فلسفتنا

فلسفتنا0%

فلسفتنا مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: كتب
الصفحات: 438

فلسفتنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 438
المشاهدات: 34608
تحميل: 11460

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34608 / تحميل: 11460
الحجم الحجم الحجم
فلسفتنا

فلسفتنا

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سياسياً يدرس العالم من زاوية المادّة البحتة ، التي تموِّن البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه

وأخيراً :

وأخيراً ، وفي نهاية مطافنا على المذاهب الاجتماعية الأربعة ، نخرج بنتيجة ، هي : أنّ المشكلة الأساسية التي تتولّد عنها كلّ الشرور الاجتماعية وتنبعث منها مختلف ألوان الآثام ، لم تُعالَج المعالجة الصحيحة التي تحسم الداء وتستأصله من جسم المجتمع البشري في غير المذهب الاجتماعي للإسلام من مذاهب فلابدّ أن نقف عند المبدأ الإسلامي في فلسفته عن الحياة والكون ، وفي فلسفته عن الاجتماع والاقتصاد ، وفي تشريعاته ومناهجه ؛ لنحصل على المفاهيم الكاملة للوعي الإسلامي والفكر الإسلامي الشامل ، مقارنين بينه وبين المبادئ الأُخرى فيما يقرِّر من مناهج ويتبنّى من عقيدة

وبطبيعة الحال أنّ دراستنا لكلّ مبدأ تبدأ بدراسة ما يقوم عليه من عقيدة عامّة عن الحياة والكون وطريقة فهمهما ، فمفاهيم كلّ مبدأ عن الحياة والكون تشكّل البنية الأساسية لكيان ذلك المبدأ والميزان الأوّل لامتحان المبادئ هو : اختبار قواعدها الفكرية الأساسية التي يتوقّف على مدى إحكامها وصحّتها إحكام البنيات الفوقية ونجاحها

ولأجل ذلك فسوف نخصِّص هذه الحلقة الأُولى من (كتابنا) لدراسة البنية الأُولى التي هي نقطة الانطلاق للمبدأ ، وندرس البنيات الفوقية في الحلقات الأُخرى إن شاء الله تعالى

والنظام الرأسمالي الديمقراطي ليس منبثقاً من عقيدة معيّنة عن الحياة والكون ، ولا مرتكزاً على فهم كامل لقيمها التي تتّصل بالحياة الاجتماعية وتؤثّر

٦١

فيها ؛ وهو لهذا ليس مبدأً بالمعنى الدقيق للفظ المبدأ ، لأنّ المبدأ عقيدة في الحياة ينبثق عنها نظام للحياة

وأمّا الاشتراكية والشيوعية الماركسيتان فقد وُضعتا على قاعدة فكرية ، وهي : (الفلسفة المادّية الجدلية) ويختصّ الإسلام بقاعدة فكرية عن الحياة لها طريقتها الخاصّة في فهم الحياة وموازينها المعيّنة لها

فنحن ـ إذن ـ بين فلسفتين لا بدّ من دراستهما ؛ لنتبيّن القاعدة الفكرية الصحيحة للحياة التي يجب أن نشيد عليها وعينا الاجتماعي السياسي لقضية العالم كلّه ، ومقياسنا الاجتماعي والسياسي الذي نقيس به قيم الأعمال ، ونزن به أحداث الإنسانية في مشاكلها الفردية والدولية

والعقيدة التي يرتكز عليها المبدأ تحتوي على الطريقة والفكرة ، أي : على تحديد طريقة التفكير ، وتحديد المفهوم للعالم والحياة ولمّا كنّا لا نستهدف في هذا الكتاب الدراسات الفلسفية لذاتها ، وإنّما نريد دراسة القواعد الفكرية للمبادئ ، فسوف نقتصر على درس العنصرين الأساسيين لكلّ قاعدة فكرية ينبثق عنها نظام ، وهما : طريقة التفكير ، والمفهوم الفلسفي للعالم فهاتان المسألتان هما مدار البحث في هذا الكتاب ولمّا كان من الضروري تحديد الطريقة قبل تكوين المفاهيم ، فنبدأ بنظرية المعرفة التي تحتوي على تحديد معالم التفكير وطريقته وقيمته ، ويتلو بعد ذلك درس المفهوم الفلسفي العامّ عن العالم بصورة عامّة

