فلسفتنا

فلسفتنا0%

فلسفتنا مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: كتب
الصفحات: 438

فلسفتنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 438
المشاهدات: 34600
تحميل: 11460

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34600 / تحميل: 11460
الحجم الحجم الحجم
فلسفتنا

فلسفتنا

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حصلت بعد انفصال الجهاز عن القوّة الخارجية المحرّكة ، أن يزاد في أمدها ، بتدهين آلات الجهاز ، وتسوية الطريق ، وتخفيف الضغط الخارجي غير أنّ هذه الأمور لا شأن لها ، إلاّ تخفيف الموانع عن الحركة من الاصطكاك ونحوه ، فإذا استطعنا أن نضاعف من هذه المخفّفات ، نضمن مضاعفة الحركة ، وإذا افترضنا ارتفاع جميع الموانع ، وزوال الضغط الخارجي نهائياً ، كان معنىً ذلك استمرار الحركة إلى غير حدّ بسرعة معيّنة ، فيعرف من ذلك : أنّ الحركة إذا أثيرت في جسم ، ولم تعترضها قوّة خارجية مصادمة ، تبقى بسرعة معيّنة ، وإن بطلت القوّة فالقوى الخارجية إنّما تؤثّر في تغيير السرعة عن حدّها الطبيعي ، تنزل أو ترتفع بها ولذلك كان مدى السرعة ـ من حيث الشدّة والضعف والبطء ـ يتوقّف على الضغط الخارجي الموافق أو المعاكس وأمّا نفس الحركة واستمرارها بسرعتها الطبيعية ، فلا يتوقّف ذلك على عوامل خارجية

ومن الواضح : أنّ هذه التجربة حين تكون صحيحة ، لا تعني أنّ المعلول بقي من دون علّة ، ولا تعاكس القانون الفلسفي الذي ذكرناه ؛ لأنّ التجربة لم توضّح ما هي العلّة الحقيقية للحركة ؛ لنعرف ما إذا كانت تلك العلّة قد زالت مع استمرار الحركة وكأنّ هؤلاء الذين حاولوا أن يدلّلوا بها على بطلان القانون الفلسفي ، زعموا أنّ العلّة الحقيقية للحركة هي القوّة الخارجية المحرّكة ، ولمّا كانت هذه القوّة قد انقطعت صلتها بالحركة ، واستمرّت الحركة بالرغم من ذلك ، فيكشف ذلك عن استمرار الحركة بعد زوال علّتها

ولكنّ الواقع : أنّ التجربة لا تدلّ على أنّ القوّة الدافعة من خارج هي العلّة الحقيقية ؛ ليستقيم لهم هذا الاستنتاج ، بل من الجائز أن يكون السبب الحقيقي للحركة شيئاً موجوداً على طول الخطّ والفلاسفة الإسلاميون يعتقدون : أنّ الحركات العرضية ـ بما فيها الحركة الميكانيكية للجسم ـ تتولّد جميعاً عن قوّة

٣٦١

قائمة بنفس الجسم فهذه القوّة هي المحرّكة الحقيقية ، والأسباب الخارجية إنّما تعمل لإثارة هذه القوّة وإعدادها للتأثير وعلى هذا الأساس قام مبدأ (الحركة الجوهرية ) ، كما أوضحناه في الجزء السابق من هذه المسألة(١) ولسنا نستهدف الآن الإفاضة في هذا الحديث ، وإنّما نرمي من ورائه إلى توضيح : أنّ التجربة العلمية التي قام على أساسها قانون (القصور الذاتي) ، لا تتعارض مع قوانين العلّية ، ولا تبرهن على ما يعاكسها مطلقاً

النتيجة :

ولم يبقَ علينا لأجل أن نصل إلى النتيجة إلاّ أن نعطف على ما سبق (قانون النهاية) ، وهو القانون القائل : إنّ العلل المتصاعدة في الحساب الفلسفي التي ينبثق بعضها عن بعض يجب أن يكون لها بداية ، أي : علّة اُولى لم تنبثق عن علّة سابقة ولا يمكن أن يتصاعد تسلسل العلل تصاعداً لا نهائياً ؛ لأنّ كلّ معلول ـ كما سبق ـ ليس إلاّ ضرباً من التعلّق والارتباط بعلّته ، فالموجودات المعلولة جميعاً ارتباطات وتعلّقات ، والارتباطات تحتاج إلى حقيقة مستقلّة تنتهي إليها فلو لم توجد لسلسلة العلل بداية ، لكانت الحلقات جميعاً معلولة ، وإذا كانت معلولة فهي مرتبطة بغيرها ، ويتوجّه السؤال ـ حينئذٍ ـ عن الشيء الذي ترتبط به هذه الحلقات جميعاً

وفي عرض آخر : أنّ سلسلة الأسباب إذا كان يوجد فيها سبب غير خاضع لمبدأ العلّية ، ولا يحتاج إلى علّة ، فهذا هو السبب الأوّل الذي يضع للسلسلة بدايتها ما دام غير منبثق عن سبب آخر يسبقه ، وإذا كان كلّ موجود في السلسلة محتاجاً

____________________

(١) تحت عنوان : (١- حركة التطوّر)

٣٦٢

إلى علّة- طبقاً لمبدأ العلّية- دون استثناء ، فالموجودات جميعاً تصبح بحاجة إلى علّة

