فلسفتنا

فلسفتنا0%

فلسفتنا مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: كتب
الصفحات: 438

فلسفتنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 438
المشاهدات: 34598
تحميل: 11460

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34598 / تحميل: 11460
الحجم الحجم الحجم
فلسفتنا

فلسفتنا

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الكبير ؟ أو مَنْ ألهمها هذه العملية الحكيمة التي لا يتمّ التوليد إلاّ بها ؟ !

وإذا أردنا أن ندرس الغرائز بصورة أعمق ، كان علينا أن نعرض أهمّ النظريات في تعليلها وتفسيرها ، وهي عديدة :

النظرية الأُولى : أنّ الحيوان اهتدى إلى الأفعال الغريزية بعد محاولات وتجارب كثيرة ، فأدمن عليها وصارت بسبب ذلك عادة موروثة ، يتوارثها الأبناء عن الآباء ، دون أن يكون في تعلّمها موضع للعناية الغيبية

وتحتوي هذه النظرية على جزأين : أحدهما أنّ الحيوان توصّل أوّل الأمر إلى العمل الغريزي عن طريق المحاولة والتجربة

والآخر أنّه انتقل إلى الأجيال المتعاقبة ، طبقاً لقانون الوراثة ولا يمكن الأخذ بكلا الجزأين

أمّا الجزء الأوّل من النظرية ، فهو غير صحيح ؛ لأنّ استبعاد الحيوان للمحاولة الخاطئة ، والتزامه بالمحاولة الناجحة وحرصه عليها ، يعني : أنّه أدرك نجاحها وخطأ غيرها من المحاولات ، وهذا ما لا يمكن الاعتراف به للحيوان ، وخاصّة فيما إذا كان نجاح المحاولة لا يظهر إلاّ بعد موت الحيوان ، كما في الفراش حين يصل إلى الطور الثالث من حياته ؛ إذ يضع بيضه على هيئة دوائر على الأوراق الخضراء ، فلا يفقس إلاّ في الفصل التالي ، فيخرج على هيئة ديدان صغيرة ، في الوقت الذي تكون فيه الأُمّ قد ماتت ، فكيف أُتيح للفراش أن يعرف نجاحه فيما قام به من عمل ، ويدرك أنّه هيّأ بذلك للصغار رصيداً ضخماً من الغذاء ، مع أنّه لم يشهد ذلك ؟! أضف إلى ذلك : أنّ الغريزة لو صحّ أنّها وليدة التجربة ، لأوجب ذلك تطوّر الغريزة وتكاملها في الحيوانات على مرّ الزمن ، وتعزيزها على ضوء محاولات وممارسات أخرى ، مع أنّ شيئاً من هذا

٤٠١

لم يحدث

وأمّا الجزء الثاني من النظرية ، فهو يرتكز على الفكرة القائلة بانتقال الصفات المكتسبة بالوراثة وقد انهارت هذه الفكرة على ضوء النظريات الجديدة في علم الوراثة ، كما ألمعنا إليه سابقاً

وهب أنّ قانون الوراثة يشمل العادات المكتسبة ، فكيف تكون الأعمال الغريزية عادات موروثة مع أن بعض الأعمال الغريزية قد لا يؤدّيها الحيوان إلاّ مرّة أو مرّات معدودة في حياته !

النظرية الثانية : تبدأ من حيث بدأت النظرية الأُولى ، فتفترض أنّ الحيوان اهتدى إلى العمل الغريزي عن طريق المحاولات المتكرّرة ، وانتقل إلى الأجيال المتعاقبة ، لا عن طريق الوراثة ، بل بلون من ألوان التفهيم والتعليم الميسورة للحيوانات

وتشترك هذه النظرية مع النظرية السابقة في الاعتراض الذي وجّهناه إلى الجزء الأوّل منها وتختصّ بالاعتراض على ما زعمته : من تناقل العمل الغريزي عن طريق التعليم والتفهيم ؛ فإنّ هذا الزعم لا ينسجم مع الواقع المحسوس ، حتّى لو اعترفنا للحيوان بالقدرة على التفاهم ؛ لأنّ عدّة من الغرائز تظهر في الحيوان منذ أوّل تكوّنه ، قبل أن توجد أيّ فرصة لتعليمه ، بل قد تولد صغار الحيوان بعد موت أُمّهاتها ، ومع ذلك توجد فيها نفس غرائز نوعها فهذه ثعابين الماء تهاجر من مختلف البرك والأنهار إلى الأعماق السحيقة ؛ لتضع بيضها ، وقد تقطع في هجرتها آلاف الأميال ؛ لانتخاب البقعة المناسبة ، ثمّ تضع البيض وتموت ، وتنشأ الصغار ، فتعود بعد ذلك إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمّهاتها ، وكأنّها قد أشبعت خريطة العالم تحقيقاً وتدقيقاً فعلى يد من تلقّت صغار الثعابين دروس الجغرافيا ؟!

