فلسفتنا

فلسفتنا0%

فلسفتنا مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: كتب
الصفحات: 438

فلسفتنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 438
المشاهدات: 34603
تحميل: 11460

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34603 / تحميل: 11460
الحجم الحجم الحجم
فلسفتنا

فلسفتنا

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فبقيت تلك النقطة محافظة على موضعها من الحياة الاجتماعية في المذهب الشيوعي وبهذا لم تظفر الإنسانية بالحلّ الحاسم لمشكلتها الكبرى ، ولم تحصل على الدواء الذي يطبّب أدواءها ، ويستأصل أعراضها الخبيثة

أمّا مضاعفات هذا العلاج فهي جسيمة جدّاً : فإنّ من شأنه القضاء على حرّيات الأفراد لإقامة الملكية الشيوعية مقام الملكيّات الخاصّة ؛ وذلك لأنّ هذا التحويل الاجتماعي الهائل على خلاف الطبيعة الإنسانية العامّة إلى حدّ الآن على الأقلّ ـ كما يعترف بذلك زعماؤه ـ باعتبار أنّ الإنسان المادّي لا يزال يفكّر تفكيراً ذاتيّاً ، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود ووضع تصميم جديد للمجتمع يذوب فيه الأفراد نهائيّاً ويقضي على الدوافع الذاتية قضاءً تاماً موضعَ التنفيذِ ، يتطلّب قوّة حازمة تمسك زمام المجتمع بيدٍ حديدية ، وتحبس كلّ صوتٍ يعلو فيه ، وتخنق كلّ نفس يتردّد في أوساطه ، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشر ، وتضرب على الأُمّة نطاقاً لا يجوز أن تتعدّاه بحال ، وتعاقب على التهمة والظنّة ؛ لئلاّ يفلت الزمام من يدها فجأة وهذا أمر طبيعيٌّ في كلّ نظامٍ يراد فرضه على الأُمّة قبل أن تنضج فيها عقلية ذلك النظام وتعمَّ روحيّته

نعم ، لو أخذ الإنسان المادّي يفكّر تفكيراً اجتماعياً ، ويعقل مصالحه بعقليّة جماعية ، وذابت من نفسه جميع العواطف الخاصّة والأهواء الذاتية والانبعاثات النفسية ؛ لأمكن أن يقوم نظام يذوب فيه الأفراد ، ولا يبقى في الميدان إلاّ العملاق الاجتماعي الكبير ولكن تحقيق ذلك في الإنسان المادّي الذي لا يؤمن إلاّ بحياة محدودة ، ولا يعرف معنىً لها إلاّ اللذّة المادّية ، يحتاج إلى معجزة تخلق الجنّة في الدنيا ، وتنزل بها من السماء إلى الأرض والشيوعيّون يعِدوننا بهذه الجنّة ، وينتظرون ذلك اليوم الذي يقضي فيه المعملُ على طبيعة الإنسان ، ويخلقه من

٤١

جديد إنساناً مثاليّاً في أفكاره وأعماله ، وإن لم يكن يؤمن بذرّة من القيم المثالية والأخلاقية ولو تحقّقت هذه المعجزة ، فلنا معهم ، حينئذٍ ، كلام

وأمّا الآن فوضع التصميم الاجتماعي الذي يرومونه يستدعي حبس الأفراد في حدود فكرة هذا التصميم ، وتأمين تنفيذه بقيام الفئة المؤمنة به على حمايته ، والاحتياط له بكبت الطبيعة الإنسانية والعواطف النفسية ، ومنعها عن الانطلاق بكلّ أُسلوب من الأساليب والفرد في ظلّ هذا النظام وإن كسب تأميناً كاملاً ، وضماناً اجتماعياً لحياته وحاجاته ؛ لأنّ الثروة الجماعية تمدُّه بكلّ ذلك في وقت الحاجة ، ولكن أليس من الأحسن بحال هذا الفرد أن يظفر بهذا التأمين دون أن يخسر استنشاق نسيم الحرّية المهذّبة ، ويضطرّ إلى إذابة شخصه في النار ، وإغراق نفسه في البحر الاجتماعيّ المتلاطم ؟!

وكيف يمكن أن يطمع بالحرّية ـ في ميدان من الميادين- إنسان حُرِمَ من الحرّية في معيشته ، ورُبِطت حياته الغذائية ربطاً كاملاً بهيئة معيّنة ، مع أنّ الحرّية الاقتصادية والمعيشية هي أساس الحرّيات جميعاً ؟

ويعتذر عن ذلك المعتذرون ، فيتساءلون : ماذا يصنع الإنسان بالحرّية والاستمتاع بحقّ النقد والإعلان عن آرائه ، وهو يرزح تحت عبءٍ اجتماعيٍّ فظيع ؟! وماذا يجديه أن يناقش ويعترض ، وهو أحوج إلى التغذية الصحيحة والحياة المكفولة منه إلى الاحتجاج والضجيج الذي تنتجه له الحرّية ؟ !