ويبقى سؤال : (لماذا ؟)- هذا السؤال الضروري- منصّباً على الوجود بصورة عامة ، ولا يمكن أن نتخلّص من هذا السؤال إلاّ بافتراض سبب أوّل متحرّر من مبدأ العلّية ؛ فإنّنا ـ حينئذٍ ـ ننتهي في تعليل الأشياء إليه ، ولا نواجه فيه سؤال : لماذا وجد ؟ لأنّ هذا السؤال إنّما نواجهه في الأشياء الخاضعة لمبدأ العلّية خاصّة

فلنأخذ الغليان مثلاً ، فهو ظاهرة طبيعية محتاجة إلى سبب ، طبقاً لمبدأ العلّية ، ونعتبر سخونة الماء سبباً لها ، وهذه السخونة هي كالغليان في افتقارها إلى علّة سابقة وإذا أخذنا الغليان والسخونة كحلقتين في سلسلة الوجود ، أو في تسلسل العلل والأسباب ، وجدنا من الضروري أن نضع للسلسلة حلقة أخرى ؛ لأنّ كلاً من الحلقتين بحاجة إلى سبب ، فلا يمكنهما الاستغناء عن حلقة ثالثة ، والحلقات الثلاث تواجه بمجموعها نفس المسألة ، وتفتقر إلى مبرّر لوجودها ما دامت كلّ واحدة منها خاضعة لمبدأ العلّية وهذا هو شأن السلسلة دائماً وأبداً ولو احتوت على حلقات غير متناهية فما دامت حلقاتها جميعاً محتاجة إلى علّة ، فالسلسلة بمجموعها مفتقرة إلى سبب ، وسؤال (لماذا وجد ؟) يمتدّ ما امتدّت حلقاتها ، ولا يمكن تقديم الجواب الحاسم عليه ما لم ينته التسلسل فيها إلى حلقة غنية بذاتها غير محتاجة إلى علّة ، فتقطع التسلسل ، وتضع للسلسلة بدايتها الأزليّة الأُولى(١)

وإلى هنا نكون قد جمعنا ما يكفي للبرهنة على انبثاق هذا العالم عن واجب

____________________

(١) وبالتعبير الفلسفي الدقيق : أنّ الشيء لا يوجد إلاّ إذا امتنع عليه جميع أنحاء العدم ، ومن جملة أنحاء العدم ، عدمه بعدم جميع أسبابه ، وهذا لا يمتنع إلاّ إذا كان يوجد في جملة أسبابه واجب بالذات (المؤلّف قدس‌سره )

٣٦٣

بالذات ، غني بنفسه ، وغير محتاج إلى سبب ؛ لأنّ هذا هو ما يحتّمه تطبيق مبدأ العلّية على العالم بموجب قوانينها السالفة الذكر ؛ فإنّ العلّية بعد أن كانت مبدأً ضرورياً للكون ، وكان تسلسلها اللانهائي مستحيلاً ، فيجب أن تطبّق على الكون تطبيقاً شاملاً متصاعداً حتّى يقف عند علّة أولى واجبة

ولا بأس أن نشير في ختام هذا البحث إلى لون من التفكير المادّي في هذا المجال ، تقدّم به بعض الكتّاب المعاصرين للردّ على فكرة السبب الأوّل أو العلّة الأُولى ، فهو يقول : إنّ السؤال عن العلّة الأُولى لا معنى له ، فالتفسير العلّي أو السببي يستلزم ، دائماً ، حدّين اثنين مرتبطاً أحدهما بالآخر ، هما العلّة والمعلول ، أو السبب والمسبّب ، فعبارة (علّة أُولى) فيها تناقض في الحدود ؛ إذ إنّ كلمة : (علّة) تستلزم حدّين كما رأينا ، لكن كلمة : (أُولى) تستلزم حدّاً واحداً ، فالعلّة لا يمكن أن تكون (أُولى) وتكون (علّة) في نفس الوقت ، فإمّا أن تكون أُولى دون أن تكون علّة ، أو بالعكس(١)

ولا أدري من قال له : إنّ كلمة : (علّة) تستلزم علّة قبلها صحيح : أنّ التفسير السببي يستلزم ـ دائماً ـ حدّين هما : العلّة والمعلول ، وصحيح : أنّ من التناقض أن نتصوّر علّة بدون معلول ناتج عنها ؛ لأنّها ليست ـ عندئذٍ ـ علّة ، وإنّما هي شيء عقيم ، وكذلك من الخطأ أن نتصوّر معلولاً لا علّة له ، فكلّ منها يتطلّب الآخر إلى جانبه ، ولكن العلّة بوصفها علّة ، لا تتطلّب علّة قبلها ، وإنّما تتطلّب معلولاً ، فالحدّان متوفّران معاً في فرضية (العلّة الأُولى) ؛ لأنّ العلّة الأُولى لها معلولها الذي ينشأ منها ، وللمعلول علّته الأُولى ؛ لا يتطلّب المعلول دائماً معلولاً ينشأ منه ؛ إذ قد تتولّد ظاهرة من سبب ولا يتولّد عن الظاهرة شيء جديد ، كذلك العلّة لا تتطلّب علّة فوقها ، وإنّما تتطلّب معلولاً لها

