان مشمولان بعناية الله في هذه الأيّام الثلاثة!.

وبالطبع فإنّه من المسلّم به أنّ المرتبطين بهذه الدنيا يكون انتقالهم منها أصعب وقطع القلوب منها أشدّ ، كما أنّ الآثمين وأصحاب الذنوب تكون عليهم سكرات الموت أكثر ألما ومرارة!.

٣ ـ الموت حقّ

ليست الآيات محلّ البحث وحدها تتحدّث عن الموت بأنّه حقّ ، بل هناك آيات كثيرة في القرآن تصرّح بأنّ الموت حقّ ويقين ، إذ نقرأ في الآية (٩٩) من

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٦.

(٢) المصدر نفسه مع شيء من التلخيص : نقرأ في سورة مريم الآية ١٥ في شأن يحيى :( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) كما نقرأ في شأن عيسى بن مريم في السورة ذاتها( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) .

٣٨

سورة الحجر( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) . وفي الآية (٤٧) من سورة المدثر نقرأ ما يشبه هذا التعبير أيضا.

كلّ ذلك لأنّ الإنسان إذا أنكر كلّ شيء فليس بوسعه أن ينكر أنّ الموت حقّ وأنّه لا بدّ أن يطرق بابه ، فالموت يطرق أبواب الجميع ويأخذهم معه أخيرا.

والالتفات ـ إلى حقيقة الموت ـ يعدّ إنذارا لجميع الناس ليفكّروا أكثر وأحسن ويعرفوا طريقهم المقدمين عليه وما هو أمامهم ويستعدّوا له!

الطريف أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ رجلا جاء إلى عمر فقال : إنّي أحبّ الفتنة وأكره الحقّ وأشهد على ما لم أره ، فأمر عمر به فحبس ، فبلغ ذلك علياعليه‌السلام فقال : يا عمر إنّ حبسه ظلم وقد أثمت على ذلك. فقال : ولم؟ فقال علي : إنّه ـ يحبّ أمواله وأولاده وقد قال الله عنهما في بعض آياته أنّهما فتنة( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١) ويكره الموت والقرآن يعبّر عنه بأنّه حقّ( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) (٢) ويشهد بوحدانية الله وهو لم يره. فقال عمر : لو لا علي لهلك عمر(٣) .

* * *

__________________

(١) التغابن ، الآية ١٥.

(٢) سورة ق ، الآية ١٩.

(٣) تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ١١٨.

٣٩

الآيات

( وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) )

التّفسير

قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين :

مرّة اخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اخرى عن المعاد ، صورة مثيرة مذهلة حيث أنّ الملك ـ قرين الإنسان ـ يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم الله لمعاقبته وجزائه.

تقول الآية الاولى من هذه الآيات : يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

سورة الغاشية

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ) كيف يصح ذلك في الوجوه وذلك من صفات الحي الذي الوجه بعضه؟ وجوابنا أنّ المراد جملة المرء دون العضو وقد يذكر الوجه ويراد به نفس الشيء كما يقال هذا وجه الأمر وعلى هذا الوجه تأول العلماء قوله( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) ولذلك قال تعالى بعده( تَصْلى ناراً حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ ) وذلك منه تعالى زجر عن المعاصي التي تؤدي إلى هذا الوصف وقوله تعالى( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) تدل على قدرتها على خلاف ذلك لان من خلق فيه الشيء لا يوصف بهذا الوصف ثمّ بيّن تعالى الفضل بينهم وبين أهل الجنة فقال تعالى( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ) فرغب بذلك في الطاعة ثمّ عطف على الجميع فقال تعالى( أَفَلا يَنْظُرُونَ إلى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) بعث بذلك على النظر في أدلّة الله تعالى ونعمه ثمّ قال( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) فبيّن أن الذي اليه هذا القدر قبلوا أو لم يقبلوا. ودل بذلك على أنهم ممكنون لان الامر من الله تعالى لرسوله بأن يذكر لا يصح والمرء قد خلق فيه ما يمنعه من الكفر وقدرة الكفر.

