تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن15%

تنزيه القران عن المطاعن مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 501

تنزيه القران عن المطاعن
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80543 / تحميل: 4489
الحجم الحجم الحجم
تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن

مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

ملاحظة

هذا الكتاب

نشر الكترونياً وأخرج فنِيّاً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلميّة في الشبكة

٢

٣
٤

حياة المؤلِّف

هو قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني.

وهو الذي تلقّبه المعتزلة قاضي القضاة ولا يطلقون هذا اللّقب على سواه ولا يعنون به عند الاطلاق غيره. قرأ على أبي إسحاق بن عياش مدة ثمّ رحل إلى بغداد وأقام عند الشيخ أبي عبد الله مدة مديدة حتّى فاق الأقران وصار فريد دهره.

قال الحاكم وليس تحضرني عبارة تحيط بقدر محله في العلم والفضل فانه الذي فتق علم الكلام ونشر بروده ووضع فيه الكتب الجليلة التي بلغت المشرق والمغرب وضمنها من دقيق الكلام وجليله ما لم يتفق لأحد قبله وطال عمره مواظبا على التدريس والاملاء حتّى طبق الأرض بكتبه وأصحابه وبعد صيته وعظم قدره وإليه انتهت الرئاسة في المعتزلة حتّى صار شيخها وعالمها غير مدافع وصار الاعتماد على كتبه:

وشهرة حاله تغني ( عن الاطناب في الوصف ).

إستدعاه الصاحب إلى الريّ بعد سنة ستين وثلاثمائة فبقي فيها مواظبا على التدريس إلى أن توفي; سنة خمس عشرة أو ست عشرة وأربعمائة وكان الصاحب يقول فيه هو أفضل أهل الأرض ومرة يقول هو أعلم أهل الأرض ويقال أنّ له أربعمائة ألف ورقة مما صنف في كل فنّ :

ومصنفاته أنواع منها في الكلام ككتاب الخلاف والوفاق وكتاب المبسوط وكتاب المحيط. ومنها نوع في الشروح كشرح الاصول وشرح المقالات. ومنها في أصول الفقه كالنهاية والعمدة وشرحه وله كتب في النقض على المخالفين كنقض اللمع ونقض الامامة. ومنها جوابات مسائل وردت عليه كالرازيات

٥

والنيسابوريات. ومنها في الخلاف ككتابه في الخلاف بين الشيخين. ومنها في المواعظ كنصيحة المتفقهة وله كتب في كل فنّ وعلى الجملة فحصر مصنفاته كالمعتذر وهو من أهل الطبقة الحادية عشرة من طبقات المعتزلة ذكر ذلك أحمد بن يحيى المرتضى في كتاب المنية والامل في شرح كتاب الملل والنحل.

الناشر

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله على نعمه وإحسانه في الدين والدنيا وصلواته على محمّد وآله الطيبين ( أما بعد ) فإنّ أولى ما يتكلّفه المرء في أثارة العلوم ما يعظم النفع به في دينه ودنياه فيعرف كيف يعبد ربّه في الصّلاة والصيام وغيرهما ( وذلك ) بقراءة القرآن وبالانقطاع إلى الله، وكل ذلك لا يتم إلّا بمعرفة معاني ما يقرؤه وما يورده في ادعيته من الأسماء الحسنى إما مفصلا وإما على الجملة فانه تعالى قد أودع القرآن من المواعظ والزواجر وغيرهما ما إذا تأمله المرء وقعت به الكفاية : وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم انه قال لعليّ بن أبي طالب٧ وقد حذره عن اختلاف الأمة بعده : عليكم بكتاب الله فان فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ما يدعه من جبار إلّا قصمه الله ومن يتبع الهدى في غيره اضله الله وهو حبل الله المتين وأمره الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لـما سمعه الجن لم يتناءوا أن قالوا( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إلى الرُّشْدِ ) هو الذي لا تختلف به الألسنة ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه : ومعلوم انه لا ينتفع به إلّا بعد الوقوف على معاني ما فيه وبعد الفصل بين محكمه ومتشابهه فكثير من الناس قد ضل بأن تمسك بالمتشابه حتّى اعتقد ان قوله تعالى( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) حقيقة في الحجر والمدر والطير والنعم وربما رأوا في ذلك تسبيح كل شيء من ذلك ومن اعتقد ذلك لم ينتفع بما يقرؤه ولذلك قال تعالى( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) وكذلك وصفه تعالى بأنه( يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ) وقد أملينا في ذلك كتابا يفصل بين المحكم والمتشابه عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها وبينا معاني ما تشابه من آياتها مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها ليكون النفع به أعظم ونسأل الله التوفيق للصواب ان شاء الله.

٧

( بسم الله الرّحمن الرّحيم ) معنى بسم الله الابتداء به تبركا والاستعانة في كل امر مهم : ومعنى الله ان العبادة به تليق دون غيره لأنه الخالق والمنعم بسائر النعم : ومعنى الرحمن المبالغة في الانعام العظيم الذي لا يقدر عليه إلّا الله تعالى : ومعنى الرحيم المبالغة في الاكثار من الرحمة والنعمة وقد يوصف بذلك غيره أيضا.

[ مسألة ] قالوا ما وجه الابتداء ببسم الله وهلا قيل بالله الرحمن الرحيم فالاستعانة بالله تقع لا باسمه. وجوابنا أنّ الأمر كما قالوا لكنه ذكر اسمه وأريد هو على وجه الاعظام وهذا كقوله تعالى( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ) فأمر بتنزيه اسمه وأراد تنزيهه عما لا يليق به لكنه ذكر الاسم تعظيما له وهذا كما يقال صلوات الله على ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم.

[ مسألة ] قالوا فما وجه ذكر هذه الاسماء الثلاثة دون غيرها. قيل له ذكر الله لأن المكلف قد اختص بأن لزمته عبادته وهو الذي يعرف أنواع نعمه وذكر الرحمن الرحيم لأنه لأجل ذلك استحق العبادة.

٨

سورة الحمد

معنى الحمد لله الشكر لله وكيف نشكره فعلمنا تعالى ذلك.

[ مسألة ] قالوا الحمد لله خبر فان كان حمد نفسه فلا فائدة لنا فيه وان أمرنا بذلك فكان يجب أن يقول قولوا الحمد لله. وجوابنا عن ذلك ان المراد به الامر بالشكر والتعليم لكي نشكره لكنه وان حذف الامر فقد دل عليه بقوله( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) لأنه لا يليق بالله تعالى وإنّما يليق بالعباد فاذا كان معناه قولوا( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) فكذلك قوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) وهذا كقوله( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) معناه ويقولون( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) ومثله كثير في القرآن.

[ مسألة ] وربما قالوا لـما ذا أعاد( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وقد تقدم من قبل.

وجوابنا ان ذلك ليس بتكرار لأن المراد بالأول توكيد الاستعانة والمراد بالثاني توكيد الشكر له فلذلك كرر.

[ مسألة ] قالوا ما معنى قوله( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ويوم الدين ليس بموجود حالا وكيف يملك المعدوم وما فائدة ذلك. وجوابنا أنّ المراد القادر على ( ذلك اليوم ) الذي فيه الجنة على عظم شأنها والنار على عظم امرها وفيه المحاسبة والمساءلة فنبه تعالى بذلك على انكم ان شكرتم وقمتم بالواجب فلكم من الفوز في الآخرة بالثواب نهاية ما تتمنون فصار ذلك ترغيبا في الشكر والعبادة وزجرا

٩

عن خلافه واذا قرئ « مالك » فالمراد به القدرة على يوم الدين واذا قرئ « ملك » فالمراد به القدرة على العباد الذين يتصرف تعالى فيهم بما يوجب الانقياد له.

[ مسألة ] قالوا ما معنى( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) وعندكم ان الله تعالى قد هدى الخلق بالادلة والبيان فما وجه هذا الطلب والدعاء. وجوابنا على ذلك انه تعالى وان مكن وأقدر المكلف ففي قدرته تعالى من زيادة البيان والادلة والالطاف والعصمة ما ينتفع به العبد إذا أمده بها والعبد يجوّز ذلك فيطلبه وهذا كما قال تعالى( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) فأمر تعالى العبد أن ينقطع إلى الله تعالى فيقول( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وان لا يكذب في ذلك فيكون مراده بالصلاة الرياء والسمعة وأن لا يستعين إلّا بالله تعالى وأن يستمد من جهته الالطاف والمعونة على الصراط المستقيم الذي هو دينه وطريقة من أنعم الله عليه لا طريقة الكفار الذين ضلوا فغضب الله عليهم.

١٠

سورة البقرة

[ مسألة ] قالوا ما الفائدة في قوله تعالى( الم ) ولا يعقل من ذلك في اللغة فائدة وكيف يجوز ذلك والقرآن عربي والعرب لا تعرف ذلك. وجوابنا أنّ الله تعالى جعل ذلك اسما للسورة وعلى هذا الوجه يقال سورة ( ق ) ( وحم ) السجدة وسورة ( طه ) ولله تعالى ان يجعل لهذه السورة اسما وهذا مروي عن الحسن البصري وغيره ومتى قيل فقد حصل في ذلك اشتراك ولا بد من ضم زائدة اليه فلا فائدة إذا في ذلك. فجوابنا أنّ الألقاب كزيد وعمرو يقع فيها أيضا الاشتراك ثمّ تمييزها بزيادة وقيل أيضا في جوابه ان فائدة ذلك أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التي تقدرون عليها « ومع » ذلك يتعذر عليكم هذا النظم بفضل رتبته فاعلموا انه معجز.

