فلسفتنا

فلسفتنا0%

فلسفتنا مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: كتب
الصفحات: 438

فلسفتنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 438
المشاهدات: 34599
تحميل: 11460

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34599 / تحميل: 11460
الحجم الحجم الحجم
فلسفتنا

فلسفتنا

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مبادئها المطلقة ، فتخرج بنتائج فلسفية جديدة(١) ، كما أنّ الفلسفة تنجد الأسلوب التجريبي في العلوم بمبادئ وقواعد عقلية يستخدمها العالم في سبيل الارتقاء من التجارب المباشرة إلى قانون علمي عامّ(٢) فالعلاقة بين الفلسفة والعلم قويّة(٣) ،

____________________

(١) ومثال ذلك : أنّ العلوم الطبيعية تبرهن على إمكان تحويل العناصر البسيطة بعضها إلى بعض فهذه حقيقة علمية تتناولها الفلسفة كمادّة لبحثها ، وتطبّق عليها القانون العقلي القائل : بأنّ الوصف الذاتي لا يتخلّف عن الشيء ، فنستنتج : أنّ صورة العنصر البسيط كالصورة الذهبية ليست ذاتية لمادّة الذهب ، وإلاّ لمّا زالت عنها ، وإنّما هي صفة عارضة ثمّ تمضي الفلسفة أكثر من ذلك ، فتطبّق القانون القائل : إنّ لكلّ صفة عارضة علّة خارجية ، فتصل إلى هذه النتيجة : إنّ المادّة لكي تكون ذهباً أو نحاساً أو شيئاً آخر بحاجة إلى سبب خارجي فهذه نتيجة فلسفية مستندة إلى ما أدّت إليه الطريقة العقلية من قواعد عامّة لدى تطبيقها على المادّة الخام التي قدّمتها العلوم للفلسفة (المؤلّف قدس‌سره )

(٢) كما ضربنا الأمثلة على ذلك آنفاً ، فقد رأينا كيف أنّ النظرية العلمية القائلة : (إنّ الحركة هي سبب الحرارة أو جوهرها) تطلّبت عدّة من المبادئ العقلية القبلية (المؤلّف قدس‌سره )

(٣) حتّى يمكن القول في ضوء ما قرّرناه ـ خلافاً للاتّجاه العامّ الذي واكبناه في الكتاب ـ بعدم وجود حدود فاصلة بين قوانين الفلسفة وقوانين العلم كالحدّ الفاصل القائل : إنّ كلّ قانون قائم على أساس عقلي فهو فلسفي ، وكلّ قانون قائم على أساس تجربي فهو علمي ؛ لأنّنا عرفنا بوضوح أنّ الأساس العقلي والتجربة مزدوجان في عدّةٍ من القضايا الفلسفية والعلمية ، فلا القانون العلمي وليد التجربة بمفردها ، وإنّما هو نتيجة تطبيق الأُسس العقلية على مضمون التجربة العلمية ولا القانون الفلسفي في غنىً عن التجربة دائماً ، بل قد تكون الترجبة العلمية مادّة للبحث الفلسفي أو صغرى في القياس على حدّ تعبير المنطق الأرسطي ، وإنّما الفارق بين الفلسفة والعلم : أنّ الفلسفة قد لا تحتاج إلى صغرى تجريبية ، ولا تفتقر إلى مادّة خام تستعيرها من التجربة ، كما سنيشير إليه بعد لحظة وأمّا العلم ، فهو في كلّ قوانينه بحاجة إلى الخبرة الحسّية المنظَّمة (المؤلّف قدس‌سره )

١٢١

غير أنّ الفلسفة بالرغم من ذلك قد لا تحتاج في بعض الأحيان إلى تجربة إطلاقاً ، بل تستخلص النظرية الفلسفية من المعارف العقلية القبلية(١) ؛ ولأجل هذا قلنا : ليس من الحتم أن يتغيّر المحتوى الفلسفي باستمرار تبعاً للتجربة ، ولا من الضروري أن يواكب [ الركب(٢) ] الفلسفي قطار العلم في سيره المتدرّج

____________________

(١) ومثال ذلك : قانون النهاية القائل : إنّ الأسباب لا تتصاعد إلى غير نهاية فإنّ الفلسفة حين تقرّر هذا القانون لا تجد نفسها بحاجة إلى أيّ تجربة علمية ، وإنّما تستخلصه من مبادئ عقلية أوّلية ولو بصورة غير مباشرة(المؤلّف قدس‌سره )

(٢) في الأصل : (الكلّ) ولعلّ الأنسب ما أثبتناه (لجنة التحقيق )

