فلسفتنا

فلسفتنا0%

فلسفتنا مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: كتب
الصفحات: 438

فلسفتنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 438
المشاهدات: 34615
تحميل: 11460

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34615 / تحميل: 11460
الحجم الحجم الحجم
فلسفتنا

فلسفتنا

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يعتبر المنطق الميتافيزيقي الإحاطة العلمية بشيء ، مرهونة بمدى الجواب عليها

فهذا يعني بكلّ وضوح : أنّ الميتافيزيقية لا تقرّ مطلقاً إمكان عزل الحادثة عن محيطها وشروطها ، وتجميد السؤال عن علاقاتها بالحوادث الأخرى

فليس الاعتقاد بالارتباط العام- إذن- وقفاً على الديالكتيك ، بل هو ممّا تؤدّي إليه حتماً الأسس الفلسفية التي شيّدتها الميتافيزية في بحوث العلّية وقوانينها

وأمّا مخطّطات هذا الارتباط ، القائم بين أجزاء الطبيعة ، والكشف عن تفاصيله وأسراره ، فذلك ما توكله الميتافيزية إلى العلوم على اختلاف ألوانها ؛ فإنّ المنطق الفلسفي العام للعالم إنّما يضع الخطّ العريض ، ويقيم نظريته الارتباطية على ضوء العلّية وقوانينها الفلسفية ويبقى على العلم بعد ذلك : أن يشرح التفاصيل في الميادين التي تتّسع لها الوسائل العلمية ، ويوضّح الألوان الواقعية للارتباط ، وأسرارها ، ويضع فيها النقاط على الحروف

وإذا أردنا أن ننصف الديالكتيك والميتافيزية حقّهما معاً ، كان علينا أن

____________________

وكيف هي ، أي : ما هي ظواهرها وخواصّها ؟ وهذا ما تجيب عنه الفيزياء ، فيقال ـ مثلاً ـ بأنّ من خواصّها التسخين ، والتمديد ، والتقليص ، وتغيير بعض الصفات الطبيعية للمادّة

وأخيراً : فلماذا وجدت الحرارة ؟ ومردّ هذا السؤال إلى الاستفهام عن عوامل الحرارة وعللها ، والشروط الخارجية التي ترتبط بها ، فيجاب عنه مثلاً : أنّ الطاقة الحرارية تستوردها الأرض من الشمس ، وتنبثق عنها

وبهذا نعرف : أنّ المنطق الميتافيزي وضع مسألة ارتباط الشيء بأسبابه وظروفه في مصاف المسائل الرئيسية الأخرى التي تتناول حقيقته ووجوده وخواصّه (المؤلّف قدس‌سره )

يراجع : شرح المنظومة : ١ / ١٨٣ ، و ٢ / ٣٣١

٣٢١

نسجّل : أنّ الشيء الجديد الذي جاء به الديالكتيك الماركسي ، ليس هو نفس قانون الارتباط العام الذي سبقت إليه الميتافيزية بطريقتها الخاصّة ، والذي هو في نفس الوقت واضح لدى الجميع ، وليس موضع النقاش ، وإنّما سبقت الماركسية إلى الأغراض السياسية ، أو بالأحرى إلى التطبيقات السياسية الخاصّة لذلك القانون ، التي توفّر لها إمكان تنفيذ خططها وخرائطها فنقطة الابتكار تتّصل بالتطبيق ، لا بالقانون من حيث وجهته المنطقية والفلسفية

ولنقرأ بهذه المناسبة ما سجّله الكاتب الماركسي (أميل برنز) عن الارتباط في المفهوم الماركسي ؛ إذ كتب يقول :

(إنّ الطبيعة أو العالم ، وبضمنه المجتمع الإنساني ، لم تتكوّن من أشياء متمايزة مستقلّة تمام الاستقلال عن بعضها البعض وكلّ عالم يعرف ذلك ، ويجد صعوبة قصوى في تحديد التقديرات حتّى لأهمّ العوامل التي قد تؤثّر في الأشياء الخاصّة التي يدرسها إنّ الماء ماء ، ولكن إذا زيدت حرارته إلى درجة معيّنة ، تحوّل إلى بخار ، وإذا انخفضت حرارته ، استحال ثلجاً كما أنّ هناك عوامل أخرى تؤثّر عليه ويدرك كلّ شخص عامي أيضاً ـ إذا ما خبر الأشياء ـ أنّه لا يوجد شيء مستقلّ بذاته كلّ الاستقلال ، وأنّ كلّ شيء يتأثّر بالأشياء الأخرى)

(وقد يبدو هذا الترابط بين الأشياء بديهياً إلى درجة يظهر معها أيّ سبب لإلفات النظر إليه ، ولكنّ الحقيقة هي : أنّ الناس لا يدركون الترابط بين الأشياء دائماً ، ولا يدركون أنّ ما هو حقيقي في ظروف معيّنة ، قد لا يكون حقيقياً في ظروف أخرى ، وهم ـ دائماً ـ يطبّقون أفكاراً تكوّنت في