[ مسألة ] ومتى قيل ولما ذا قال تعالى( ذلِكَ الْكِتابُ ) ولم يقل هذا الكتاب. فجوابنا أنه جل وعز وعد رسوله إنزال كتاب عليه لا يمحوه الماء فلما أنزل ذلك قال( ذلِكَ الْكِتابُ ) والمراد ما وعدتك ولو قال هذا الكتاب لم يفد هذه الفائدة.

[ مسألة ] قالوا ما معنى( لا رَيْبَ فِيهِ ) وقد علمتم أن خلقا يشكون في ذلك فكيف يصح ذلك وان أراد لا ريب فيه عندي وعند من يعلم فلا فائدة في ذلك. فجوابنا أنّ المراد انه حق يجب أن لا يرتاب فيه وهذا كما يبين المرء الشيء لخصمه فيحسن منه بعد البيان أن يقول هذا كالشمس واضح وهذا لا

١١

يشك فيه أحد وهذا كما يقال عند اظهار الشهادتين ان ذلك حق وصدق وان كان في الناس من يكذب بذلك.

[ مسألة ] قالوا لـما ذا قال تعالى( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) والهدى عندكم الدلالة وهو دلالة لكل فلما ذا خص المتقين دون غيرهم هلا دل ذلك على ان الهدى هو نفس الايمان. فجوابنا أنه تعالى قد بين في غير موضع ان القرآن هدى للناس فعم الكل وإنّما خص المتقين هاهنا من حيث اختصوا بقبوله وهذا كقوله تعالى( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) فخصهم من حيث يخشون عند الانذار وان كان صلّى الله عليه وسلم كان منذرا للكل كما قال تعالى( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) وقد ثبت ان ذكر الواحد لا يدل على ان غيره بخلافه.

[ مسألة ] يقال ما معنى قوله( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ما الغيب الذي مدحهم بالايمان به أولستم تقولون ( لا يعلم الغيب إلّا الله ). وجوابنا أنّ هذا الغيب يراد به الغائبات التي قام الدليل على صحتها كأمر الآخرة والجنة والنار والملائكة والحساب فمدح المتقين ووصفهم بأنهم يؤمنون بذلك( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) أي يدومون عليها ويؤدونها بحقها( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) على وجه البر ولا ينفقون من الحرام الذي جعله الله رزقا لغيرهم فغصبوه ثمّ قال( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) حتّى يؤمنون بكل الرسل ولا يفرّقون بينهم( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) فلا يدخلهم شبهة في ذلك : ثمّ بين ان هؤلاء هم المفلحون الظافرون بثواب الله فدل بذلك على ان الثواب انما يكون بهذه الطريقة ورغب في التمسك بها وزجر عن خلافها وقد قيل ان في جوابه أن المراد أنهم يؤمنون بظهر الغيب باطنا كما يؤمنون ظاهرا وهذا أيضا حسن.

[ مسألة ] يقال ما معنى قوله( أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ) ومعلوم ان الهدى ان كان دلالة فكل المكلفين فيه سواء فهلا دل ذلك على انه

١٢

نفس الايمان. فجوابنا أنّ المراد انهم على بصيرة مما تعبدهم به وتقبل الهدى يسمى هدى كما ان الجزاء على الامتثال للدلالة يسمى هدى وهذا كقوله تعالى في أهل النار انهم قالوا( لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا ) وارادوا بذلك النعيم والثواب.

[ مسألة ] يقال ما معنى قوله( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ومعلوم ان في الكفار من قرأه وآمن. فجوابنا أنه أراد قوما من الكفار مخصوصين في أيامه صلّى الله عليه وسلم علم الله تعالى ان الصالح ان يخبر الرسول بأمرهم لكيلا يتشدد في استدعائهم ولا يغتم ببقائهم على الكفر وذلك كقوله تعالى( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ) وهذا من العموم الذي يراد به الخصوص. وربما سألوا فقالوا إذا كان قد أخبرنا بأنهم لا يؤمنون فكيف كلفهم وكيف يقدرون على الايمان الذي لو فعلوه لكان تكذيبا لخبر الله تعالى. فجوابنا أنّ ذلك انما يدل على انهم لا يؤمنون اختيارا وان قدروا عليه فلذلك ذمهم وقد يقدر القادر على ما لا يختاره كما أنه تعالى يقدر على افناء الدنيا في هذا الوقت وان كان لا يختاره ولو كان ايمانهم إذا قدروا عليه قدرة على تكذيب الله لكان الله تعالى إذا قدر على اقامة القيامة الآن وقد أخبر بأنه لا يقيمها إلّا بعد علامات أوجب أن يكون قادرا على تكذيب الله وكان يجب إذا قدر على الضدين وإنّما يفعل أحدهما أن يكون قادرا على تجهيل نفسه وهذا كلام من لا يعرف التكذيب والتجهيل وذلك ان التجهيل ما يصير به المرء جاهلا دون غيره والتكذيب ما يصير به كاذبا أو يتبين ذلك من حاله دون غيره.

[ مسألة ] في ذلك أيضا يقال إذا كان قد علم أنهم يكفرون فلما ذا حسن أن يكلفهم مع علمه بأنهم لا يختارون إلّا ما يؤدّيهم إلى النار. وجوابنا أنّه إنّما علم أنّهم لا يختارون الايمان مع تمكنهم من اختياره وتسهيله سبيلهم إلى اختياره بكل وجه فانهم انما يؤتون من قبل أنفسهم وأنهم لو اختاروا الوصول إلى ثواب عظيم لصح ذلك منهم ويفارق حالهم حال من منع من الايمان وإنّما يقبح ذلك

١٣

على مذهب من يقول انه تعالى يخلق فيهم هذه الأفعال من المجبرة.

[ مسألة ] قالوا فقد قال تعالى( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) وهذا يدل على أنه قد منعهم من الايمان ومذهبكم بخلافه وكيف تأويل الآية. وجوابنا أنّ للعلماء في ذلك جوابين، أحدهما أنه تعالى شبه حالهم بحال الممنوع الذي على بصره غشاوة من حيث أزاح كل عللهم فلم يقبلوا كما قد تعين للواحد الحق فتوضحه فاذا لم يقبل صح أن تقول انه حمار قد طبع الله على قلبه وربما تقول انه ميت وقد قال تعالى للرسول( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) وكانوا أحياء فلما لم يقبلوا شبههم بالموتى وهو كقول الشاعر.

لقد اسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

ويبين ذلك انه تعالى ذمهم ولو كان هو المانع لهم لـما ذمهم وانه ذكر في جملة ذلك الغشاوة على سمعهم وبصرهم وذلك لو كان ثابتا لم يؤثر في كونهم عقلاء مكلفين. والجواب الثاني ان الختم علامة يفعلها تعالى في قلبهم لتعرف الملائكة كفرهم وانهم لا يؤمنون فتجتمع على ذمهم ويكون ذلك لطفا لهم ولطفا لمن يعرف ذلك من الكفار أو يظنه فيكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر وهذا جواب الحسن; ولذلك قال تعالى( وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

[ مسألة ] يقال كيف يجوز أن يقول( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) وذلك يدل على الماضي ثمّ ينفي بعد ذلك بقوله( وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) فجوابنا انه أراد تعالى المنافقين الذين يظهرون الايمان ويبطنون الكفر وقص تعالى خبرهم لعظم مضرتهم في ثلاث عشرة آية كما أنه ذكر صفة المؤمنين في أربع آيات وصفة الكفار في آيتين فقد كانت مضرتهم أعظم في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلم فكشف تعالى بذلك حالهم لئلا يغتر بهم ولكي يتحرز من مخالطتهم ودل ذلك على ان اظهار الايمان ليس بايمان وان المعتمد على ما في

١٤

القلب من المعرفة وعلى هذا الوجه قال صلّى الله عليه وسلم الايمان قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالجوارح.

[ مسألة ] يقال كيف قال تعالى( يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ومعلوم ان الخداع منهم وان جاز على المؤمنين الذين لا يعرفون باطنهم فلا جائز على الله تعالى فكيف جاز أن يقول ذلك. وجوابنا أنّ فعلهم لـما كان فعل المخادع قال تعالى ذلك وان لم يكن خداعا لله في الحقيقة ولذلك قال تعالى بعده( وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ) لأن الذي فعلوه عاد بأعظم الضرر عليهم من حيث ينالهم ذلك بغتة وهم لا يشعرون.

[ مسألة ] ان قيل ما معنى قوله تعالى( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) والمراد في قلوبهم كفر ونفاق فزادهم الله ذلك أو ما يدل على ان الكفر من خلق الله ومن قبله. فجوابنا أنه تعالى ذكر المرض ولم يذكر الكفر فحمله على ان المراد به الكفر غلط والمراد بذلك أن في قلوبهم غما أو حسدا على ما يخص الله تعالى به الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فقد كانوا يغتاظون ويعظم غمهم ثمّ قال تعالى( فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) أي غما بما يفعله بالرسول ويجدده له من المنزلة حالا بعد حال فقول من قال بحمله على الكفر غلط عظيم ولذلك قال( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) فان كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم فأيّ ذنب لهم حتّى يعذبهم وكيف يضيف اليهم فيقول( بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الارض وانهم السفهاء بعد ذلك وانهم( وَإِذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ) .