١٢٢

نظريّة المعرفة / ٢

قيمة المعرفة

أهمّ المذاهب الفلسفيّة في قيمة المعرفة

نظريّة المعرفة في فلسفتنا

النسبيّة التطوّرية

١٢٣

١٢٤

كنّا ندرس في المسألة السابقة المصادر الأساسية للمعرفة أو للإدراك البشري بصورة عامّة ، والآن نتناول المعرفة من ناحية أخرى ؛ لنحدِّد قيمتها الموضوعية ومدى إمكان كشفها عن الحقيقة ، فإنّ الطريق الوحيد الذي تملكه الإنسانية لاستكناه الحقائق والكشف عن أسرار العالم هو : مجموعة العلوم والمعارف التي لديها ، فيجب أن نتساءل قبل كلّ شيء عمّا إذا كان هذا الطريق موصلاً حقّاً إلى الهدف ، وعمّا إذا كانت الإنسانية قادرة على الوصول إلى واقع موضوعي بما تملك من معارف وطاقات فكرية

والفلسفة الماركسية تؤمن في هذه المسألة بإمكان معرفة العالم ، وبطاقة الفكر البشري على الكشف عن الحقائق الموضوعية ، وترفض الشكّ والسفسطة :

(خلافاً للمثالية التي تنكر إمكان معرفة العالم وقوانينه ، ولا تؤمن بقيمة معارفنا ، ولا تعترف بالحقيقة الموضوعية ، وتعتبر أنّ العالم مملوء بأشياء قائمة بذاتها ، ولن يتوصَّل العلم أبداً إلى معرفتها ، تقومُ المادّية الفلسفية الماركسية على المبدأ القائل : إنّه من الممكن تماماً معرفة العالم وقوانينه ، وإنّ معرفتنا لقوانين الطبيعة ـ تلك المعرفة

١٢٥

التي يحقّقها العمل والتجربة ـ هي معرفة ذات قيمة ولها معنى حقيقة موضوعية ، وأن ليس في العالم أشياء لا يمكن معرفتها ، وإنّما فيه أشياء لا تزال مجهولة بعد ، وهي ستكشف وتصبح معروفة بوسائل العلم والعمل)(١)

(إنّ أقوى تفنيد لهذا الوهم الفلسفي ـ أي : وهم (كانت) و (هيوم) وغيره من المثاليين ـ ولكلّ وهم فلسفي آخر ، هو العمل والتجربة والصناعة بوجه خاصّ ، فإذا استطعنا أن نبرهن على صحّة فهمنا لظاهرة طبيعية مّا ، بخلقنا هذه الظاهرة بأنفسنا وبإحداثنا لها بواسطة توفّر شروطها نفسها ، وفوق ذلك إذا استطعنا استخدامها في تحقيق أغراضنا ، كان في ذلك القضاء المبرم على مفهوم الشيء في ذاته العصيّ على الإدراك الذي أتى به (كانت))(٢)

هذه التصريحات تقرّر بوضوح : أنّ الفلسفة الماركسية لم ترضَ بالوقوف إلى صفّ السفسطة ومدارس الإنكار أو الشكّ التي أعلنت إفلاسها في المضمار الفلسفي ؛ لأنّ الصرح الذي تحاول بناءه يجب أن يرتفع على ركائز فلسفية قاطعة وقواعد فكرية جازمة ، وما لم تكن الركائز يقينية لا يمكن أن يتماسك ويتركّز البناء الفكري القائم عليها

ونحاول ـ الآن ـ أن نعرف ما إذا كان من حقّ هذه الفلسفة أن تزعم لنفسها اليقين الفلسفي وتدّعي إمكان المعرفة الجازمة ، بمعنى : أنّ الفلسفة الماركسية التي

____________________

(١) المادية الديالكتيكية والماديّة التاريخية : ٣١

(٢) لودفيج فيورباخ : ٥٤

١٢٦

تفكّر على طريقة ديالكتيكية هل تستطيع أن تؤمن بمعرفة حقيقة للعالم وقوانينه ، وتتخلّص من قبضة الشكّ أو السفسطة ؟

وفي تعبير آخر : هل المعرفة التي يصحّ للفيلسوف الماركسي أن يتبجّح بها هي أعلى قيمة وأرفع شأناً من المعرفة في فلسفة (كانت) ؟ أو لدى المثاليين أو المادّيين النسبيين من فلاسفة مدارس الشكّ الذين نقدتهم الماركسية وهاجمتهم ؟

ولأجل أن نعرف المشكلة ونتبيّن مدى إمكان حلّها على أساس الفلسفة الماركسية ووجهة نظر الفلسفة الإسلامية فيها ، يجب أن نشير بصورة سريعة إلى أهمّ المذاهب الفلسفية التي عالجت هذه المشكلة ؛ حتّى يتحدّد بجلاء موقف الماركسية منها ، وماذا يجب أن تتّخذ من رأي في مسألة المعرفة على ضوء أصولها الرئيسية ؟ وما هو حقّ المشكلة من التحليل والتحقيق ؟

١٢٧

[ أهمّ المذاهب الفلسفيّة في قيمة المعرفة ]

١- آراء اليونان :

اجتاحت التفكير اليوناني موجة من السفسطة في القرن الخامس قبل الميلاد ، في عصر راجت فيه طريقة الجدل في ميادين الخطابة والمحاماة ، وتضاربت فيه الآراء الفلسفية والفرضيات غير التجريبية تضارباً شديداً ، ولم يكن الفكر الفلسفي قد تبلور ، ولم يبلغ درجة عالية من الرشد العقلي ، فكان هذا الصراع والتضارب بين المتناقضات الفلسفية سبباً لبلبلة فكرية وارتياب جَذري.

