الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء0%

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف: محمد جواد مغنية
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف:

ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528
المشاهدات: 64242
تحميل: 3635

توضيحات:

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 528 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64242 / تحميل: 3635
الحجم الحجم الحجم
الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ISBN: 964-465-169-3
العربية

وخيّل لأبيه معاوية ، وهو صاحب العرش والتّاج أنّ بمقدوره الجمع بين الفجور والقداسة ، بين الشّجرة الملعونة في القرآن ، ومن أذهب الله عنهم الرّجس ، وطهّرهم تطهيرا ، ولكن الحسين ألقى عليه درسا من أهم الدّروس وأبلغها ، وأفهمه أنّه ، وإن امتّد سلطانه ، وكثر ماله فهو أذل من ذليل ، وأخس من خسيس ، وأحقر من أن يكون كفؤا للطّيبين الأبرار ، أفهمه أنّهم أهل بيت لا يتزوّجون ولا يزوّجون زوّاجا تجاريّا ، وإنّ الخصومة بين البيتين ليست على الجاه والسّلطان ، ولا على المال والحطام ، وإنّما هي خصومة في الله ، وبين من كذّب الله وصدّقه(١) .

وهذا هو السّبب الأوّل والأخير الّذي باعد بين العترة الطّاهرة واميّة الفاجرة ، وهذا هو التّفسير الصّحيح لمذبحة كربلاء. ومن الخطأ أن يعدّ من أسباب هذه الكارثة ردّ يزيد حين أراد الزّواج من بنت العقيلة ، ومنعه من الوصول إلى زينب زوّجة عبد الله بن سلّام ، كلّا ، لا سبب إلّا العداء في الله ، إنّ أهل البيت لا يحبّون ولا يبغضون إلّا في الله ، فإذا زوّجوا ، أو تزوّجوا ، أو رفضوا ، فعلى هذا الأساس وحده ، فهو مبدأهم ، وهدفهم ، وشعارهم.

لم يطلبوك بثأر أنت صاحبه

ثأر لعمرك لو لا الله لم يثر(٢)

__________________

(١) انظر ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٢٠٠. ورواه مختصرا صاحب الإصابة : ٨ / ٢٧٩ ، مقدّمة فتح الباري : ١ / ٢٤١ ، معجم ما استعجم : ٢ / ٦٥٩ ، مستدرك الوسائل : ١٥ / ٩٨ ح ٥.

(٢) انظر ، ديوان الأزري الكبير ، للشّيخ كاظم الأزري التّميمي : ٣٠٠.

١٠١
١٠٢

هذا كتاب الله

نكث طلحة والزّبير بيعة الإمام عليّعليه‌السلام ، وتحالفا مع عائشة على حربه ، وجمعوا عليه المجموع يوم الجمل ، ونكّلوا بعامله ابن حنيف ، وقتلوا كثيرا من الصّالحين الآمنين ، وحين قابلوه وجها لوجه ، وشرّعوا عليه السّيوف والرّماح دعا أمير المؤمنين بمصحف ، وقال: («من يأخذه ويدعوهم إلى ما فيه ، فيحيون ما أحياه ، ويميتون ما أمات». فقام فتى ، اسمه مسلم المجاشعي ، وقال : يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأدعوهم إلى ما فيه.

فقال له الإمام : إنّك إن فعلت ذلك لمقتول. فقال الفتى : والله يا أمير المؤمنين ما من شيء أحبّ إليّ من الشّهادة بين يديك ، فأخذ المصحف وتوجّه إلى عسكرهم ، فنظر إليه أمير المؤمنين ، وقال : «إنّ الفتى ممّن حشا الله قلبه نورا وإيمانا ، وهو مقتول ، وقد اشفقت عليه من ذلك ، ولن يفلح القوم بعد قتلهم إيّاه» ، فمضى الفتى بالمصحف حتّى وقف بأزاء عسكر عائشة ، وكان له صوت ، فنادى : «معشر النّاس ، هذا كتاب وأنّ أمير المؤمنين عليّ بن طالب يدعوكم إلى الحكم بما أنزل الله فيه ، فأنيبوا إلى طاعة الله ، والعمل بكتابه ، وكانت عائشة وطلحة والزّبير يسمعون فأمسكوا عن الجواب ، وبادر أصحاب الجمل إلى الفتى ، والمصحف في يمينه فقطعوا يده اليمنى ، فتناول المصحف بيده اليسرى ،