وهؤلاء المتسائلون لم يكونوا ينظرون إلاّ إلى الديمقراطية الرأسمالية ، كأنّها القضيّة الاجتماعية الوحيدة التي تنافس قضيّتهم في الميدان ، فانتقصوا من قيمة الكرامة الفردية وحقوقها ؛ لأنّهم رأوا فيها خطراً على التيّار الاجتماعيّ العامّ ، ولكن من حقّ الإنسانية أن لا تضحّي بشيء من مقوّماتها وحقوقها ما دامت غير مضطرّة إلى ذلك ، وإنّها إنّما وقفت موقف التخيير بين كرامة هي من الحقّ

٤٢

المعنويّ للإنسانية ، وبين حاجة هي من الحقّ المادّي لها ، إذا أعوزها النظام الذي يجمع بين الناحيتين ، ويوفَّق إلى حلّ المشكلتين

إنّ إنساناً يعتصر الآخرون طاقاته ، ولا يطمئنُّ إلى حياة طيّبة ، وأجر عادل ، وتأمين في أوقات الحاجة ، لهو إنسان قد حُرِمَ من التمتّع بالحياة ، وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرّة كما أنّ إنساناً يعيش مهدَّداً في كلّ لحظة ، مُحاسَباً على كلّ حركة ، ومُعرَّضاً للاعتقال بدون محاكمة ، وللسجن والنفي والقتل لأدنى بادرة ، لهو إنسان مروّع مرعوب ، يسلبه الخوف حلاوة العيش ، وينغّص الرعب عليه ملاذّ الحياة

والإنسان الثالث المطمئنّ إلى معيشته ، الواثق بكرامته وسلامته ، هو حلم الإنسانية العذب فكيف يتحقّق هذا الحلم ؟ ومتى يصبح حقيقة واقعة ؟

وقد قلنا : إنّ العلاج الشيوعي للمشكلة الاجتماعية ناقصٌ ، مضافاً إلى ما أشرنا إليه من مضاعفات فهو وإن كان تتمثّل فيه عواطف ومشاعر إنسانية أثارها الطغيان الاجتماعيّ العامّ ، فأهاب بجملة من المفكّرين إلى الحلّ الجديد ، غير أنّهم لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد ليقضوا عليه ، وإنّما قضوا على شيء آخر ، فلم يُوفَّقوا في العلاج ، ولم ينجحوا في التطبيب

إنّ مبدأ الملكية الخاصّة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة التي زعزعت سعادة العالم وهناءه ، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من الأعمال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم ، كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي ، ولا هو الذي يفرض لتحكّم في أُجور الأجير وجهوده بلا حساب ، ولا هو الذي يفرض على الرأسماليّ أن يتلف كمّيات كبيرة من منتوجاته ؛ تحفّظاً على ثمن السلعة وتفضيلاً للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها ، ولا هو الذي يدعوه إلى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا وامتصاص جهود المدينين

٤٣

بلا إنتاج ولا عمل ، ولا هو الذي يدفعه إلى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الأسواق ؛ ليحتكرها ويرفع بذلك من أثمانها ، ولا هو الذي يفرض عليه فتح أسواق جديدة وإنْ انتُهكت بذلك حرّيات الأُمم وحقوقها ، وضاعت كرامتها وحرّيتها

كلّ هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكيّة الخاصّة ، وإنّما هي وليدة المصلحة المادّية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي ، والمبرّر المطلق لجميع التصرّفات والمعاملات فالمجتمع حين تقام أسسه على هذا المقياس الفردي والمبرِّر الذاتي ، لا يمكن أن يُنتظَر منه غير ما وقع ؛ فإنّ من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الإنسانية كلّها ، لا من مبدأ الملكية الخاصّة ، فلو أُبدل المقياس ، ووضعت للحياة غاية جديدة مهذّبة تنسجم مع طبيعة الإنسان ، لتحقَّق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الإنسانية الكبرى

٤٤

[ الإسلام والمشكلة الاجتماعيّة ]

التعليل الصحيح للمشكلة :

ولأجل أن نصل إلى الحلقة الأُولى في تعليل المشكلة الاجتماعية ، علينا أن نتساءل عن تلك المصلحة المادّية الخاصّة التي أقامها النظام الرأسمالي مقياساً ومبرِّراً وهدفاً وغاية ، نتساءل : ما هي الفكرة التي صحَّحت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به ؟ فإنّ تلك الفكرة هي الأساس الحقيقيّ للبلاء الاجتماعي وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته وإذا استطعنا أن نقضي على تلك الفكرة فقد وضعنا حدّاً فاصلاً لكلّ المؤامرات على الرفاه الاجتماعي ، والالتواءات على حقوق المجتمع وحرّيته الصحيحة ، ووفِّقنا إلى استثمار الملكية الخاصّة لخير الإنسانية ورقيّها وتقدّمها في المجالات الصناعية وميادين الإنتاج