____________________

(١) المسألة الفلسفيّة ، الدكتور محمّد عبد الرحمن مرحبا : ٨٠

٣٦٤

المفهوم الفلسفي للعالم / ٤

المادّة أو الله ؟

المادّة على ضوء الفيزياء

المادّة والفلسفة

المادّة والحركة

المادّة والوجدان

٣٦٥

٣٦٦

انتهينا من الجزء السابق إلى نتيجة ، هي : أنّ المردّ الأساسي الأعمق للكون والعالم- بصورة عامة - هو العلّة الواجبة بالذات التي ينتهي إليها تسلسل الأسباب والمسألة الجديدة هي : أنّ هذه العلّة الواجبة الذات التي تعتبر الينبوع الأوّل للوجود ، هل هي المادّة نفسها ، أو شيء آخر فوق حدودها ؟ وبالصيغة الفلسفية للسؤال نقول : إنّ العلّة الفاعلية للعالم ، هل هي نفس العلّة المادّية أو لا ؟

ولأجل التوضيح نأخذ مثالاً ، وليكن هو الكرسي فالكرسي عبارة عن صفة أو هيئة خاصّة ، تحصل من تنظيم عدّة أجزاء مادّية تنظيماً خاصّاً ، ولذلك فهو لا يمكن أن يوجد دون مادّة من خشب أو حديد نحوهما وبهذا الاعتبار يُسمّى الخشب علّة مادّية للكرسي الخشبي ؛ فإنه لم يكن من الممكن أن يوجد الكرسي الخشبي من دون الخشب لكن من الواضح جدّاً : إنّ هذه العلّة المادّية ليست هي العلّة الحقيقية التي صنعت الكرسي ؛ فإنّ الفاعل الحقيقي للكرسي شيء غير مادّته ، وهو النجّار ولذا تطلق الفلسفة على النجّار اسم : العلّة الفاعلية فالعلّية الفاعلية للكرسي ليست هي نفس علّته المادّية من الخشب أو الحديد فإذا سُئلنا عن مادّة الكرسي ، أجبنا أنّ مادّته هي الخشب ، وإذا سئلنا عن الصانع له (= العلّة الفاعلية) ، لم نجب بأنّه الخشب ، وإنّما نقول : إنّ النجّار صنعه بآلاته ووسائله

٣٦٧

الخاصّة فالمفارقة بين المادّة والفاعل في الكرسي (أو في التعبير الفلسفي : بين العلّة المادّية والعلّة الفاعلية) واضحة كلّ الوضوح

وهدفنا الرئيسي من المسألة : أن نتبيّن نفس المفارقة في نفس العالم ، بين مادته الأساسية (العلّة المادّية) والفاعل الحقيقي (العلّة الفاعلية) فهل فاعل هذا العالم وصانعه شيء آخر خارج عن حدود المادّة ومغاير لها ، كما أنّ صانع الكرسي مغاير لمادّته الخشبية ؟ أو إنّه نفس المادّة التي تتركّب منها كائنات العالم ؟

وهذه هي المسألة التي تُقرّر المرحلة الأخيرة من مراحل النزاع الفلسفي بين الإلهية والمادّية وليس الديالكتيك إلاّ إحدى المحاولات الفاشلة التي قامت بها المادّية للتوحيد بين العلّة الفاعلية والعلّة المادّية للعالم ، طبقاً لقوانين التناقض الديالكتيكية

والتزاماً بطريقة الكتاب سوف نبحث المسألة بدراسة المادّة دراسة فلسفية على ضوء المقرّرات العلمية والقواعد الفلسفية ، متحاشين العمق الفلسفي في البحث ، والتفصيل في العرض

٣٦٨

المادّة على ضوء الفيزياء

في المادّة فكرتان علميتان ، تناولهما العلماء بالبحث والدرس منذ آلاف السنين :

إحداهما : أنّ جميع الموادّ المعروفة في دنيا الطبيعة إنّما تتركّب من عدّة موادّ بسيطة محدودة ، تُسمّى بالعناصروالأخرى : أنّ المادّة تتكوّن من دقائق صغيرة جدّاً ، تُسمّى الذرّات .

أمّا الفكرة الأُولى فقد أخذ بها الإغريق بصورة عامّة ، وكان الرأي السائد هو اعتبار الماء والهواء والتراب والنار ، عناصر بسيطة ، وإرجاع جميع المركّبات إليها ، بصفتها الموادّ الأوّلية في الطبيعة وحاول بعض علماء العرب(١) بعد ذلك أن يضيفوا إلى هذه العناصر الأربعة ثلاثة عناصر أخرى ، هي : الكبريت ، والزئبق ، والملح وقد كانت خصائص العناصر البسيطة ـ في رأي الأقدمين(٢) ـ حدوداً فاصلة بينها ، فلا يمكن أن يتحوّل عنصر بسيط إلى عنصر بسيط آخر

وأمّا الفكرة الثانية (فكرة ائتلاف الأجسام من ذرّات صغيرة) فكانت موضوع صراع بين نظريتين : النظرية الانفصالية ، والنظرية الاتّصالية ، فالنظرية الانفصالية هي النظرية الذرّية للفيلسوف الإغريقي (ديمقريطس)(٣) ، القائلة : إنّ

____________________

(١) عمر فرّوخ ، تاريخ العلوم عند العرب : ٢١٦

(٢) المصدر السابق : ٧٠

(٣) اُنظر تفصيل النظريّة في : قصّة الفلسفة اليونانيّة : ٤٨ ـ ٥٣ (الفصل السادس : المذهب الذرّي) تاريخ العلوم عند العرب : ٧١ و ١٠١