١٠٣

وناداهم بأعلى صوته مثل ندائه الأوّل ، فقطعوا يده اليسرى ، فاحتضن المصحف ، ودماؤه تجري عليه ، وناداهم إلى العمل به ، فقتلوه ، قطّعوه إربا إربا ، فقال الإمام : «والله ما كنت في شك ولا لبس من ظلالة القوم وباطلهم ، ولكن أحببت أن يتبيّن لكم ذلك»)(١) .

أحبّ الإمام أن يبيّن للنّاس وللأجيال أنّه ومن اتّبعه على حقّ وهداية ، وأنّ من حاربه وعانده على باطل وضلالة ، أراد أن يقيم الدّليل المحسوس الملموس على أنّه إمام العدل والرّحمة ، وخصومه أئمّة الظّلم والجور :( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) .

وهكذا فعل ولده الحسين يوم الطّفّ ، فما أن كانت صبيحة اليوم العاشر من المحرّم حتّى لبس عمامة جدّه رسول الله ورداءه ، وتقلّد سيف جدّه ، وركب ناقة أو فرسه المعروفة ، ووضع المصحف أمامه ، واتّجه إلى الّذين تجمعوا على قتله ، وشرّعوا السّيوف والرّماح في وجهه ، ورفع يديه إلى السّماء ، وقال على مسمع من الجميع :

«أللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، وأنت رجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصّديق ، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك ، وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرجته عنّي وكشفته وكفيته؟! فأنت ولي كلّ نعمة وصاحب كلّ حسنة

__________________

(١) انظر ، الفتوح لابن أعثم : ١ / ٤٦٥ ، ابن حزم في الجمهرة : ١٦٢ ، الأغاني : ١٠ / ٢٠٣ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٩ / ١١٢ تحقيق محمّد أبو الفضل ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٥١٧ و ، ٥ / ٢٠٦ و ٢١٦ ، و : ٣ / ٥٢٢ ، اسد الغابة : ٣ / ٣٠٨ ، نسب قريش : ١٩٣ ، مروج الذّهب : ٢ / ٩ و ١٣.

(٢) الأنفال : ٤٢.

١٠٤

ومنتهى كل رغبة»(١) .

وبعد أن ناجى ربّه بهذه الدّموع الحزينة ، والقلب النّقي التفت إلى جموع الضّلال ، وقال :

«أيّها النّاس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يجب لكم عليّ. وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدّقتم قولي ، وأنصفتموني ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإن لم تقبلوا منّي العذر فاجمعوا أمركم وشركائكم ، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون وليي الله الّذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصّالحين».

«أمّا بعد. فانسبوني ، فانظروا من أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ، وانظروا : هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابن وصيّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشّهداء عمّ أبي ، أو ليس جعفر الشّهيد الطّيّار عمّي؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي ولأخي : «هذان سيّدا شباب أهل الجنّة»(٢) ؟ فإن صدّقتموني بما أقول ـ وهو الحقّ ـ والله ما تعمدت

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٣١٨ ، ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر : ٣١٣ ، تأريخ دمشق : ١٤ / ٢١٧ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ٥٦١ ، نظم درّر السّمطين : ٢١٦ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٨٣.