[ مسألة ] قالوا كيف وصف تعالى نفسه بالاستهزاء فقال( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) . فجوابنا أنّ الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى لأنه فعل مخصوص يفعله من لا يمكنه التوصل إلى مراده إلّا بهذا الجنس فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإنّما أراد بذلك أنه يعاقبهم

١٥

ويجازيهم على استهزائهم كما قال تعالى( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) وما يفعله الله تعالى لا يكون سيئة ولا اعتداء ويقول العرب الجزاء بالجزاء والاول ليس بالجزاء وقال صلّى الله عليه وسلم أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وإنّما أجرى اللفظ على جزاء الاستهزاء مجازا واتساعا. فان قيل ما معنى قوله تعالى( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) أفتجوزون على الله تعالى ان يمدهم في كفرهم وان يريد ذلك. وجوابنا أنّه تعالى أراد بمدهم في جزاء طغيانهم لا نفس طغيانهم ويحتمل أن يكون ذلك عاقبة أمرهم في ذلك لقلة قبولهم ويكون ذلك مآل أمرهم وعلى هذا الوجه ذمهم بقوله( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ) فالمراد بقوله( وَيَمُدُّهُمْ ) أنه يبقيهم وهذا حالهم ويبين تعالى ذلك بأن( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ) فان ظلمة المكان وقد كان فيه الضياء ثمّ فقد أعظم من الظلمة الدائمة.

[ مسألة ] ان قيل كيف يصح أن يقول تعالى( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) ولم يكونوا كذلك في الحقيقة. فجوابنا انه تعالى شبه حالهم من حيث لم ينتفعوا بما يسمعون ويبصرون ويقولون بحال من هذا وصفه وذلك بين في اللغة فيمن لم يقبل ولا ينتفع والبيان انه يوصف بذلك على ما قدمنا من انه ربما يوصف بأنه ميت وبأنه بهيمة وبأنه حمار وقد تقدم ذكر ذلك وعلى هذا الوجه يقال حبك للشيء يعمي ويصم والمراد يصيره إلى رتبة الأعمى والأصم في انه لا ينتفع ويتعدى وجه الصواب.

[ مسألة ] فان قيل كيف يقول تعالى( أو كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ) ولفظة أو يستعملها من شك في الامور دون العالم ويتعالى الله عن هذا الوصف : ( فجوابنا ) انه تعالى كما يجوز أن يمثلهم بشيء يجوز أن يمثلهم بشيء آخر في باب الضلالة وليس المراد إلّا الجمع بين الامرين وقد يقال لفظة أو فيما طريقة الجمع في ذلك كقوله تعالى( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ

١٦

تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أو بُيُوتِ آبائِكُمْ ) أراد الجمع وكذلك قوله( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أو آبائِهِنَّ ) أراد الجمع وقد يقال جالس الحسن أو ابن سيرين والمراد الجمع واذا جاز في الواو أن يراد به معنى أو كقوله تعالى( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) فكذلك يجوز أن يذكر أو ويراد به الجمع.

[ فصل ] ثمّ انه تعالى بعد وصف المنافقين بعث المكلفين على عبادته فقال( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ولا يصح أن يقول ذلك إلّا مع الامر بمعرفة الله تعالى ليصح أن يعبد ومع اقامة الدلالة التي يصل بالنظر فيها إلى معرفة الله تعالى وذلك ما نبه عليه بقوله( الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) ونبّه بذلك على أنّ العبادة انما تليق به لانه خالقنا والمنعم علينا ونبه بذلك على بطلان التقليدي لأنه لا يصح أن يكون طريقا لمعرفته ونبه بذلك على انه ليس بجسم وأنه انما يعرف بفعله وخلقه.

[ مسألة ] ان قيل فما معنى قوله تعالى( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ولعل انما يستعمله المتكلم بمعنى الشك : فجوابنا أنّ المروى عن ابن عباس والحسن ان لعل وعسى من الله واجب فالمراد لكي تتقوا ولكي تشكروا وتفلحوا وذلك أحد ما يدلنا على انه تعالى لا يريد من المكلف إلّا الطاعة التي هي التقوى والشكر وما شاكل ذلك وعلى هذا الوجه قال الله تعالى لموسى وهارون صلّى الله عليهما وسلم( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشى ) لانه أراد بذلك تذكره وخشيته وهو الذي يفهم في اللغة واذا ذكر في غير ذلك فهو مجاز. وقد أجاب بعض العلماء بان المخاطب إذا كان لا يعلم هل يختار ذلك أو لا يختاره صح من المخاطب ان يخاطبه بذلك ليترجاه فمن حيث كان المخاطب مترجيا غير قاطع جاز ان يخاطب بذلك فامر تعالى بعبادته ثمّ قال في آخره( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) وهذا هو معنى الاخلاص أي اعبدوه ووحدوه ثمّ نبه

تنزيه القرآن (٢)

١٧

على وجوب الاعتراف بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلم فقال( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) فقد أوتيتم الفصاحة التامة فان كان غير صادق ولكم الحمية والآنفة وقد الزمكم طاعة الله والانقياد فما الذي يقعدكم عن ان تأتوا بمثله وهلا دل قعودكم عن ذلك على ان القرآن معجز يدل على صدقه في النبوة وبين انهم كما لم يأتون بمثله فكذلك حالهم أبدا بقوله( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) .

[ مسألة ] يقال لم قال تعالى( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) وكيف تكون الحجارة وقودا وكيف يصح في الناس ان يكونوا وقودا لها وهم لا يحترقون. فجوابنا انه تعالى نبه على عظمها وانها لذلك تحترق بالحجارة وليس إذا كان الناس وقودها وجب ان يفنوا لانه تعالى يمنع وصول النار إلى المقاتل وإنّما تحترق ظواهرهم كما قال عز وجل( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ) أعاذنا الله منها بالتقوى.

[ مسألة ] قالوا فقد قال تعالى في هذه النار( أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) فهلا دل على ان غير الكفار لا يدخلونها. فجوابنا أنّ للنيران دركات فهذا صفة واحدة منها وبعد فليس إذا ذكر الله تعالى انها معدة للكافرين دل على نفي غيرهم وعقب ذلك بقوله( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ ) وبين ان لهم فيها أزواجا مطهرة من الامور التي ربما تنفر في دار الدنيا من ضروب ما يتأذى به.

[ مسألة ] ان قيل فما معنى قوله تعالى( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ) . فجوابنا أنه تعالى لـما ضرب مثل آلهتهم بالذباب( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً

١٨

وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) وضرب أيضا مثلهم بالعنكبوت وضعف نساجته قال الكفار طعنا في ذلك كيف يضرب تعالى مثل آلهتنا بهذه المحقرات فأنزل الله تعالى هذه الآية وأراد أنه انما يضرب المثل بما هو أليق بالقصة وأصلح في التشبيه فاذا ضرب مثلهم في باب الضعف كان ذكر الحقير في المنظر من الحيوان أحسن موقعا ومعنى قوله( بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ) أي في الصغر والضعف وعجائب الحكمة في البعوضة وصغار الحيوان أزيد من عجائبهما في كبار الحيوان لمن تأمل.

[ مسألة ] قالوا فقد قال تعالى( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) وذلك يدل على أنه تعالى يضل ويهدي لا كما تقولون بأنه تعالى لا يجوز عليه ذلك « قلنا » انا انما ننكر أن يضل تعالى عن الدين بخلق الكفر والمعاصي وارادتها كما ننكر أن يأمر بها ويرغب فيها ولا ننكر أن يضل من استحق الضلال بكفره وفسقه وقد نص الله تعالى على ما نقوله في تفسير هذه الآية ودل عليه لانه قال( وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ ) فنبه بذلك على أن قوله « يضلّ به كثيرا » أريد به يضل بالكفر به كثيرا والا كان لا يكون لقوله( وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ ) معنى لان غير الفاسقين يضلهم على قول القوم ثمّ انه تعالى وصف من يضله فقال( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) فبين تعالى أنه يضلهم بهذه الخصال لا أنه يبدؤهم بالضلالة وعلى هذا الوجه قال( فَرِيقاً هَدى ) أي إلى الثواب( وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) بين كيف حق ذلك فقال( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ ) وعلى هذا الوجه قال( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) فخصهم بذلك وقال( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) أي إلى الثواب وقال( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ

١٩

رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ ) وقال( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) وقال( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً ) أي بالالطاف والتأييد وقال تعالى( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) أي بالادلة وقال( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي بالأدلة وقال( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ) وقال تعالى( وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) أي بقبوله لذلك وقال( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا ) وذم تعالى الشيطان وفرعون والسامريّ بما كان منهم من الضلال فالاضلال من الله تعالى مخالف لإضلالهم لا كما يقوله المجبرة والقدرية الذين يضيفون تقدير الفواحش إلى ربهم فنقول إنه تعالى هدى الخلق بالأدلة والبيان ويهدي من آمن بالثواب خاصة ويهديهم أيضا بالالطاف ونقول انه يضل من استحق العقاب بالمعاقبة وبأن يعدلهم عن طريق الجنة وبأن لا يفعل بهم من الألطاف ما ينفعهم ولا نقول انه يضل عن الدين بأن يخلق الضلال فيهم ولا انه يريده ولا انه يدعوهم اليه لان ذلك هو الذي يليق بالشياطين والفراعنة وإنّما قال تعالى( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ) وأراد يعاقب بالكفر به( وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) أي يثيب بالايمان به كثيرا ويجوز إضافة هذا الضلال إلى نفسه وقد قيل أيضا انهم لـما ضلوا عنده جاز أن يضاف إلى نفسه كما قال تعالى( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ) ثمّ قال من بعد( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ) فأضاف ايمانهم وكفرهم إلى السورة لـما آمن بعضهم عند نزولها وكفر بعضهم فكذلك أضاف هذا الضلال إلى نفسه لـما كفروا بالمثل عند نزوله ثمّ بين تعالى بقوله( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ) على أن الكفر من قبلهم وانهم قد كفروا نعمة ربهم وعدد نعمه عليهم معظما لذنبهم وكفرهم لأن عظم النعمة تعظم معصية المنعم ونعم الله علينا لا يدانيها نعم فلذلك يكون اليسير من المعاصي عظيما كما يكون اليسير من عقوق الوالد البار

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

قال الطبري في تاريخه : زعموا أن الحسن البصري لما بلغه قتل حجر وأصحابه ، قال: صلّوا عليهم وكفنّوهم واستقبلوا بهم القبلة؟. قالوا : نعم. قال : حجّوهم وربّ الكعبة.