٣٦٩

الجسم مركّب من أجزاء صغيرة ، يتخلّل بينها فراغ ، وأطلق على تلك الأجزاء اسم الذرّة ، أو الجزء الذي لا يتجزّأ والنظرية الاتّصالية هي النظرية الغالبة التي أخذ بها أرسطو ورجال مدرسته والجسم في زعم هذه النظرية ليس محتوياً على ذرّات ، ومركّباً من وحدات صغيرة ، بل هو شيء واحد متماسك يمكننا أن نقسّمه فنخلق منه أجزاء منفصلة بالتقسيم ، لا أنّه يشتمل سلفاً على أجزاء كهذه(١)

وقد جاء بعد ذلك دور الفيزياء الحديثة ، فدرست الفكرتين درساً علمياً على ضوء اكتشافاتها في عالم الذرّة فأقرّت الفكرتين بصورة أساسية : فكرة العناصر البسيطة ، وفكرة الذرّات ، وكشفت في مجال كلّ منهما عن حقائق جديدة لم يكن من الممكن التوصّل إليها سابقاً

ففيما يخصّ الفكرة الأُولى استكشفت الفيزياء ما يقارب مئة من العناصر البسيطة التي تتكوّن منها المادّة الأساسية للكون والطبيعة بصورة عامّة فالعالم وإن بدا لأوّل مرّة مجموعة هائلة من الحقائق والأنواع المختلفة ، ولكن هذا الحشد الهائل المتنوّع يرجع في التحليل العلمي إلى تلك العناصر المحدودة

والأجسام ـ بناءً على هذا ـ قسمان : أحدهما جسم بسيط ، وهو الذي يتكوّن من أحد تلك العناصر ، كالذهب ، والنحاس ، والحديد ، والرصاص ، والزئبق والآخر هو الجسم المركّب من عنصرين أو عدّة عناصر بسيطة ، كالماء المركّب من ذرّة أوكسجين وذرّتين من الهيدروجين ، أو الخشب المركّب في الغالب من الأوكسجين والكربون والهيدروجين

وفيما يخصّ الفكرة الثانية برهنت الفيزياء الحديثة علمياً على النظرية الانفصالية ، وأنّ العناصر البسيطة مؤلّفة من ذرّات صغيرة ودقيقة إلى حدّ أنّ

____________________

(١) تاريخ العلوم عند العرب : ٧٣

٣٧٠

المليمتر الواحد من المادّة يحتوي على ملايين من تلك الذرّات والذرّة عبارة عن الجزء الدقيق من العنصر الذي تزول بانقسامه خصائص ذلك العنصر البسيط

والذرّات تحتوي على نواة مركزية لها ، وعلى كهارب تدور حول النواة بسرعة هائلة ، وهذه الكهارب هي الإلكترونات والإلكترون هو وحدة الشحنة السالبة كما أنّ النواة تحتوي على بروتونات ونيوترونات فالبروتونات هي الدقائق الصغيرة وكلّ وحدة من وحداتها تحمل شحنة موجبة ، تساوي شحنة الإلكترون السالبة والنيوترونات دقائق أخرى تحتويها النواة ، وليس عليها أيّ شحنة كهربائية

وقد لوحظ على ضوء الاختلاف الواضح بين طول موجات الأشعّة التي تنتج عن قذف العناصر الكيماوية بقذائف من الإلكترونات ، أنّ هذا الاختلاف بين العناصر إنّما حصل بسبب اختلافها في عدد الإلكترونات التي تحتويها ذرّات هذه العناصر واختلافها في عدد الإلكترونات يقتضي تفاوتها في مقدار الشحنة الموجبة في النواة أيضاً ؛ لأنّ الذرّة متعادلة في شحناتها كهربائياً ، فالشحنة الموجبة فيها بمقدار السالبة ولمّا كانت زيادة عدد الإلكترونات في بعض العناصر على بعض يعني زيادة وحدات الشحنة السالبة فيها ، فيجب أن تكون نواتها محتوية على شحنة موجبة معادلة

وعلى هذا الأساس أُعطيت الأرقام المتصاعدة للعناصر فالهيدروجين = (١) بحسب رقمه الذرّي فهو يحتوي في نواته على شحنة واحدة موجبة ، يحملها بروتون واحد ، ويحيط بها إلكترون واحد ذو شحنة سالبة والهليوم أرقى منه في الجدول الذرّي للعناصر ؛ لأنّه = (٢) ، باعتباره يحتوي في نواته على ضعف الشحنة الموجبة المرتكزة في نواة الهيدروجين ، أي : على بروتونين ويحيط بنواتها إلكترونان ويأخذ الليثيوم الرقم الثالث وهكذا تتصاعد الأرقام

٣٧١

الذرّية إلى اليورانيوم ـ وهو أثقل العناصر المستكشفة لحدّ الآن ـ فرقمه الذرّي = (٩٢) ، بمعنى : أنّ نواته المركزية تشتمل على (٩٢) وحدة من وحدات الشحنة الموجبة ، ويحيط بها ما يماثل هذا العدد من الإلكترونات ، أي : من وحدات الشحنة السالبة