٣٢٢

ظروف خاصّة على ظروف أخرى ، تختلف عنها تمام الاختلاف وخير مثل يمكن أن يضرب في هذا الصدد ، هو وجهة النظر حول حرّية الكلام إنّ حرّية الكلام بصورة عامة تخدم الديمقراطية ، وتفيد إرادة الشعب في الإعراب عن نفسها ، ولذلك فهي مفيدة لتطوّر المجتمع ، ولكن حرية الكلام للفاشية (المبدأ الأوّل الذي يحاول قمع الديموقراطية) ، أمر يختلف كلّ الاختلاف ؛ إذ إنّه يوقف تطوّر المجتمع ومهما تكرّر النداء بحرّية الكلام ، فإنّ ما يصحّ عنه في الظروف الاعتيادية بالنسبة للأحزاب التي تهدف إلى الديموقراطية ، لا يصحّ بالنسبة للأحزاب الفاشية)(١)

هذا النصّ الماركسي يعترف بأنّ الارتباط العام مفهوم لكلّ عالم ، بل كلّ عامي خبر الأشياء ـ على حدّ تعبير (أميل برنز) ـ وليس شيئاً جديداً في الفهم البشري العام وإنّما الجديد الذي استهدفته الماركسية بذلك ؛ نظراً إلى مدى الارتباط الوثيق بين مسألة حرّية الكلام والمسائل الأخرى التي تدخل في حسابها ، ونظير ذلك عدّة تطبيقات أخرى من هذا القبيل ، يمكننا أن نجدها في جملة من النصوص الماركسية الأخرى ، فأين الكشف المنطقي الجبّار للديالكتيك ؟!

نقطتان حول الارتباط العامّ :

ومن الضروري أن نشير في سياق الحديث عن نظرية الارتباط العام في الميتافيزية إلى نقطتين مهمّتين :

____________________

(١) ما هي الماركسية ؟ : ٧٥ ـ ٧٦

٣٢٣

النقطة الأُولى : أنّ ارتباط كلّ جزء من أجزاء الطبيعة والكون بما يتّصل به من أسباب وشرائط وظروف ـ في المفهوم الميتافيزيقي ـ لا يعني عدم إمكان ملاحظته بصورة مستقلّة ، ووضع تعريف خاصّ به ، ولذلك كان التعريف أحد المواضيع التي يبحثها المنطق الميتافيزيقي وأكبر الظنّ أنّ ذلك هو الذي بعث الماركسية إلى اتّهام الميتافيزيقيا بأنّها لا تؤمن بالارتباط العام ، ولا تدرس الكون على ذلك الأساس ؛ إذ وجدت الميتافيزيقي يأخذ الشيء الواحد ، فيحاول تحديده وتعريفه بصورة مستقلّة عن سائر الأشياء الأخرى ، فخيّل لها بسبب ذلك أنّه لا يقرّ بوجود الارتباط بين الأشياء ، ولا يتناولها بالدرس إلاّ في حالّ عزل بعضها عن الآخر فكأنّه حين عرّف الإنسانية بأنّها : حياة وفكر ، وعرّف الحيوانية ، بأنّها : حياة وإرادة ، قد عزل الإنسانية أو الحيوانية عن ظروفهما وملابستهما ، ونظر إليهما نظرة مستقلّة

ولكن الواقع : أنّ التعريفات التي درج المنطق الميتافيزي على إعطائها لكلّ شيء بصورة خاصّة ، لا تتنافى مطلقاً مع المبدأ القائل بالارتباط العام بين الأشياء ، ولا يقصد منه التفكيك بين الأشياء ، والاكتفاء من دراستها بإعطاء تلك التعريفات الخاصّة لها فنحن حين نعرّف الإنسانية بأنّها : حياة وفكر ، لا نرمي من وراء ذلك إلى إنكار ارتباط الإنسانية بالعوامل والأسباب الخارجية ، وإنّما نقصد بالتعريف : أن نعطي فكرة للشيء الذي يرتبط بتلك العوامل والأسباب ؛ ليتاح لنا أن نبحث عمّا يتّصل به من عوامل وأسباب وحتّى الماركسية نفسها تتّخذ التعريف أسلوباً لتحقيق هذا الهدف نفسه ، فهي تعرّف الديالكتيك ، وتعرّف المادّة فقد عرّف لينين الديالكتيك بأنّه :

(علم القوانين العامّة للحركة)(١)

____________________

(١) ماركس ، أنجلز والماركسية : ٢٤

٣٢٤

وعرّف المادّة بأنّها :

(هي الواقع الموضوعي المعطى لنا في الإحساس)(١)

أفيكون من مفهوم هذه التعاريف أنّ لينين فصل الديالكتيك عن سائر أجزاء المعرفة البشرية من العلوم ، ولم يعتقد باتّصالها به ؟! وأنّه نظر إلى المادّة بصورة تجريدية ، ودرسها متغاضياً عمّا فيها من ارتباطات وتفاعلات ؟! كلاّ ؛ فإنّ التعريف لا يعني في كثير أو قليل ، تخطّي الارتباط القائم بين الأشياء وإهماله ، وإنّما يحدّد لنا المفهوم الذي نحاول الكشف عن روابطه وعلاقاته المتنوّعة ؛ ليسهل علينا التحدّث عن تلك الروابط والعلاقات ودرسها