٤٦١

سورة والفجر

[ مسألة ] ربما تعلقت المشبهة بقوله تعالى( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) . وجوابنا أنّ المراد أمر ربك فلو جاز المجيء عليه لجاز عليه المشي والانتقال ومن هذا حاله لو جاز ان يكون قديما لم نثق بأنّ العلم محدث وهذا كقوله تعالى( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) فاذا لم يمكن توجه السؤال اليها حملناه على من يصح أن يسأل وكذلك قوله تعالى( وَجاءَ رَبُّكَ ) وقوله تعالى( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) دليلنا على أن العبد في الدنيا قادر على الايمان وان كان كافرا والا ما كان يصح أن يتمنى ما لا يقدر عليه ولا كان يصح أن يوصف بأنه يتذكر وأنى له الذكرى لأنه على قولهم في الدنيا أيضا كان لا تمكنه الذكرى.

٤٦٢

سورة البلد

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) ما معنى ذلك وإنّما خلق الانسان في بطن امه؟ وجوابنا أنّ المراد أحد الأمرين أما ما ذكر عن الحسن أنه خلق يكابد السّرّاء والضّرّاء وشدائد الدنيا، أو يكون المراد مكابدته في الوضع فانه تلحقه الشدة في ذلك وقوله تعالى( أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) يدل على أنه قد هدى الكل من كافر ومؤمن.

٤٦٣

سورة والشمس

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) بعد قوله تعالى( وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ) أليس يدل ذلك على أن الفجور والتقوى من خلق الله تعالى؟ وجوابنا أنّ المراد بقوله تعالى( فَأَلْهَمَها ) أعلمها وبيّن لها الفجور لتجتنب ذلك والتقوى لتقدم عليها فلا يصح ما قالوه وقوله تعالى من بعد( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ) لا يدل على أنه تعالى يخلق في العبد ما به يتزكى لأن المراد قد افلح من زكّى نفسه بأن يفعل ما به يصير زكيّا أو يكون المراد من وصف نفسه بالايمان والطاعة لا على وجه التفاخر لكنه على وجه دفع التهمة عن نفسه فلا يدل على ما قالوه.

٤٦٤

سورة والليل

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ) أليس قد خص من هذه صفته بأنه يسّره للايمان فيجب أن يكون مخلوقا من قبله فيهم وكذلك قوله تعالى( وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ) ؟ وجوابنا أنّ المراد باليسرى الثواب العاجل والآجل وبالعسرى العقاب العاجل والآجل فلا يصح ما قالوه ويحتمل أن يكون المراد فيمن صدّق بالحسنى تيسيره للالطاف التي لأجلها يثبت على الايمان وفيمن كذّب بالحسنى تيسيره لأمور لأجلها يفضل الثبات على ما هو عليه فيكون كقوله تعالى( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ) وقوله تعالى( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) يدل على ان الهدى هو البيان فانه تعالى بالتكليف قد أوجبه على نفسه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) أليس يدل ذلك على ان من لم يكذب ويتولى لا يصلى النار وهذا يدل على ان فساق أهل الصلاة

تنزيه القرآن (٣٠)

٤٦٥

آمنون من النار؟ وجوابنا أنّ المراد به نار مخصوصة لا يصلاها إلا هؤلاء الكفار لأن هناك نيرانا ولها مراتب فلا يدل على ما قالوه وبيّن ذلك ان في الكفار من لا يوصف بأنه يكذب ويتولى فلو سئلوا عنهم لم يكن جوابهم إلاّ هذا الذي ذكرنا فلا يمتنع في الفساق أن يكونوا في غير هذه النار وبين في الفساق ذلك بقوله تعالى( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي ) فمعلوم أن غير الأتقى يجنبها أيضا كمن ليس بمكلف من المجانين والاطفال.

٤٦٦

سورة والضحى

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ) أليس ذلك يدل على جواز الضلال على نبينا صلّى الله عليه وسلم وعلى سائر الانبياء؟

وجوابنا أن المراد بذلك ضالاّ عن النبوّة والرسالة وسائر ما خص الله تعالى به نبينا صلّى الله عليه وسلم من التعظيم وغيره فهداك الله إليها لأنه في اللغة قد يقال ضلّ عن كيت وكيت إذا كان ذلك طريق منافعه ولم يقل الله تعالى ووجدك ضالا عن الدين حتّى يصح تعلقهم وقوله تعالى( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) يدل على وجوب الشكر لله تعالى على نعمة ظاهرة لا خفيّة ويدل قوله تعالى( وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) على وجوب الاحسان إلى السائل إما بالعطية وإما بالبشر والطلاقة كما روي عنه صلّى الله عليه وسلم ( اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة فإن لم يكن فبكلمة طيّبة ).