ويحسن بالقارئ العزيز أن يعرف قبل البدء أنّ المستفاد من الإسلام بالصميم إنّما هو : الطريقة والمفهوم ، أي : الطريقة العقلية في التفكير ، والمفهوم الإلهي للعالم وأمّا أساليب الاستدلال وألوان البرهنة على هذا وذاك فلسنا نضيفها جميعاً إلى الإسلام ، وإنّما هي حصيلة دراسات فكرية لكبار المفكّرين من علماء المسلمين وفلاسفتهم

٦٢

-١-

نظريّة المعرفة

١-المصدر الأساسي للمعرفة

٢- قيمة المعرفة

٦٣

٦٤

نظريّة المعرفة / ١

المصدر الأساسي للمعرفة

التصوّر ومصدره الأساسي

التصديق ومصدره الأساسي

٦٥

٦٦

تدور حول المعرفة الإنسانية مناقشات فلسفية حادّة تحتلّ مركزاً رئيسياً في الفلسفة وخاصّة الفلسفة الحديثة ، فهي نقطة الانطلاق الفلسفي لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم ، فما لم تُحدَّد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأيّة دراسة مهما كان لونها

وإحدى تلك المناقشات الضخمة هي : المناقشة التي تتناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس ، وتحاول أن تستكشف الركائز الأوّلية للكيان الفكري الجبّار الذي تملكه البشرية فتجيب بذلك على هذا السؤال : كيف نشأت المعرفة عند الإنسان ؟ وكيف تكوّنت حياته العقلية بكلّ ما تزخر به من أفكار ومفاهيم ؟ وما هو المصدر الذي يمدّ الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك ؟

إنّ الإنسان ـ كلّ إنسان ـ يعلم أشياء عديدة في حياته ، وتتعدّد في نفسه ألوان من التفكير والإدراك ، ولا شكّ في أنّ كثيراً من المعارف الإنسانية ينشأ بعضها عن بعض ، فيستعين الإنسان بمعرفة سابقة على تكوين معرفة جديدة.

والمسألة هي : أن نضع يدنا على الخيوط الأوّلية للتفكير ، على الينبوع العامّ للإدراك بصورة عامّة

٦٧

ويجب أن نعرف قبل كلّ شيء أنّ الإدراك ينقسم بصورة رئيسية إلى نوعين : أحدهما التصوّر ، وهو : الإدراك الساذَج والآخر التصديق ، وهو : الإدراك المنطوي على حكم فالتصوّر ، كتصوّرنا لمعنى الحرارة أو النور أو الصوت والتصديق ، كتصديقنا بأنّ الحرارة طاقة مستورَدة من الشمس ، وأنّ الشمس أنور من القمر ، وأنّ الذرّة قابلة للانفجار(١)

ونبدأ الآن بالتصوّرات البشرية لدرس أسبابها ومصادرها ، ونتناول بعد ذلك التصديقات والمعارف

____________________

(١) ولبعض الفلاسفة الحسّيين (كجون ستوارت ميل) نظرية خاصّة في التصديق حاولوا بها تفسيره بتصوّرين متداعيين فمردّ التصديق إلى قوانين تداعي المعاني ، وليس المحتوى النفسي إلاّ تصوّر الموضوع وتصوّر المحمول

ولكنّ الحقيقة : أنّ تداعي المعاني يختلف عن طبيعة التصديق كلّ الاختلاف ، فهو قد يتحقّق في كثير من المجالات ولا يوجد تصديق ، فالرجال التاريخيون الذين تسبغ عليهم الأساطير ألواناً من البطولات يقترن تصوّرهم في ذهننا بتصوّر تلك البطولات ، وتتداعى التصوّرات ، ومع ذلك فقد لا نصدّق بشيء من تلك الأساطير فالتصديق ـ إذن ـ عنصر جديد يمتاز على التصوّر الخالص ، وعدم التمييز بين التصوّر والتصديق في عدّة من الدراسات الفلسفية الحديثة ، أدّى إلى جملة من الأخطاء ، وجعل عدّة من الفلاسفة يدرسون مسألة تعليل المعرفة والإدراك من دون أن يضعوا فارقاً بين التصوّر والتصديق وستعرف أنّ النظرية الإسلامية تفصِّل بينهما ، وتشرح المسألة في كلّ منهما بأُسلوب خاصّ (المؤلّف قدس‌سره )

٦٨

التصوّر ومصدره الأساسي :