النظرية الثالثة : أعلنتها المدرسة السلوكية في علم النفس ؛ إذ حاولت أن

٤٠٢

تحلّل السلوك الحيوي بصورة عامة إلى وحدات من الفعل المنعكس وفسّرت الغرائز بأنّها تركيبات معقّدة من تلك الوحدات ، أي : سلسلة من أفعال منعكسة بسيطة ، فلا تعدو الغريزة أن تكون كحركة جذب اليد عند وخزها بالدبوس ، وانكماشة العين عند تسليط ضوء شديد عليها ، غير أنّ هذين الفعلين منعكسان بسيطان ، والغريزة منعكس مركَّب

وهذا التفسير الآلي للغريزة لا يمكن الأخذ به ؛ لدلائل متعدّدة يضيق المجال من الإفاضة فيها فمنها أنّ الحركة المنعكسة آلياً إنّما تثار بسبب خارجي ، كما في انكماشة العين التي تثيرها شدّة الضوء ، مع أنّ بعض الأعمال الغريزية ليس لها مثير خارجي فأيّ مثير يجعل الحيوان منذ يوجد يفتّش عن غذائه ، ويجهد في سبيل الحصول عليه ؟! أضف إلى ذلك : أنّ الأعمال المنعكسة آلياً ليس فيها موضع لإدراك وشعور ، مع أنّ مراقبة الأعمال الغريزية تزوّدنا بالشواهد القاطعة على مدى الإدراك والشعور فيها فمن تلك الشواهد تجربة أجريت على سلوك زنبار ، يبني عشّه من عدد من الخلايا ، إذ كان ينتظر القائم بالتجربة أن يتمّ الزنبار عمله في خلية ما ، فيخدشها بدبوس ، فإذا أتى الزنبار لعمل الخلية الثانية ووجد أنّ الإنسان قد أفسد عليه عمله ، عاد إليه فأصلحه ، ثمّ سار في عمل الخلية التالية ، وكرّر المجرّب تجربته هذه عدداً من المرّات ، أيقن بعدها أنّ تتابع إجراء السلوك الغريزي ليس تتابعاً آلياً ، ولاحظ المجرّب أنّ الزنبار عندما يعود ويرى أنّ الخلية التي تمّت قد أصابها التلف ، يقوم بحركات ، ويخرج أصواتاً تدلّ على ما يشعر به من غضب وضيق

وبعد سقوط هذه النظرية المادّية يبقى تفسيران للغريزة :

أحدهما : أنّ العمل الغريزي يصدر عن قصد وشعور ، غير أنّ غرض الحيوان ليس ما ينتج عنه من فوائد دقيقة ، بل الالتذاذ المباشر به ، بمعنى : أنّ

٤٠٣

الحيوان ركّب تركيباً يجعله يلتذّ من القيام بتلك الأعمال الغريزية ، في نفس الوقت الذي تؤدّي له أعظم الفوائد والمنافع

والتفسير الآخر : أنّ الغريزة إلهام غيبي إلهي بطريقة غامضة ، زُوّد به الحيوان ؛ ليعوّض عمّا فقده من ذكاء وعقل وسواءٌ أصحّ هذا أم ذاك فدلائل القصد والتدبير واضحة وبدهية في الوجدان البشري ، وإلاّ فكيف حصل هذا التطابق الكامل بين الأعمال الغريزية وأدقّ المصالح وأخفاها على الحيوان ؟!

إلى هنا نقف ، لا لأنّ دلائل العلم على المسألة الإلهية قد استنفدت ـ وهي لا تستنفد في مجلّدات ضخام ـ بل حفاظاً على طريقتنا في الكتاب

ولنلتفت ـ بعد كلّ ما سقناه من دلائل الوجدان على وجود القوّة الحكيمة الخلاّفة ـ إلى الفرضية المادّية ؛ لنعرف في ضوء ذلك مدى سخفها وتفاهتها ؛ فإنّ هذه الفرضية حين تزعم أنّ الكون بما زخر به من أسرار النظام ، وبدائع الخلقة والتكوين ، وقد أوجدته علّة لا تملك ذرّة من الحكمة والقصد ، تفوق في سخفها وغرابتها آلاف المرّات من يجد ديواناً ضخماً من أروع الشعر وأرقاه ، أو كتاباً علمياً زاخراً بالأسرار والاكتشافات ، فيزعم أنّ طفلاً كان يلعب بالقلم على الورق ، فاتّفق أن ترتّبت الحروف ، فتكوّن منها ديوان شعر ، أو كتاب علم

( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتّى‏ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) (١)

____________________

(١) فصّلت : ٥٣

٤٠٤

المفهوم الفلسفي للعالم / ٥

الإدراك

الجوانب العلميّة في دراسة الإدراك

الإدراك في مفهومه الفلسفي

الجانب الروحي من الإنسان

المنعكس الشرطي والإدراك

٤٠٥

٤٠٦

[ الجوانب العلميّة في دراسة الإدراك ]

المسألة الفلسفية الكبرى في الإدراك هي محاولة صياغته في مفهوم فلسفي يكشف عن حقيقته وكنهه ، ويوضّح ما إذا كان الإدراك ظاهرة مادّية ، توجد في المادّة حين بلوغها مرحلة خاصّة من التطوّر والتكامل ، كما تزعم المادّية ، أو ظاهرة مجرّدة عن المادّة ، ولوناً من الوجود وراءها ووراء ظواهرها ، كما هو معنى الإدراك في مفهومه الفلسفي لدى الميتافيزية