وفي هذا التسلسل للأرقام الذرّية لا يبدو للنيوترونات الكامنة في النواة أدنى تأثير ؛ لأنّها لا تحمل شحنة مطلقاً ، وإنّما تؤثّر في الوزن الذرّي للعناصر ؛ لأنّها في وزنها مساوية للبروتونات ولأجل ذلك كان الوزن الذرّي للهيلوم ـ مثلاً ـ يعادل وزن أربع ذرّات من الهيدروجين ، باعتبار اشتمال نواته على نيوترونين وبروتونين ، في حال أنّ النواة الهيدورجينية ، لا تحتوي إلاّ على بروتون واحد

ومن الحقائق التي أُتيح للعلم إثباتها هو : إمكان تبدّل العناصر بعضها ببعض ، وعمليات التبدّل هذه بعضها يتمّ بصورة طبيعية ، وبعضها يحصل بالوسائل العلمية فقد لوحظ أنّ عنصر اليورانيوم يولّد أنواعاً ثلاثة من الأشعّة ، هي : أشعّة ألفا ، وبيتا ، وجاما وقد وجد (رذرفورد) حين فحص هذه الأنواع أنّ أشعّة (ألفا) مكوّنة من دقائق صغيرة ، عليها شحنات كهربائية سالبة ، وقد ظهر نتيجة للفحص العلمي أنّ دقائق (الألفا) هي عبارة عن ذرّات هليوم ، بمعنى : أنّ ذرّات هليوم تخرج من ذرّات الراديوم ، أو بتعبير آخر : أنّ عنصر هليوم يتولّد من عنصر الراديوم

كما أنّ عنصر اليورانيوم بعد أن شعّ ألفا ، وبيتا ، وجاما ، يتحوّل تدريجياً إلى عنصر آخر ، وهو عنصر الراديوم والراديوم أخفّ في وزنه الذرّي من اليورانيوم ، وهو بدوره يمرّ بعدّة تحوّلات عنصرية حتّى ينتهي إلى عنصر الرصاص

٣٧٢

وقام (رذرفورد) بعد ذلك بأوّل محاولة لتحويل عنصر إلى عنصر آخر ؛ وذلك أنّه جعل نوى ذرّات الهليوم (دقائق الألفا) تصطدم بنوى ذرّات الآزوت ، فتولّدت البروتونات ، أي : نتجت ذرّة هيدروجين من ذرّة الآزوت ، وتحوّلت ذرّة الآزوت إلى اُوكسجين وأكثر من هذا ، فقد ثبت أنّ من الممكن أن تتحوّل بعض أجزاء الذرّة إلى جزء آخر ، فيمكن لبروتون ـ أثناء عملية انقسام الذرّة ـ أن يتحوّل إلى نيوترون ، وكذلك العكس

وهكذا أصبح تبديل العناصر من العمليات الأساسية في العلم

ولم يقف العلم عند هذا الحدّ ، بل بدأ بمحاولة تبديل المادّة إلى طاقة خالصة ، أي : نزع الصفة المادّية للعنصر بصورة نهائية ، وذلك على ضوء جانب من النظرية النسبية لـ‍ (آينشتين) ؛ إذ قرّر أنّ كتلة الجسم نسبية ، وليست ثابتة ، فهي تزيد بزيادة السرعة ، كما تؤكّد التجارب التي أجراها علماء الفيزياء الذرّية على الإلكترونات التي تتحرّك في مجال كهربائي قوي ، ودقائق (بيتا) المنطلقة من نوايا الأجسام المشعّة ولمّا كانت كتلة الجسم المتحرّك تزداد بزيادة حركته ، وليست الحركة إلاّ مظهراً من مظاهر الطاقة ، فالكتلة المتزايدة في الجسم هي ـ إذن ـ طاقته المتزايدة ، فلم يعد في الكون عنصران متمايزان : أحدهما المادّة التي يمكن مسّها وتتمثّل لنا في كتلة والآخر الطاقة التي لا يمكن أن تُرى ، وليس لها كتلة ، كما كان يعتقد العلماء سابقاً ، بل أصبح العلم يعرّف أنّ الكتلة ليست إلاّ طاقة مركّزة

ويقول (آينشتين) في معادلته : إنّ الطاقة = كتلة المادّة × مربّع سرعة الضوء (وسرعة الضوء تساوي (٠٠٠ / ١٨٦) ميلاً في الثانية) كما أنّ الكتلة = الطاقة ÷ مربّع سرعة الضوء وبذلك ثبت أنّ الذرّة بما فيها من بروتونات وإلكترونات ليست في الحقيقة

٣٧٣

إلاّ طاقة متكاثفة ، يمكن تحليلها وإرجاعها إلى حالتها الأُولى فهذه الطاقة هي الأصل العلمي للعالم في التحليل الحديث ، وهي التي تظهر في أشكال مختلفة ، وصور متعدّدة ، صوتية ، ومغناطيسية ، وكهربائية ، وكيمياوية ، وميكانيكية

وعلى هذا الضوء لم يعد الازدواج بين المادّة والإشعاع ، بين الجُسيمات والموجات ، أو بين ظهور الكهرب على صورة مادّة أحياناً ، وظهوره على صورة كهرباء أحياناً أخرى ، أقول : لم يعد هذا غريباً ، بل أصبح مفهوماً بمقدار ما دامت كلّ هذه المظاهر صوراً لحقيقة واحدة ، وهي الطاقة.