وذكر كثير من أهل الأخبار أن معاوية لما حضرته الوفاة ، جعل يغرغر بالموت ، ويقول : إن يومي منك يا حجر بن عدي لطويل.

(أقول) : ولكن هيهات ينفع الندم.

ترجمة حجر بن عدي

(الدرجات الرفيعة للسيد علي خان ، ص ٤٢٣)

هو حجر بن عديّ بن معاوية بن جبلة بن الأدبر الكندي. يكنى أبا عبد الرحمن ، ويسمى حجر الخير.

قال ابن عبد البرّ في (الإستيعاب) : كان حجر من فضلاء الصحابة ، شجاعا من المقدمين.

وقال غيره : كان من الأبدال ، وكان صاحب راية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو بعد من الرؤساء والزهاد. وشهد القادسية ، وهو الّذي فتح مرج عذراء. ومحبته وإخلاصه لأمير المؤمنينعليه‌السلام أشهر من أن تذكر. وكان على كندة يوم صفين ، وعلى الميسرة يوم النهروان.

وفي (أعلام الزركلي) : وسكن الكوفة إلى أن قدم زياد ابن أبيه واليا عليها ، فدعا به زياد فجاءه ، فحذّره من الخروج على بني أمية. فما لبث أن عرفت عنه الدعوة إلى مناوأتهم والاشتغال في السرّ بالقيام عليهم. فجيء به إلى دمشق ، فأمر معاوية بقتله بعد أن أعطاه الأمان ، فقتل في مرج عذراء (من قرى دمشق) مع أصحاب له.

٣٩٣ ـ إثارة مروان بن الحكم الفتنة بين معاوية والحسينعليه‌السلام :

(مناقب ابن شهراشوب ، ج ٤ ص ٥١ ط إيران)

روى الكلبي أن مروان بن الحكم قال يوما للحسينعليه‌السلام : لو لا فخركم بفاطمة

٣٦١

بم كنتم تفخرون علينا؟. فوثب الحسين (وكان شديد القبضة) فقبض على حلقه فعصره ، ولوى عمامته على عنقه حتّى غشي عليه ، ثم تركه.

وأقبل الحسينعليه‌السلام على جماعة من قريش ، فقال : أنشدتكم الله إلا صدّقتموني إن صدقت. أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا أحبّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني ومن أخي؟. أو على ظهر الأرض ابن بنت نبي غيري وغير أخي؟. قالوا : الله م لا.قال : وإني لا أعلم أن في الأرض ملعون ابن ملعون غير هذا وأبيه ، طريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والله ما بين جابرسا وجابلقا [مدينتان إحداهما بباب المشرق والأخرى بباب المغرب] رجلان ممن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك إذ كان ، وعلامة قولي فيك أنك إذا غضبت سقط رداؤك عن منكبك!.

قال : فو الله ما قام مروان من مجلسه حتّى غضب ، فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه.

٣٩٤ ـ دعايات مفتعلة :

شعر معاوية أن الأمة بكافة فصائلها تقدّم الإمام الحسينعليه‌السلام ، باعتباره الحاكم الّذي يلي الخلافة بعد هلاك معاوية وبدون منافس. وذلك لشياع ذكره في الأمصار وعلى كل لسان. فهم كانوا لا يشكّون بأن الخلافة سوف تؤول إليه بعد هلاك معاوية. لذلك بدأ معاوية يختلق القصص المنقولة عن بعض الوشّائين والنمّامين ، بأن الحسينعليه‌السلام يفكر في الخروج عليه. لذلك كتب معاوية للحسينعليه‌السلام كتابا يذكّره فيه بعهده وصلحه.

٣٩٥ ـ كتاب معاوية للحسينعليه‌السلام يتهمه فيه بالفتنة وشقّ عصا الطاعة ، ويتوعده بالبطش به :

(ذكرى الحسين للشيخ حبيب آل إبراهيم ، ج ٨ ص ١٣١)

قال السيد علي جلال الحسيني في كتابه (الحسين) ج ١ ص ١٦٤ :

روى ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) ج ١ ص ٢٨٤ وما بعدها ، وأبو عمرو محمّد بن عمر الكشي في (معرفة أخبار الرجال) ، وأبو جعفر الطوسي في (اختيار الرجال) طبع بومبي ص ٣٢ وما بعدها ؛ أن معاوية كتب إلى الحسينعليه‌السلام :

أما بعد ، فقد انتهت إليّ أمور عنك ، إن كانت حقا فقد أظنك تركتها رغبة فدعها ، ولعمر الله إنّ من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإن أحقّ الناس بالوفاء لمن

٣٦٢

أعطى بيعته ، من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها. وإن كان الّذي بلغني باطلا ، فإنك أنت أعدل الناس لذلك ، وحظّ نفسك فاذكر ، وبعهد الله أوف!. فإنك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك. فاتّق شقّ عصا هذه الأمة ، وأن يردّهم الله على يديك في فتنة ، فقد عرفت الناس وبلوتهم ، فانظر لنفسك ولدينك ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يستخفّنك السفهاء والذين لا يعلمون.

٣٩٦ ـ ردّ الحسينعليه‌السلام على كتاب معاوية ، وبيان بعض أعماله ونقضه للعهد:

(المصدر السابق ، ص ١٣٢)

فلما وصل الكتاب إلى الحسين رضي الله عنه ، كتب إليه :

أما بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وإن الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلا الله تعالى. وأما ما ذكرت أنه رقى إليك عني ، فإنه إنما رقاه إليك الملّاقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون. واعلم بأني ما أردت لك حربا ولا عليك خلافا ، وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك ، وإلى أوليائك القاسطين (الجائرين) الملحدين ، حزب الظلمة وأولياء الشيطان.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة ، وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ ثم قتلتهم ظلما وعدوانا ، من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظّة والمواثيق المؤكدة ، جرأة على الله واستخفافا بعهده.

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، العبد الصالح الّذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفر لونه؟. فقتلته بعد ما أمنّته وأعطيته من العهود ما لو فهمته (الوعول) لنزلت من رؤوس الجبال.

أولست بمدّع (زياد بن سمية) المولود على فراش (عبيد) عبد ثقيف؟. فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر». فتركت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعمدا ، واتبعت هواك بغير هدى من الله. ثم سلطّته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسمل عيونهم ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك.

٣٦٣

أولست قاتل الحضرمي الّذي كتب إليك فيه زياد بن سمية أنه على دين علي كرم الله وجهه ، فكتبت إليه أن اقتل كلّ من كان على دين عليعليه‌السلام ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك؟!.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتق شقّ عصا هذه الأمة ، وأن تردّهم إلى فتنة. وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها ، ولا أعظم نظرا لنفسي ولديني ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من أن أجاهدك ، فإن فعلت فإنه قربة إلى الله ، وإن تركته فإني أستغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت : إني إن أنكرك تنكرني ، وإن أكدك تكدني ، فكدني ما بدا لك ، فإني أرجو أن لا يضرني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ، لأنك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك ، ولعمري ما وفيت بشرط. ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقنا ، فقتلتهم مخافة أمر ، لعلك لولم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب. واعلم أن لله تعالى كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة وقتلك أولياءه على التّهمة ، ونفيك لهم أولياءه من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس ببيعة ابنك غلام حدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب. وما أراك إلا قد خسرت نفسك ، وتبّرت دينك ، وغششت رعيتك ، وأخربت أمانتك ، وسمعت مقالة السفيه الجاهل ، وأخفت الورع التقي ، والسلام.

فقال معاوية : إن أثرنا بأبي عبد الله إلا أسدا.

استخلاف معاوية ليزيد

٣٩٧ ـ عزم معاوية على البيعة ليزيد بعد وفاة الحسنعليه‌السلام :

(الاستيعاب لابن عبد البر ، ج ١ ص ٣٧٦)

وكان معاوية قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الحسنعليه‌السلام وعرّض بها ، بعد أن

٣٦٤

نكث بشروط صلحه مع الحسنعليه‌السلام ، ولكنه لم يكشفها ولا عزم عليها إلا بعد وفاة الحسنعليه‌السلام .

٣٩٨ ـ اعتماد معاوية على داهيتين :

(خطط الشام لمحمد كرد علي ، ج ١ ص ١٣٦)

ولما مات الحسنعليه‌السلام بعد أربعة أشهر من استيلائه على العراق ، صفا الجو لمعاوية وبايع له الناس. فملك العراق والحجاز ومصر ، وأجمعت القلوب على مبايعته طوعا أو كرها. وكان ممن مالأ معاوية على تحقيق رغائبه عمرو بن العاص ، قريبه وعامله على مصر ، والمغيرة بن شعبة عامله على الكوفة. وهما الداهيتان اللتان يقول فيهما الحسن البصري : إنهما أفسدا هذه الأمة ، لاحتيال الأول برفع المصاحف يوم صفين وتقرير التحكيم ، ولأن الثاني كان من الداعين لأخذ البيعة ليزيد.