والماركسية بصفتها مدرسة مادّية تؤكّد بطبيعة الحال على المفهوم المادّي للفكر والإدراك ، كما يتّضح من النصوص التالية :

قال ماركس :

(لا يمكن فصل الفكر عن المادّة المفكّرة ؛ فإنّ هذه المادّة هي جوهر كلّ التغيّرات)(١)

وقال أنجلز :

(إنّ شعورنا وفكرنا- مهما ظهرا لنا متعاليين- ليسا سوى نتاج عضوي مادّي جسدي ، هو : الدماغ)(٢)

____________________ـــ

(١) المادّية الديالكتيكية والمادّية التاريخية : ٣٠

(٢) لودفيج فيورباخ : ٥٧

٤٠٧

(إنّ كلّ ما يدفع الناس إلى الحركة يمرّ في أدمغتهم بالضرورة ، حتّى الطعام والشراب ، اللذان يبدأان بإحساس الجوع أو العطش ، وهو إحساس يشعر به المخّ أيضاً إنّ ردود فعل العالم الخارجي على الإنسان تعبّر عن نفسها في مخّه ، وتنعكس فيه على صور إحساسات ، وأفكار ، ودوافع ، وإرادات)(١)

وقال جورج بوليتزير :

(تُبيّن العلوم الطبيعية أنّ نقص تطوّر مخّ أحد الأفراد هو أكبر عائق أمام تطوّر شعوره وفكره ، وهذه هي حالة البله فالفكر نتاج تاريخي لتطوّر الطبيعة في درجة عالية من الكمال ، تتمثّل لدى الأنواع الحية في أعضاء الحسّ والجهاز العصبي ، وعلى الخصوص في الجزء الأرقى المركزي الذي يحكم الكائن العضوي كلّه ، ألا وهو المخ)(٢)

وقال روجيه غارودي :

(إنّ التكوّن المادّي للفكر يعرض علينا ـ كما سوف نرى ـ حججاً هي أجدر بالتصديق والاقتناع بها)(٣)

وليس المفهوم الفلسفي هو المفهوم الوحيد للإدراك الذي يمكن تقديمه على صعيد البحث والدرس ؛ لأنّ الإدراك ملتقىً لكثير من البحوث والدراسات

____________________

(١) لودفيج فيورباخ : ٦٤

(٢) المادّية والمثالية في الفلسفة : ٧٤ ـ ٧٥

(٣) ما هي المادّية ؟ : ٣٢

٤٠٨

ولكلّ دراسة من تلك الدراسات العلمية مفهومها الخاصّ الذي يعالج إحدى مشاكل الإدراك المتنوّعة ، وجانباً من أسرار الحياة العقلية المثيرة بغموضها وتعقيدها ووراء تلك المفاهيم العلمية جميعاً المفهوم الفلسفي الذي يقوم فيه الصراع بين المادّية والميتافيزية ، كما سبق فموضوعنا ـ إذن ـ مثار لألوان شتّى من البحوث الفلسفية والعلمية

وقد وقع كثير من الكتّاب والباحثين في الخطأ ، وعدم التمييز بين النواحي التي ينبغي للدراسات العلمية أن تتوافر على تمحيصها وتحليلها ، وبين الناحية التي من حقّ البحث الفلسفي أن يعطى كلمة فيها وعلى أساس هذا الخطأ قام الزعم المادّي القائل بأنّ الإدراك في مفهومه الفلسفي لدى الميتافيزية يتعارض مع الإدراك في مفاهيمه العلمية فقد رأينا كيف يحاول (جورج بوليتزير) أن يبرهن على مادّية الإدراك من ناحية فلسفية بدلائل العلوم الطبيعية ، وقد قام غيره بنفس محاولته أيضاً

ولذلك نجد لزاماً علينا أن نحدّد الموقف الفلسفي في المسألة ؛ لنقضي على المحاولات الرامية إلى الخلط بين المجال الفلسفي والمجال العلمي ، وإلى اتّهام التفسير الميتافيزي للإدراك بمجافاة العلم ومنافاته لحقائقه ومقرّراته

وعلى هذا سنقوم بتصفية للموقف العام تجاه الإدراك ، ونلقي على ألوان البحث العلمي شيئاً من الضوء ، يحدّد لنا نقاط اختلافنا مع المادّية عامة ، ومع الماركسية على وجه الخصوص ، كما يحدّد لنا النواحي التي يمكن للدراسات العلمية أن تمسّها وتبحثها ؛ حتّى يصبح من الواضح أنّ هذه الدراسات لا يمكن اعتبارها مستمسكاً للمادّية في معتركها الفكري الذي تخوضه مع الميتافيزية في سبيل وضع المفهوم الفلسفي الأكمل للإدراك