ونقصد بكلمة (الأساسي ) المصدر الحقيقي للتصوّرات والإدراكات البسيطة ؛ ذلك أنّ الذهن البشري ينطوي على قسمين من التصوّرات :

أحدهما المعاني التصوّرية البسيطة ، كمعاني الوجود والوحدة والحرارة والبياض وما إلى ذلك من مفردات للتصوّر البشري

والقسم الآخر المعاني المركّبة ، أي : التصوّرات الناتجة عن الجمع بين تلك التصوّرات البسيطة فقد نتصوّر (جبلاً من تراب) ونتصوّر (قطعة من الذهب) ثمّ نركّب بين هذين التصوّرين ، فيحصل بالتركيب تصوّر ثالث ، وهو : (تصوّر جبل من الذهب) فهذا التصوّر مركّب في الحقيقة من التصوّر الأوّلين ، وهكذا ترجع جميع التصوّرات المركّبة إلى مفردات تصوّرته بسيطة

والمسألة التي نعالجها هي : محاولة معرفة المصدر الحقيقي لهذه المفردات ، وسبب انبثاق هذه التصوّرات البسيطة في الإدراك الإنساني

وهذه المسألة لها تأريخ مهمّ في جميع أدوار الفلسفة اليونانية والإسلامية والأُوروبية ، وقد حصلت عبر تأريخها الفلسفي على عدّة حلول تتلخّص في النظريات الآتية :

٦٩

١- نظرية الاستذكار الأفلاطونية (١) :

وهي النظرية القائلة : بأنّ الإدراك عملية استذكار للمعلومات السابقة وقد ابتدع هذه النظرية أفلاطون ، وأقامها على فلسفته الخاصّة عن المُثل وقِدم النفس الإنسانية ، فكان يعتقد أنّ النفس الإنسانية موجودة بصورة مستقلّة عن البدن قبل وجوده ، ولمّا كان وجودها هذا متحرّراً من المادّة وقيودها تحرّراً كاملاً ، أُتيح لها الاتّصال بالمثل أي : بالحقائق المجرّدة عن المادّة ، وأمكنها العلم بها ، وحين اضطرّت إلى الهبوط من عالمها المجرّد للاتّصال بالبدن والارتباط به في دنيا المادّة ، فقدت بسبب ذلك كلّ ما كانت تعلمه من تلك المثل والحقائق الثابتة ، وذهلت عنها ذهولاً تاماً ، ولكنّها تبدأ باسترجاع إدراكاتها عن طريق الإحساس بالمعاني الخاصّة والأشياء الجزئية ؛ لأنّ هذه المعاني والأشياء كلّها ظلال وانعكاسات لتلك المثل والحقائق الأزلية الخالدة في العالم الذي كانت تعيش النفس فيه فمتى أحسّت بمعنى خاصّ انتقلت فوراً إلى الحقيقة المثالية التي كانت تدركها قبل اتّصالها بالبدن ، وعلى هذا الأساس يكون إدراكنا للإنسان العامّ ـ أي : لمفهوم الإنسان بصورة كلّية ـ عبارة عن استذكار لحقيقة مجرّدة كنّا قد غفلنا عنها ، وإنّما استذكرناها بسبب الإحساس بهذا الإنسان الخاصّ أو ذاك من الأفراد التي تعكس في عالم المادّة تلك الحقيقة لمجرّدة

فالتصوّرات العامّة سابقة على الإحساس ، ولا يقوم الإحساس إلاّ بعملية استرجاع واستذكار لها ، والإدراكات العقلية لا تتعلّق بالأُمور الجزئية التي تدخل

____________________

(١) يراجع للتفصيل والتوضيح : صدر الدين الشيرازي ، الأسفار الأربعة : ٢ / ٤٦ ، الفصل ٩ مصطفى غالب ، أفلاطون : ٤١ محمّد عبد الرحمن مرحبا ، من الفلسفة اليونانيّة إلى الفلسفة الإسلامية : ١٢٦ ـ ١٣٠

٧٠

في نطاق الحس ، وإنّما تتعلّق بتلك الحقائق الكلّية المجرّدة

وهذا النظرية ترتكز على قضيّتين فلسفيتين :

إحداهما : أنّ النفس موجودة قبل وجود البدن في عالم أسمى من المادّة

والأُخرى : أنّ الإدراك العقلي عبارة عن إدراك الحقائق المجرّدة الثابتة في ذلك العالم الأسمى ، والتي يصطلح عليها أفلاطون بكلمة (المُثل ) .