٣٩٩ ـ المغيرة بن شعبة يشير على معاوية باستخلاف يزيد :

(تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص ٢٠٥)

قال الحسن البصري : أفسد أمر الناس اثنان : عمرو بن العاص ، يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحملت ، ونال من القراء ، فحكمّ الخوارج ، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة.

والمغيرة بن شعبة ، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة ، فكتب إليه معاوية : إذا قرأت كتابي فأقبل معزولا ، فأبطأ عنه. فلما ورد عليه قال : ما أبطأ بك؟. قال :أمر كنت أوطّئه وأهيّئه!. قال : وما هو؟. قال : البيعة ليزيد من بعدك. قال : أوقد فعلت؟. قال : نعم. قال : ارجع إلى عملك!.

فلما خرج قال له أصحابه : ما وراءك؟. قال : وضعت رجل معاوية في غرز غيّ ، لا يزال فيه إلى يوم القيامة.

قال الحسن البصري : فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم ، ولو لا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة.

٤٠٠ ـ البيعة ليزيد :(العقد الفريد لابن عبد ربه ، ج ٤ ص ٣٠٢)

روى أبو الحسن المدائني قال : لما مات زياد بن أبيه سنة ٥٣ ه‍ ، أظهر معاوية عهدا مفتعلا ، فقرأه على الناس ، فيه عقد الولاية ليزيد بعده فلم يزل يروّض الناس لبيعته سبع سنين

٣٦٥

فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه.فوفد عليه من كل مصر قوم. وكان فيمن وفد عليه من البصرة الأحنف بن قيس. ثم جلس معاوية في أصحابه ، وأذن للوفود فدخلوا عليه. وقد تقدّم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد. فأول من تكلم الضحاك بن قيس الخ.

٤٠١ ـ كلام الأحنف بن قيس في يزيد وبيعته :

(المصدر السابق)

ثم تكلم الأحنف بن قيس ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أنت أعلم بيزيد ، في ليله ونهاره ، وسرّه وعلانيته ، ومدخله ومخرجه. فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة فلا تشاور الناس فيه ، وإن كنت تعلم منه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة.

٤٠٢ ـ خطبة مروان في مسجد المدينة يدعو إلى يزيد :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٧١)

أخبرنا سيد الحفّاظ أبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي حدثنا من أدرك مروان بن الحكم ، أنه خطب الناس على المنبر ليدعو إلى يزيد بن معاوية [وكان والي معاوية على المدينة]. فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق ، فجلس على قوائم المنبر ، فقال : لا ، ولا نعمة عين لك ، أدين الهرقليّة [نسبة إلى هرقل ملك الروم] ، كلما ذهب واحد جاء آخر؟. هلك أبو بكر فترك ولدا هم أطيب وأكثر من ولد معاوية ، ثم نحّاها عنهم وجعلها في رجل من بني عديّ بن كعب. ثم هلك عمر ابن الخطاب فترك ولدا هم أطيب وأكثر من ولد معاوية ، فنحّاها عنهم وجعلها شورى بين الناس.

(قال) : وقالت عائشة : يا مروان ، أما والله إنكم للشجرة الملعونة التي ذكر الله في القرآن.

رواية أخرى للخطبة : (الفتوح لابن أعثم ، ج ٥ ص ١٧١)

وذكر هذه القصة أحمد بن أعثم الكوفي في تاريخه أطول من هذه.

قال : كتب معاوية إلى مروان بن الحكم يأمره أن يدعو الناس إلى بيعة يزيد ، ويخبره في كتابه أن أهل مصر والشام والعراق قد بايعوا.

٣٦٦

فأرسل مروان إلى وجوه أهل المدينة ، فجمعهم في المسجد الأعظم. ثم صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر الطاعة وحضّ عليها ، وذكر الفتنة وحذّر منها.

ثم قال في بعض كلامه : أيها الناس إن أمير المؤمنين قد كبر سنّه ، ودقّ عظمه ، ورقّ جلده ، وخشي الفتنة من بعده. وقد أراه الله رأيا حسنا ، وقد أراد أن يختار لكم وليّ عهد ، يكون لكم من بعده مفزعا ، يجمع الله به الألفة ويحقن به الدماء ، وأراد أن يكون ذلك عن مشورة منكم وتراض ، فماذا تقولون؟.

(قال) فقال الناس من كل جانب : إنا مانكره ذلك إذا كان رضا. فقال مروان :فإنه قد اختار لكم الرضا الّذي يسير بسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وهو ابنه (يزيد). قال : فسكت الناس.

وتكلم عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال : كذبت والله ، وكذب من أمّرك بهذا.والله ما (يزيد) بمختار ولا رضا ، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية في يزيد الخمور ، يزيد القرود ، يزيد الفهود.

فقال مروان : إن هذا المتكلم هو الّذي أنزل الله فيه :( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ) [الأحقاف : ١٧].

(قال) فغضب عبد الرحمن ، وقال : يابن الزرقاء! أفينا تتأوّل القرآن ، وأنت الطريد ابن الطريد!. ثم بادر إليه فأخذ برجليه ، وقال : انزل يا عدوّ الله عن منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس مثلك من يتكلم [بهذا] على أعواده.

قال : فضجّت بنو أمية في المسجد. وبلغ ذلك عائشة فخرجت من منزلها متلفّعة بملاءة لها ، ومعها نسوة من قريش ، حتّى دخلت المسجد. فلما نظر إليها مروان كأنه فزع من ذلك ، فقال : سألتك بالله يا أم المؤمنين إن قلت إلا حقا. فقالت عائشة : لا أقول إلا حقا. أشهد لقد لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أباك ولعنك ، فأنت فضض من لعنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنت الطريد ابن الطريد. أتكلّم أخي عبد الرحمن بما تكلمه!.فسكت مروان ولم يردّ عليها شيئا ، [ورجعت عائشة إلى منزلها] وتفرّق الناس.

٤٠٣ ـ عزل مروان بن الحكم عن المدينة :

ذكر الدينوري في (الإمامة والسياسة) ص ١٧٥ : أن معاوية بعد وفاة الإمام الحسنعليه‌السلام وتولية يزيد ، بعث إلى مروان وكان عامله على المدينة ، يطلب منه أخذ البيعة ليزيد من أهل المدينة ، فحاول مروان ذلك فلم يستطع. فبعث إلى معاوية

٣٦٧

بعدم تجاوب أهل المدينة معه. فعزله ، وعيّن مكانه سعيد بن العاص ، وهو جلف قاس ، فأظهر الغلظة ، وأخذهم بالعزم والشدة. ثم قدم معاوية بنفسه إلى المدينة.

ترجمة مروان بن الحكم

[وأبيه الحكم بن أبي العاص]

هو أبو الحكم ، مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية.

قال الذهبي في (العبر في خبر من غبر) ج ١ ص ٧١ :

وكان مروان كاتب السرّ لابن عمه عثمان ، وبسببه جرى على عثمان ما جرى. وكان قصيرا ، كبير الرأس واللحية ، دقيق الرقبة ، أوقص ، أحمر الوجه. يلقّب : خيط باطل ، لدقّة عنقه. عاش ثلاثا وستين سنة.

وقال البلاذري في (أنساب الأشراف) ج ٥ ص ١٢٥ طبعة أنيقة : وكان والده الحكم مغموصا عليه في إسلامه ، وكان إظهاره الإسلام في يوم فتح مكة ، فكان يمرّ خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخلج بأنفه ويغمز بعينيه ، فبقي على ذلك التخليج وأصابته خبلة.

وكان الحكم يفشي أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلعنه وسيّره إلى الطائف مع بنيه ، وقال : لا يساكنّي. فلم يزالوا طرداء حتّى ردّهم عثمان ، فكان ذلك مما نقم فيه عليه.

عن أبي هريرة (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رأيت في النوم بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة «فأصبح كالمتغيّظ. فما رؤي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتّى مات (راجع مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ١٧٣).

وقال البلاذري في (أنساب الأشراف) : حدثنا روح بن عبد المؤمن المقري عن عمرو بن مرة الجهني ، قال : استأذن الحكم بن أبي العاص على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «ائذنوا له لعنة الله عليه ، وعلى من يخرج من صلبه ، إلا المؤمنين وقليل ما هم ، يشرفون في الدنيا ، ويتّضعون في الآخرة».

٣٦٨

وكانت أم مروان صفية ، ويقال الصعبة بنت أبي طلحة ، وأمها مارية بنت موهب كندية ، وهي الزرقاء التي يعيّرون بها ، فيقال : بنو الزرقاء. وكان موهب قينا (أي عبدا).

وفي (أخبار الدول) للقرماني ، ص ١٣٢ :

روى الحاكم في كتاب (الفتن والملاحم) من المستدرك عن عبد الرحمن بن عوف ، أنه قال : كان لا يولد لأحد ولد إلا أتي به إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيدعو له. فأدخل عليه مروان بن الحكم ، فقال : «هذا الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون».

ثم روى الحاكم عن عمرو بن مرة الجهني ، قال : إن الحكم بن أبي العاص استأذن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرف صوته ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ائذنوا له لعنة الله عليه ذو مكر وخديعة. يعطون في الدنيا ، وما لهم في الآخرة من خلاق».

٤٠٤ ـ جملة من أعمال مروان المشينة :

(شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي ، ص ٦٩)

ذكر الذهبي وابن عبد البر وغيرهما شيئا من مخازي مروان ، منها : أنه أول من شقّ عصا المسلمين بلا شبهة. وقتل النعمان بن بشير ، أول مولود من الأنصار في الإسلام. وخرج على ابن الزبير بعد أن بايعه على الطاعة. وقتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل (غيلة من خلفه).