وقد ألمعنا فيما سبق إلى تعدّد تلك النواحي التي مسّتها تلك البحوث العلمية

٤٠٩

أو عالجتها من الإدراك ؛ لتعدّد ما يتّصل بجوانبه المختلفة من علوم ، بل لتعدّد المدارس العلمية من العلم الواحد ، التي عالجت كلّ واحدة منها الإدراك بمنظارها الخاصّ فهناك بحوث الفيزياء والكيمياء تدرس جانباً من جوانب الإدراك ، وهناك الفيزيولوجيا تأخذ بحظّها من الدراسة ، وهناك ـ أيضاً ـ السيكولوجيا بمختلف مدارسها : من المدرسة الاستبطانية ، والسلوكية ، والوظيفية ، وغيرها من مدارس علم النفس ، تتوفّر جميعاً على درس جوانب عديدة من الإدراك ويجيء بعد ذلك كلّه دور علم النفس الفلسفي ؛ ليتناول الإدراك من ناحيته الخاصّة ، ويبحث عمّا إذا كان الإدراك في حقيقته حالة مادّية قائمة بالجهاز العصبي ، أو حالة روحية مجرّدة ؟

وفيما يلي نضع النقاط على الحروف في تلك النواحي المتشعّبة بالمقدار الذي ينير لنا طريقنا في البحث ، ويوضّح موقفنا من المادّية والماركسية

الإدراك في مستوى الفيزياء والكيمياء :

تعالج بحوث الفيزياء والكيمياء في مستواها الخاصّ الأحداث الفيزيائية الكيميائية التي تواكب عمليات الإدراك في كثير من الأحايين ، كانعكاس الأشعّة الضوئية من المرئيات ، وتأثّر العين السليمة بتلك الاهتزازات الكهربائية المغناطيسية ، والتغيّرات الكيميائية التي تحدث بسبب ذلك ، وانعكاس الموجات الصوتية من المسموعات ، والذرّات الكيميائية الصادرة عن الأشياء ذات الرائحة ، والأشياء ذات الطعم ، وما إلى ذلك من منبّهات فيزيائية ، وتغيّرات كيميائية فكلّ هذه الأحداث تقع في حدود اختصاص الفيزياء والكيمياء وفي مستوى نشاطهما العلمي

٤١٠

الإدراك في مستوى الفيزيولوجيا :

في ضوء التجارب الفيزيولوجية استكشف عدّة أحداث وعمليات تقع في أعضاء الحسّ ، وفي الجهاز العصبي بما فيه الدماغ ، وهي وإن كانت ذات طبيعة فيزيائية كيميائية ، كالعمليات السابقة ، ولكنّها في نفس الوقت تمتاز على تلك العمليات بكونها أحداثاً تجري في جسم حيّ ، فهي ذات صلة بطبيعة الأجسام الحيّة

وقد استطاعت الفيزيولوجيا بكشوفها تلك أن تحدّد الوظائف الحيوية للجهاز العصبي ، وما لأجزائه المختلفة من خطوط في عمليات الإدراك فالمخّ ـ مثلاً ـ ينقسم بموجبها إلى أربعة فصوص ، هي : الفصّ الجبهي ، والفصّ الجداري ، والفصّ الصدغي ، والفصّ المؤخّري ، ولكلّ فصّ وظائفه الفيزيولوجية فالمراكز الحركية تقع في الفصّ الجبهي ، والمراكز الحسّية التي تتلقّى الرسائل من الجسم تقع في الفصّ الجداري وكذلك حواسّ اللمس والضغط أمّا مراكز الذوق ، والشمّ ، والسمع الخاصّة ، فتقوم في الفصّ الصدغي ، في حين تقوم المراكز البصرية في الفصّ المؤخّري ، إلى غير ذلك من التفاصيل

ويستعمل عادة للتوصّل إلى الحقائق الفيزيولوجية في الجهاز العصبي أحدُ المنهجين الرئيسيين في الفيزيولوجيا : الاستئصال ، والتنبيه ففي المنهج الأوّل تستأصل أجزاء مختلفة من الجهاز العصبي ، ثمّ تُدرس تغييرات السلوك الناجمة عن ذلك وفي المنهج الثاني تُنبّه مراكز محدودة في لحاء المخّ بوسائل كهربائية ، ثمّ تسجّل التغيّرات الحسّية أو الحركية التي تنجم عن ذلك

ومن الواضح جدّاً : أنّ الفيزياء والكيمياء والفيزيولوجيا لا تستطيع بوسائلها العلمية ، وأساليبها التجريبية إلاّ أن تكشف عن أحداث الجهاز العصبي ،

٤١١

ومحتواه من عمليات وتغيّرات وأمّا تفسير الإدراك في حقيقته وكنهه فلسفياً ، فليس من حقّ تلك العلوم ؛ إذ لا يمكن لها أن تثبت أنّ تلك الأحداث المعيّنة هي نفسها الإدراكات التي نحسّها من تجاربنا الخاصّة وإنّما الحقيقة التي لا يرقى إليها شكّ ولا جدال هي : أنّ هذه الأحداث والعمليات الفيزيائية ، والكيميائية ، والفيزيولوجية ، ذات صلة بالإدراك ، وبالحياة السيكولوجية للإنسان ، فهي تلعب دوراً فعّالاً في هذا المضمار ، إلاّ أنّ هذا لا يعني صحّة الزعم المادّي القائل بمادّية الإدراك ؛ فإنّ فرقاً واضحاً يبدو بين كون الإدراك شيئاً تسبقه أو تقارنه عمليات تمهيدية في مستويات مادّية ، وبين كون الإدراك بالذات ظاهرة مادّية ، ونتاجاً للمادّة في درجة خاصّة من النموّ والتطوّر ، كما تزعم الفلسفة المادّية