(٢) انظر ، كنز العمّال : ٦ / ٢٢٠ و ٢٢١ و ٢١٧ ، و : ٧ / ١٠٧ و ١١١ و ١٠٨ ، و : ١٢ / ٩٦ و : ١٢ / ٣٤٢٤٦ ، و : ١٣ / ٣٧٦٨٢ ، صحيح التّرمذي : ٢ / ٣٠٦ و ٣٠٧ ، مسند أحمد : ٣ / ٣ و ٦٢ و ٨٢ ، حلية الأولياء : ٥ / ٧١ و ١٣٩ ، و : ٤ / ١٣٩ و ١٩٠ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١٨٢ ـ ١٨٤ و ١٨٧ ، تأريخ بغداد : ٩ / ٢٣١ و ٢٣٢ ، و : ١٠ / ٩٠ و ٢٣٠ ، و : ١ / ١٤٠ ، و : ٢ / ١٨٥ ، و : ١٢ / ٤ ، و : ٦ / ٣٧٢ ، الإصابة : ١ / ق ١ / ٢٦٦ ، و : ٦ / ق ٤ / ١٨٦ ، مناقب أمير المؤمنين محمّد بن سليمان الكوفي : ٣ / ـ

١٠٥

كذبا مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم : سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد السّاعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ٩ لي ولأخي ، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟».

فقال له شمر بن ذي الجوشن :

هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.

فقال له حبيب بن مظاهر :

والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفا وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال لهم الحسين :

«فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم ، وأنا ابن بنت نبيّكم خاصّة. أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال لكم استهلكته؟ أو

__________________

ـ ٢٥٩ ، الجامع الصّغير للسّيوطي : ١ / ١٩.

وانظر ، ذخائر العقبى : ١٣٥ و ١٣٠ و ١٢٩ ، كنوز الحقائق : ١١٨ و ٨١ و ٣٦ ، خصائص النّسائي: ٣٤ و ٣٦ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٤٤ / ١١٨ ، باب فضائل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأورده الحاكم في المستدرك : ٣ / ١٦٧ و ٣٨١ ، تأريخ دمشق : ٧ / ١٠٣ ، اسد الغابة : ٥ / ٥٧٤ ، ابن حبّان في صحيحه : ٢١٨ ، تهذيب التّهذيب : ٣ / في ترجمة زياد بن جبير ، سنن التّرمذي : ٥ / ٣٢١ / ٣٨٥٦ و : ٣٢٦ / ٣٨٧٠ ، الفضائل لأحمد : ٢ / ٧٧٩ / ١٣٨٤ ، الصّواعق : ١٨٧ و ١٩١ ب ١١ فصل ٢ ، الجامع الصّغير : ١ / ٥٨٩ / ٣٨٢٠ و ٣٨٢١ و ٣٨٢٢ ، منهاج السّنّة : ٤ / ٢٠٩ ، فرائد السّمطين : ٢ / ٣٥ و ١٤٠ و ١٣٤ و ١٥٣ و ٢٥٩ ، الخرائج والجرائح : ٢٨٩ ، ينابيع المودّة : ٣٦٩ و ٣٧٢.

١٠٦

بقصاص من جراحة؟»؟(١) .

ولم يرد الحسين بهذه المظاهرة الّتي اهتزّت لها الأرض والسّماء ، وأغضبت الله في عرشه ، وأبكت محمّدا في قبره أن يستعطف ويسترحم ، كلّا ، أنّه أجل وأعظم من أن يطلب العطف من اللّئام والطّغام ، هذا ، إلى أنّه أعلم النّاس بما هم عليه من القساوة والفظاظة ؛ لقد أراد الحسين أن يثبت للعالم أن لا هدف لأعدائه وخصومه إلّا التّشفي والإنتقام من الإسلام ونبيّ الإسلام ، أراد كما أراد أبوه من قبل أن يبيّن للأجيال أنّ الولاء لأهل البيت ولاء لله وللرّسول ، وأنّ حربهم حرب لله وللرّسول.

وقد أدرك شيعة أهل البيت هذه الحقيقة ، فاتّخذوها شعارا لهم ولعقيدتهم. وأعلنوها في كلّ موطن وموقف تقربّا إلى الله ورسوله وعترته الأطهار.

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٣١٩ و : ٤ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

١٠٧
١٠٨

يوم الطّفّ يوم الفصل

أنّ يوم الطّفّ يشبه يوم القيامة من جهات :

١ ـ قال الله سبحانه :( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (١) .