وكانت مَلَكَة الجدل تغذّي ذلك بما تُلهم أبطالها الجدليين من شبهات وأقيسة خاطئة ، أنكروا على أساسها العالم برفض جميع الركائز الفكرية للإنسان وإنكار المحسوسات والبديهيات

وقد وضع (غورغياس) ـ أحد أبطال هذه المدرسة ـ كتاباً في (اللاوجود) وحاول أن يبرهن فيه على عدّة قضايا ، الأولى : لا يوجد شيء ، الثانية : إذا كان يوجد شيء فالإنسان قاصر عن إدراكه ، الثالثة : إذا فرضنا أنّ إنساناً أدركه فلن يستطيع أن يبلِّغه لغيره(١)

وقد عاشت السفسطة ردحاً من الزمن تتفنّن في عبثها بالفلسفة والعلم حتّى بزغ سقراط ، وأفلاطون ، وأرسطو ، فكانت لهم مواقف جبّارة ضدّها

ووضع أرسطو للكشف عن مغالطات السفسطة وتنظيم الفكر الإنساني منطقه المعروف ، وخلاصة مذهبه في نظرية المعرفة : أنّ المعلومات الحسّية

____________________

(١) راجع المرجع في الفكر الفلسفي : ٥٧ ، د نوال الصرّاف الصائغ

١٢٨

والمعلومات العقلية الأوّلية أو الثانوية التي تكتسب بمراعاة الأصول المنطقية ، هي حقائق ذات قيمة قاطعة ولذا أجاز في البرهان- الدليل القاطع في مصطلحه المنطقي- استعمال المحسوسات والمعقولات معاً

وقامت بعد ذلك محاولة للتوفيق بين الاتّجاهين المتعارضين : بين الاتّجاه الذي يجنح إلى الإنكار القاطع وهو السفسطة ، والاتّجاه الذي يؤكّد على الإثبات وهو اتّجاه المنطق الأرسطي وكانت هذه المحاولة تتمثّل في مذهب الشكّ الذي يعتبر (بيرون) من المبشّرين الأساسين به

وتُعرَف عن (بيرون) حججه العشر على ضرورة الشكّ المطلق ، فكلّ قضية في نظره تحتمل قولين ، ويمكن إيجابها وسلبها بقوّة متعادلة(١)

ولكن مذهب اليقين سيطر أخيراً على الموقف الفلسفي ، وتربّع العقل على عرشه الذي أقعده عليه (أرسطو) يحكم ويقرّر مقيّداً بمقاييس المنطق ، وخمدت جذوة الشكّ طيلة قرون حتّى حوالي القرن السادس عشر ؛ إذ نشطت العلوم الطبيعية ، واكتشفت حقائق لم تكن بالحسبان وخاصّة في الهيئة ونظام الكون العامّ وكانت هذه التطوّرات العلمية بمثابة قوّة الجدل في العصر اليوناني ، فبعثت مذاهب الشكّ والإنكار من جديد ، واستأنفت نشاطها بأساليب متعدّدة ، وقام الصراع بين اليقينيين أنفسهم في حدود اليقين الذي يجب أن يعتمد عليه الإنسان

وفي هذا الجوّ المشبع بروح الشكّ والتمرّد على سلطان العقل نبغ (ديكارت) ، وطلع على العالم بفلسفة يقينية كان لها تأثير كبير في إرجاع التيّار الفلسفي حدّاً ما إلى اليقين

____________________

(١) راجع : يوسف كرم ، تاريخ الفلسفة اليونانيّة : ٢٣٥

١٢٩

٢- ديكارت(١) :

وهو من أقطاب الفلاسفة العقليين ومؤسّسي النهضة الفلسفية في أوروبا بدأ فلسفته بالشكّ ، الشكّ الجارف العاصف ؛ لأنّ الأفكار متضاربة ، فهي- إذن- في معرض الخطأ ، والإحساسات خدّاعة في كثير من الأحايين ، فهي ـ أيضاً ـ ساقطة من الحساب ، وبهذا وذاك تثور عاصفة الشكّ فتقتلع العالم المادّي والمعنوي معاً ما دام الطريق إليهما هو الفكر والإحساس

ويؤكّد (ديكارت) على ضرورة هذا الشكّ المطلق ، ويدلّل على منطقيّته بأنّ من الجائز أن يكون الإنسان واقعاً في رحمة قوّة تهيمن على وجوده وعقله وتحاول خداعه وتضليله ، فتوحي إليه بأفكار مقلوبة عن الواقع وإدراكات خاطئة ومهما كانت هذه الأفكار والإدراكات واضحة فلا نستطيع استبعاد هذا الفرض الذي يضطرّنا إلى اتّخاذ الشكّ مذهباً مطّرداً