فالعلوم الطبيعية- إذن- لا تمتدّ في دراستها إلى المجال الفلسفي ، مجال بحث الإدراك في حقيقته وكنهه ، بل هي سلبية من هذه الناحية ، بالرغم من قيام المدرسة السلوكية في علم النفس بمحاولة تفسير حقيقة الإدراك والفكر في ضوء الكشوف الفيزيولوجية ، وخاصّة الفعل المنعكس الشرطي الذي يؤدّي تطبيقه على الحياة السيكولوجية إلى نظرة آلية خالصة تجاه الإنسان ، وسيأتي الحديث عن ذلك

الإدراك في البحوث النفسية :

تنقسم البحوث السيكولوجية التي تعالج مشاكل النفس وقضاياها إلى قسمين :

أحدهما : البحوث العلمية التي يتكوّن منها علم النفس التجريبي

والآخر : البحوث الفلسفية التي يتحمّل مسؤوليتها علم النفس الفلسفي ، أو فلسفة علم النفس ولكلّ من علم النفس وفلسفته طرائفه وأساليبه الخاصّة في

٤١٢

الدرس والبحث

أمّا علم النفس ، فهو يبدأ من النقطة التي تنتهي عندها الفيزيولوجيا ، فيتناول الحياة العقلية وما تزخر به من عمليات نفسية بالدرس والتمحيص وله في دراساته العملية منهجان رئيسيان :

أحدهما : الاستبطان الذي يستعمله كثير من السيكولوجيين ، ويميّز بصورة خاصّة المدرسة الاستبطانية في علم النفس ؛ إذ اتّخذت التجربة الذاتية أداة لبحثها العلمي ، ونادت بالشعور موضوعاً لعلم النفس

والمنهج الآخر : التجربة الموضوعية ، وهو المنهج الذي احتلّ أخيراً المركز الرئيسي في علم النفس التجريبي ، وأكّدت على أهمّيته ـ بصورة خاصّة ـ السلوكية التي اعتبرت التجربة الموضوعية مقوّماً أساسياً للعلم ، وزعمت لأجل ذلك : أنّ موضوع علم النفس هو السلوك الخارجي ؛ لأنّه وحده الذي يمكن أن تقع عليه التجربة الخارجية ، والملاحظة الموضوعية والحقائق التي يتناولها علم النفس هي الحقائق التي يتاح الكشف عنها بالاستبطان ، أو التجربة الخارجية

وأمّا ما يقع خارج الحدود التجريبية من الحقائق ، فليس في إمكانات السيكولوجيا التجريبية أن تصدر حكمها في شيء من ذلك ، أي : إنّها تمتدّ ما امتدّ الحقل التجريبي ، وتنتهي بنهايته وتبدأ ـ حينئذٍ ـ فلسفة علم النفس من النقطة التي انتهى إليها العلم التجريبي ، كما بدأت السيكولوجيا شوطها العلمي من حيث انتهت الفيزيولوجيا والوظيفة الأساسية للفلسفة النفسية هي محاولة الكشف عن تلك الحقائق التي تقع خارج الحقل العلمي والتجريبي ؛ وذلك بأن تأخذ الفلسفة المسلّمات السيكولوجية التي يموّنها بها العلم التجريبي ، وتدرسها في ضوء القوانين الفلسفية العامة ، وعلى هدي تلك القوانين تُعطى للنتائج العلمية مفهومها الفلسفي ، ويُوضع للحياة العقلية تفسيرها الأعمق

٤١٣

فالصلة بين علم النفس وفلسفته كالصلة بين العلوم الطبيعية التجريبية وفلسفتها ؛ إذ تدرس علوم الطبيعة ظواهر الكهرباء المتنوّعة ، من تيارات ومجالات ، وجهد وحثّ كهربائيين ، وما إلى ذلك من قوانين الكهرباء الفيزيائية وتدرس على هذا النحو ـ أيضاً ـ مختلف ظواهر المادّة والطاقة وأمّا حقيقة الكهرباء ، وحقيقة المادّة أو الطاقة ، فهي من حقّ البحث الفلسفي وكذلك الأمر في الحياة العقلية ؛ فإنّ البحث العلمي يتناول الظواهر النفسية التي تدخل في نطاق التجربة الذاتية أو الموضوعية ، ويوكل الحديث عن طبيعة الإدراك ، وحقيقة المحتوى الداخلي للعمليات العقلية ، إلى فلسفة النفس ، أو علم النفس الفلسفي

وفي ضوء هذا نستطيع أن نميّز ـ دائماً ـ بين الجانب العلمي من المسألة ، والجانب الفلسفي وفيما يلي مثلاًن لذلك من مواضيع البحث السيكولوجي :