النقطة الثانية : أنّ الارتباط بين أجزاء الطبيعة لا يمكن أن يكون دورياً ونقصد بذلك : أنّ الحادثتين المرتبطتين ـ كالسخونة والحرارة ـ لا يمكن أن تكون كلّ منهما شرطاً لوجود الحادثة الأخرى فالحرارة لمّا كانت شرطاً لوجود الغليان ، فلا يمكن أن يكون الغليان شرطاً لوجود الحرارة أيضاً(٢)

فلكلّ جزء من الطبيعة ـ في سجلّ الارتباط العامّ ـ درجته الخاصّة التي تحدّد له ما يتّصل به من شرائط تؤثّر في وجوده ، ومن ظواهر يؤثّر هو في

____________________

(١) ما هي المادّية ؟ : ٣٩

(٢) ولا يمكن أن يؤخذ التفاعل بين الأضداد الخارجية دليلاً على إمكان ذلك ؛ لأنّ التفاعل بين الأضداد الخارجية لا يعني أنّ كلّ واحد منها شرط لوجود الآخر وسبب له ، بل مردّه في الحقيقة إلى اكتساب كلّ ضد صفة من الآخر لم تكن موجودة عنده ، فالشحنة السالبة والموجبة تتفاعلان ، لا بمعنى أنّ كلاًّ من الشحنتين وجدت بسبب الشحنة الأُخرى ، بل بمعنى : أنّ الشحنة السالبة ولّدت حالة انجذاب خاصّ في الشحنة الموجبة ، وكذلك العكس (المؤلّف قدس‌سره )

٣٢٥

وجودها وأمّا أن يكون كلّ من الجزءين أو الحادثين سبباً لوجود الآخر ، ومديناً له بوجوده في نفس الوقت ، فذلك يجعل الارتباط السببي دائرياً يرجع من حيث بدأ وهو غير معقول

وأخيراً ، فلنقف لحظة عند (أنجلز) وهو يتحدّث عن الارتباط العامّ ، وتضافر البراهين العلمية عليه قائلاً :

(على أنّ ثمّة اكتشافات ثلاثة بوجه خاصّ قد تقدّمت بخطوات العمالقة بمعرفتنا ، لترابط العمليات التطوّرية الطبيعية

أوّلاً : اكتشاف الخلية ، بصفتها الوحدة التي تنمو منها العضوية النباتية والحيوانية كلّها بطريق التكاثر والتمايز ، بحيث لم نعرف بأنّ تطوّر سائر العضويات العليا ونحوها ، يتتابعان وفق قانون عام فحسب ، بل إنّ قدرة الخلية كذلك على التحوّل ، تبيّن الطريق الذي تستطيع العضويات بمقتضاه أن تغيّر أنواعها ، فتجتاز بذلك تطوّراً أكثر من أن يكون فردياً

ثانياً : اكتشاف تحوّل الطاقة الذي يبيّن أنّ سائر القوى المؤثّرة ـ أوّلاً ـ في الطبيعة غير العضوية يبيّن لنا أنّ هذه القوى بمجموعها هي ظواهر مختلفة للحركة الكلّية ، تمرّ كلّ منها إلى الأخرى بنسب كمّية معيّنة

وأخيراً : البرهان الشامل الذي كان (داروين) أوّل من جاء به ، والذي ينصّ على أنّ جملة ما يحيط بنا في الوقت الحاضر من منتجات الطبيعة ـ بما في ذلك البشر ـ إن هي إلاّ

٣٢٦

نتائج عملية طويلة من التطوّر)(١)

والواقع : أنّ الاكتشاف الأوّل هو من الكشوف العلمية التي انتصرت فيها الميتافيزيقا ؛ لأنّه برهن على أنّ مبدأ الحياة هو الخلية الحيّة (البروتوبلاسم) ، فأزاح بذلك الوهم القائل بإمكان قيام الحياة في أيّ مادّة عضوية تتوفّر فيها عوامل مادّية خاصة ، ووضع حدّاً فاصلاً بين الكائنات الحيّة وغيرها ؛ نظراً إلى أنّ جرثومة الحياة الخاصّة ، وهي وحدها التي تحمل سرّها العظيم فاكتشاف الخلية الحية في نفس الوقت الذي دلّنا على أصل واحد للأجسام الحيّة ، دلّنا ـ أيضاً ـ على مدى البون بين الكائن الحيّ وغيره

وأمّا الاكتشاف الثاني فهو الآخر ـ أيضاً ـ يُعدّ ظفراً عظيماً للميتافيزيقا ؛ لأنّه يثبت بطريقة علمية : أنّ جميع الأشكال التي تتّخذها الطاقة ـ بما فيها الصفة المادّية ـ هي صفات وخصائص عرضية ، فتكون بحاجة إلى سبب خارجي ، كما سنوضّح ذلك في الجزء الرابع من هذه المسألة أضف إلى ذلك : أنّ الاكتشاف المذكور يتعارض مع قوانين الديالكتيك ؛ لأنّه يفترض للطاقة كمّية محدودة ثابتة لا تخضع للحركة الديالكتيكية ، التي يزعم الجدل الماركسي صدقها على جميع جوانب الطبيعة وظواهرها ، وإذا أثبت العلم استثناء جانب في الطبيعة من قوانين الديالكتيك ، فقد زالت ضرورته وصفته القطعية