وكلتا القضيّتين خاطئتان كما أوضح ذلك ناقدو الفلسفة الأفلاطونية ، فالنفس في مفهومها الفلسفي المعقول ليست شيئاً موجوداً بصورة مجرّدة قبل وجود البدن ، بل هي نتاج حركة جوهرية في المادّة ، تبدأ النفس بها مادّية متّصفة بخصائص المادّة وخاضعة لقوانينها ، وتصبح بالحركة والتكامل وجوداً مجرّداً عن المادّة لا يتّصف بصفاتها ولا يخضع لقوانينها ، وإن كان خاضعاً لقوانين الوجود العامة ؛ فإنّ هذا المفهوم الفلسفي عن النفس هو المفهوم الوحيد الذي يستطيع أن يفسِّر المشكلة ، ويعطي إيضاحاً معقولاً عن العلاقة القائمة بين النفس والمادّة ، بين النفس والبدن وأمّا المفهوم الأفلاطوني ـ الذي يفترض للنفس وجوداً سابقاً على البدن ـ فهو أعجز ما يكون عن تفسير هذا العلاقة ، وتعليل الارتباط القائم بين البدن والنفس ، وعن إيضاح الظروف التي جعلت النفس تهبط من مستواها إلى المستوى المادّي

كما أنّ الإدراك العقلي يمكن إيضاحه مع إبعاد فكرة المُثل عن مجال البحث بما شرحه أرسطو في فلسفته : من أنّ المعاني المحسوسة هي نفسها المعاني العامّة التي يدركها العقل بعد تجريدها عن الخصائص المميّزة للأفراد واستبقاء المعنى المشترك ، فليس الإنسان العامّ الذي ندركه حقيقة مثالية سبق أن شاهدناها في عالم أسمى ، بل هو صورة هذا الإنسان أو ذاك بعد إجراء عملية التجريد عليها ، واستخلاص المعنى العامّ منها

٧١

٢-النظريات العقلية :

وهي لعدّة من كبار فلاسفة أوروبا كـ‍ (ديكارت (١) ) و(كانت (٢) ) وغيرهما وتتلخّص هذه النظرية في الاعتقاد بوجود منبعين للتصوّرات :

أحدهما : الإحساس ، فنحن نتصوّر الحرارة والنور والطعم والصوت ؛ لأجل إحساسنا بذلك كلّه

والآخر : الفطرة ، بمعنى : أنّ الذهن البشري يملك معانٍ وتصوّرات لم تنبثق عن الحسّ وإنّما هي ثابتة في صميم الفطرة ، فالنفس تستنبط من ذاتها وهذه التصوّرات الفطرية عند (ديكارت) هي فكرة (الله والنفس والامتداد والحركة) وما إليها من أفكار تتميّز بالوضوح الكامل في العقل البشري وأمّا عند (كانت) فالجانب الصوري للإدراكات والعلوم الإنسانية كلّه فطري بما يشتمل عليه من صورتي الزمان والمكان والمقولات الاثنتي عشر المعروفة عنه

فالحسّ على أساس هذه النظرية مصدر فهم للتصوّرات والأفكار البسيطة ، ولكنّه ليس هو السبب الوحيد ، بل هناك الفطرة التي تبعث في الذهن طائفة من التصوّرات

والذي اضطرّ العقليين إلى اتخاذ هذه النظرية في تعليل التصوّرات البشرية ، هو أنهم لم يجدوا لطائفة من المعاني والتصوّرات مبرراً لانبثاقها عن الحسّ ؛ لأنّها معانٍ غير محسوسة ، فيجب أن تكون مستنبطة للنفس استنباطاً ذاتياً من صميمها ويتّضح من هذا : أنّ الدافع الفلسفي إلى وضع النظرية العقلية يزول تماماً

____________________

(١) راجع : مدخل إلى فلسفة ديكارت : ١٠٩ ـ ١١٤

(٢) راجع : زكريا إبراهيم ، كانت أو الفلسفة النقديّة : ٤٦ ـ ٨٢

٧٢

إذا استطعنا أن نفسر التصوّرات الذهنية تفسيراً متماسكاً من دون حاجة إلى افتراض أفكار فطرية.