فما هي تلك الفكرة ؟

إنّ تلك الفكرة تتلخّص في التفسير المادّي المحدود للحياة الذي أشدّ عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبّار ؛ فإنّ كلّ فرد في المجتمع إذا آمن بأنّ ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو : حياته المادّية الخاصّة ، وآمن ـ أيضاً ـ بحرّيته في التصرّف بهذه الحياة واستثمارها ، وأنّه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلاّ اللذّة التي توفِّرها له المادّة ، وأضاف هذه العقائد المادّية إلى حبّ الذات الذي هو من صميم طبيعته ، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليّون ، وينفِّذ أساليبهم كاملة ، ما لم تحرمه قوّة قاهرة من حريّته ، وتسدّ عليه السبيل

٤٥

وحبّ الذات هو الغريزة التي لا نعرف غريزة أعمّ منها وأقدم ، فكلّ الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها بما فيها غريزة المعيشة. فإنّ حبّ الإنسان ذاته ـ الذي يعني : حبّه للذّة والسعادة لنفسه ، وبغضه للألم والشقاء لذاته ـ هو الذي يدفع الإنسان إلى كسب معيشته وتوفير حاجياته الغذائية والمادّية ولذا قد يضع حدّاً لحياته بالانتحار إذا وجد أنَّ تحمُّل ألم الموت أسهل عليه من تحمُّل الآلام التي تزخر بها حياته

فالواقع الطبيعي الحقيقي ـ إذن ـ الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلّها ، ويوجّهها بأصابعه هوحبّ الذات ، الذي نعبِّر عنه بحبّ اللذّة وبغض الألم ، ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذّة ، في سبيل أن يلتذّ الآخرون ويتنعّموا ، إلاّ إذا سُلبت منه إنسانيّته ، وأُعطي طبيعة جديدة لا تتعشَّق اللذّة ، ولا تكره الألم .

وحتّى الألوان الرائعة من الإيثار التي نشاهدها في الإنسان ، ونسمع بها عن تأريخه ، تخضع في الحقيقة ـ أيضاً ـ لتلك القوّة المحرِّكة الرئيسية : (غريزة حبّ الذات) فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه ، وقد يضحّي في سبيل بعض المثل والقيم ، ولكنّه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحسّ فيها بلذّة خاصّة ، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن إيثاره لولده وصديقه ، أو تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها

وهكذا يمكننا أن نفسّر سلوك الإنسان بصورة عامّة في مجالات الأنانية والإيثار على حدٍّ سواء ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوّعة :مادّية كالالتذاذ بالطعام والشراب ، وألوان المتعة الجنسية وما إليها من اللذائذ المادّية أومعنوية كالالتذاذ الخُلُقي والعاطفي بقيم خُلُقية أو أليف روحيٍّ أو عقيدة معيّنة ، حين يجد الإنسان أنّ تلك القيم أو ذلك الأليف أو هذه العقيدة

٤٦

جزءٌ من كيانه الخاصّ

وهذه الاستعدادات التي تهيّئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوّعة ، تختلف في درجاتها عند الأشخاص ، وتتفاوت في مدى فعليّتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثّر فيه فبينما نجد أنّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية ، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً ، نجد أنّ ألواناً أُخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان ، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتّحها وغريزة حبّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً ، تحدّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات ، فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع ، وهي نفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه ؛ لأنّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقيم الخُلُقية والعاطفية الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً ، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية ، فأصبح يلتذّ بالقيم الخُلُقية والعاطفية ، ويضحّي بسائر لذّاته في سبيلهافمتى أردنا أن نغيّر من سلوك الإنسان شيئاً ، يجب أن نغيّر من مفهوم اللذّة والمنفعة عنده ، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العامّ لغريزة حبّ الذات .

فإذا كانت غريزة حبّ الذات بهذه المكانة من دنيا الإنسان ، وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة عن طاقة مادّية محدودة ، وكانت اللذّة عبارة عما تهيّئه المادّة من متع ومسرّات ، فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بأنّ مجال كسبه محدودة ، وأنّ شوطه قصير ، وأنّ غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذّة المادّية ، وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادّية ، وهو : المال ، الذي يفتح أمام الإنسان السبيل إلى تحقيق كلّ أغراضه وشهواته

هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادّية الذي يؤدّي إلى عقلية

٤٧

رأسمالية كاملة

أفَتَرى أنّ المشكلة تُحلّ حلاًّ حاسماً إذا رفضنا مبدأ الملكيّة الخاصّة ، وأبقينا تلك المفاهيم المادّية عن الحياة ، كما حاول أولئك المفكّرون ؟!

وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم بالقضاء على الملكية الخاصّة فقط ، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره ؟! مع أنّ ضمان سعادته واستقراره يتوقّف إلى حدٍّ بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الإصلاحية في ميدان العمل والتنفيذ ، والمفروض في هؤلاء المسؤولين أنّهم يعتنقون نفس المفاهيم المادّية الخالصة عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية ، وإنّما الفرق : أنّ هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة ، ومن الفرض المعقول الذي يتّفق في كثير من الأحايين ، أن تقف المصلحة الخاصّة في وجه مصلحة المجموع ، وأن يكون الفرد بين خسارة وألم يتحمّلها لحساب الآخرين ، وبين ربح ولذّة يتمتّع بهما على حسابهم ، فماذا تقدّر للأُمّة وحقوقها وللمذهب وأهدافه من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة التي تمرّ على الحاكمين ؟ ! والمصلحة الذاتية لا تتمثّل فقط في الملكية الفردية ، ليقضى على هذا الفرض الذي افترضناه بإلغاء مبدأ الملكية الخاصّة ، بل هي تتمثّل في أساليب ، وتتلوّن بألوان شتّى ؛ ودليل ذلك ما أخذ يكشف عنه زعماء الشيوعية اليوم من خيانات الحاكمين السابقين ، والتوائهم على ما يتبنّون من أهداف

إنّ الثروة تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظلّ الاقتصاد المطلق والحرّيات الفردية ، وتتصرّف فيها بعقليّتها المادّية تُسلَّم ـ عند تأميم الدولة لجميع الثروات ، وإلغاء الملكية الخاصّة ـ إلى نفس جهاز الدولة المكوّن من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادّية عن الحياة ، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حبّ الذات ، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذّة ومصلحة

٤٨

بلا عوض وما دامت المصلحة المادّية هي القوّة المسيطرة بحكم مفاهيم الحياة المادّية ، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس ، وسوف يُعرَّض المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال فالخطر على الإنسانية يكمن كلّه في تلك المفاهيم المادّية ، وما ينبثق عنها من مقاييس للأهداف والأعمال وتوحيد الثروات الرأسمالية ـ الصغيرة أو الكبيرة ـ في ثروة كبرى يُسلَّم أمرها للدولة من دون تطوير جديد للذهنية الإنسانية ، لا يدفع ذلك الخطر ، بل يجعل من الأُمّة جميعاً عمّال شركة واحدة ، ويربط حياتهم وكرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها

نعم ، إنّ هذه الشركة تختلف عن الشركة الرأسمالية في أنّ أصحاب تلك الشركة الرأسمالية هم الذين يملكون أرباحها ، ويصرفونها في أهوائهم الخاصّة ، وأمّا أصحاب هذه الشركة ، فهم لا يملكون شيئاً من ذلك في مفروض النظام ، غير أنّ ميادين المصلحة الشخصية لا تزال مفتوحة ، والفهم المادّي للحياة ـ الذي يجعل من تلك المصلحة هدفاً ومبرِّراً ـ لا يزال قائماً

كيف تعالج المشكلة ؟

والعالم أمامه سبيلان إلى دفع الخطر وإقامة دعائم المجتمع المستقرّ :

أحدهما : أن يبدّل الإنسان غير الإنسان ، أو تخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحّي بمصالحه الخاصّة ، ومكاسب حياته المادّية المحدودة في سبيل المجتمع ومصالحه ، مع إيمانه بأنّه لا قيم إلاّ قيم تلك المصالح المادّية ، ولا مكاسب إلاّ مكاسب هذه الحياة المحدودة وهذا إنّما يتمّ إذا انتزع من صميم طبيعته حبّ الذات ، وأُبدل بحبّ الجماعة ، فيولد الإنسان وهو لا يحبّ ذاته إلاّ باعتبار كونه جزءاً من المجتمع ، ولا يلتذّ لسعادته ومصالحه إلاّ بما أنّها تمثّل جانباً من السعادة

٤٩

العامّة ومصلحة المجموع ؛ فإنّ غريزة حبّ الجماعة تكون ضامنة ـ حينئذٍ ـ للسعي وراء مصالحها وتحقيق متطلّباتها بطريقة ميكانيكية وأُسلوب آلي

والسبيل الآخر الذي يمكن للعالّم سلوكه لدرء الخطر عن حاضر الإنسانية ومستقبلها هو: أن يطوّر المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة ، وبتطويره تتطوّر طبيعياً أهدافها ومقاييسها ، وتتحقّق المعجزة ـ حينئذٍ ـ من أيسر طريق

والسبيل الأوّل هو الذي يحلم أقطاب الشيوعيين بتحقيقه للإنسانية في مستقبلها ، ويَعِدون العالم بأنّهم سوف ينشئونها إنشاءً جديداً ، يجعلها تتحرّك ميكانيكياً إلى خدمة الجماعة ومصالحها ولأجل أن يتمّ هذا العمل الجبّار يجب أن نوكل قيادة العالم إليهم ، كما يُوكل أمر المريض إلى الجرّاح ، ويُفوَّض إليه تطبيبه وقطع الأجزاء الفاسدة منه ، وتعديل المعوج منها ولا يعلم أحدٌ كم تطول هذه العملية الجراحية التي تجعل الإنسانية تحت مبضع جرّاح وإنّ استسلام الإنسانية لذلك لهو أكبر دليل على مدى الظلم الذي قاسته في النظام الديمقراطي الرأسمالي ، الذي خدعها بالحرّيات المزعومة ، وسلب منها أخيراً كرامتها ، وامتصّ دماءها ؛ ليقدّمها شراباً سائغاً للفئة المدلّلة التي يمثّلها الحاكمون