٤٠٥ ـ الغدر صفة متأصلة في مروان :

(نهج البلاغة ، خطبة رقم ٧١)

ومما يثبت أن صفة الغدر متأصلة في مروان ، أنه لما أخذ أسيرا يوم الجمل ، استشفع الحسن والحسينعليهما‌السلام إلى الإمامعليه‌السلام في أن يطلق سراحه ، فخلّى سبيله. فقالا لأبيهما : أتحبّ أن يبايعك يا أمير المؤمنين؟. فقالعليه‌السلام : أولم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته ، إنها كفّ يهودية ، لو بايعني بكفّه

٣٦٩

لغدر بسبته (أي إسته). أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه. وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوما أحمر [يقصد بالأكبش الأربعة أولاد عبد الملك بن مروان وهم : الوليد وسليمان ويزيد وهشام].

٤٠٦ ـ هلاك مروان بن الحكم :

روى الواقدي كما في (تاريخ الطبري) ج ٢ ص ٥٧٦ قال :

تزوج مروان أرملة يزيد وهي (فاختة). وكان زواجه منها أشبه بأخذ الميراث ، منه بأن يكون زواجا ومصاهرة. وقد آلم ذلك نفس خالد بن يزيد ، الّذي أصبح في حجره. وكان مروان لا يألو جهدا في إسقاط خالد من أعين الناس ، وأخيرا حرمه مما كان قد وعده به في (الجابية) من أن تكون له الخلافة بعده.

فما كان من فاختة إلا أن انتقمت لابنها خالد من غدر مروان ، فغطّته بالوسادة وهو في سريره ، حتّى قتلته.

وقال الذهبي في (دول الإسلام) :

فلم يلبث أن وثبت عليه زوجته لكونه شتمها ، فوضعت على وجهه مخدّة كبيرة وهو نائم ، وقعدت هي وجواريها فوقها ، حتّى مات.

وقال البلاذري في (أنساب الأشراف) ص ١٥٩ طبع ليدن :

غدر مروان بخالد بن يزيد بن معاوية فيما وعده من ولاية العهد ، وأمه فاختة.ودخل عليه خالد على مرحلة من دمشق ، فقال له مروان : ما أدخلك عليّ في هذا الوقت يابن الرطبة؟!. فقال خالد : أمين مختبر ، أبعدها الله وأسحقها. وأتى أمه فأخبرها بما قال مروان. فقالت له : لن تسمع منه مثلها أبدا. ودخل مروان على أم خالد فتركته حتّى نام ، ثم عمدت إلى مرفقة محشوة ريشا فجعلتها على وجهه ، وجلست وجواريها عليها حتّى مات غمّا. ثم صرخت وجواريها وولولن وقلن :مات أمير المؤمنين بالفجأة.

وقال المسعودي في (مروج الذهب) ج ٣ ص ٩٨ :

فمنهم من رأى أنها وضعت على نفسه وسادة وقعدت فوقها مع جواريها حتّى مات. ومنهم من رأى أنها أعدت له لبنا مسموما ، فلما دخل عليها ناولته إياه فشرب. فلما استقر في جوفه وقع يجود بنفسه وأمسك لسانه. فحضره عبد الملك وغيره من ولده ، فجعل مروان يشير إلى أم خالد ، يخبرهم أنها قتلته ، وأم خالد

٣٧٠

تقول : بأبي وأمي أنت ، حتّى عند النزع لم تشتغل عني ؛ إنه يوصيكم بي حتّى هلك.

٤٠٧ ـ معاوية ينقض عهوده ويحاول تولية يزيد :

(مختصر تاريخ العرب لسيد أمير علي ، ص ٧٢)

ولكي يضمن معاوية الخلافة لابنه يزيد ، لم يتردد قط في نكث العهود مع الحسين ابن عليعليهما‌السلام .

وقد كان الصلح المعقود بين الحسنعليه‌السلام ومعاوية ينص على الاعتراف بحق الحسينعليه‌السلام في الخلافة ، ولكن معاوية نقض العهد ، وأخذ لابنه البيعة. فحنق الحسينعليه‌السلام ، وزاد في حنقه فساد يزيد ، فلم يعترف قط بطاغية الشام.

وفي (عمدة الطالب في أنساب أبي طالب) ص ١٨٠ ط نجف :

وكان معاوية قد نقض شرط الحسن بن عليعليه‌السلام بعد موته ، وبايع لابنه يزيد.وامتنع الحسينعليه‌السلام من بيعته. وأعمل معاوية الحيلة حتّى أوهم الناس أنه بايعه ، وبقي على ذلك حتّى مات معاوية.

٤٠٨ ـ قدوم معاوية إلى المدينة لأخذ البيعة ليزيد :

(ذكرى الحسين للشيخ حبيب آل إبراهيم ، ج ٨ ص ١٢٧)

روى ابن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة) في قدوم معاوية إلى المدينة لأخذ البيعة لابنه يزيد ، أنه لما نزل المدينة دعا الحسينعليه‌السلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنه إلى مجلس يضم خاصته. فلما استقرّ بهم المجلس ابتدأ معاوية فقال :

أما بعد ، فالحمد لله وليّ النعم ومنزل النقم ، وأشهد ألا إله إلا الله ، المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا ، وأن محمدا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة ، لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد. فأدّى عن الله وصدع بأمره ، وصبر على الأذى في جنبه ، حتّى وضح دين الله ، وأعزّ أولياءه ، وقمع المشركين ، وظهر أمر الله وهم كارهون. فمضى صلوات الله عليه ، وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له ، زهادة واختيارا لله ، وأنفة واقتدارا على الصبر ، بغيا لما يدوم ويبقى. فهذه صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك ، وبين ذلك خوض طالما عالجناه ، مشاهدة ومكافحة ، ومعاينة وسماعا ، وما أعلم

٣٧١

منه فوق ما تعلمان. وقد كان أمر (يزيد) ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية ، من سدّ الخلل ولمّ الصدع بولاية يزيد ، بما أيقظ العين وأحمد الفعل. هذا معناي في (يزيد) ، وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المروءة ، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ، ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، ومع علمه بالسنة وقراءة القرآن ، والحلم الّذي يرجح بالصم الصلاب. وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة ، قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم [يريد بذلك عمرو بن العاص] ، وفي رسول الله أسوة حسنة. فمهلا بني عبد المطلب ، فأنا وأنتم شعبا نفع وجد ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ، ما يحمد به البصيرة في عتابكما. وأستغفر الله لي ولكما.

٤٠٩ ـ ردّ الإمام الحسينعليه‌السلام على كلام معاوية :

(المصدر السابق ، ص ١٢٨)

قال : فتيسّر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة ، فأشار إليه الحسينعليه‌السلام وقال : على رسلك ، فأنا المراد ، ونصيبي في التهمة أوفر. فأمسك ابن عباس.

فقام الحسينعليه‌السلام فحمد الله وصلّى على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال :

أما بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبّست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة ، والنكب عن استبلاغ البيعة. وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السّرج ، ولقد فضّلت حتّى أفرطت ، واستأثرت حتّى أجحفت ، ومنعت حتّى بخلت ، وجرت حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتّى أخذ الشيطان حظه الأوفر ونصيبه الأكمل. وفهمت ما ذكرته عن (يزيد) من اكتماله وسياسته لأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به ، من استفزازه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السّبّق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي ، تجده ناصرا. ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر

٣٧٢

هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحتفا في ظلم ، حتّى ملأت الأسقية. وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرّضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثنا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسولعليه‌السلام ولادة ، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول ، فأذعن للحجة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم كان ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية ، من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتأميره له وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص فضيلة بصحبة الرسول وببيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتّى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه فعاله ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم». فكيف تحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها ، بالمجتمع عليه من الصواب؟. أم كيف ضاهيت بصاحب تابعا ، وحولك من يؤمن في صحبته ويعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون؟. تريد أن تلبس الناس شبهة ، يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟.( أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) وأستغفر الله لي ولكم.

٤١٠ ـ جرأة أبي قتادة الأنصاري على معاوية :

(أخبار الدول وآثار الأول للقرماني ، ص ١٢٩)

قال ابن أبي الدنيا : حجّ معاوية سنة إحدى وخمسين ، فلما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري. فقال له معاوية : تلقّاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار!.قال : لم يكن لنا دواب. قال : فأين النواضح؟. قال : عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. فسكت.

يقول القرماني : ولم نذكر في هذا الكتاب ما شجر بين معاوية وبين عليعليه‌السلام لما يتطرق للنفوس الضعيفة وأهل الأهواء من البغض لمعاوية رضي الله عنه.ونسكت عن حرب الصحابة ، فالذي جرى بينهم كان اجتهادا مجردا.

٣٧٣

تعليق على القرماني :

رغم احترامي للشيخ القرماني الدمشقي ، وثقتي بدينه وتقواه وتعظيمه لأهل البيتعليهم‌السلام ، إلا أن كلامه المتقدم لا يمكن السكوت عليه ، من عدة وجوه :

١ ـ يقول : إن ما شجر بين الصحابة الأولين هو من قبيل أن الواحد منهم قد اجتهد فأخطأ. وأقول : إن الخطأ في الاجتهاد مقبول بالنسبة لأهل العلم والذين قضوا حياتهم في الدين والفقه ، فهؤلاء بعد تحصيلهم كل هذه العلوم إذا اجتهدوا وصدف أن أخطؤوا فيمكن التجاوز عنهم. لكن هذا لا ينطبق على مثل مروان بن الحكم ومعاوية والحجاج وغيرهم. فمعاوية رجل ليس عنده أي رصيد من الدين ، وكل أعماله كانت صادرة من مصلحته الشخصية ، وهذا هو الّذي دعاه إلى تولية يزيد ، وهو يعلم أنه أفجر الناس أجمعين. فليس معاوية من الذين يجوز لهم الاجتهاد في أمور الدين أصلا ، حتّى نقول إنه اجتهد فأخطأ أو أصاب.