وأمّا نظرية (داروين) عن تطوّر الأنواع وخروج بعضها من بعض ، فهي لا تتّفق ـ أيضاً ـ مع قوانين الديالكتيك ، ولا يمكن أن تُتّخذ سنداً علمياً للطريقة الديالكتيكية في تفسير الأحداث ؛ فإنّ داروين وبعض المساهمين معه في بناء النظرية وتعديلها ، يفسّرون تطوّر نوع إلى نوع آخر على أساس ما يظفر به بعض

____________________

(١) لودفيج فيورباخ : ٨٨

٣٢٧

أفراد النوع القديم من ميزات وخصائص عن طريق صدفة ميكانيكية أو أسباب خارجية محدّدة ، كالبيئة والمحيط ، وكلّ ميزة يحصل عليها الفرد تظلّ ثابتة فيه ، وتنتقل بالوراثة إلى أبنائه ، وبذلك ينشأ جيل قوي بفضل هذه الميزات المكتسبة وفي خضمّ الصراع في سبيل القوت والبقاء بين الأقوياء من هذا الجيل ، وبين الضعاف من أفراد النوع الذين لم يظفروا بمثل تلك الميزات ، يعمل قانون تنازع البقاء عمله ، فيفنى الضعيف ويبقى الأفراد الأقوياء ، وتتجمّع المزايا عن طريق توريث كلّ جيل مزاياه التي حصل عليها بسبب ظروفه وبيئته التي عاشها للجيل الذي يتلوه ، وهكذا حتّى ينشأ نوع جديد يتمتّع بمجموع المزايا التي اكتسبها أسلافه على مرّ الزمن

ونحن نستطيع أن ندرك بوضوح مدى التناقض بين نظرية داروين هذه ، وبين الطريقة الديالكتيكية العامة

فهناك الطابع الميكانيكي للنظرية يبدو بوضوح من خلال تفسير داروين لتطوّر الحيوان بأسباب خارجية ، فالميزات والفروق الفردية التي يحصل عليها الجيل القوي من أفراد النوع ليست نتيجة لعملية تطوّرية ولا ثمرة لتناقض داخلي ، وإنّما هي وليدة مصادفة ميكانيكية أو عوامل خارجية من البيئة والمحيط ، فالظروف الموضوعية التي عاشها الأفراد الأقوياء هي التي أمّدتهم بعناصر قوّتهم وميّزتهم عن الآخرين لا الصراع الداخلي في الأعماق كما يفترض الديالكتيك

كما أنّ الميزة التي يحصل عليها الفرد بطريقة ميكانيكية-أي : بأسباب خارجية من الظروف التي يعيشها- لا تتطوّر بحركة ديناميكية وتنمو بتناقض داخلي حتّى تُحوّل الحيوان إلى نوع جديد ، وإنّما تظلّ ثابتة ، وتنتقل بالوراثة دون أن تتطوّر ، وتبقى بشكل تغيّر بسيط ساكن ، ثمّ تضاف إلى الميزة السابقة ميزة أخرى تتولّد هي الأخرى ـ أيضاً ـ ميكانيكياً بسبب الظروف الموضوعية ،

٣٢٨

فيحصل تغيّر بسيط آخر ، وهكذا تتولّد الميزات بطريقة ميكانيكية ، وتواصل وجودها في الأبناء عن طريق الوراثة وهي ساكنة ثابتة ، وحين تتجمّع يتكوّن منها أخيراً الشكل الأرقى للنوع الجديد.

وهناك- أيضاً- فرق كبير بين قانون تنازع البقاء في نظرية داروين ، وفكرة الصراع بين الأضداد في الديالكتيك ؛ فإنّ فكرة الصراع بين الأضداد عند الديالكتيكيين تعبّر عن صراع بين ضدّين يسفر في النهاية عن توحّدهما في مركّب أعلى وفقاً لثالوث الاُطروحة والطباق والتركيب ففي صراع الطبقات ـ مثلاً ـ تشبّ المعركة بين الضدّين في المحتوى الداخلي للمجتمع ، وهما الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة ، وينتهي الصراع بامتصاص الطبقة العاملة للطبقة الرأسمالية ، وتوحّد الطبقتين معاً في مجتمع لا طبقي ، كلّ أفراده يملكون ويعملون

وأمّا تنازع البقاء والصراع بين القوي والضعيف في نظرية داروين ، فهو ليس صراعاً ديالكتيكياً ؛ لأنّه لا يسفر عن توحّد الأضداد في مركّب أرقى ، وإنّما يؤدّي إلى إفناء أحد الضدّين والاحتفاظ بالآخر ، فهو يزيل الضعاف من أفراد النوع إزالة نهائية ويبقى الأقوياء ، ولا ينتج مركّباً جديداً يتوحّد فيه الضعفاء والأقوياء ، الضدّان المتصارعان كما يفترض الديالكتيك في ثالوث الأُطروحة والطباق والتركيب

وإذا طرحنا فكرة تنازع البقاء أو قانون الانتخاب الطبيعي بوصفها تفسيراً لتطوّر الأنواع ، واستبدلناها بفكرة الصراع بين الحيوان والبيئة الذي يكيّف الجهاز العضوي وفقاً لشروط البيئة ، وقلنا : إنّ الصراع بين الحيوان والبيئة ـ بدلاً عن الصراع بين القوي والضعيف ـ هو رصيد التطوّر كما قرّره (روجيه غارودي)(١) ، أقول : إذا طوّرنا النظرية وفسَّرنا تطوّر الأنواع في ضوء الصراع بين البيئة