وقد أثبتت التجارب عملياً صحّة هذه النظريات ؛ إذ أمكن للعلماء أن يحوّلوا المادّة إلى طاقة ، والطاقة إلى مادّة فالمادّة تحوّلت إلى طاقة عن طريق التوحيد بين نواة ذرّة الهيدروجين ونواة ذرّة ليثيوم ، فقد نتج عن ذلك نواتان من ذرّات الهليوم ، وطاقة هي في الحقيقة الفارق بين الوزن الذرّي لنواتين من الهليوم ، والوزن الذرّي لنواة هيدروجين ونواة ليثيوم

والطاقة تحوّلت إلى المادّة عن طريق تحويل أشعّة (جاما) ـ وهي أشعّة لها طاقة وليس لها وزن ـ إلى دقائق مادّية من الإلكترونات السالبة ، والإلكترونات الموجبة التي تتحوّل بدورها إلى طاقة إذا اصطدم الموجب منها بالسالب

ويعتبر أعظم تفجير للمادّة توصّل إليه العلم هو : التفجير الذي يمكن للقنبلة الذرّية والهيدروجينية أن تحققه ؛ إذ يتحوّل بسببهما جزء من المادّة إلى طاقة هائلة وتقوم الفكرة في القنبلة الذرّية على إمكان تحطيم نواة ذرّة ثقيلة ، بحيث تنقسم إلى نواتين أو أكثر من عناصر أخفّ وقد تحقّق ذلك بتحطيم النواة في بعض أقسام عنصر اليورانيوم الذي يطلق عليه اسم اليورانيوم ٢٣٥ ، نتيجة لاصطدام النيوترون بها

٣٧٤

وتقوم الفكرة في القنبلة الهيدروجينية على ضمّ نوى ذرّات خفيفة إلى بعضها ؛ لتكون بعد اتّحادها نوى ذرّات أثقل منها ، بحيث تكون كتلة النواة الجديدة أقلّ من كتلة المكوّنات الأصليّة وهذا الفرق في الكتلة هو الذي يظهر في صورة طاقة ومن أساليب ذلك دمج أربع ذرّات هيدروجين بتأثير الضغط والحرارة الشديدين ، وإنتاج ذرّة من عنصر الهليوم مع طاقة ، هي الفارق الوزني بين الذرّة الناتجة ، والذرّات المندمجة ، وهو كسر ضئيل جداً في حساب الوزن الذرّي

نتائج الفيزياء الحديثة :

ويستنتج من الحقائق العلمية التي عرضناها عدّة أمور :

أ- أنّ المادّة الأصلية للعالم حقيقة واحدة مشتركة بين جميع كائناته وظواهره ، وهذه الحقيقة المشتركة هي التي تظهر بمختلف الأشكال ، وتتنوّع بشتّى التنوّعات

ب- أنّ خواصّ المركّبات المادّية كلّها عرضية بالإضافة إلى المادّة الأصلية فالماء بما يملك من خاصّة السيلان ليس شيئاً ذاتياً للمادّة التي يتكوّن منها ، وإنّما هو صفة عرضية ؛ وذلك بدليل أنّه مركّب ـ كما عرفنا سابقاً ـ من عنصرين بسيطين ، وفي الإمكان إفراز هذين العنصرين عن الآخر ، فيرجعان إلى حالتهما الغازية ، وتزول صفة الماء تماماً ومن الواضح : أنّ الصفات التي يمكن أن تزول عن الشيء لا يمكن أن تكون ذاتية له

ج- أنّ خواص العناصر البسيطة نفسها ليست ذاتية للمادّة أيضاً ، فضلاً عن خصائص المركّبات والبرهان العلمي على ذلك ما مرّ بنا : من إمكان تحوّل بعض العناصر إلى بعض ، وبعض ذرّاتها إلى ذرّات أخرى ، طبيعياً أو اصطناعياً ، فإنّ هذا أمر يدلّ على أنّ خصائص العناصر إنّما هي صفات عرضية للمادّة المشتركة بين

٣٧٥

جميع العناصر البسيطة فليست صفات الراديوم ، والرصاص ، والآزوت ، والأُوكسجين ، ذاتية للموادّ التي تتمثّل في تلك العناصر ما دام في الإمكان تبديلها البعض بالبعض

د- وأخيراً ، فنفس صفة المادّية أصبحت ـ على ضوء الحقائق السابقة ـ صفة عرضية أيضاً ، فهي لا تعدو أن تكون لوناً من ألوان الطاقة وشكلاً من أشكالها ، وليس هذا الشكل ذاتياً لها ؛ لما سبق من أنّها قد تستبدل هذا الشكل بشكل آخر ، فتتحوّل المادّة إلى طاقة ، ويتحوّل الكهرب إلى كهرباء

النتيجة الفلسفية من ذلك :

وإذا أخذنا تلك النتائج العلمية بعين الاعتبار ، وجب أن ندرسها درساً فلسفياً ؛ لنعرف ما إذا كان في الإمكان أن نفترض المادّة هي السبب الأعلى (العلّة الفاعلية) للعالم أو لا ولا تردّد في أنّ الجواب الفلسفي على هذا السؤال هو : النفي بصورة قاطعة ؛ ذلك لأنّ المادّة الأصلية للعالم حقيقة واحدة عامّة في جميع مظاهره وكائناته ، ولا يمكن للحقيقة الواحدة أن تختلف آثارها ، وتتباين أفعالها