ولكن (ديكارت) يستثني حقيقة واحدة تصمد في وجه العاصفة ولا تقوى على زعزعتها تيّارات الشكّ ، وهي : (فكره) ؛ فإنّه حقيقة واقعة لا شكّ فيها ، ولا يزيدها الشكّ إلاّ ثباتاً ووضوحاً ؛ لأنّ الشكّ ليس إلاّ لوناً من ألوان الفكر ، وحتّى تلك القوّة الخدّاعة لو كان لها وجود فهي لا تستطيع أن تخدعنا في إيماننا بهذا الفكر ؛ لأنّها إنّما تخدعنا عن طريق الإيحاء بالتفكير الخاطئ إلينا ، ومعنى ذلك : أنّ التفكير حقيقة ثابتة على كلّ حال ، سواءٌ أكانت مسألة الفكر الإنساني مسألة خداع وتضليل أم مسألة فهم وتحقيق

____________________

(١) يراجع للتفصيل : تاريخ الفلسفة الحديثة : ٦٥ ـ ٨٥ نجيب بلدي ، ديكارت : ٨٧ ـ ١٣٢ راوية عبد المنعم ، ديكارت والفلسفة العقليّة : ١٣١ ـ ١٧٦

١٣٠

وتكوّن هذه الحقيقة في فلسفة (ديكارت) حجر الزاوية ونقطة الانطلاق لليقين الفلسفي ، الذي حاول أن يخرج به من التصوّر إلى الوجود ، ومن الذاتية إلى الموضوعية ، بل حاول أن يثبت عن طريق تلك الحقيقة الذات والموضوع معاً ، فبدأ بذاته واستدلّ على وجودها بتلك الحقيقة ، قائلاً : (أنا أُفكّر ، فأنا ـ إذن ـ موجود)

وقد يلاحظ على ديكارت في هذا الاستدلال : أنّه يحتوي ـ لا شعورياً ـ على الإيمان بحقائق لا زالت حتّى الآن في موضع الشكّ عنده ؛ فإنّ هذا الاستدلال تعبير غير فنّي عن الشكل الأوّل من القياس في المنطق الأرسطي ، ويرجع ـ فنّياً ـ إلى الصيغة الآتية : (أنا أُفكّر ، وكلّ مفكّر موجود ، فأنا موجود)

ولأجل أن يصحّ هذا الاستدلال عند ديكارت يجب أن يؤمن بالمنطق ، ويعتقد بأنّ الشكل الأوّل من القياس منتج وصحيح في إنتاجه ، مع أنّه لا يزال في بداية الشوط الأوّل ، ولا يزال الشكّ مهيمناً في عقله على جميع المعارف والحقائق ومنها المنطق وقوانينه

ولكنّ الواقع الذي يجب أن ننبّه عليه هو : أنّ ديكارت لم يكن يحسّ بحاجة إلى الإيمان بالأشكال القياسية في المنطق حين بدأ المرحلة الاستدلالية من تفكيره بـ‍ (أنا أُفكّر ، فأنا ـ إذن ـ موجود) ، بل كان يرى أنّ معرفة وجوده عن طريق فكره ، أمر بديهي لا يحتاج إلى تشكيل قياس والتصديق بصغراه وكبراه

ولمّا كانت هذه القضية صادقة ؛ لأنّها بديهية بشكل لا يقبل الشكّ ، فكلّ ما هو على درجتها في البداهة صادق أيضاً ، وبهذا عطف قضية أخرى على البديهية الأولى ، وسلّم بأنّها حقيقة ، وهي : أنّ الشيء لا يخرج من لا شيء

وبعد أن آمن بالناحية الذاتية أخذ في إثبات الواقع الموضوعي ، فرتّب الأفكار الإنسانية في ثلاث طوائف :

١٣١

الأولى : أفكار غريزية أو فطرية ، وهي : الأفكار الطبيعية في الإنسان التي تبدو في غاية الوضوح والجلاء كفكرة : الله ، والحركة ، والامتداد ، والنفس

الثانية : أفكار غامضة تحدث في الفكر بمناسبة حركات واردة على الحواسّ من الخارج ، وليست لها أصالة في الفكر الإنساني

الثالثة : أفكار مختلفة ، وهي : الأفكار التي يصطنعها الإنسان ويركّبها من أفكاره الأخرى ، كصورة إنسان له رأسان