٤٦٧

سورة ألم نشرح

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) ان ذلك يدل على ان إيمانه من الله تعالى لأن شرح صدره إنما يقع بالايمان. وجوابنا أنّ شرح الصدر ليس من الايمان بسبيل وان كان قد يتقدم الايمان ويتبعه والمراد بذلك تكرير الأدلة والمعجزات عليه على ما بيّنه الله تعالى في كتابه في غير موضع وأما قوله تعالى( وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ) فلا يدل على جواز الكبائر عليه وقد يقال إنه تعالى امتن عليه بأمر كان يجوز أن يفعله ولو كان ذلك من الصغائر لم يصح ذلك فيه؟ وجوابنا أنّ الكبائر لا تجوز على الانبياء والمراد بذلك ما يتفق على وجه السهو من الصغائر ؛ والصغائر يضعها الله تعالى ويرفعها وقد يكون ذلك مما لا يجوز في الحكمة أن لا يفعله وقوله تعالى من بعد( الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ) في وصف ما وضعه من الوزر لا يدل على أنه من الكبائر إذ المراد أنه انزل به الشدائد من حيث يلزمه من التوبة والندامة ما فيه كلفة فأما قوله تعالى( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) فمن جملة ما امتن به من النعم لأن ذلك مما يقتضي سرورا عظيما وقد ذكر في الخبر أنى لا أذكر إلا ذكرت معي كما في الآذان وغيره.

٤٦٨

سورة والتين

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) كيف يصح ذلك ونحن نعلم ان في الصورة المقدور عليها ما هو أحسن من خلق الانسان؟ وجوابنا أنّ المراد بذلك البنية التي خصّ الله تعالى بها الانسان فهي أحسن من سائر البني التي خلق عليها سائر الحيوانات وإن كانت صورة الانسان تتفاوت وتتفاضل.

[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله تعالى( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) أما يدل ذلك على انه رده من الايمان إلى الكفر؟ وجوابنا أنّ المراد رددناه إلى العقاب الذي هو على الوصف إذا تمرد وعصى زجر بذلك العبد عن المعاصي ولذلك قال بعده( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) وهذا الاستثناء لا يليق الا بما قلنا.

٤٦٩

سورة العلق

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) أليس ذلك يدل على أنه أغناه وإن ادى ذلك إلى الطغيان وهذا هو المفسدة التي تنزهون الله تعالى عن فعلها؟ وجوابنا أنّه ليس في الظاهر انه تعالى فعل ذلك حتّى ذلك السؤال وقد يجوز ان يقول( كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) ويغنيه مع ذلك ويجوز أن يقول ولا يغنيه لأجل ذلك ومع ذلك فليس فيه دلالة على انه لو لم يستغن كان لا يطغى بل يجوز ان يطغى على كل حال عند ذلك وعند عدمه فلا يدل على ما قالوه ويجوز ان يكون المراد يطغى بما يتمكن منه عند الاستغناء، ولو لا ذلك كان لا يتمكن كالانفاق في وجوه المعاصي فيكون ذلك تمكينا لا مفسدة وهذه الآية تدل على ان العبد يتمكن من الطاعة إذا عصى لأنه لا يجوز في الاستغناء أن يدعوه إلى المعصية إلاّ وهو متمكن من الامرين ولو كان ما فيه من الكفر خلقا لله كان لا يصح ذلك وقوله تعالى من قبل( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) أحد ما استدل به العلماء على أن القرآن مخلوق لأنه تعالى ذكر اسم ربه ثمّ وصفه بأنه خلق فيترجح أن يكون هذا الوصف راجعا إليه وان جاز ان يرجع إلى غيره.

٤٧٠

سورة القدر

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) كيف يصح أن يراد به القرآن ولم يتقدم له ذكر؟ وجوابنا أنّه قد تقدم ذكره في قوله تعالى( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) وغير ذلك، واذا صار الامر معروفا جاز ان يحذف ذكره لعلم التالي به.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) كيف يصح ذلك وهل المراد به خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ونفس الليلة كيف يصح ان تكون خيرا؟ وجوابنا أنّ المراد العمل فيها خير من العمل في الف شهر تخلو عن ليلة القدر وليس في الآية تفصيل ذلك وان هذا الخير في كل المكلفين أو بعضهم في كل الاعمال أو في بعضها فيحتمل أن يريد انها خير على الجملة للعباد ويحتمل لكل مكلف ويحتمل ان تكون خيرا من ألف شهر لـما يفيضه الله فيها من الأرزاق والنعم فلا يصح ما سألوا عنه ولذلك أتبعه تعالى بقوله( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) فنبه على ما ذكرناه.