ولأجل ذلك يمكننا تفنيد النظرية العقلية عن طريقين :

أحدهما : تحليل الإدراك تحليلاً يرجعه برمته إلى الحسّ وييسر فهم كيفية تولد التصوّرات كافة عنه فإن مثل هذا التحليل يجعل نظرية الأفكار الفطرية بلا مبرر مطلقاً ؛ لأنها كانت ترتكز على فصل بعض المعاني عن مجال الحسّ فصلاً نهائياً ، فإذا أمكن تعميم الحسّ لشتى ميادين التصوّر لم تبق ضرورة للتصوّرات الفطرية ، وهذا الطريق هو الذي اتخذه (جون لوك) للرد على (ديكارت) ونحوه من العقليين ، وسار عليه رجال المبدأ الحسّي مثل (باركلي) و (دافيد هيوم) بعد ذلك

والطريق الآخر : هو الأُسلوب الفلسفي للرد على التصوّرات الفطرية ويرتكز على قاعدة : أن الآثار الكثيرة لا يمكن أن تصدر عن البسيط باعتباره بسيطاً ، والنفس بسيطة فلا يمكن أن تكون سبباً بصورة فطرية لعدّة من التصوّرات والأفكار ، بل يجب أن يكون وجود هذا العدد الضخم من والإدراكات لدى النفس بسبب عوامل خارجية كثيرة ، وهي آلات الحسّ وما يطرأ عليها من مختلف الأحاسيس(١)

____________________

(١) وبكلمة أكثر تفصيلاً : أنّ كثرة الآثار تكشف عن أحد أُمور : إمّا كثرة الفاعل ، وإمّا كثرة القابل ، وإمّا الترتّب المنطقي بين الآثار ذواتها ، وأمّا كثرة الشرائط وفي مسألتنا لا شكّ في أنّ التصوّرات التي نبحث عن منشئها كثيرة ومتنوّعة مع أنّه لا كثرة في الفاعل والقابل ؛ لأنّ الفاعل والقابل للتصوّرات هو النفس ، والنفس بسيطة ، ولا ترتّب ـ أيضاً ـ بين التصوّرات ، فلا يبقى إلاّ أن نأخذ بالتفسير الأخير ، وهو : أن تستند التصوّرات الكثيرة إلى شرائط خارجية ، وهي : الإحساسات المختلفة المتنوّعة (المؤلّف قدس‌سره )

٧٣

ونقد هذا البرهان بصورة كاملة يتطلّب منّا أن نشرح القاعدة التي قام على أساسها ، ونعطي إيضاحاً عن حقيقة النفس وبساطتها ، وهذا ما لا يتّسع له مجالنا الآن ، ولكن يجب أن نشير :

أوّلاً : إلى أنّ هذا البرهان ـ إذا أمكن قبوله ـ فهو لا يقضي على نظرية الأفكار الفطرية تماماً لأنه إنما يدلل على عدم وجود كثرة من الإدراكات بالفطرة ، ولا يبرهن على أنّ النفس لا تملك بفطرتها شيئاً محدوداً من التصوّرات يتّفق مع وحدتها وبساطتها ، وتتولّد عنه عدّة أُخرى من التصوّرات بصورة مستقلّة عن الحسّ

ونوضّحثانياً - أنّ النظرية العقلية إذا كانت تعني وجود أفكار فطرية بالفعل لدى النفس الإنسانية أمكن للبرهان الذي قدمناه أن يرد عليها قائلاً : إنّ النفس بسيطة بالذات ، فكيف ولّدت ذلك العدد الضخم من الأفكار الفطرية ؟! بل لو كان العقليون يجنحون إلى الإيمان بذلك حقّاً لكفى وجداننا البشري في الردّ على نظريتهم ؛ لأنّنا جميعاً نعلم أنّ الإنسان لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أيّة فكرة مهما كانت واضحة وعامّة في الذهنية البشرية( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شيئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ )

ولكن يوجد تفسير آخر للنظرية العقلية ، ويتلخّص في اعتبار الأفكار الفطرية موجودة في النفس بالقوّة ، وتكتسب صفة الفعلية بتطوّر النفس وتكاملها الذهني فليس التصوّر الفطري نابعاً من الحسّ ، وإنّما يحتويه وجود النفس لا شعورياً ، وبتكامل النفس يصبح إدراكاً شعورياً واضحاً ، كما هو شأن