٢ ـ إن الاجتهاد الّذي يحتمل فيه الإصابة والخطأ ، هو الاجتهاد في الأمور المبهمة المشتبه فيها ، وليس في الأشياء الواضحة الثابتة مثل خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام . فكيف يجوز لأحد أن يجتهد فيها ، ويقول إنها صحيحة أو غير صحيحة بعد أن اجتمع المسلمون عليها. وهذا انطلاقا من كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«لا اجتهاد في موضع النص». فما عمله معاوية في عدم مبايعته للإمام عليعليه‌السلام وإراقته الدماء في سبيل ذلك ، هو ليس اجتهاد ، وإنما هو خروج كامل عن الدين والإسلام.

٣ ـ إن القرماني يقول : إن ما شجر بين الصحابة يلزم عدم ذكره بل ستره ، وإذا علمنا أن ما فعله معاوية وأمثاله من العمل على اقتتال المسلمين وإراقة دمائهم ، وبالتالي ضياع الإسلام تشتيت المسلمين ، هو يحصل في كل زمان ، ولا أحد يسكت عنه ، فكيف نسكت عن الأولين الذين هم كانوا أول من فتح باب الفتن والدماء على هذه الأمة ، وهم الذين سنّوا أساس الكفر والنفاق؟ إن هؤلاء أولى بالذكر والتعرية والإنكار ممن جاء بعدهم ، لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

٣٧٤

٤١١ ـ قصة عن مداهنة الناس لمعاوية لكسب الأموال :

(مرآة الجنان لليافعي ، ج ١ ص ١٤٦ ط ١)

روي أن معاوية لما نصّب ولده يزيد في ولاية العهد ، أقعده في قبة حمراء ، فجعل الناس يسلّمون على معاوية ، ثم يميلون إلى يزيد. حتّى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية ، فقال : يا أمير المؤمنين لو لم تولّ هذا أمور المسلمين لأضعتها.والأحنف بن قيس جالس. فقال له معاوية : ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟. فقال :أخاف الله إن كذبت ، وأخافكم إن صدقت. فقال معاوية [للرجل] : جزاك الله خيرا عن الطاعة ، وأمر له بألوف. فلما خرج لقيه ذلك الرجل ، فقال : يا أبا بحر إني لأعلم كذا وكذا وذمّ يزيد ، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت. فقال الأحنف : إن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها.

٤١٢ ـ أيهما يخدع الآخر؟ :

يروى أنه لما ألزم معاوية الناس على البيعة ليزيد بولاية العهد ، بدأ الناس يتوافدون عليه جماعات لتهنئته وتقريظه. فخلا يزيد بأبيه يوما فقال له : يا أبت ، إني متعجب ما أدري أنحن نخدع الناس ، أم أن الناس يخدعوننا؟. فقال معاوية ليزيد قوله المشهور : يا بني ، من خادعته فتخادع لك ليخدعك ، فقد خدعته.

وهذا يبيّن أن كل أعمال معاوية هي خداع في خداع. ومن أوضح الأمثلة على هذا الخداع قصة أرينب بنت اسحق!.

قصة أرينب بنت اسحق

[التي تدل على كرم أخلاق مولانا الحسين]

[في مقابل دناءة أخلاق معاوية ويزيد]

تمهيد للقصة :

بعد أن ضرب معاوية على فخذه وهو يصلي في مسجد دمشق ، ونجا من الموت بأعجوبة ، جاءته الوفود إلى الشام تهنّئه بالصحة والسلامة. وكان من جملة من جاءه مسلّما واليه على العراق عبد الله بن سلّام ومعه زوجته (أرينب بنت اسحق) ذات

٣٧٥

الجمال الأخّاذ. وكان يزيد يجلس في إحدى شرفات قصر الخضراء حين رآها تدخل مع زوجها ، فهاج في صدره حبّ قديم وكان يعرفها من قبل ، فافتتن بها.

ثم إنه دخل على أبيه معاوية وقال له : لا بدّ لي من زواج (أرينب) مهما كلف الأمر. وبما أن يزيد هو الابن المدلل لأبيه ، والذي لا تردّ له حاجة ، عمل معاوية على تنفيذ رغبة ابنه ، ولو كان في ذلك المهانة والعار ، والدناءة وغضب الجبار.

٤١٣ ـ قصة أرينب بنت اسحق :

(الإتحاف بحب الإشراف للشبراوي ، ص ٢٠١ ـ ٢٠٩)

يقول الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي :

فمن مكارم أخلاق الإمام الحسينعليه‌السلام ما حكاه ابن بدرون في (شرح قصيدة ابن عبدون) من قصة أرينب بنت اسحق زوجة عبد الله بن سلّام القرشي. وكان عبد الله هذا واليا لمعاوية على العراق ، وكانت أرينب هذه من أجمل نساء وقتها وأحسنهن أدبا وأكثرهن مالا. وكان يزيد بن معاوية قد سمع بجمالها وبما هي عليه من الأدب وحسن الخلق والخلق ، ففتن بها ، فلما عيل صبره استراح في ذلك مع أحد خصيان معاوية ، وكان ذلك الخصي خاصّا بمعاوية واسمه رفيف ، فذكر رفيف ذلك لمعاوية ، وذكر شغفه بأرينب ، وأنه ضاق ذرعه بأمرها.

فبعث معاوية إلى يزيد فاستخبره من أمره ، فبثّ له شأنه ، فقال معاوية : مهلا يا يزيد!. قال : علام تأمرني بالمهل ، وقد انقطع منها الأمل. قال له معاوية : فأين حجاك ومروءتك؟. فقال له يزيد : قد عيل الصبر والحجى ، ولو كان أحد ينتفع به في الهوى ، لكان أولى الناس بالصبر عليه داود حين ابتلي به.

قال له : اكتم أمرك يا بني ، فإن البوح به غير نافعك ، والله بالغ أمره فيك ، ولا بدّ مما هو كائن.

وكانت أرينب بنت اسحق مثلا في أهل زمانها ، لجمالها وتمام كمالها وشرفها وكثرة مالها. فأخذ معاوية في الحيلة حتّى يبلغ يزيد رضاه فيها.

فكتب معاوية إلى (عبد الله بن سلّام) وكان استعمله على العراق ، أن أقبل حين تنظر في كتابي لأمر فيه حظك إنشاء الله ، ولا تتأخر عنه ، وجدّ السير.

وكان عند معاوية يومئذ بالشام أبو هريرة وأبو الدرداء صاحبا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .فلما قدم عليه عبد الله بن سلام الشام ، أمر معاوية أن ينزل منزلا قد هيأه له ، وأعدّ

٣٧٦

فيه منزله ، ثم قال لأبي هريرة وأبي الدرداء : إن الله قد قسم بين عباده نعما ، أوجب عليهم شكرها ، وحتم عليهم حفظها ، فحباني منهاعزوجل بأتم الشرف وأكرم الذكر ، وأوسع عليّ رزقه ، وجعلني راعي خلقه وأمينه في بلاده ، والحاكم في أمر عباده ، ليبلوني أأشكر أم أكفر. وأول ما ينبغي للعبد أن يفتقده وينظر فيه ، من استرعاه الله أمره ومن لا غنى له عنه. وقد بلغت لي ابنة [أي أدركت سن البلوغ] أريد إنكاحها ، وأنظر في اختيار من يباعلها ، لعل من يكون بعدي يقتدي فيه بهديي ، ويتّبع فيه أثري ، فإنه قد يبتزّ الملك بعدي ، من يغلب عليه ز هو الشيطان ، وتزيينه إلى تعطيل بناتهم ، فلا يردن لهن كفوا. وقد رضيت لابنتي عبد الله بن سلام القرشي ، لدينه وشرفه ومروءته وأدبه.

فقال أبو هريرة وأبو الدرداء : إن أولى الناس برعاية نعم الله وشكرها وطلب مرضاته فيما خصّه به أنت ، لأنك صاحب رسول الله وكاتبه وصهره. قال معاوية :فاذكرا ذلك عني لعبد الله ، وقد جعلت لها في نفسها شوري ، غير أني لأرجو أن لا تخرج من رأيي إنشاء الله تعالى.

فخرجا من عنده متوجهين إلى منزل عبد الله بن سلام بالذي قاله لهما معاوية.

ثم إن معاوية دخل على ابنته فقال لها : إذا دخل عليك أبو الدرداء وأبو هريرة ، وعرضا عليك أمر عبد الله بن سلّام وإنكاحي إياك منه ، وحضّاك إلى المسارعة إلى هواي ، فقولي لهما : عبد الله بن سلام كفؤ كريم وقريب حميم ، غير أن تحته أرينب بنت اسحق ، وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء ، فأتناول منه ما يسخط الله فيه فيعذبني عليه ، ولست بفاعلة حتّى يفارقها.

فلما ذكر ذلك أبو هريرة وأبو الدرداء لعبد الله بن سلام ، وأعلماه بالذي أمرهما معاوية ، وأنهما جاءاه خاطبين!. قال لهما : نعم ، أنتما تعلمان رضاي بذلك وحرصي على صهارة أمير المؤمنين. فرجعا إلى معاوية وذكرا له ذلك. فقال : أنا راض بذلك وطالب له ، لكني قد أعلمتكما أني جعلت لها في نفسها شوري ، فادخلا عليها واعرضا عليها ما أحببته لها. فدخلا عليها وعرضا عليها ذلك ، فقالت كالذي قال لها أبوها.