____________________

(١) الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم : ٤٣

٣٢٩

والحيوان ، فسوف لن نصل إلى نتيجة ديالكتيكية أيضاً ؛ لأنّ الصراع بين البيئة والجهاز العضوي لا يسفر عن التحامهما وتوحّدهما في مركّب أرقى ، وإنّما تظلّ الأُطروحة والطباق دون تركيب فالضدّان المتصارعان هنا ـ البيئة والحيوان ـ وإن كانا موجودين معاً في نهاية المعركة ، ولا يضمحلّ أحدهما خلال الصراع ، ولكنّهما لا يتوحّدان في مركّب جديد كما تتوحّد الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في مركّب اجتماعي جديد

وأخيراً ، فأين الدفعية ؟ وأين التكامل في التطوّر البيولوجي عند داروين ؟ فإنّ الديالكتيك يؤمن بأنّ التحوّلات الكيفية تحصل بصورة دفعية خلافاً للتغيّرات الكمّية التي تنمو ببطء ، كما أنّه يؤمن أنّ الحركة في اتّجاه متكامل وصاعد دائماً ، ونظرية داروين أو فكرة التطوّر البيولوجي تبرهن على إمكان العكس تماماً ، فقد بيّن علماء البيولوجيا : بأنّ في الطبيعة الحيّة حالات انتقال تدريجية ، كما أنّ فيها حالات انتقال بشكل قفزات مفاجئة(١) كما أنّ التفاعل الذي يحدّده داروين بين الكائن الحيّ والطبيعة ليس من الضروري فيه أن يضمن تكامل الكائن المتطوّر ، بل قد يفقد بسبب ذلك شيئاً ممّا كان قد حصل عليه من الكمال طبقاً للقوانين التي يحدّدها في نظريّته للتفاعل بين الحياة والطبيعة ، كالحيوانات التي اضطرّت منذ أبعد الآماد إلى العيش في الكهوف وترك حياة النور ، ففقدت بصرها في رأي داروين بسبب تفاعلها بمحيطها الخاصّ ، وعدم استعمالها لعضو الإبصار في مجالاتها المعيشية ، وبذلك أدّى التطوّر في التركيب العضوي إلى الانحطاط ، خلافاً للماركسية التي تعتقد أنّ العمليات التطوّرية المترابطة في الطبيعة المنبثقة عن تناقضات داخلية تستهدف التكامل دائماً ؛ لأنّها عمليات تقدّمية صاعدة

____________________

(١) الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم : ٤٤

٣٣٠

المفهوم الفلسفي للعالم / ٣

مبدأ العلّيّة

القضايا المبتنية على مبدأ العلّيّة

لماذا تحتاج الأشياء إلى علّة ؟

التعاصر بين العلّة والمعلول

٣٣١

٣٣٢

إنّ من أوّليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية ، (مبدأ العلّية) القائل : إنّ لكلّ شيء سبباً وهو من المبادئ العقلية الضرورية(١) ؛ لأنّ الإنسان يجد في صميم طبيعته الباعث الذي يبعثه إلى محاولة تعليل ما يجد من أشياء ، وتبرير وجودها باستكشاف أسبابها وهذا الباعث موجود بصورة فطرية في الطبيعة الإنسانية ، بل قد يوجد عند عدّة أنواع من الحيوان أيضاً ، فهو يلتفت إلى مصدر الحركة غريزياً ؛ ليعرف سببها ، ويفحص عن منشأ الصوت ؛ ليدرك علّته وهكذا يواجه الإنسان ـ دائماً ـ سؤال : لماذا ؟ مقابل كلّ وجود وظاهرة يحسّ بهما ، حتّى إنّه إذا لم يجد سبباً معيّناً ، اعتقد بوجود سبب مجهول انبثق عنه الحادث

____________________

(١) أشرنا سابقاً إلى أنّ السيّد المؤلّفقدس‌سره توصّل في كتابه (الأُسس المنطقيّة للاستقراء) إلى إمكان الاستدلال على قوانين العلّيّة بالطريقة الاستقرائيّة في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة ، حتّى لو استبعدنا العلم العقلي القبلي بها راجع مناقشتهرحمه‌الله للاتّجاه الأوّل من اتّجاهات المذهب التجريبي في الكتاب المذكور (لجنة التحقيق )

٣٣٣

[ القضايا المبتنية على مبدأ العلّيّة ]

وعلى أساس مبدأ العلّية يتوقّف :

أوّلاً : إثبات الواقع الموضوعي للإحساس

ثانياً : كلّ النظريات ، أو القوانين العلمية المستندة إلى التجربة

ثالثاً : جواز الاستدلال وإنتاجه في أيّ ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية

فلولا مبدأ العلّية وقوانينها ، لما أمكن إثبات موضوعية الإحساس ، ولا شيء من نظريات العلم وقوانينه ، ولما صحّ الاستدلال بأيّ دليل كان في مختلف مجالات المعرفة البشرية(١) وفيما يلي توضيح ذلك :

[ ١- ] العلّية وموضوعية الإحساس :