والفكرة في هذا الرأي القائل بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الإنسانية وإنشائها من جديد ترتكز على مفهوم الماركسية عن حبّ الذات ؛ فإنّ الماركسية تعتقد أنّ حبّ الذات ليس ميلاً طبيعياً وظاهرة غريزية في كيان الإنسان، وإنّما هو نتيجة للوضع الاجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية ؛ فإنّ الحالة الاجتماعية للملكية الخاصّة هي التي تكوّن المحتوى الروحي والداخلي للإنسان ، وتخلق في الفرد حبّه لمصالحه الخاصّة ومنافعه الفردية فإذا حدثت ثورة في الأُسس التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي ، وحلّت الملكية الجماعية والاشتراكية محلّ الملكية الخاصّة ، فسوف تنعكس الثورة في كلّ أرجاء المجتمع

٥٠

وفي المحتوى الداخلي للإنسان ، فتنقلب مشاعره الفردية إلى مشاعر جماعية ، ويتحوّل حبّه لمصالحه ومنافعه الخاصّة إلى حبّ لمنافع الجماعة ومصالحها ، وفقاً لقانون التوافق بين حالة الملكية الأساسية ، ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيّف بموجبها

والواقع : أنّ هذا المفهوم الماركسي لحبّ الذات ، يقدِّر العلاقة بين الواقع الذاتي (غريزة حبّ الذات) ، وبين الأوضاع الاجتماعية بشكل مقلوب وإلاّ فكيف نستطيع أن نؤمن بأنّ الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصّة والتناقضات الطبقية التي تنجم عنها ؟! فإنّ الإنسان لو لم يكن يملك سلفاً الدافع الذاتي ، لَمَا أوجد هذه التناقضات ، ولا فكّر في الملكية الخاصّة والاستئثار الفردي ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام ، ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين ما دام لا يحسّ بالدافع الذاتي في أعماق نفسه ؟!

فالحقيقة : أنّ المظاهر الاجتماعية للأنانية في الحقل الاقتصادي والسياسي لم تكن إلاّ نتيجة للدافع الذاتي لغريزة حبّ الذات فهذا الدافع أعمق منها في كيان الإنسان ، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بإزالة تلك الآثار ؛ فإنّ عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالاً لآثار بأُخرى قد تختلف في الشكل والصورة ، لكنّها تتّفق معها في الجوهر والحقيقة

أضف إلى ذلك : أنّنا لو فسّرنا الدافع الذاتي (غريزة حبّ الذات) تفسيراً موضوعياً ـ بوصفه انعكاساً لظواهر الفردية في النظام الاجتماعي ، كظاهرة الملكية الخاصّة ـ كما صنعت الماركسية ، فلا يعني هذا أنّ الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الاجتماعي بإزالة الملكية الخاصّة ؛ لأنّها وإن كانت ظاهرة ذات طابع فردي ، ولكنّها ليست هي الوحيدة من نوعها ، فهناك- مثلاً- ظاهرة الإدارة الخاصّة التي يحتفظ بها حتّى النظام الاشتراكي فإنّ النظام

٥١

الاشتراكي وإن كان يلغي الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج ، غير أنّه لا يلغي إدارتها الخاصّة من قِبل هيئات الجهاز الحاكم الذي يمارس دكتاتورية البروليتاريا ، ويحتكر الإشراف على جميع وسائل الإنتاج وإدارتها ؛ إذ ليس من المعقول أن تدار وسائل الإنتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية اشتراكية من قِبل أفراد المجتمع كافّة فالنظام الاشتراكي يحتفظ ـ إذن ـ بظواهر فردية بارزة ، ومن الطبيعي لهذه الظواهر الفرديّة أن تحافظ على الدافع الذاتي ، وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار ، كما كانت تصنع ظاهرة الملكية الخاصّة

وهكذا نعرف قيمة السبيل الأوّل لحلّ المشكلة (السبيل الشيوعي) الذي يعتبر إلغاء تشريع الملكية الخاصّة ومحوها من سجلّ القانون كفيلاً وحده بحلّ المشكلة وتطوير الإنسان

وأمّا السبيل الثاني- الذي مرّ بنا- فهو الذي سلكه الإسلام ؛ إيماناً منه بأنّ الحلّ الوحيد للمشكلة تطوير المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة فلم يبتدر إلى مبدأ الملكية الخاصّة ليبطله ، وإنّما غزا المفهوم المادّي عن الحياة ، ووضع للحياة مفهوماً جديداً ، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي ، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد ، بل وضع لكلّ منهما حقوقه ، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادّية معاً فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من أنظمة ، فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانية ؛ فإنّ نقطة الارتكاز الأساسية لما ضجّت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي : النظرة المادّية إلى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في افتراض حياة الإنسان في الدنيا هي كلّ ما في الحسّاب من شيء ، وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكلّ فعّالية ونشاط