وعد الشّيطان أتباعه بالفوز والنّجاة ، وحذّرهم الله منه ، فعصوا الرّحمن ، واتّبعوا الشّيطان ، ولمّا جاء يوم الفصل أنكرهم ، وتبرأ منهم ، وقال :( إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ) (٢) .

و (وعد عبيد الله بن زياد عمر بن سعد ولاية الرّي)(٣) إذا قاتل الحسين ، وكان يتطلّع إليها ، ويطمع فيها ، فقبل وقاد الجيوش ، وحذّره سيّد الشّهداء من العاقبة ،

__________________

(١) إبراهيم : ٢٢.

(٢) المائدة : ٢٨.

(٣) انظر ، الرّي : مدينة مشهورة من أمّهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه والخيرات ، وهي محطّ الحاج ، وهي بين نيسابور ودارين ، وقال الإصطخري : هي مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها. وقال الأصمعي : هي عروس الدّنيا وإليها يتّجر النّاس : ٣٥٥ ـ ٣٥٨ ، معجم البلدان : ج ٤. انظر ، الطّبقات الكبرى : ٥ / ١٢٥ ، مروج الذّهب : ٤ / ٧٠ و : ٥ / ١٤٣ و ١٤٧ و ١٧٤ و ١٩٦ ، الكامل في التّأريخ : ٤ / ٢١ ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٠٩ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٥٠.

١٠٩

وقال له : يا ابن سعد أتقاتلني؟! أما تتقي الله الّذي إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ ألا تكون معي ، وتدع هؤلاء ؛ فإنّه أقرب إلى الله تعالى؟!

ولمّا آيس منه الحسين قال له : «مالك؟ ذبحك الله على فراشك عاجلا ، ولا غفر لك يوم الحشر ، فو الله إنّي لأرجو ألّا تأكل من برّ العراق إلّا يسيرا».

فقال ابن سعد مستهزءا

في الشّعير كفاية(١) .

واخلف ابن زياد بوعده لابن سعد ، كما أخلف الشّيطان مع أتباعه ، وصدق الحسين ، فلم تمض الأيّام حتّى قتل عمر وابنه حفص على يد المختار.

٢ ـ قال تعالى في صفة أهل النّار :( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ) (٢) . وهذه بالذات صفات الّذين حاربوا الحسين في كربلاء ، فقد وعظهم وحذّرهم ، وذكّرهم بكتاب الله وآياته ، ولكنّهم صمّوا عن النّبأ العظيم كما عموا :

وذكرت ما فجّر الصّخور فلم يكن

إلّا قلوبهم هناك صخور

٣ ـ قال تعالى :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) (٣) . ينادي المنادي يوم القيامة : أين أهل الحقّ الّذين اتّبعوا المصلحين؟ فتأتي بهم الملائكة يزفّون إلى الجنّة. ثمّ يقال : هاتوا متبعي رؤوس الضّلالة فتسوقهم الزّبانية إلى جهنّم(٤) .

__________________

(١) انظر ، الكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٣ / ٢٨٣ و : ٤ / ٥٥٤ ، الفتوح لابن أعثم : ٥ / ١٠٣ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٢٤٥ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٨٩.

(٢) الإسراء : ٩٧.

(٣) الإسراء : ٧١.

(٤) انظر ، تفسير القرطبي : ١٠ / ٢٩٧ ، احكام القرآن للجصّاص : ٣ / ٢٦٧.

١١٠

وقاد ابن سعد أهل الكوفة إلى غضب الله ونقمته ، وقاد الحسين أصحابه إلى رضوان الله ورحمته.

جاء الحديث عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه إذا كان يوم القيامة أقول لأمّتي : كيف خلّفتموني في الثّقلين؟ فيقولون : أمّا الأكبر فعصيناه ، وأمّا الأصغر فقتلناه. فأقول : اسلكوا طريق قادتكم ، فينصرفون ضمّا مسودّة وجوههم»(١) .