وأخذ- أوّل ما أخذ ـ فكرة (الله) من الطائفة الأولى ، فقرّر أنّها فكرة ذات حقيقة موضوعية ؛ إذ هي في حقيقتها الموضوعية تفوق الإنسان المفكِّر وكلّ ما فيه من أفكار ؛ لأنّه ناقص محدود ، وفكرة (الله) هي فكرة الكامل المطلق الذي لا نهاية له ولمّا كان قد آمن سلفاً بأنّ الشيء لا يخرج من لا شيء ، فهو يعرف أنّ لهذه الصورة الفطرية في فكره سبباً ، ولا يمكن أن يكون هو السبب لها ؛ لأنّها أكبر منه وأكمل ، والشيء لا يجيء أكبر من سببه ، وإلاّ لكانت الزيادة في المسبَّب قد نشأت من لا شيء فيجب أن تكون الفكرة منبثقة عن الكائن اللانهائي الذي يوازيها كمالاً وعظمة ، وذلك الكائن هو أوّل حقيقة موضوعية خارجية تعترف بها فلسفة (ديكارت) وهي : (الله)

وعن طريق هذا الكائن الكامل المطلق أثبت أنّ كلّ فكر فطريّ في الطبيعة الإنسانية ، فهو فكر صادق يحتوي على حقيقة موضوعية ؛ لأنّ الأفكار العقلية- الطائفة الأولى- صادرة عن الله ، فإذا لم تكن صادقة كان تزويد الله للإنسان بها خدعة وكذباً ، وهو مستحيل على الكامل المطلق

ولأجل ذلك آمن ديكارت بالمعرفة الفطرية (العقلية) للإنسان ، وأنّها

١٣٢

معرفة صحيحة وصادقة ، ولم يؤمن بغير تلك الأفكار الفطرية من الأفكار التي تنشأ بأسباب خارجية ، وكان من نتيجة هذا أن قسّم الأفكار عن المادّيات إلى قسمين :

أحدهما : الأفكار الفطرية ، كفكرة الامتداد

والآخر : أفكار طارئة تعبّر عن انفعالات خاصّة للنفس بالمؤثّرات الخارجية كفكرة : الصوت ، والرائحة ، والضوء ، والطعم ، والحرارة ، واللون

فتلك كيفيات أوّلية حقيقية ، وهذه كيفيات ثانوية لا تعبّر عن حقائق موضوعية ، وإنّما تتمثّل في انفعالات ذاتية ، فهي صور ذهنية تتعاقب وتثور في دنيا الذهن بتأثير الأجسام الخارجية ، ولا يشابهها شيء من تلك الأجسام

هذا عرض خاطف جدّاً لنظرية المعرفة عند ديكارت

ويجب أن نعرف قبل كلّ شيء أنّ القاعدة الأساسية التي أقام عليها مذهبه ويقينه الفلسفي ، وهي : (أنا أفكّر فأنا ـ إذن ـ موجود) ، قد نُقِضت في الفلسفة الإسلامية قبل ديكارت بعدّة قرون ، حين عرضها الشيخ الرئيس ابن سينا ونقدها : بأنّها لا يمكن أن تُعتَبر أسلوباً من الاستدلال العلمي على وجود الإنسان المفكِّر ذاته ، فليس للإنسان أن يبرهن على وجوده عن طريق فكره ؛ لأنّه حين يقول : (أنا أفكّر ، فأنا موجود) ، إن كان يريد أن يبرهن على وجوده بـ‍ (فكره الخاصّ) فقط ، فقد أثبت وجوده الخاصّ من أوّل الأمر واعترف بوجوده في نفس الجملة الأولى وإن كان يريد أن يجعل (الفكر المطلق) دليلاً على وجوده ، فهو خطأ ؛ لأنّ الفكر المطلق يحكم بوجود مفكِّر مطلق لا مفكِّر خاص ، وإذن فالوجود الخاصّ لكلّ مفكِّر يجب أن يكون معلوماً له علماً أوّلياً بصرف النظر عن جميع الاعتبارات بما فيها شكّه وفكره

١٣٣

وبعد ذلك نرى ديكارت يقيم صرح الوجود كلّه على نقطة واحدة ، وهي : أنّ الأفكار التي خلقها الله في الإنسان تدلّ على حقائق موضوعية ، فلو لم تكن مصيبة في ذلك لكان الله خادعاً ، والخداع مستحيل عليه

وبسهولة يمكن أن نتبيّن الخلط بين المعرفة التأمّلية والمعرفة العملية في برهانه ؛ فإنّ قضية (الخداع مستحيل) هي الترجمة غير الأمينة لقضية (الخداع القبيح) ، وهذه القضية ليست قضية فلسفية ، وإنّما هي فكرة عملية ، فكيف شكّ (ديكارت) في كلّ شيء ولم يشكّ في هذه المعرفة العملية التي جعلها أساساً للمعرفة التأمّلية الفلسفية ؟!!