الأوّل : الملكات العقلية ، التي يلتقي فيها الجانبان معاً فالجانب الفلسفي يتمثّل في نظرية الملكات القائلة بتقسيم العقل الإنساني إلى قوى وملكات عديدة لألوان من النشاط ، كالانتباه ، والخيال ، والذاكرة ، والتفكير ، والإرادة ، وما إليها من سمات فهذه الفكرة تدخل في النطاق الفلسفي لعلم النفس ، وليست فكرة علمية بالمعنى التجريبي للعلم ؛ لأنّ التجربة ـ سواء كانت ذاتية كالاستبطان ، أم موضوعية كالملاحظة العلمية لسلوك الغير الخارجي ـ ليس في إمكاناتها علمياً أن تكشف عن تعدّد الملكات أو وحدتها ؛ فإنّ كثرة القوى العقلية أو وحدتها لا تقعان في ضوء التجربة مهما كان لونها

وأمّا الجانب العلمي من مسألة الملكات ، فيعني نظرية التدريب الشكلي في التربية ، التي تنصّ على أنّ الملكات العقلية يمكن تنميتها ـ ككلّ وبلا استثناء ـ بالتدريب في مادّة واحدة ، وفي نوع واحد من الحقائق وقد أقرّ هذه النظرية عدّة من علماء النفس التربوي ، المؤمنين بنظرية الملكات التي كانت تسيطر على

٤١٤

التفكير السيكولوجي إلى القرن التاسع عشر ، افتراضاً منهم أنّ الملكة إذا كانت قوية أو ضعيفة عند شخص ، كانت قويّة أو ضعيفة في كلّ شيء

ومن الواضح : أنّ هذه النظرية داخلة في النطاق التجريبي لعلم النفس ، فهي نظرية علمية ؛ لأنّها تخضع للمقاييس العلمية ، فيمكن أن يجرّب مدى تأثّر الذاكرة بصورة عامّة بالتدريب على استذكار مادّة معيّنة ، ويتاح للعلم ـ حينئذٍ ـ أن يعطي كلمته في ضوء تجارب من هذا القبيل ، وتقدّم- حينذاك- النتيجة العلمية للتجربة إلى فلسفة العلم السيكولوجي ؛ ليدرس مدلولها الفلسفي ، وما تعنيه من تعدّد الملكات أو وحداتها في ضوء القوانين الفلسفية

والمثال الثاني : نأخذه من صلب الموضوع الذي نعالجه ، وهو عملية الإدارك البصري ؛ فإنّها من مواضيع البحث الرئيسية في الحقل العلمي والفلسفي على السواء

ففي البحث العلمي يثور نقاش حادّ حول تفسير عملية الإدراك بين الارتباطين من ناحية ، وأنصار مدرسة الشكل والصيغة (الجشطالت) من ناحية أخرى والارتباطيون هم الذين يعتبرون التجربة الحسّية هي الأصل الوحيد للمعرفة فكما يحلّل علماء الكيمياء المركّبات الكيميائية إلى عناصرها البدائية ، يحلّل هؤلاء مختلف الخبرات العقلية إلى إحساسات أوّلية ، ترتبط وتتركّب بعمليات آلية ميكانيكية ، طبقاً لقوانين التداعي وفي هذه النظرية الارتباطية ناحيتان :

الأُولى : أنّ مردّ التركيب في الخبرات العقلية إلى إحساسات أوّلية (معانٍ بسيطة اُدرِكت بالحسّ)

والثانية : أنّ هذا التركيب يوجد بطريقة آلية ، وطبقاً لقوانين التداعي

أمّا الناحية الأُولى ، فقد درسناها في نظرية المعرفة عند الحديث عن

٤١٥

المصدر الأساسي للتصوّر البشري ، والنظرية الحسّية لجون لوك الذي يعتبر المؤسس الأوّل للمدرسة الارتباطية ، وانتهينا من دراستنا إلى أن بعض مفردات التصوّر والمعاني العقلية لا ترجع إلى الحسّ ، بل هي من النشاط الفعال الإيجابي للنفس

وأمّا الناحية الثانية ، فهي التي قامت بمعالجتها مدرسة (الجشطالت) فرفضت الدراسة التحليلية للحالات الشعورية ، وردّت على التفسير الارتباطي الآلي لعمليات الإدراك ، مؤكّدة على ضرورة دراسة كلّ واحدة من الخبرات ككلّ ، وأنّ الكلّية ليست مجرّد صهر الخبرات الحسّية والتركيب بينها ، بل لها طبيعة التنظيم العقلي الدينامي السائر طبق قوانين معيّنة

ولنرَ الآن بعد إيضاح الاتّجاهين السابقين تفسيرهما العلمي لعمليات الإدراك البصري :

ففي ضوء الاتّجاه الارتباطي يقال : إنّ الصورة التي تنشأ على شبكية العين تنتقل جزءاً جزءاً إلى الدماغ ؛ حيث توجد في جزء محدّد منه صورة مماثلة للصورة الحادثة على شبكية العين وينشط العقل ، فيضفي على هذه الصورة في الدماغ من خبرته السابقة المعاني التي ترتبط في أذهاننا بالبيت ، طبقاً لقوانين التداعي الآلية ، وينتج عن ذلك الإدراك العقلي لصورة البيت