٥٢

إنّ الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار والفشل المحقّق في نظر الإسلام ، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته ، وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصّة في ذاتها ؛ لأنّ الإسلام يختلف في طريقته المنطقية واقتصاده السياسي وفلسفته الاجتماعية عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدلية ـ كما أوضحنا ذلك في كتاب (اقتصادنا )-ويضمن وضع الملكية الفردية في تصميم اجتماعي ، خالٍ من تلك التناقضات المزعومة ، بل إنّ مردّ الفشل والوضع الفاجع الذي منيت به الديمقراطية الرأسمالية في عقيدة الإسلام إلى مفاهيمها المادّية الخالصة ، التي لا يمكن أن يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها ، ويستمدّ خطوطه العامّة من روحها وتوجيهها.

فلابدّ إذن من معين آخر ـ غير المفاهيم المادّية عن الكون ـ يستقي منه النظام الاجتماعي ، ولابدّ من وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة ، ويتبنّى القضية الإنسانية الكبرى ، ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم ، ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالَم ، واكتساحه لكلّ وعي سياسي آخر ، وغزوه لكلّ مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية يمكن أن يدخل العالَم في حياة جديدة مشرقة بالنور عامرة بالسعادة

إنّ هذا الوعي السياسي العميق هو رسالة السلام الحقيقي في العالم ، وإنّ هذه الرسالة المنقذة لهي رسالة الإسلام الخالدة التي استمدّت نظامها الاجتماعي ـ المختلف عن كلّ ما عرضناه من أنظمة ـ من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون

وقد أوجد الإسلام بتلك القاعدة الفكرية النظرة الصحيحة للإنسان إلى

٥٣

حياته ، فجعله يؤمن بأنّ حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال ، وأنّها إعداد للإنسان إلى عالم لا عناء فيه ولا شقاء ، ونصب له مقياساً خُلُقياً جديداً في كلّ خطواته وأدواره ، وهو :رضا الله تعالى ف ليس كلّ ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز ، وكلّ ما يؤدّي إلى خسارة شخصية فهو محرّم وغير مستساغ ، بل الهدف الذي رسمه الإسلام للإنسان في حياته هو : الرضا الإلهي والمقياس الخُلُقي الذي توزن به جميع الأعمال إنّما هو : مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدّس والإنسان المستقيم هو : الإنسان الذي يحقّق هذا الهدف والشخصية الإسلامية الكاملة هي : الشخصية التي سارت في شتّى أشواطها على هدي هذا الهدف ، وضوء هذا المقياس ، وضمن إطاره العامّ .

وليس هذا التحويل في مفاهيم الإنسان الخُلُقية وموازينه وأغراضه يعني تغيير الطبيعة الإنسانية وإنشاءها إنشاءً جديداً كما كانت تعني الفكرة الشيوعية ، فحبّ الذات ـ أي : حبّ الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصّة ـ طبيعي في الإنسان ، ولا نعرف استقراء في ميدان تجريبي أوضح من استقراء الإنسانيّة في تأريخها الطويل الذي يبرهن على ذاتية حبّ الذات ، بل لو لم يكن حبّ الذات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأوّل- قبل كلّ تكوينة اجتماعية- إلى تحقيق حاجاته ، ودفع الأخطار عن ذاته ، والسعي وراء مشتهياته بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده ، وبالتالي خوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين ؛ تحقيقاً لتلك الحاجات ودفعاً لتلك الأخطار ، ولَمَا كان حبّ الذات يحتلّ هذا الموضع من طبيعة الإنسان فأيّ علاج حاسم للمشكلة الإنسانية الكبرى يجب أن يقوم على أساس الإيمان بهذه الحقيقة ، وإذا قام على فكرة تطويرها أو التغلّب عليها ، فهو علاج مثالي لا ميدان له في واقع الحياة العملية التي يعيشها الإنسان

٥٤

رسالة الدين :

ويقوم الدين هنا برسالته الكبرى التي لا يمكن أن يضطلع بأعبائها غيره ، ولا أن تحقِّق أهدافها البنّاءة وأغراضها الرشيدة إلاّ على أُسسه وقواعده ، فيربط بين المقياس الخُلُقي الذي يضعه للإنسان وحبّ الذات المتركّز في فطرته

وفي تعبير آخر : إنّ الدين يوحِّد بين المقياس الفطري للعمل والحياة وهو : حبّ الذات ، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة ؛ ليضمن السعادة والرفاه والعدالة

إنّ المقياس الفطري يتطلّب من الإنسان أن يقدّم مصالحه الذاتية على مصالح المجتمع ومقوِّمات التماسك فيه ، والمقياس الذي ينبغي أن يحكم ويسود هو : المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلّها ، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية

فكيف يتمّ التوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين ؛ لتعود الطبيعة الإنسانية في الفرد عاملاً من عوامل الخير والسعادة للمجموع ، بعد أن كانت مثار المأساة والنزعة التي تتفنّن في الأنانية وأشكالها ؟