أضف إلى ذلك أنّ تسلسل المعرفة في مذهب ديكارت ينطوي على دور واضح ؛ فإنّه حين آمن بالمسألة الإلهية أقام إيمانه هذا على قضية يفترض صدقها سلفاً ، وهي : أنّ الشيء لا يخرج من لا شيء ، وهذه القضية تحتاج بدورها إلى إثبات المسألة الإلهية ؛ لتكون مضمونة الصدق ، فما لم يثبت أنّ الإنسان محكوم لقوّة حكيمة غير مخادعة ، لا يجوز لديكارت أن يثق بهذه القضية ، ويقضي على شكّه في سيطرة قوّة خدّاعة للفكر الإنساني

وأخيراً فلسنا بحاجة لتوضيح خلط آخر صدر منه بين (فكرة الله) و (الحقيقة الموضوعية التي تدلّ عليها) حين آمن باستحالة انبثاق هذه الفكرة عن الإنسان ؛ لأنّها أكبر منه والحال أنّها لا تزيد على فكره ، وإنّما يستحيل على الإنسان أن يخلق لهذه الفكرة حقيقتها الموضوعية

وليس هدفنا بالفعل التوسّع في مناقشة (ديكارت) ، وإنّما نعني عرض وجهة نظره في قيمة المعرفة الإنسانية التي تتلخّص في الإيمان بالقيمة القاطعة للمعارف العقلية الفطرية خاصّة

١٣٤

٣- جون لوك(١) :

وهو الممثّل الأساسي للنظرية الحسّية والتجريبية كما عرفنا سابقاً ورأيه في نظرية المعرفة أنّ المعارف تنقسم كما يأتي :

أ- المعرفة الوجدانية ، وهي : المعرفة التي لا يحتاج الفكر في سبيل الحصول عليها إلى ملاحظة شيء آخر ، كمعرفتنا بأنّ الواحد نصف الاثنين

ب- المعرفة التأمّلية ، وهي لا تحصل من دون استعانة بمعلومات سابقة ، كمعرفتنا بأنّ مجموع زوايا المثلّث يساوي قائمتين

ج- المعرفة الناشئة من وقوع الحسّ على المعنى المعلوم

ويعتقد (لوك) أنّ المعرفة الوجدانية معرفة حقيقية ذات قيمة كاملة من الناحية الفلسفية ، وكذلك المعرفة التأمّلية التي يمكن توضيحها باستدلال صحيح وأمّا المعرفة الحسّية ، فلا قيمة لها فلسفياً وإن كانت معتبرة في مقاييس الحياة العملية ونظراً لذلك لم يؤمن موضوعياً بجميع خواصّ المادّة المدرَكة بالحسّ ، بل اعتبر بعضها خواصّاً حقيقية موضوعية ، كالشكل والامتداد ، والحركة ، واعتبر بعضها الآخر انفعالاً ذاتياً ، كاللون ، والطعم ، والرائحة ، وما إليها من صفات

ونظرية (لوك) هذه في المعرفة ووزنها الفلسفي لا يتّفق مع رأيه الخاصّ في تحليل المعرفة ؛ ذلك أنّ الإدراك في زعم (لوك) يرجع كلّه إلى الحسّ والتجربة ، وحتّى المعارف البديهية ـ كمبدأ عدم التناقض ونحوه من المبادئ الأساسية في الفكر البشري ـ لم توجد لدى الإنسان إلاّ عن هذا الطريق وهذا الحسّ الذي هو

____________________

(١) يراجع : قصّة الفلسفة الحديثة : ١ / ١٣٥ ـ ١٣٨ عبد الرحمن بدوي ، موسوعة الفلسفة : ٢ / ٣٧٣ (لوك)

١٣٥

المصدر الأساسي لتلك الإدراكات ليس ذا قيمة فلسفية قاطعة في نظرية المعرفة عند (لوك) ، والنتيجة الطبيعية لذلك هي : الشكّ المطلق في قيمة كلّ معرفة إنسانية ؛ لأنّها ليست في حقيقتها ونواتها الأساسية إلاّ إدراكاً حسّياً اكتسب بالتجربة الظاهرية أو الباطنية

وهكذا يبدو أنّ تنويعه للمعرفة إلى أقسام ثلاثة ، والتفريق بينها من ناحية الاعتبار الفلسفي ، يتناقض مع الأسس التي أقامها

كما أنّ تقسيمه لخواصّ الأجسام المحسوسة إلى طائفتين ـ كما فعل ديكارت ـ ليس منطقياً على أسسه ، وإن كان منطقياً إلى حدّ ما على أساس (ديكارت) ؛ ذلك أنّ (ديكارت) كان يقسّم المعرفة : إلى عقلية وحسّية ، ويؤمن باعتبار الأولى من ناحية فلسفية دون الثانية ، وقد زعم أنّ فكرة الإنسان عن بعض خواصّ الجسم من الأفكار العقلية الفطرية ، وفكرته عن بعضها الآخر حسّية ، فصحّ له بسبب ذلك أن ينوّع تلك الخواصّ إلى أوّلية وثانوية ، ويؤمن بأنّ الخواصّ الأوّلية حقيقية وموضوعية دون الخواصّ الثانوية وأمّا (جون لوك) ، فقد بدأ بناءه الفلسفي بإبعاد الأفكار الفطرية ، والإيمان بسيادة الحسّ على الإدراك كلّه ، فخواصّ الأجسام لا سبيل إلى إدراكها إلاّ الحسّ ، فما هو الفارق الفلسفي بين بعضها والبعض الآخر ؟ !