٤٧١

سورة البينة

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا ) ما الفائدة في قوله تعالى( حُنَفاءَ ) واذا عبدوا الله واخلصوا كفى ذلك؟ وجوابنا أنّ المراد مستقيمي الطريقة لأنهم أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين على هذا الوجه وقد قيل في الاخلاص أن المراد به تخليص الطاعات من الكبائر فيشهد لـما ذكرناه ويجوز أن يراد به وما أمروا إلا بذلك على هذا الوجه السهل كما قال صلّى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفيّة السّمحاء وهذه الآية دالة على أن كل عبادة من الدين وعلى أنّ ما يعبد الله به يجب أن يفعل على هذا الوجه وفعله على هذا الوجه دون غيره لا يتم إلا والعبد متمكّن من فعله على غير هذا الوجه وقوله تعالى( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) يدل أيضا على ما ذكرنا.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ ) أليس يدل ذلك على ان في الكفار من ليس بمشرك وكذلك قوله تعالى في أوّل السورة يدل على ذلك؟ وجوابنا أنّه في أصل اللغة المشرك هو الكافر المخصوص الذي يتخذ مع الله شريكا لكن من جهة عرف الشرع أطلق ذلك على كل كافر كما عقل من قوله تعالى( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ

٤٧٢

لِمَنْ يَشاءُ ) ومن قوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) فلا يمتنع أن يفضل بينهما في بعض المواضع وهذا كما يقال مثله في المسكين والفقير وقوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) إلى قول الله( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) يدل على ان العلماء خير البرية لقوله( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) وانت إذا جمعت بين الآيتين تثبت ما ذكرناه.

٤٧٣

سورة الزلزلة

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) أليس ذلك يوجب ان الكافر والفاسق إذا فعلا طاعات يريان ثوابها وذلك خلاف قولكم؟ وجوابنا أنّ الخير المستحق على الطاعة هو الثواب وإنّما يستحقه فاعل الخير إذا لم يكن معه معصية أعظم من الطاعة فأما إذا كانت معاصيه من باب الكفر والفسق فلن يرى ذلك لأن الوعد والوعيد مشروط بما ذكرنا في الثواب والعقاب وبعد فإن من يفعل الخير إذا كانت أحواله سليمة يرى ثوابه واذا كانت غير سليمة باقدامه على المعصية يرى أيضا التحقيق بذلك من عقابه فيستقيم الكلام على هذا الوجه.

٤٧٤

سورة العاديات

[ مسألة ] وربما قيل كيف يصح ان يقول تعالى( إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) وليست هذه حال كل انسان؟ وجوابنا أنّه تعالى أتى بوصف لهذا الانسان يدل على المراد به الخصوص وهو قوله تعالى( وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) ويحتمل أن يراد ان الجميع كذلك لكن بعضهم يصرف نفسه عمّا حيل عليه من الهوى والشهوة وبعضهم على خلاف ذلك فيكون الكل داخلين فيه ويكون المراد هذه طريقة من انصرف عن هذا الامر أو أقدم عليه وذلك زجر من الله تعالى عن المعاصي ولذلك قال بعده( أَفَلا يَعْلَمُ إذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ) واذا تصور المرء في كل ما يأتي ويذر أنه تعالى عالم خبير كان ذلك زاجرا له عن المعاصي.

٤٧٥

سورة القارعة

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) أليس ذلك يدل على موازين لكل أحد وما معنى قوله( فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) وكيف تكون جهنم أمّا للبشر؟ وجوابنا أنّه ليس هناك ثقل في الحقيقة لان اعمال المكلف قد تقضّت وهي مع ذلك عرض لا ثقل فيه وإنّما أراد بذلك رجحان طاعته على معاصيه فشبه بما يوزن من الاشياء الثقيلة ولا ينكر مع ذلك أن يكون هناك موازين يوزن بها صحائف أعمال العباد فيبين حال من رجح في باب الطاعة وإنّما قال تعالى( وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) تنبيها بذلك على لزوم العقاب له كلزوم الأم للشيء وذلك ممّا إذا تبيّنه التالي عرف كثرة وجوه الفائدة في هذا الكلام القليل وعرف به مزيّة القرآن في الفصاحة.