٤ ـ قال تعالى :( وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) (٢) . وانقسم النّاس في كربلاء فريقين : فريقا مع الحسين ، وفريقا مع ابن سعد ، وبرز كلّ إنسان على حقيقته ، وأخذ المكان الّذي يستحقه ، فلم يختلط الطّالح مع الصّالحين ، ولا الصّالح مع المجرمين ، تماما كما هو الشّأن في يوم القيامة ، حيث لا رياء ، ولا نفاق ، ومساومات.

وقد اختلط ، في بدء الأمر وقبل المعركة ، الطّيب بالخبيثين ، والخبيث بالطّيبين ، فكان مع ابن سعد الحرّ الرّياحي ، وأبو الشّعثاء الكندي ، وحين جدّ الجدّ ، وجاء دور الغربلة والتّصفية عدلا إلى الحسين ، واستشهدا بين يديه. وبايع الحسين قوم على الموت ، وكاتبوه ، ثمّ نكثوا ، وعادوا إلى طبيعتهم. وهكذا لم يبق مع ابن سعد إلّا من كان على شاكلته لؤما وخساسة يوردهم النّار ، وبئس الورد المورود ، ولم يبق مع الحسين إلّا صفوة الصّفوة يسير بهم إلى الجنّة حتّى إذا جاؤها قال لهم خزنتها سلام عليكم فنعم عقبى الدّار.

ومن تتبّع سيرة أصحاب الحسين لا يجد لإخلاصهم وعزمهم نظيرا بين

__________________

(١) انظر ، الخصال : ٤٥٩ ، المسترشد : ٦٧٩ ، مثير الأحزان : ١٠.

(٢) الشّورى : ٧.

١١١

الشّهداء ، واتّباع الأنبياء ، كما لا يجد شبها لتضحيات الحسين في التّأريخ كلّه. وقد اثنى عليهم الشّعراء بما هم أهل لأكثر منه. قال الشّيخ حسن البحراني يصف إيمانهم وورعهم:(١) .

إن ينطقوا ذكروا أو يسكتوا فكروا

أو يغضبوا غفروا أزو يقطعوا وز صلوا

أو يظلموا صفحوا أو يوزنوا رجحوا

أو يسألوا سمحوا أو يحكموا عدلوا

وقال السّيّد مهدي الحلّي في شجاعتهم :

من تحتهم لو تزول الأرض لا تنصبوا

على الهوى هضبا أرسى من الهضب

وتكفيهم شهادة الحسين عن كلّ مدح وثناء ، قال : «والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلّا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطّفل بمحالب أمّه»(٢) .

وقال فيهم أيضا : «... أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعا»(٣) .

روي أنّ الحسين كان في يوم الطّفّ كلّما اشتّد الأمر أشرق وجهه ، وهدأت جوارحه ، وسكنت نفسه ، حتّى قال النّاس بعضهم لبعض : انظروا لا يبالي بالموت! وكيف يبالي بالموت ، وهو ابن القائل : «دخلت إلى الموت ، أو خرج

__________________

(١) انظر ، الشّيعة في الميزان : ٨٢٦ بتحقّيقنا ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٤٣٦ ، الصّراط المستقيم : ٢ / ٢١٤.

(٢) انظر ، مقتل الحسين للمقرّم : ٢٦٢.

(٣) انظر ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٣٢١ ، المطبعة الحيدريّة سنة (١٩٦٢ م ـ ١٣٨١ ه‍). و : ٢ / ٩١ ، العوالم : ٢٤٣ ، إعلام الورى : ١ / ٤٥٥.

١١٢

الموت إليّ»(١) ، أو كما قال : «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه»(٢) . وهكذا كان أصحاب الحسين لا يبالون بالموت ، بل يستبشرون به حيث يعلمون أنّهم على حقّ ، وغيرهم على باطل ، فهم على يقين أنّهم سيقفون بين يدي الله مرفوعي الرّؤوس ، موفوري الكرامة.

قال برير بن خضير الهمداني لعبد الرّحمن الأنصاري : ولكنّي لمستبشر بما نحن لاقون ، والله ما بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، وودّدت أنّهم مالوا علينا السّاعة»(٣) .