فأعلما عبد الله بن سلام بذلك ، فلما ظن أنه لا يمنعها منه إلا بقاء أرينب عنده ، أشهدها على طلاقها ثلاثا ، وأرسلهما يعلمان بذلك معاوية وابنته. فأظهر معاوية

٣٧٧

كراهية لما فعله عبد الله بن سلام ، وقال : ما أحببت طلاق زوجته ولا استحسنته ، ولكن انصرفا في عافية. ثم عودا إلينا فإننا نسعى في رضاها ، ويكون ذلك إنشاء الله.

وكتب إلى يزيد يعلمه بما كان من طلاق عبد الله لزوجته أرينب بنت اسحق.

ثم عاد أبو هريرة وأبو الدرداء إلى معاوية ، فأمرهما بالدخول على ابنته وسؤالها رضاها ، تبرّيا من الأمر ، ونظرا في القدر. وقال : لم يكن لي أن أكرهها وقد جعلت لها الشورى في نفسها. فدخلا عليها وأعلماها بطلاق عبد الله بن سلام لزوجته أرينب ليسرّاها ، وذكرا من فضل عبد الله وكمال مروءته وكريم فخره. فقالت : جفّ القلم بما هو كائن ، وإنه في قريش لرفيع القدر ، وقد تعلمان أن التزويج جدّه جدّ وهزله جدّ ، والأناة في الأمور آمن لما يخاف فيها من المحذور ، وأن الأمور إذا جاءت خلاف الهوى بعد التأني فيها ، كان المرء بحسن العزاء خليقا ، وبالصبر عليها حقيقا. وإني سائلة عنه حتّى أعرف دخلة خبره ، ويتضح لي بالذي أريد علمه من أمره ، وإن كنت أعلم أن لا اختيار لأحدهما فيما هو كائن ، ومعلمتكما بالذي يزينه الله في أمره ، ولا قوة إلا بالله. قال الشيخان : وفقك الله وخار لك.

وتحدث الناس بالذي كان من طلاق عبد الله بن سلام امرأته ، وخطبته ابنة معاوية. واستحث عبد الله بن سلام الشيخين ، فأتياها ، فقالا لها : اصنعي ما أنت صانعة واستخيري الله ، فإنه يهدي من استهداه. قالت : أرجو والحمد لله أن يكون الله قد خار ، فإنه لا يكل إلى غيره من توكل عليه. وقد سألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسي ، مع اختلاف من استشرتهم فيه ، فمنهم الناهي عنه والآمر به ، واختلافهم أقل ما كرهت.

فلما بلغّاه كلامها ، علم أنه مخدوع. وقال متعزيا : ليس لأمر الله رادّ ، ولا لما بدّ منه صادّ ، فإن المرء وإن كمل له علمه واجتمع له عقله ، ليس بدافع عن نفسه قدرا برأي ولا كيد. ولعل ما سرّوا به لا يدوم لهم سروره ، ولا يدفع عنهم محذوره.

وشاع أمره وفشا في الناس ، وقالوا : خدعه معاوية حتّى طلقّ امرأته ، وإنما أرادها لابنه يزيد ، بئس ما صنع.

ولما انقضت أقراؤها (وهي العدّة) وجّه معاوية أبا الدرداء إلى العراق خاطبا لها على ابنه يزيد. فخرج حتّى قدمها ، وبها يومئذ الحسين بن عليعليهما‌السلام . فقال

٣٧٨

أبو الدرداء حين قدم العراق : ما ينبغي لذي نهى أن يبدأ بشيء غير زيارة الحسينعليه‌السلام سيد شباب أهل الجنة ، إذا دخل موضعا هو فيه ، فإذا أديت حقه ذهبت إلى ما جئت إليه.

مبادرة رائعة :

فلما رآه الحسينعليه‌السلام قام إليه وصافحه إجلالا لصحبته من جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولموضعه من الإسلام. وقال له : ما أتى بك يا أبا الدرداء؟. قال : وجّهني معاوية خاطبا لابنه يزيد (أرينب بنت اسحق) فرأيت عليّ حقا أن لا أبدأ بشيء قبل السلام عليك. فشكر له الحسينعليه‌السلام ذلك وأثنى عليه. ثم قال : لقد كنت أردت نكاحها وعزمت على الإرسال إليها ، إذا انقضت أقراؤها ، فلم يمنعني من ذلك إلا تخيّر فعلك ، فقد أتى الله بك ، فاخطب رحمك الله لي وله [أي يزيد] التحري من تختاره منا ، وهي أمانة في عنقك حتّى تؤديها إليها ، واعطها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه. فقال : أفعل إنشاء الله.

فلما دخل أبو الدرداء على أرينب ، قال : أيتها المرأة ، إن الله خلق الأمور بقدرته ، وكوّنها بعزته ، فجعل لكل أمر قدرا ، ولكل قدر سببا ، فليس لأحد عن قدر الله مستخلص ، ولا للخروج من عمله مناص ، فكان ما سبق لك وقدّر عليك ، الّذي كان من فراق عبد الله بن سلام إياك ، ولعل ذلك لا يضرّك ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا. وقد خطبك أمير هذه الأمة وابن مليكها وولي عهده والخليفة من بعده : يزيد ابن معاوية ، والحسين ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن أول من أقرّ به من أمته وسيد شباب أهل الجنة يوم القيامة. وقد بلغك سناهما وفضلهما ، وجئتك خاطبا لهما ، فاختاري أيهما شئت.

فسكتت طويلا ، ثم قالت : يا أبا الدرداء ، لو كان هذا الأمر جاءني وأنت غائب ، لأشخصت فيه الرسل إليك ، واتبعت فيه رأيك ولم أقتطعه دونك. فأما إذ كنت المرسل فيه ، فقد فوّضت أمري بعد الله إليك ، وجعلته في يديك ، فاختر لي أرضاهما لديك ، والله شاهد عليك ، فاقض في قصدي بالتحري ، ولا يصدّنك عن ذلك اتباع هوى ، فليس أمرهما عليك خفيّا ، ولست فيما طوّقتك غبيّا.

قال أبو الدرداء : أيتها المرأة إنما عليّ إعلامك ، وعليك الاختيار لنفسك.فقالت : عفا الله عنك ، إنما أنا بنت أخيك ومن لا غنى به عنك ، فلا تمنعك رهبة

٣٧٩

أحد من قول الحق فيما طوّقتك. فقد وجبت عليك إذا الأمانة فيما حمّلتك. والله خير من روعي وخيف ، إنه بنا خبير لطيف.

فلما لم يجد بدّا من القول والإشارة ، قال : أي بنيّة ، ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ إليّ لك وأرضى عندي ، والله أعلم بخيرهما لك. وقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضعا شفتيه على شفتي حسين ، فضعي شفتيك حيث وضع رسول الله شفتيه.قالت : قد اخترته ورضيته فتزوجها الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام وساق لها مهرا عظيما.

وبلغ معاوية الّذي كان من فعل أبي الدرداء في ذلك ، ونكاح الحسينعليه‌السلام إياها ، فتعاظمه جدا ولامه شديدا. وقال : من يرسل ذا بله وعمى ، يركب خلاف ما يهوى. وكان عبد الله بن سلام قد استودع أرينب قبل فراقها بدرات مملوءة درّا ، وكان ذلك أعظم ماله لديه وأحبه إليه. وقد كان معاوية اطّرحه وقطع عنه جميع روافده لسوء قوله فيه وتهمته أنه خدعه. فلم يزل يجفوه حتّى عيل صبره ، وقلّ ما في يديه ، ولام نفسه على المقام لديه. فرجع إلى العراق ، وهو يذكر ماله الّذي استودعه إياها ، ولا يدري كيف يصنع فيه ، وأنّى يصل إليه ، وهو يتوقع جحودها لسوء فعله بها ، وطلاقه إياها من غير شيء أنكره عليها.

ردّ الحقّ إلى أهله :

فلما قدم العراق لقي الحسينعليه‌السلام فسلّم عليه ، ثم قال له : قد عرفت ما كان من خبري وخبر أرينب. وكنت قبل فراقي إياها قد استودعتها مالا عظيما ، وكان الّذي كان ، ولم أقبضه ، ووالله ما أنكرت منها في طول صحبتها فتيلا ، ولا أظن بها إلا جميلا. فذاكرها أمري وحاضضها على ردّ مالي إليّ ، فإن الله يحسن إليك ذكرك ، ويجزل به أجرك. فسكت عنه.

ولما انصرف الحسينعليه‌السلام إلى أهله ، قال لها : قدم عبد الله بن سلام ، وهو يحسن الثناء عليك ويحمل النشر عنك ، في حسن صحبتك ، وما آنسه قديما من أمانتك ، فسرّني بذلك وأعجبني. وذكر أنه كان استودعك مالا ، فأدّي إليه أمانته ، وردّي عليه ماله ، فإنه لم يقل إلا صدقا ، ولم يطلب إلا حقا. قالت : صدق.استودعني مالا لا أدري ما هو ، وإنه لمطبوع عليه بخاتمه ، ما حوّل فيه شيء إلى يومه ، وها هو فادفعه إليه بطابعه. فأثنى عليها الحسينعليه‌السلام خيرا. وقال : أدخله عليك حتّى تبرئي إليه منه ، كما دفعه إليك.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501