وأمّا في ضوء الاتّجاه الشكلي أو الكلّي ، فالإدراك يتعلّق بالأشياء بجملتها وهيئاتها العامّة منذ الوهلة الأُولى ؛ لأنّ هناك صيغاً وأشكالاً أوّلية في العالم الخارجي ، تناسب صيغ العقل وأشكاله ، فيمكننا أن نفسّر تنظيم الحياة العقلية بتنظيم قوانين العالم الخارجي نفسها ، لا بالتركيب والتداعي فالجزء في الصيغة أو الكلّ إنّما يدرك تبعاً للكلّ ، ويتغيّر تبعاً لتغيّر الصيغة

٤١٦

وإنّما نطلق على تفسير الإدراك البصري بهذا : اسم التفسير العلمي ؛ لأنّه يدخل في المجال التجريبي ، أو الملاحظة المنظّمة ؛ فإنّ إدراك الصيغة ، وتغيّر الجزء تبعاً لتغيّرها تجريبي ، ولذلك برهنت مدرسة (الجشطالت) على نظريتها بالتجربة التي توضّح أنّ الإنسان لا يدرك الأجزاء فحسب ، بل يدرك شيئاً آخر كالشكل أو النغم ، ولذلك قد تجتمع الأجزاء جميعاً ، ومع ذلك لا يدرك ذلك الشكل أو النغم فهناك ـ إذن ـ الصيغة التي تكشف الأجزاء جميعاً

ولا نريد الآن أن نتوسّع في شرح التفسيرات العلمية لعملية الإدراك البصري ودراستها ، وإنّما نرمي ـ من وراء ما قدّمناه ـ إلى تحديد موضع التفسير الفلسفي الذي نحاوله منها فنقول بهذا الصدد :

إنّ الإدراك العقلي للصورة المبصرة يثير ـ بعد تلك الدراسات العلمية كلّها ـ سؤالاً ، يواجهه الشكليون والارتباطيون على السواء ، وهو : السؤال عن هذه الصورة التي أدركها العقل ، وتكوّنت طبقاً لقوانين التداعي الآلي ، أو طبقاً لقوانين الصيغة والشكل ، فما هو كنهها ؟ وهل هي صورة مادّية أو صورة مجرّدة عن المادّة ؟ وهذا السؤال الأساسي هو الذي يصوغ المشكلة الفلسفية التي يجب على علم النفس الفلسفي دراستها ومعالجتها ، وهو الذي تردّ عليه المادّية والميتافيزيقية بجوابين متناقضين

ويبدو الآن من الواضح جدّاً : أنّ السيكولوجيا العلمية ـ أي : علم النفس التجريبي ـ لا تستطيع في هذا المجال أن تؤكّد على التفسير المادّي للإدراك ، وتنفي وجود شيء في الحياة العقلية خارج المادّة ، كما تزعم الفلسفة المادّية ؛ لأنّ التجارب السيكولوجية ، سواءٌ منها الذاتية والموضوعية ، لا تمتدّ إلى ذلك المجال

٤١٧

الإدراك في مفهومه الفلسفي

لنبدأ الآن بدراستنا الفلسفية للإدراك ـ بعد أن أوضحنا مغزاها وصلاتها بمختلف الدراسات العملية ـ طبقاً للمنهج الفلسفي في الدراسات النفسية ، والذي يتلخّص ـ كما ألمعنا إليه سابقاً ـ في أخذ الحقائق العلمية والمسلّمات التجريبية ، وبحثها على ضوء القوانين والأصول المقرّرة في الفلسفة ؛ لاستنتاج حقيقة جديدة وراء ما كشفت عنه التجارب من حقائق

ولنأخذ الإدراك العقلي للصورة المبصرة ، نموذجاً حياً للحياة العقلية العامة التي تتصارع حول تفسيرها الفلسفتان : الميتافيزية ، والمادّية ، فمفهومنا الفلسفي للإدراك يرتكز :

أوّلاً- على الخصائص الهندسية للصورة المدرَكة

ثانياً- على ظاهرة الثبات في عمليات الإدراك البصري

أمّا الأوّل ، فنبدأ فيه من حقيقة بدهية نأخذها من حياتنا اليومية ومختلف تجاربنا الاعتيادية ، وهي : أنّ الصورة التي تتحفنا بها العملية العقلية للإدراك البصري تحتوي على الخصائص الهندسية : من الطول ، والعرض ، والعمق ، وتبدو بمختلف الأشكال والحجوم فلنفرض أنّنا زرنا حديقة تمتدّ آلاف الأمتار ، وألقينا عليها نظرة واحدة ، استطعنا فيها أن ندرك الحديقة كلاً متماسكاً ، تبدو فيه النخيل ، والأشجار ، وبركة الماء الكبيرة ، وألوان الحياة المتدفّقة في الأزهار والأوراد ، والكراسي الموضوعة بانتظام حول بركة الماء ، والبلابل ، والطيور التي تشدو على الأغصان والسؤال الذي يعترضنا حول هذه الصورة الرائعة التي أدركناها بنظرة مستوعبة هو : ما هي هذه الصورة التي ندركها ؟ وهل هي نفس الحديقة وواقعها