إنّ التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة ، وتتّخذ العملية أُسلوبين :

الأُسلوب الأوّل : هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح كمقدّمة تمهيدية إلى حياة أُخروية ، يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه في سبيل تحصيل رضا الله فالمقياس الخُلُقي ـ أو رضا الله تعالى ـ يضمن المصلحة الشخصية في نفس الوقت الذي يحقّق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى فالدين يأخذ بيد الإنسان إلى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد ، والمحافظة على قضايا العدالة فيه التي تحقِّق رضا الله

٥٥

تعالى ؛ لأنّ ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي ما دام كلّ عمل ونشاط في هذا الميدان يُعوَّض عنه بأعظم العوض وأجلّه

فمسألة المجتمع هي مسألة الفرد أيضاً في مفاهيم الدين عن الحياة وتفسيرها ولا يمكن أن يحصل هذا الأُسلوب من التوفيق في ظلّ فهم مادّي للحياة ؛ فإنّ الفهم المادّي للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلاّ إلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة ، على عكس التفسير الواقعي للحياة الذي يقدِّمه الإسلام ؛ فإنه يوسّع من ميدان الإنسان، ويفرض عليه نظرة أعمق إلى مصالحه ومنافعه ، ويجعل من الخسارة العاجلة ربحاً حقيقياً في هذا النظرة العميقة، ومن الأرباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف :

( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) (١)

( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى‏ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بغَيْرِ حِسَابٍ ) (٢)

( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَه ) (٣)

( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤)

____________________

(١) فصلّت : ٤٦

(٢) المؤمن : ٤٠

(٣) الزلزال : ٦ ـ ٨

(٤) التوبة : ١٢٠ ـ ١٢١

٥٦

هذه بعض الصور الرائعة التي يقدّمها الدين مثلاً على الأُسلوب الأوّل الذي يتّبعه للتوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين ، فيربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة ، ويطوِّر من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن بأنّ مصالحه الخاصّة والمصالح الحقيقية العامّة للإنسانية- التي يحدّدها الإسلام- مترابطتان(١)

وأمّاالأُسلوب الثاني الذي يتّخذه الدين للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الاجتماعية فهو : التعهّد بتربية أخلاقية خاصّة ، تعنى بتغذية الإنسان روحياً ، وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخُلُقية فيه فإنّ في طبيعة الإنسان ـ كما ألمعنا سابقاً ـ طاقات واستعدادات لميول متنوّعة : بعضها ميول مادّية تتفتّح شهواتها بصورة طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس ، وبعضها ميول معنوية تتفتّح وتنمو بالتربية والتعاهد ؛ ولأجل ذلك كان من الطبيعي للإنسان ـ إذا تُرِك لنفسه ـ أن تسيطر عليه الميول المادّية ؛ لأنّها تتفتّح بصورة طبيعية ، وتظلّ الميول المعنوية واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسدَّدة من الله ، فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها ، فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة ، ويصبح الإنسان يحبّ القيم الخُلُقية والمثل التي يربّيه الدين على احترامها ، ويستبسل في سبيلها ، ويزيح عن طريقها ما يقف أمّامها من مصالحه ومنافعه وليس معنىً ذلك أنّ حبّ الذات يُمحى من الطبيعة الإنسانية ، بل إنّ العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حبّ الذات ؛ فإنّ القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للإنسان ، ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبِّراً عن لذّة شخصية خاصّة ، فتفرض طبيعة حبّ الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخُلُقية

____________________

(١) انظر : اقتصادنا ، مبحث : المادية التاريخية والمشكلة

٥٧

المحبوبة تحقيقاً للذّة الخاصّة بذلك

فهذان هما الطريقان اللذان ينتج عنهما ربط المسألة الخُلُقية بالمسألة الفردية ويتلخّص أحدهما في إعطاء التفسير الواقعي لحياة أبدية ، لا لأجل أن يزهد الإنسان في هذه الحياة ، ولا لأجل أن يخنع للظلم ويقرّ على غير العدل ، بل لأجل ضبط الإنسان بالمقياس الخُلُقي الصحيح الذي يمدّه ذلك التفسير بالضمان الكافي ويتلخّص الآخر في التربية الخُلُقية التي ينشأ عنها في نفس الإنسان مختلف المشاعر والعواطف التي تضمن إجراء المقياس الخُلُقي بوحي من الذات فالفهم المعنوي للحياة ، والتربية الخُلُقية للنفس في رسالة الإسلام ، هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الإنسانية

ولنعبِّر- دائماً- عن فهم الحياة على أنّها تمهيد لحياة أبدية بـ : (الفهم المعنوي للحياة ) ولنعبِّر- أيضاً- عن المشاعر والأحاسيس التي تغذّيها التربية الخُلُقية بـ : (الإحساس الخُلُقي بالحياة ) .