سبق أن أوضحنا في نظرية المعرفة : أنّ الحسّ لا يعدو أن يكون لوناً من ألوان التصوّر فهو وجود لصورة الشيء المحسوس في مدارك الحسّ ، ولا يملك صفة الكشف التصديقي عن واقع خارجي ، ولذلك قد يحسّ الإنسان بأشياء في حالات مرضية ولا يصدّق بوجودها فالإحساس ـ إذن ـ ليس سبباً كافياً للتصديق أو الحكم ، أو العلم بالواقع الموضوعي

____________________ــ

(١) قلنا سابقاً : إنّهرحمه‌الله انتهى إلى إمكان تفسير الجزء الأكبر من المعارف البشريّة على أساس الدليل الاستقرائي في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة ، وقد جاء تفصيل ذلك في القسم الرابع من كتابه (الأُسس المنطقيّة للاستقراء) فراجع(لجنة التحقيق)

٣٣٤

ولكن المسألة التي تواجهنا حينئذٍ ، هي : أنّ الإحساس إذا لم يكن بذاته دليلاً على وجود المحسوس خارج حدود الشعور والإدراك ، فكيف نصدّق ـ إذن ـ بالواقع الموضوعي ؟

والجواب جاهز على ضوء دراستنا لنظرية المعرفة ، وهو : أنّ التصديق بوجود واقع موضوعي للعالم تصديق ضروري أوّلي ، فهو لأجل ذلك لا يحتاج إلى دليل ، ولكن هذا التصديق الضروري إنّما يعني وجود واقع خارجي للعالم على سبيل الإجمال وأمّا الواقع الموضوعي لكلّ إحساس ، فهو ليس معلوماً علماً ضرورياً وإذن فنحتاج إلى دليل لإثبات موضوعية كلّ إحساس بصورة خاصّة ، وهذا الدليل هو : مبدأ العلّية وقوانينها ؛ ذلك أنّ حدوث صورة لشيء معيّن في ظروف وشروط معيّنة ، يكشف عن وجود علّة خارجية له ، تطبيقاً لذلك المبدأ فلولا هذا المبدأ لما كشف الإحساس ، أو وجود الشيء في الحسّ عن وجوده في مجال آخر ولأجل هذا السبب قد يحسّ الإنسان بأشياء ، أو يُخيّل له أنّه يبصرها في حالات مرضية خاصّة ، ولا يستكشف من ذلك واقعاً موضوعياً لتلك الأشياء ؛ حيث إنّ تطبيق مبدأ العلّية لا يدلّل على وجود هذا الواقع ما دام يمكن تعليل الإحساس بالحالة المرضية الخاصّة ، وإنّما يثبت الواقع الموضوعي للحسّ فيما إذا لم يكن له تفسير على ضوء مبدأ العلّية ، إلاّ بواقع موضوعي ينشأ الإحساس منه

ويستنتج من ذلك القضايا الثلاث الآتية :

الأُولى : أنّ الإحساس وحده لا يكشف عن وجود واقع موضوعي ؛ لأنّه تصوّر ، وليس من وظائف التصوّر ـ بمختلف ألوانه ـ الكشف التصديقي

الثانية : أنّ العلم بوجود واقع للعالم على سبيل الإجمال ، حكم ضروري

٣٣٥

أوّلي لا يحتاج إلى دليل ، أي : إلى علم سابق وهو النقطة الفاصلة بين المثالية والواقعية

الثالثة : أنّ العلم بوجود واقع موضوعي لهذا الحسّ أو ذاك ، إنّما يكتسب على ضوء مبدأ العلّية

[ ٢- ] العلّية والنظريات العلمية :

إنّ النظريات العلمية في مختلف ميادين التجربة والمشاهدة ، تتوقّف بصورة عامّة على مبدأ العلّية وقوانينها توقّفاً أساسياً وإذا سقطت العلّية ونظامها الخاصّ من حساب الكون ، يصبح من المتعذّر تماماً تكوين نظرية علمية في أيّ حقل من الحقول وليتّضح هذا نجد من الضروري أن نشير إلى عدّة قوانين من المجموعة الفلسفية للعلّية التي يرتكز عليها العلم ، وهي كما يلي :

أ ـ مبدأ العلّية القائل : إنّ لكلّ حادثة سبباً

ب ـ قانون الحتمية القائل : إنّ كلّ سبب يولّد النتيجة الطبيعية له بصورة ضرورية ، ولا يمكن للنتائج أن تنفصل عن أسبابها

ج ـ قانون التناسب بين الأسباب والنتائج ، القائل : إنّ كلّ مجموعة متّفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة ، يلزم أن تتّفق ـ أيضاً ـ في الأسباب والنتائج

فعلى ضوء مبدأ العلّية نعرف ـ مثلاً ـ أنّ الإشعاع الذي ينبثق عن ذرّة الراديوم له سبب ، وهو : الانقسام الداخلي في محتوى الذرّة وعلى ضوء قانون الحتمية ، نستكشف أنّ هذا الانقسام عند استكمال الشروط اللازمة ، يولّد الإشعاع الخاصّ بصورة حتمية ، وليس من الممكن الفصل بينهما وعلى أساس قانون التناسب نستطيع أن نعمّم ظاهرة الإشعاع ، وتفسيرها الخاصّ لجميع ذرّات