فالتحليل العلمي للماء ، والخشب ، والتراب ، وللحديد والآزوت ، والرصاص ، والراديوم ، أدّى في نهاية المطاف إلى مادّة واحدة ، نجدها في كلّ هذه العناصر وتلك المركّبات فلا تختلف مادّة كلّ واحد من هذه الأشياء عن مادّة غيره ، ولذلك يمكن تحويل مادّة شيء إلى شيء آخر

فكيف يمكن أن نسند إلى تلك المادّة الأساسية التي نجدها في الأشياء جميعاً ، تنوّع تلك الأشياء وحركاتها المختلفة ؟! ولو أمكن هذا لكان معناه : أنّ الحقيقة الواحدة قد تتناقض ظواهرها ، وتختلف أحكامها وفي ذلك القضاء الحاسم على جميع العلوم الطبيعية بصورة عامّة ؛ لأنّ هذه العلوم قائمة جميعاً على

٣٧٦

أساس : أنّ الحقيقة الواحدة لها ظواهر ونواميس معيّنة لا تختلف ، كما درسنا ذلك بكلّ تفصيل في الجزء السابق من هذه المسألة فقد قلنا : إنّ تجارب العالم الطبيعي لا تقع إلاّ على موارد معيّنة ، ومع ذلك فهو يشيد قانونه العلمي العامّ الذي يتناول كلّ ما تتّفق حقيقته مع موضوع تجربته وليس ذلك إلاّ لأنّ الموادّ التي عمّم عليها القانون يتمثّل فيها نفس الواقع الذي درسه في تجاربه الخاصّة ومعنى هذا : أنّ الواقع الواحد المشترك لا يمكن أن تتناقض ظواهره ، وأن تختلف آثاره ، وإلاّ لو أمكن شيء من ذلك ، لما أمكن للعالم أن يضع قانونه العامّ

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ الواقع المادّي المشترك للعالم الذي دلّل عليه العلم ، لا يمكن أن يكون هو السبب والعلّة الفاعلية له ؛ لأنّ العالم مليء بالظواهر المختلفة ، والتطوّرات المتنوّعة

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ، قد علمنا على ضوء النتائج العلمية السابقة أنّ الخصائص والصفات التي تبدو بها المادّة في مختلف مجالات وجودها ، خصائص عرضية للمادّة الأصلية ، أو للواقع المادّي المشترك فخصائص المركّبات صفات عرضية للعناصر البسيطة ، وخصائص العناصر البسيطة صفات عرضية للمادّة الذرّية وصفة المادّية نفسها هي ـ أيضاً ـ عرضية كما سبق ، بدليل إمكان سلب كلّ واحدة من هذه الصفات ، وتجريد الواقع المشترك منها ، فلا يمكن أن تكون المادّة ديناميكية وسبباً ذاتياً لاكتساب تلك الخصائص والصفات

مع التجريبيين :

ولنقف قليلاً عند أولئك الذين يقدّسون التجربة والحسّ العلمي ، ويعلنون بكلّ صلف أنّنا لا نؤمن بأيّ فكرة ما لم تثبت بالتجربة ، ولم يبرهن عليها عن

٣٧٧

طريق الحسّ وما دامت المسألة الإلهية مسألة غيبية وراء حدود الحسّ والتجربة ، فيجب أن نطرحها جانباً ، وننصرف إلى ما يمكن الظفر به في الميدان التجريبي من حقائق ومعارف نقف عندهم لنسألهم : ماذا تريدون بالتجربة ؟ وماذا تعنون برفض كلّ عقيدة لا برهان عليها من الحسّ؟

فإن كان فحوى هذا الكلام أنّهم لا يؤمنون بوجود شيء ما لم يحسّوا بوجوده إحساساً مباشراً ، ويرفضون كلّ فكرة ما لم يدركوا واقعها الموضوعي بأحد حواسّهم ، فقد نسفوا بذلك الكيان العلمي كلّه ، وأبطلوا جميع الحقائق الكبرى المبرهن عليها بالتجربة التي يقدّسونها ؛ فإنّ إثبات حقيقة علمية بالتجربة ليس معناه الإحساس المباشر بتلك الحقيقة في الميدان التجريبي فـ‍ (نيوتن) ـ مثلاً ـ حين وضع قانون الجاذبية العامة على ضوء التجربة ، لم يكن قد أحسّ بتلك القوّة الجاذبية بشيء من حواسه الخمس ، وإنّما استكشفها عن طريق ظاهرة أخرى محسوسة ، لم يجد لها تفسيراً إلاّ بافتراض وجود القوّة الجاذبة فقد رأى أنّ السيارات لا تسير في خطّ مستقيم ، بل تدور دوراناً ، وهذه الظاهرة لا يمكن أن تتمّ ـ في نظر نيوتن ـ لو لم تكن هناك قوّة جاذبة ؛ لأنّ مبدأ (القصور الذاتي) يقضي بسير الجسم المتحرّك في اتّجاه مستقيم ما لم يفرض عليه أسلوب آخر من قوّة خارجية فانتهى من ذلك إلى قانون الجاذبية الذي يقرّر أنّ السيّارات تخضع لقوّة مركزية ، هي الجاذبية