٤- المثاليون :

والمذهب المثالي عميق الجذور في تأريخ الفكر الإنساني ومتعدّد الأساليب ، ولفظ المثالية هو ـ أيضاً ـ من الألفاظ التي لعبت أدواراً مهمّة عبر التأريخ الفلسفي ، وتبلور في عدّة مفاهيم فلسفية تبادلت عليه ، وأكسبته بسبب ذلك لوناً من الغموض والالتباس

١٣٦

وقد ابتدأت المثالية دورها الأوّل في المصطلح الفلسفي على يد أفلاطون حين قال بنظرية خاصّة في العقل والعلم الإنساني ، وأُسميت تلك النظرية بنظرية : (المثل الأفلاطونية ) ، فقد كان أفلاطون فيلسوفاً مثالياً ، ولكنّ مثاليته لم تكن تعني إنكار الحقائق المحسوسة ، وتجريد الإدراكات الحسّية عن الحقائق الموضوعية المستقلّة عن مجال التصوّر والإدراك ، بل كان يعتقد بموضوعية الإحساس ، غير أنّه ذهب إلى أكثر من ذلك ، فاعتقد بموضوعية الإدراكات العقلية التي هي أعلى درجة من الإدراكات الحسّية ، مقرّراً أنّ الإدراك العقلي ـ وهو إدراك الأنواع العامّة كإدراك معاني الإنسان والماء والنور ـ ذو حقيقة موضوعية مستقلّة عن التعقّل ، كما سبق إيضاحه في الجزء الأوّل من هذه المسألة(١)

وهكذا نعرف أنّ المثالية القديمة كانت لوناً من ألوان الإسراف في الإيمان بالواقع الموضوعي ؛ لأنّها آمنت بالواقع الموضوعي للإحساس (إدراك المعاني الخاصّة بالحسّ) وللتعقّل (إدراك المعاني بصورة عامّة) ولم تكن إنكاراً للواقع أو شكّاً فيه

واتّخذت المثالية في التأريخ الحديث مفهوماً آخر يختلف كلّ الاختلاف عن المفهوم السابق ، فبينما كانت المثالية الأفلاطونية تؤكّد على وجود الحقيقة الموضوعية للإدراكات العقلية والحسّية معاً ، جاءت المثالية في لونها الحديث لتزعزع أساس الواقع الموضوعي ، وتعلن عن مذهب جديد في نظرية المعرفة الإنسانية تلغي به قيمتها الفلسفية والمفهوم المثالي الجديد هو الذي يعنينا درسه ومعالجته في بحثنا هذا

وقد اختلفت على هذا المفهوم ألوان متعدّدة وصياغات كثيرة ، وتوسّع

____________________

(١) تحت عنوان : نظريّة الاستذكار الأفلاطونيّة ، في مبحث : (التصوّر ومصدره الأساسي)

١٣٧

بعض كتّاب الفلسفات فيه حتّى اعتبروا المثالية وصفاً لكلّ فلسفة ترتكز على الشكّ ، أو تنطوي على محاولة لإبعاد جانب من الأشياء الموضوعية عن نطاق المعرفة الإنسانية ، أو تؤمن بمبدأ غيبي للعالم فالروحانية ، واللاّأدرية ، والتجريبية ، والعقلائية ، والنقدية ، والظاهراتية الوجودية ، كلّها فلسفات مثالية في زعمهم(١)

[ الاتجاهات المهمّة للمثالية الحديثة ]

ولأجل أن يتّضح دور المثالية في نظرية المعرفة الإنسانية نتناول بالدرس الاتجاهات المهمّة للمثالية الحديثة ، وهي : الاتّجاه الفلسفي ، والاتّجاه الفيزيائي ، والاتّجاه الفسيولوجي

أ- المثالية الفلسفية :

والممثّل الأساسي لها (باركلي)(٢) الذي يُعدّ إمام المثالية الحديثة ، وتعتبر فلسفته نقطة الانطلاق للاتّجاه المثالي أو النزعة التصوّرية في قرون الفلسفة الأخيرة

وجوهر المثالية في مذهب (باركلي) يتلخّص في عبارته المشهورة : (أن يوجد ، هو : أن يُدرِك أو أن يدرَك) ، فلا يمكن أن يُقَرّ بالوجود لشيء ما لم يكن ذلك الشيء مدرَكاً أو مدرِكاً ، والشيء المدرِك هو : النفس ، والأشياء المدرَكة هي : التصوّرات والمعاني القائمة في مجال الحسّ والإدراك فمن الضروري أن نؤمن بوجود النفس ووجود هذه المعاني وأمّا الأشياء المستقلّة عن حيّز الإدراك

____________________

(١) ما هي المادّية ؟ : ٥

(٢) يراجع : موسوعة الفلسفة : ١ / ٢٨٧ (باركلي) قصّة الفلسفة الحديثة : ١ / ١٤٦ ـ ١٥٢ تاريخ الفلسفة الحديثة : ١٦٨