فـ (الفهم المعنوي للحياة) و(الإحساس الخُلُقي بها) ، هما الركيزتان اللتان يقوم على أساسهما المقياس الخُلُقي الجديد الذي يضعه الإسلام للإنسانية ، وهو : رضا الله تعالى- ورضا الله- هذا الذي يقيمه الإسلام مقياساً عاماً في الحياة ـ هو الذي يقود السفينة البشرية إلى ساحل الحقّ والخير والعدالة

فالميزة الأساسية للنظام الإسلامي تتمثّل فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة ، وإحساس خُلُقي بها والخطّ العريض في هذا النظام هو : اعتبار الفرد والمجتمع معاً ، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم ، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة وتشرِّع لحسابه

٥٨

وكلّ نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والإحساس ، فهو إمّا نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية ، فتتعرّض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات وأشدّ الأخطار ، وأمّا نظام يحبس في الفرد نزعته ويشلّ فيه طبيعته ؛ لوقاية المجتمع ومصالحه ، فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته ، والأفراد ونزعاتهم ، بل يتعرّض الوجود الاجتماعي للنظام ـ دائماً ـ للانتكاس على يد منشئه ما دام هؤلاء ذوي نزعات فردية أيضاً ، وما دامت هذه النزعات تجد لها ـ بكبت النزعات الفردية الأُخرى وتسلّم القيادة الحاسمة ـ مجالاً واسعاً وميداناً لا نظير له للانطلاق والاستغلال

وكلّ فهم معنوي للحياة وإحساس خُلُقي بها لا ينبثق عنهما نظام كامل للحياة يحسب فيه لكلّ جزء من المجتمع حسابه ، وتعطى لكلّ فرد حرّيته التي هذّبها ذلك الفهم والإحساس ، والتي تقوم الدولة بتحديدها في ظروف الشذوذ عنهما ، أقول : إنّ كلّ عقيدة لا تلد للإنسانية هذا النظام فهي لا تخرج عن كونها تلطيفاً للجوّ وتخفيفاً من الويلات ، وليست علاجاً محدوداً وقضاءً حاسماً على أمراض المجتمع ومساوئه وإنّما يشاد البناء الاجتماعي المتماسك على فهم معنوي للحياة وإحساس خُلُقي بها ، ينبثق عنهما ، يملأ الحياة بروح هذا الإحساس وجوهر ذلك الفهم

وهذا هو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها ، فهو : عقيدة معنوية وخُلُقية ، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية ، يرسم لها شوطها الواضح المحدَّد ، ويضع لها هدفاً أعلى في ذلك الشوط ، ويعرّفها على مكاسبها منه

وأمّا أن يقضى على الفهم المعنوي للحياة ، ويجرّد الإنسان عن إحساسه الخُلُقي بها ، وتعتبر المفاهيم الخُلُقية أوهاماً خالصة خلقتها المصالح المادّية ، والعامّل الاقتصادي هو الخلاّق لكلّ القيم والمعنويات ، وترجى بعد ذلك سعادة

٥٩

للإنسانية واستقرّر اجتماعي لها ، فهذا هو الرجاء الذي لا يتحقّق إلاّ إذا تبدّل البشر إلى أجهزة ميكانيكية يقدِم على تنظيمها عدّة من المهندسين الفنّيين

وليست إقامة الإنسان على قاعدة ذلك الفهم المعنوي للحياة والإحساس الخلقي بها ، عملاً شاقّاً وعسيراً ؛ فإنّ الأديان في تأريخ البشرية قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار ، وليس لجميع ما يحفل به العالم اليوم من مفاهيم معنوية ، وأحاسيس خُلُقية ، ومشاعر وعواطف نبيلة ، تعليل أوضح وأكثر منطقية من تعليل ركائزها وأُسسها بالجهود الجبّارة التي قامت بها الأديان لتهذيب الإنسانية والدافع الطبيعي في الإنسان ، وما ينبغي له من حياة وعمل

وقد حمل الإسلام المشعل المتفجّر بالنور بعد أن بلغ البشر درجة خاصّة من الوعي ، فبشّر بالعقيدة المعنوية والخُلُقية على أوسع نطاق وأبعد مدى ، ورفع على أساسها راية إنسانية ، وأقام دولة فكرية أخذت بزمام العالم ربع قرن ، واستهدفت إلى توحيد البشر كلّه ، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم أُسلوب الحياة ونظامها

فالدولة الإسلامية لها وظيفتان : إحداهما تربية الإنسان على القاعدة الفكرية ، وطبعه في اتّجاهه وأحاسيسه بطابعها، والأُخرى مراقبته من خارج ، وإرجاعه إلى القاعدة إذا انحرف عنها عملياً

ولذلك فليس الوعي السياسي للإسلام وعياً للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحسب ، بل هو وعي سياسي عميق ، مردّه إلى نظرة كلّية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق ، فهذه النظرة الشاملة هو الوعي الإسلامي الكامل

وكلّ وعي سياسي آخر فهو إمّا أن يكون وعياً سياسياً سطحياً لا ينظر إلى العالم من زاوية معيّنة ، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصّة ، أو يكون وعياً

٦٠