____________________

(١) النحل : ٧٨

٧٤

الإدراكات والمعلومات التي نستذكرها فنثيرها من جديد بعد أن كانت كامنة وموجودة بالقوّة

والنظرية العقلية على ضوء هذا التفسير لا يمكن أن تردّ بالبرهان الفلسفي أو الدليل العلمي السابق ذكرهما

٣- النظرية الحسّية :

وهي النظرية القائلة : إنّ الإحساس هو المموِّن الوحيد للذهن البشري بالتصوّرات والمعاني ، والقوّة الذهنية هي القوّة العاكسة للإحساسات المختلفة في الذهن فنحن حين نحسّ بالشيء نستطيع أن نتصوّره ـ أي : أن نأخذ صورة عنه في ذهننا وأمّا المعاني التي يمتدّ إليها الحسّ ، فلا يمكن للنفس ابتداعها وابتكارها ذاتياً وبصورة مستقلّة

وليس للذهن بناء على هذه النظرية إلاّ التصرّف في صور المعاني المحسوسة ، وذلك بالتركيب والتجزئة : بأن يركّب بين تلك الصور أو يجزّئ الواحدة منها ، فيتصوّر جبلاً من ذهب أو يجزّئ الشجرة التي أدركها إلى قطع وأجزاء أو بالتجريد والتعميم : بأن يفرز خصائص الصورة ويجرّدها عن صفاتها الخاصّة ؛ ليصوغ منها معنىً كلّياً ، كما إذا تصوّر زيداً وأسقط من الحسّاب كلّ ما يمتاز به عن عمرو ؛ فإنّ الذهن بعملية الطرح هذه يستبقي معنىً مجرّداً يصدق على زيد وعمرو معاً

ولعلّ المبشّر الأوّل بهذه النظرية الحسّية هو (جون لوك) الفيلسوف الإنكليزي الكبير الذي بزغ في عصر فلسفي زاخر بمفاهيم (ديكارت) عن الأفكار الفطرية ، فبدأ في تفنيد تلك المفاهيم ، ووضع لأجل ذلك دراسة مفصّلة للمعرفة الإنسانية في كتابه (مقالة في التفكير الإنساني ) ، وحاول في هذا الكتاب

٧٥

إرجاع جميع التصوّرات والأفكار إلى الحسّ وقد شاعت هذه النظرية بعد ذلك بين فلاسفة أوروبا ، وقضت إلى حدّ ما على نظرية الأفكار الفطرية ، وانساق معها جملة من الفلاسفة إلى أبعد حدودها حتّى انتهت إلى فلسفات خطرة جدّاً ، كفلسفة (باركلي) و(دافيد هيوم) كما سوف نتبيّن ذلك إن شاء الله تعالى(١)

والماركسية تبنّت هذه النظرية في تعليل الإدراك البشري ، تمشّياً مع رأيها في الشعور البشري ، وأنّه انعكاس للواقع الموضوعي ؛ فكلّ إدراك يرجع إلى انعكاس لواقع معيّن ، ويحصل هذا الانعكاس عن طريق الإحساس وما يخرج عن حدود الانعكاسات الحسّية لا يمكن أن يتعلّق به الإدراك أو الفكر ، فنحن لا نتصوّر إلاّ إحساساتنا التي تشير إلى الحقائق الموضوعية القائمة في العالم الخارجي

قال جورج بوليتزير :

(ولكن ما هي نقطة البدء في الشعور أو الفكر ، إنّها الإحساس ثمّ إنّ مصدر الإحساسات التي يعالجها الإنسان بدافع من احتياجاته الطبيعية)(٢)

(الرأي الماركسي يعني- إذن- أنّ محتوى شعورنا ليس له من مصدر سوى الجزئيات الموضوعية التي تقدِّمها لنا الظروف الخارجية التي نعيش فيها ، وتعطى لنا في الإحساسات وهذا كلّ ما في الأمر)(٣)

____________________ـــ

(١) يراجع : أحمد أمين وزكي نجيب محمود ، قصّة الفلسفة الحديثة : ١ / ١٣٠ ـ ١٣٥ عبد الرحمن بدوي ، خريف الفكر اليوناني : ١٦٨ توفيق الطويل ، أُسس الفلسفة : ٣٥٥

(٢) المادّية والمثالية في الفلسفة : ٧٥

(٣) المصدر السابق : ٧١ ـ ٧٢

٧٦

وقال ماو تسي تونغ موضّحاً الرأي الماركسي في المسألة :