٤١٨

الموضوعي بالذات ، أو صورة مادّية تقوم بعضو مادّي خاصّ في جهازنا العصبي ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل صورة مجرّدة عن المادّة ، تماثل الواقع الموضوعي وتحكي عنه ؟

أمّا أنّ الحديقة بواقعها الخارجي هي الصورة المتمثّلة في إدراكنا العقلي ، فقد كانت تنادي بذلك نظرية قديمة في الرؤية ، تفترض أنّ الإنسان يدرك الواقع الموضوعي للأشياء نفسه ، بسبب خروج شعاع خاص من العين ، ووقوعه على المرئي ، ولكن هذه النظرية سقطت ـ أوّلاً ـ من الحساب الفلسفي ؛ لأنّ خداع الحواسّ الذي يجعلنا ندرك صوراً معيّنة على أشكال خاصّة لا واقع لها ، يبرهن على أنّ الصورة المدرَكة ليست هي الواقع الموضوعي ، وإلاّ فما هو الواقع الموضوعي المدرَك في الإدراكات الحسّية الخادعة ؟! وسقطت ـ ثانياً ـ من الحساب العلمي ؛ إذ أثبت العلم أنّ الأشعّة الضوئية تنعكس من المرئيات على العين لا من العين عليها ، وأنّا لا نملك من الأشياء المرئية إلاّ الأشعّة المنعكسة منها على الشبكية حتّى لقد أثبت العلم أنّ رؤيتنا للشيء قد تحدث بعد انعدام ذلك الشيء بسنين فنحن لا نرى الشعرى في السماء ـ مثلاً ـ إلاّ حين تصل الموجات الضوئية الصادرة عن الشعرى(١) إلى الأرض بعد عدّة سنين من انطلاقها عن مصدرها ، فتقع على شبكية العين ، فنقول : نحن نرى الشعرى ، غير أنّ هذه الموجات الضوئية التي تؤدّي بنا إلى رؤية الشعرى إنّما تنبئنا عنها كما كانت قبل عدّة سنين ومن الجائز أن تكون الشعرى قد انعدمت من السماء قبل رؤيتنا لها بأمد طويل ، وهذا يبرهن علمياً على أنّ الصورة التي نحسّ بها الآن ليست هي

____________________

(١) الشِعرَى : الكوكب الذي يطلع في الجوزاء ، وطلوعه في شدّة الحرّ (المنجد في اللغة)(لجنة التحقيق)

٤١٩

الشعرى المحلّقة في السماء ، أي : الواقع الموضوعي للنجم

ويبقى في حسابنا بعد ذلك الافتراضان الأخيران : فالافتراض الثاني- القائل : إنّ الصورة المدرَكة نتاج مادّي قائم بعضو الإدراك في الجهاز العصبي- هو الذي يحدّد المذهب الفلسفي للمادّية والافتراض الثالث ـ القائل : إنّ الصورة المدرَكة أو المحتوى العقلي لعملية الإدراك لا توجد في المادّة ، وإنّما هي لون من الوجود الميتافيزيقي ، خارج العالم المادّي ـ هو الذي يمثّل المذهب الفلسفي للميتافيزيقية

وفي هذه المرحلة من البحث يمكننا أن نستبعد الافتراض المادّي استبعاداً نهائياً ؛ وذلك لأنّ الصورة المدرَكة بحجمها وخصائصها الهندسية ، وامتدادها طولاً وعرضاً ، لا يمكن أن توجد في عضوٍ مادّي صغير في الجهاز العصبي فنحن وإن كنّا نعتقد أنّ الأشعّة الضوئية تنعكس على الشبكية ، وتتصوّر في صورة خاصّة ، ثمّ تنتقل في أعصاب الحسّ إلى الدماغ ، فتنشأ في موضع محدّد منه صورة مماثلة للصورة التي حدثت على الشبكية ولكن هذه الصورة المادّية غير الصورة المدرَكة في عقلنا ؛ لأنّها لا تملك ما تملكه الصورة المدرَكة من خصائص هندسية فكما أنّ الحديقة التي أدركناها في نظرة واحدة لا يمكن أن نأخذ عنها صورة فوتوغرافية موازية لها في السعة والشكل والامتداد على ورقة مسطّحة صغيرة ، كذلك لا يمكن أن نأخذ عنها صورة عقلية أو إدراكية ـ تحاكيها في سعتها ، وشكلها ، وخصائصها الهندسية ـ على جزء ضئيل من المخّ ؛ لأنّ انطباع الكبير في الصغير مستحيل

وإذن فيصبح من الضروري أن نأخذ بالافتراض الثالث ، وهو : أنّ الصورة المدرَكة ـ التي هي المحتوى الحقيقي للعملية العقلية ـ صورة ميتافيزيقية ، موجودة وجوداً مجرّداً عن المادّة ، وهذا هو كلّ ما يعنيه المفهوم الفلسفي

٤٢٠