٤٧٦

سورة التكاثر

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) كيف يحسن هذا التكرار؟ وجوابنا أنّ المراد بهما مختلف فالمراد بالأول( كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ما ينزل بكم في الدنيا في حال الحياة والممات، والمراد بالثاني( ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ما يكون لكم في الآخرة من ثواب وعقاب وهذا بعث من الله تعالى على التمسك بطاعته وقوله تعالى من بعد( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ ) المراد به التنبيه على تقصيرهم في المعرفة وذلك خاص ببعضهم وقوله تعالى( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) يدل على ان الواجب الشكر لله تعالى على نعمه وان من لم يفعل يسأل عن ذلك وهذا يدل على قدرته على القيام بحق الشكر وإلا لم يكن يسأل عنه بل كان يجب ان كان تعالى يخلق فيه كفر النعمة أن يكون سائلا نفسه ومحاسبا لنفسه تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

٤٧٧

سورة العصر

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) كيف يصح ذلك والله تعالى خلقه لينتفع؟ وجوابنا أنّ المراد المكلف دون غيره فبين أنه لفي خسر إلا الذين آمنوا ثمّ بيّن صفتهم فقال تعالى( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) ولم يقتصر على ذلك حتّى وصفهم بالنظر في أمر غيرهم لأن المكلف كما يلزمه ما يخصه من ايمان وعبادة كذلك يلزمه ما يتعلق بغيره من أمر بمعروف ونهي عن منكر وتعليم للدين وصرف عن الباطل فلذلك قال تعالى( وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) وهاتان الكلمتان قد دخل فيهما كل امر يلزم المرء في غيره وان فسرناه طال القول فيه.

__________________

نسخة : حاشية وجدت بخط اليشكري من أصحاب أبي رشيد سألت قاضي القضاة عن الامر الذي يلزم المرء في غيره ما هو قال هو كثير من جملته ما يدخل في قوله تعالى( وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ ) والدعاء إلى الدين والتوحيد والعدل والانصاف في المعاملات والامر بالمعروف والنهي عن المنكر واصلاح ذات البين ويدخل في قوله( وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) وهو الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي والصبر على ما يلحق المرء من المحن والشدائد والمصائب من جهة الله تعالى ومن جهة عباده الظلمة بان لا يجزع ولا يهلع ولا ينتصف من ظالمه بأكثر من حقه ولا يريده بأكثر مما حده الله فيه ولا يحمله الغضب والجزع على ان يتعدى فيه إلى حد ذم فان من الناس من إذا لحقته محنة من ظالم يريد ان يلحق سائر الناس مثل ما لحقه ولو تمكن منه ومن التشفي به لفعل وربما سعى به إلى السلطان وكل هذا مما نهى الله عنه والواجب على المؤمنين ان يوصى بعضهم بعضا بذلك كما ندب الله اليه. وفقنا الله للعمل بما يرضيه ويزلفنا اليه والسلام اه.

٤٧٨

سورة الهمزة

[ مسألة ] وربما قيل هل يدخل في قوله تعالى( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) غير الكافر أو لا يدخل فيه الا الكفار؟ وجوابنا أنّ ذلك محتمل لاجل قوله تعالى( يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ) وذلك مما لا يليق إلا بالكفار الذين لا يعتقدون في أموالهم انها من قبل الله تعالى فلذلك رجحنا قول من صرف ذلك إلى الكفار.

٤٧٩

سورة الفيل

[ مسألة ] وربما قيل فيه كيف يصح في الطير الصغير أن يرسل الحجر فيؤثر في الناس التأثير الذي ذكره الله تعالى في هذه السورة؟ وجوابنا أنّ ذلك يصح من احد وجهين إما بأن يزيد الله تعالى في قوة الطّيور فلزيادة قوتهم يؤثر ذلك الحجر التأثير العظيم، فقد روى ان ذلك الحجر كان ينفذ في الراكب وفي فرسه حتّى يخرقهما جميعا والثاني ان يكون الله تعالى عند رمي الطير كيف يفعل فيه من الانحدار الشديد ما يؤثر هذا التأثير. فان قيل كيف يصح ذلك ولم يكن في الزمان نبي وهذا من المعجزات العظام؟ وجوابنا أنّه لا بد من نبي في الزمان يكون هذا الامر معجزة له وقد كان قبل نبينا أنبياء بعثوا إلى قوم مخصوصين فلا يمتنع أن يكون هذا الأمر ظهر على بعضهم كما روى انه صلّى الله عليه وسلم قال في خالد بن سنان ذلك نبي ضيعه قومه، وكما قال في قس بن ساعدة أنه يبعث يوم القيامة امة واحدة لقلة من قبل عنه فهذه طريقة الكلام في هذا الباب.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501