(إنّ مصدر كلّ معرفة يكمن في إحساسات أعضاء الحسّ الجسمية في الإنسان للعالم الموضوعي الذي يحيطه)(١)

(وإذن فالخطوة الأُولى في عملية اكتساب المعرفة هي : الاتّصال الأوّلي بالمحيط الخارجي ، مرحلة الأحاسيس الخطوة الثانية هي : جمع المعلومات التي نحصل عليها من الإدراكات الحسّية ، وتنسيقها وترتيبها)(٢)

وتركِّز النظرية الحسّية على التجربة ، فقد دلّلت التجارب العلمية على أنّ الحسّ هو الإحساس الذي تنبثق عنه التصوّرات البشرية ، فمن حُرم لوناً من ألوان الحسّ فهو لا يستطيع أن يتصوّر المعاني ذات العلاقة بذلك الحسّ الخاصّ ؛ ولذلك قيل منذ القديم : من فقد حسّاً فقد علماً

وهذه التجارب ـ إذا صحّت ـ إنّما تبرهن علمياً على أنّ الحسّ هو الينبوع الأساسي للتصوّر ، فلولا الحسّ لما وجد تصوّر في الذهن البشري ، ولكنّها لا تسلب عن الذهن قدرة توليد معانٍ جديدة ـ لم تدرَك بالحسّ ـ من المعاني المحسوسة ، فليس من الضروري أن يكون قد سبق تصوّراتنا البسيطة جميعاً الإحساس بمعانيها كما تزعم النظرية الحسّية

فالحسّ على ضوء التجارب الآنفة الذكر هو البنية الأساسية التي يقوم على قاعدتها التصوّر البشري ، ولا يعني ذلك : تجريد الذهن عن الفعّالية وابتكار

___________________

(١) حول التطبيق : ١١

(٢) المصدر السابق : ١٤

٧٧

تصوّرات جديدة على ضوء التصوّرات المستوردة من الحسّ

ويمكننا أن نوضِّح فشل النظرية الحسّية في محاولة إرجاع جميع مفاهيم التصوّر البشري إلى الحسّ ، على ضوء دراسة عدّة من مفاهيم الذهن البشري كالمفاهيم التالية : العلّة والمعلول ، الجوهر والعرض ، لإمكان والوجوب ، الوحدة والكثرة ، الوجود والعدم ، وما إلى ذلك من مفاهيم وتصوّرات

فنحن جميعاً نعلم أنّ الحسّ إنّما يقع على ذات العلّة وذات المعلول ، فندرك ببصرنا سقوط القلم على الأرض إذا سُحِبت من تحته المنضدة التي وضع عليها ، وندرك باللمس حرارة الماء حين يوضع على النار ، وكذلك ندرك تمدّد الفلزّات في جوّ حار ففي هذه الأمثلة نحسّ بظاهرتين متعاقبتين ، ولا نحسّ بصلة خاصّة بينهما ، هذه الصلة التي نسمّيها بالعلّية ، ونعني بها : تأثير إحدى الظاهرتين في الأُخرى ، وحاجة الظاهرة الأخرى إليها لأجل أن توجد

والمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحسّ لنفس العلّية واعتبارها مبدأ حسّياً تقوم على تجنّب العمق والدقّة في معرفة ميدان الحسّ وما يتّسع له من معاني وحدود فمهما نادى الحسّيون بأنّ التجارب البشرية والعلوم التجريبية القائمة على الحسّ هي التي توضّح مبدأ العلّية ، وتجعلنا نحسّ بصدور ظواهر مادّية معيّنة من ظواهر أخرى مماثلة ، أقول : مهما نادوا بذلك فلن يحالفهم التوفيق ما دمنا نعلم أن التجربة العلمية لا يمكن أن تكشف بالحسّ إلاّ الظواهر المتعاقبة ، فنستطيع بوضع الماء على النار أن ندرك حرارة الماء وتضاعف هذه الحرارة ، وأخيراً نحسّ بغليان الماء وأمّا أنّ هذا الغليان منبثق عن بلوغ الحرارة درجة معيّنة ، فهذا ما لا يوضّحه الجانب الحسّي من التجربة ، وإذا كانت تجاربنا الحسّية قاصرة عن كشف مفهوم العلّية فكيف نشأ هذا المفهوم في الذهن البشري ،