٣٣٦

الراديوم ، فنقول : ما دامت جميع ذرّات هذا العنصر متّفقة في الحقيقة ، فيجب أن تتّفق في أسبابها ونتائجها ، فإذا كشفت التجربة العلمية عن إشعاع في بعض ذرّات الراديوم ، أمكن القول باعتباره ظاهرة عامة لسائر الذرّات المماثلة في الظروف المشخّصة الواحدة

ومن الواضح : أنّ القانونين الأخيرين : الحتمية والتناسب ، منبثقان عن مبدأ العلّية ، فلو لم تكن في الكون علّية بين بعض الأشياء وبعض ، وكانت الأشياء تحدث صدفة واتّفاقاً ، لم يكن من الحتمي أن يوجد الإشعاع بدرجة معيّنة حين تكون هناك ذرّة راديوم ، ولم يكن من الضروري ـ أيضاً ـ أن تشترك جميع ذرّات العنصر في ظواهر إشعاعية معيّنة ، بل يصبح من الجائز أن يكون الإشعاع في ذرّة دون أخرى ، لا لشيء إلاّ للصدفة والاتّفاق ، ما دام مبدأ العلّية خارجاً عن حساب الكون فمردّ الحتمية والتناسب معاً إلى مبدأ العلّية

ولنعد الآن ـ بعد أن عرفنا الفقرات الرئيسية الثلاث : العلّية ، والحتمية ، والتناسب ـ إلى العلوم والنظريات العلمية ، فإنّنا سوف نجد بكلّ وضوح : أنّ جميع النظريات والقوانين التي تزخر بها العلوم ، مرتكزة في الحقيقة على أساس تلك الفقرات الرئيسية ، وقائمة على مبدأ العلّية وقوانينها فلو لم يؤخذ هذا المبدأ كحقيقة فلسفية ثابتة ، لما أمكن أن تقام نظرية ، ويشاد قانون علمي له صفة العموم والشمول ؛ ذلك أنّ التجربة التي يقوم بها العالم الطبيعي في مختبره ، لا يمكن أن تستوعب جميع جزئيات الطبيعة ، وإنّما تتناول عدّة جزئيات محدودة متّفقة في حقيقتها ، فتكشف عن اشتراكها في ظاهرة معيّنة ، وحيث يتأكّد العالم من صحّة التجربة ودقّتها وموضوعيتها ، يضع فوراً نظريته أو قانونه العام الشامل لجميع ما يماثل موضوع تجربته من أجزاء الطبيعة وهذا التعميم الذي هو شرط أساسي

٣٣٧

لإقامة علم طبيعي ، لا مبرّر له إلاّ قوانين العلّية بصورة عامّة ، وقانون التناسب منها بصورة خاصّة ، القائل : إنّ كلّ مجموعة متّفقة في حقيقتها ، يجب أن تتّفق ـ أيضاً ـ في العلل والآثار ، فلو لم تكن في الكون علل وآثار ، وكانت الأشياء تجري على حسب الاتّفاق البحت ، لما أمكن للعالم الطبيعي القول : إنّ ما صحّ في مختبره الخاصّ ، يصحّ على كلّ جزء من الطبيعة على الإطلاق

ولنأخذ لذلك مثالاً بسيطاً ، مثال العالم الطبيعي الذي أثبت بالتجربة أنّ الأجسام تتمدّد حال حرارتها ، فإنّه لم يحط بتجاربه جميع الأجسام التي يحتويها الكون طبعاً ، وإنّما أجرى تجاربه على عدّة أجسام متنوّعة ، كعجلات العربة الخشبية التي توضع عليها إطارات حديدية أصغر منها ، حال سخونتها ، فتنكمش الإطارات إذا بردت وتشتدّ على الخشب ، ولنفرض أنّه كرّر التجربة عدّة مرّات على أجسام أخرى ، فلن ينجو في نهاية المطاف التجريبي عن مواجهة هذا السؤال : ما دمتَ لم تستقصِ جميع الجزئيات ، فكيف يمكنك أن تؤمن بأنّ إطارات جديدة أخرى غير التي جرّبتها ، تتمدّد هي الأخرى ـ أيضاً ـ بالحرارة

والجواب الوحيد على هذا السؤال هو : مبدأ العلّية وقوانينها فالعقل حيث إنّه لا يقبل الصدفة والاتّفاق ، وإنّما يفسّر الكون بالعلّية وقوانينها من الحتمية والتناسب ، يجد في التجارب المحدودة الكفاية للإيمان بالنظرية العامة القائلة بتمدّد الأجسام بالحرارة ؛ لأنّ هذا التمدّد الذي كشفت عنه التجربة لم يكن صدفة ، وإنّما كان حصيلة الحرارة ومعلولاً لها ، وحيث إنّ قانون التناسب في العلّية ينصّ على أنّ المجموعة الواحدة من الطبيعة تتّفق في أسبابها ونتائجها وعللها وآثارها ، فلا غرو أن تحصل كلّ المبرّرات ـ حينئذٍ ـ للتأكيد على شمول ظاهرة التمدّد لسائر الأجسام

وهكذا نعرف أنّ وضع النظرية العامّة لم يكن ميسوراً دون الانطلاق من

٣٣٨

مبدأ العلّية فمبدأ العلّية هو الأساس الأوّل لجميع العلوم والنظريات التجريبية(١)