١٣٨

، الأشياء الموضوعية ، فليست موجودة ؛ لأنّها ليست مدرَكة

ويتناول (باركلي) في بحثه بعد ذلك الأجسام التي يسمّيها الفلاسفة بـ (الجواهر المادّية) ليخفيها عن مسرح الوجود ، قائلاً : إنّنا لا ندرِك من المادّة التي يفترضونها إلاّ مجموعة من التصوّرات الذهنية والظواهر الحسّية : كاللون والطعم ، والشكل ، والرائحة ، وما إليها من صفات

ويعقب (باركلي) على مفهومه المثالي عن العالم مؤكِّداً أنّه ليس سوفسطائياً ولا شاكّاً في وجود العالم وما فيه من حقائق وكائنات ، بل هو يعترف بوجود ذلك كلّه من ناحية فلسفية ، ولا يختلف من هذه الناحية عن سائر الفلاسفة ، وإنّما يتفاوت عنهم في تحديد مفهوم الوجود فالوجود عند (باركلي) ليس بمعناه عند الآخرين ، فما هو موجود في رأيهم يؤمن (باركلي) بوجوده أيضاً ، ولكن على طريقته الخاصّة في تفسير الوجود ، التي تعني : أنّ وجود الشيء عبارة عن وجوده في إدراكنا ، أي : إدراكنا له

ويعترض بعد ذلك سؤال بين يدي (باركلي) هو : إذا كانت المادّة غير موجودة فمن أين يمكن ـ إذن ـ أن نأتي بالإحساسات التي تنبثق في داخلنا كلّ لحظة ، من دون أن يكون لإرادتنا الذاتية تأثير في انبثاقها وتتابعها ؟

والجواب عند (باركلي) جاهز ، وهو : أنّ الله نفسه يبعث تلك الإحساسات فينا

وهكذا انتهى (باركلي) من مطافه الفلسفي وقد احتفظ لنفسه بحقيقتين إلى جانب الإدراك :

إحداهما : العقل (الذات المدرِكة) ،والأخرى : هي الله (الحقيقة الخلاّقة لإحساساتنا) .

وهذه النظرية تلغي مسألة المعرفة الإنسانية ودراسة قيمتها من ناحية موضوعية إلغاءً تاماً ؛ لأنّها لا تعترف بموضوعية الفكر والإدراك ، ووجود شيء

١٣٩

خارج حدودهما

وينتاب المفهوم المثالي عند (باركلي) شيء من الغموض قد يجعل من الممكن أن يُقدَّم له عدّة تفسيرات ، تتفاوت مفاهيمها في درجة مثاليتها وتعمّقها في النزعة التصوّرية ونحن نأخذ أعمق تلك المفاهيم في المثالية ، وهو : المفهوم المثالي البحت الذي لا يعترف بشيء عدا وجود النفس المدرِكة والإحساسات والإدراكات التي تتابع في داخلها ، وهذا المفهوم هو الذي يشعّ من أكثر بياناته الفلسفية ، وينسجم مع الأدلّة التي حاول إثبات مفهومه المثالي بها ، وتتلخّص الأدلّة على هذا المفهوم فيما يأتي :

الدليل الأوّل : أنّ جميع الإدراكات البشرية ترتكز على الحسّ وترجع إليه ، فالحسّ هو القاعدة الرئيسية لها ، وإذا حاولنا اختبار هذه القاعدة وجدناها مشحونة بالتناقضات والأخطاء : فحاسّة البصر تتناقض دائماً في رؤيتها للأجسام عند قربها وبعدها ، فهي تدرِكها صغيرة الحجم إذا كانت بعيدة عنها ، وتدركها بحجم أكبر إذا كانت قريبة منها وحاسّة اللمس هي أيضاً تتناقض ، فقد ندرك بها شيئاً واحداً إدراكين مختلفين ويوضّح (باركلي) بعد ذلك فيقول : اغمس يديك في ماء دافئ ، بعد أن تغمس إحداهما في ماء ساخن والأخرى في ماء بارد ، أفلا يبدو الماء بارداً لليد الساخنة وساخناً لليد الباردة ؟ فهل يجب- إذن- أن نقول عن الماء : إنّه ساخن وبارد في نفس الوقت ؟! أوَ ليس هذا هو الكلام الفارغ بعينه ؟! وإذن فلتستنتج معي : أنّ الماء في ذاته لا يوجد كمادّة مستقلاً عن وجودنا ، فهو ليس سوى اسم نطلقه نحن على إحساسنا ، فالماء يوجد فينا نحن وفي كلمة واحدة : المادّة هي الفكرة التي نضعها عن المادّة وإذا كانت الإحساسات فارغة عن كلّ حقيقة موضوعية للتناقضات الملحوظة فيها ، لم تبقَ للمعرفة البشرية قيمة موضوعية مطلقاً ؛ لأنّها ترتكز بصورة عامّة على الحسّ ، وإذا انهارت القاعدة

١٤٠