٧٨

وصرنا نتصوّره ونفكّر فيه ؟

وقد كان (دافيد هيوم)- أحدّ علماء رجال المبدأ الحسّي- أدقّ من غيره في تطبيق النظرية الحسّية ، فقد عرف أنّ العلّية بمعناها الدقيق لا يمكن أن تُدرك بالحسّ ، فأنكر مبدأ العلّية ، وأرجعها إلى عدّة تداعي المعاني ، قائلاً : إنّي أرى كرة البلياردو تتحرّك فتصادف كرة أخرى فتتحرك هذه ، وليس في حركة الأولى ما يظهرني على ضرورة تحرك الثانية ، والحسّ الباطني يدلني على أن حركة الأعضاء في تعقب أمر الإرادة ، ولكني لا أدرك به إدراكنا مباشراً علاقة ضرورية بين الحركة والأمر

ولكنّ الواقع : أنّ إنكار مبدأ العلّية لا يخفّف من المشكلة التي تواجه لنظرية الحسّية شيئاً ؛ فإنّ إنكار هذا المبدأ كحقيقة موضوعية يعني أننا نصدق بالعلّية كقانون من قوانين الواقع الموضوعي ، ولم نستطع أن نعرف ما إذا كانت الظواهر ترتبط بعلاقات ضرورية تجعل بعضها ينبثق عن بعض ، ولكن مبدأ العلّية كفكرة تصديقية شيء ، ومبدأ العلّية كفكرة تصوّرية شيء آخر ، فهب أنّا لم نصدّق بعلّية الأشياء المحسوسة بعضها لبعض ، ولم نكوّن عن مبدأ العلّية فكرة تصديقية ، فهل معنى ذلك : أنّنا لا نتصوّر مبدأ العلّية أيضاً ؟ وإذا كنّا لا نتصوّره فما الذي نفاه (دافيد هيوم) ؟ وهل ينفي الإنسان شيئاً لا يتصوّره ؟ !

فالحقيقة التي لا مجال لإنكارها هي : أنّنا نتصوّر مفهوم العلّية سواء أصدّقنا بها أم لا ، وليس تصوّر العلّية تصوّراً مركّباً من تصوّر الشيئين المتعاقبين ، فنحن حين نتصوّر علّيه درجة معيّنة من الحرارة للغليان لا نعني بهذه العلّية تركيباً اصطناعياً بين فكرتي الحرارة والغليان ، بل فكرة ثالثة تقوم بينهما ، فمن أين جاءت هذه الفكرة التي لم تُدرك بالحسّ إذا لم يكن للذهن خلاّقية

٧٩

لمعانٍ غير محسوسة ؟ !

ونواجه نفس المشكلة في المفاهيم الأخرى التي عرضناها آنفاً ، فهي جميعاً ليست من المعاني المحسوسة ، فيجب طرح التفسير الحسّي الخالص للتصوّر البشري والأخذ بنظرية الانتزاع

٤- نظرية الانتزاع :

وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامّة وتتلخّص هذه النظرية في تقسيم التصوّرات الذهنية إلى قسمين : تصوّرات أوّلية وتصوّرات ثانوية فالتصوّرات الأوّلية هي الأساس التصوّري للذهن البشري ، وتتولّد هذه التصوّرات من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة فنحن نتصوّر الحرارة لأنّنا أدركناها باللمس ، ونتصوّر اللون لأنّنا أدركناه بالبصر ، ونتصوّر الحلاوة لأننا أدركناها بالذوق ، ونتصوّر الرائحة لأننا أدركناها بالشمّ وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسّنا ، فإنّ الإحساس بكلّ واحد منها هو السبب في تصوّره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري وتتشكّل من هذه المعاني القاعدة الأوّلية للتصوّر ، وينشئ الذهن بناءً على هذه القاعدة التصوّرات الثانوية ، فيبدأ بذلك دور الابتكار والإنشاء ، وهو الذي نصطلح عليه هذه النظرية بلفظ (الانتزاع ) فيولّد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأوّلية ، وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحسّ وإن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدّمها الحسّ إلى الذهن والفكر .

وهذه النظرية تتّسق مع البرهان والتجربة ، ويمكنها أن تفسِّر جميع المفردات التصوّرية تفسيراً متماسكاً

فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع أن نفهم كيف انبثقت مفاهيم العلّة والمعلول ،

٨٠