وبتلخيص : أنّ النظريات التجريبية لا تكتسب صفة علمية ما لم تعمّم لمجالات أوسع من حدود التجربة الخاصّة ، وتقدّم كحقيقة عامّة ولا يمكن تقديمها كذلك إلاّ على ضوء مبدأ العلّية وقوانينها ، فلابدّ للعلوم عامّة أن تعتبر مبدأ العلّية وما إليها من قانوني الحتمية والتناسب ، مسلّمات أساسية ، وتسلم بها بصورة سابقة على جميع نظريّاتها وقوانينها التجريبية

[ ٣- ] العلّية والاستدلال :

مبدأ العلّية هو الركيزة التي تتوقّف عليها جميع محاولات الاستدلال في كلّ مجالات التفكير الإنساني ؛ لأنّ الاستدلال بدليل على شيء من الأشياء ، يعني : أنّ الدليل إذا كان صحيحاً ، فهو سبب للعلم بالشيء المستدلّ عليه فحين نبرهن على حقيقة من الحقائق بتجربة علمية ، أو بقانون فلسفي ، أو بإحساس بسيط ، إنّما نحاول بذلك أن يكون البرهان علّة للعلم بتلك الحقيقة فلولا مبدأ العلّية والحتمية ، لما أُتيح لنا ذلك ؛ لأنّنا إذا طرحنا قوانين العلّية من الحساب ، ولم نؤمن بضرورة وجود أسباب معيّنة لكلّ حادث ، لم تبقَ صلة بعد ذلك بين الدليل الذي نستند إليه ، والحقيقة التي نحاول اكتسابها بسببه ، بل يصبح من الجائز أن يكون الدليل

____________________

(١) ولكنّهرحمه‌الله جدّد النظر حول مشكلة التعميمات الاستقرائيّة في كتابه (الأسس المنطقيّة للاستقراء) وأثبت عجز المذهب العقلي للمعرفة ـ بما فيه من مبدأ العلّيّة وقوانينها ـ عن حلّ تلك المشكلة ، كما أنّ المذهب التجريبي للمعرفة عاجز عن ذلك أيضاً ، وانتهى إلى أنّ الحلّ الوحيد لمشكلة التعميمات الاستقرائيّة يتمّ في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة ، من دون حاجة إلى الإيمان المسبق بمبدأ العلّيّة وقوانينها(لجنة التحقيق)

٣٣٩

صحيحاً ولا ينتج النتيجة المطلوبة ما دامت قد انفصمت علاقة العلّية بين الأدلة والنتائج ، بين الأسباب والآثار

وهكذا يتّضح : أنّ كلّ محاولة للاستدلال تتوقّف على الإيمان بمبدأ العلّية ، وإلاّ كانت عبثاً غير مثمر(١) وحتّى الاستدلال على ردّ مبدأ العلّية الذي يحاوله

____________________

(١) حاصل الكلام : أنّ من يحاول الاستدلال على قضيّة من القضايا لا بدّ له أن يكون على قناعة مسبقة بأنّه لو تمّ له الدليل لحصل له العلم بالنتيجة ، وإلاّ لما أقحم نفسه في متاعب الاستدلال ، وهذه القناعة إنّما تحصل على أساس الإيمان بسببيّة العلم بالدليل للعلم بالنتيجة ، كي يتسنّى له الانتقال من العلم بالدليل إلى العلم بالنتيجة ولمّا كانت هذه السببيّة مشتملةً على كبرى وصغرى كان عليه أن يؤمن مسبقاً بكبرى سببيّة كلّ علمٍ بالدليل للعلم بالنتيجة ، ثمّ يستلهم الصغرى من خلال الاستدلال في كلّ قضيّةٍ من القضايا وهذا واضح في ضوء المذهب العقلي للمعرفة الذي يرى أنّ الطريقة الوحيدة لنموّ المعارف البشريّة عبارة عن طريقة التوالد الموضوعي التي تكون النتيجة فيها مستبطنةً في المقدّمات ، كما هو كذلك في الأدلّة التي يكون السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ

وأمّا في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة الذي يؤمن بوجود طريقة أخرى لنموّ المعارف البشريّة ، وهي طريقة التوالد الذاتي التي تعني نشوء معرفة جديدة من معارف أخرى قبليّة من دون ضرورة كون النتيجة مستبطنةً في المقدّمات ، كما هو كذلك ـ حسب رأي هذا المذهب ـ في الأدلّة الاستقرائيّة التي يكون السير الفكري فيها من الخاصّ إلى العامّ ، فليس من الضروري أن نؤمن مسبقاً بكبرى سببيّة العلم بالدليل للعلم بالنتيجة ، إذ يمكن التوصّل ـ في رأي هذا المذهب ـ إلى عموم سببيّة العلم بالدليل للعلم بالنتيجة من خلال استقراء عددٍ من الأدلّة الخاصّة التي نشعر فيها وجداناً بالعلم بالنتيجة ، فبدلاً عن الإيمان المسبق بعموم سببيّة العلم بالدليل للعلم بالنتيجة ، ثمّ الانتقال منه إلى الأدلّة الخاصّة بوصفها مصاديق وصغريات لذلك العامّ ، يمكن ـ في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة ـ أن

٣٤٠