وإن كان يعني هؤلاء ـ الذين ينادون بالتجربة ويقدّسونها ـ نفس الأسلوب الذي تمّ به علمياً استكشاف قوى الكون وأسراره ، وهو : درس ظاهرة محسوسة ثابتة بالتجربة ، واستنتاج شيء آخر منها استنتاجاً عقلياً ، باعتبار التفسير الوحيد لوجودها ، فهذا هو أسلوب الاستدلال على المسألة الإلهية تماماً ؛ فإنّ التجارب الحسّية والعلمية قد أثبت أنّ جميع خصائص المادّة الأصلية ، وتطوّراتها

٣٧٨

وتنوّعاتها ، ليس ذاتية ، وإنّما هي عرضية ، كحركة السيّارات الشمسية حول المركز فكما أنّ دورانها حوله ليس ذاتياً لها ، بل هي تقتضي بطبيعتها الاتّجاه المستقيم في الحركة طبقاً لمبدأ القصور الذاتي ، كذلك خصائص العناصر والمركّبات وكما أنّ ذلك الدوران لمّا لم يكن ذاتياً أتاح لنا أن نبرهن على وجود قوّة خارجية جاذبة ، كذلك هذا التنوّع والاختلافات في خصائص المادّة المشتركة يكشف ـ أيضاً ـ عن سبب وراء المادّة ونتيجة ذلك هي : أنّ (العلّة الفاعلية) للعالم غير علّته المادّية ، أي : أنّ سببه غير المادّة الخام التي تشترك فيها الأشياء جميعاً

مع الديالكتيك :

قد مرّ بنا الحديث عن الديالكتيك في الجزء الثاني من هذه المسألة ، وكشفنا عن الأخطاء الرئيسية التي ارتكز عليها ، كإلغاء مبدأ عدم التناقض ونحوه ونريد الآن أن نبرهن على عجزه من جديد عن حلّ مشكلة العالم ، وتكوين فهم صحيح له ، بقطع النظر عمّا في ركائزه وأسسه من أخطاء وتهافت

يزعم الديالكتيك أنّ الأشياء تنتج عن حركة في المادّة ، وأنّ حركة المادّة ناشئة ذاتياً عن المادّة نفسها ، باعتبار احتوائها على النقائض ، وقيام الصراع الداخلي بين تلك النقائض

فلنمتحن هذا التفسير الديالكتيكي بتطبيقه على الحقائق العلمية التي سبق أن عرفناها عن العالم ؛ لنرى ماذا تكون النتيجة ؟

إنّ العناصر البسيطة عدّة أنواع ، ولكلّ عنصر بسيط رقم ذرّي خاصّ به ، وكلّما كان العنصر أرقى كان رقمه أكثر ، حتّى ينتهي التسلسل إلى اليورانيوم ، أرقى العناصر وأعلاها درجة وقد أوضح العلم ـ أيضاً ـ أنّ مادّة هذه العناصر البسيطة

٣٧٩

واحدة ومشتركة في الجميع ، ولذا يمكن تبديلها البعض بالبعض ، فكيف وجدت أنواع العناصر العديدة في تلك المادّة المشتركة ؟

والجواب على أسس التغيّر الديالكتيكي يتلخّص في أنّ المادّة قد تطوّرت من مرحلة إلى مرحلة أرقى ، حتّى بلغت درجة اليورانيوم وعلى هذا الضوء يجب أن يكون عنصر الهيدروجين نقطة الابتداء في هذا التطوّر ، باعتباره أخفّ العناصر البسيطة فالهيدروجين يتطوّر ديالكتيكياً بسبب التناقض المحتوى في داخله ، فيصبح بالتطوّر الديالكتيكي عنصراً أرقى ، أي : عنصر الهليوم ، وهذا العنصر بدوره ينطوي على نقيضه ، فيشتعل الصراع من جديد بين النفي والإثبات ، بين الوجه السالب والوجه الموجب ، حتّى تدخل المادّة في مرحلة جديدة ، ويوجد العنصر الثالث ، وهكذا تتصاعد المادّة طبقاً للجدول الذرّي

هذا هو التفسير الوحيد الذي يمكن للديالكتيك أن يقدّمه في هذا المجال ، تبريراً لديناميكية المادّة ولكن من السهل جدّاً أن نتبيّن عدم إمكان الأخذ بهذا التفسير من ناحية علمية ؛ لأنّ الهيدروجين لو كان مشتملاً بصورة ذاتية على نقيضه ، ومتطوّراً بسبب ذلك طبقاً لقوانين الديالكتيك المزعوم ، فلماذا لم تتكامل جميع ذرّات الهيدروجين ؟! وكيف اختصّ هذا التكامل الذاتي ببعض دون بعض ؟! فإنّ التكامل الذاتي لا يعرف التخصيص ، فلو كانت العوامل الخلاّقة للتطوّر والترقّي موجودة في صميم المادّة الأزلية ، لما اختلفت آثار تلك العوامل ، ولما اختصّت بمجموعة معيّنة من الهيدروجين ، تحوّلها إلى هليوم وتترك الباقي فنواة الهيدروجين (البروتون) إذا كانت تحمل في ذاتها نفيها ، وتتطوّر تبعاً لذلك حتّى تصبح بروتونين ، بدلاً من بروتون واحد ، لنتج عن ذلك زوال الماء عن وجه الأرض تماماً ؛ لأنّ الطبيعة إذا فقدت نوى ذرّات الهيدروجين ، وتحوّلت جميعاً إلى نوى ذرّات الهليوم ، لم يكن من الممكن أن يوجد بعد ذلك ماء

٣٨٠