هذه صورة صادقة ناطقة بحقيقة الأصحاب جميعا ، وأنّهم عند ثقة الإمام وقوله : «يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطّفل بمحالب أمّه». لقد رخصت عندهم الأرواح ، ولم يكترثوا بالمال ، والعيال ، ما داموا مع النّبيّ وآله.

وقال الحرّ الرّياحي : «إنّي أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار ، فو الله لا اختار على الجنّة شيئا ، ولو قطّعت وحرّقت»(٤) . أيقن الحرّ أنّ الجنّة مع الحسين ، وأنّ ثمنها القتل ، وأنّ الحياة «قليلا» مع ابن سعد ، ثمّ يعقبها العذاب الدّائم ، فاختار الموت مع الحقّ على الحياة مع الباطل ، وكان مثالا صادقا لقول الإمام : «أمّا بعد. فقد نزل من الأمر بنا ما ترون ، وإنّ الدّنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وادبر معروفها ، ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى

__________________

(١) انظر ، شرح الخطبة : (٥٥).

(٢) انظر ، شرح الخطبة : (٥).

(٣) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٢١ و ٤٢٣ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ١٠٦ ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٣٧ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١١٢.

(٤) انظر ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٢١ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ٤٦٠.

١١٣

الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ، والحياة مع الظّالمين إلّا برما»(١) .

وتقدّم جون مولى أبي ذرّ(٢) يطلب من الإمام الإذن بالبراز فقال له الإمام : «إذهب لشأنك ، إنّما طلبتنا للعافية فلا تبتل بطريقتنا ، فصعق جون من هذا الجواب ، وقال : يا ابن رسول الله : أنا في الرّخاء ألحس قصاعكم ، وفي الشّدة أخذلكم! والله أنّ ريحي لمنتن ، وإنّ حسبي للئيم ، وإنّ لوني لأسود ، فتنفس عليّ بالجنّة ، فيطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيّض وجهي ، لا والله لا أفارقكم حتّى يختلط هذا الدّم الأسود بدمائكم»(٣) .

أي والله إنّ الجنّة في أنفاس الحسين ، وفي التّراب الّذي اريق عليه دم الحسين ، وأنّ بياض الوجه عند الله في الإستشهاد بين يدي الحسين ، وأنّ الدّم

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٣٠٧ ، و : ٤ / ٣٠٥ طبعة آخر ، و : ٥ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦ طبعة سنة ١٩٦٤ م ، ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ) : ٢١٤.

(٢) جون : عبد اشتراه الإمام عليّ بن أبي طالب ، ووهبه الصّخابي الجليل أبي ذرّ ، يعينه على متاعب الحياة ، وبعد وفاة أبي ذرّ انتقل جون إلى بيت الإمام عليّ ، وبعد وفاة الإمام عليّ انتقل إلى بيت الحسن ، وبعده إلى بيت الحسين ، وحين خرج إلى العراق صحبه معه. وهكذا نشأ جون في أطهر البيوت وأقدسها ، وكانت له هذه الخاتمة الطّيبة ، جون عبد رقّ يباع ويشترى كالسّلع والحيوانات ، ويزيد عربي قرشي يأمر وينهى ، وتخضع له رقاب المسلمين فيا للغبن وسخرية الأوضاع ورحم الله أبا العلاء ، القائل :

أليس قريشكم قتلت حسينا

وصار على خلافتكم يزيد

انظر ، الدّيوان : ١٦٥ ، مقتل الحسين : ١ / ٢٣٧ ، و : ٢ / ١٩ ، بحار الأنوار : ٤٥ / ٢٢ و ٧١ و : ٩٨ / ٢٧٣. رجال الشّيخ الطّوسي : ٧٢ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣١٨ و : ٥ / ٤٢٠ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٢٥٣ و : ٤ / ١٠٣ ، شرح الأخبار : ٣ / ٢٤٦.

(٣) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٩٤ ـ ٩٦.

١١٤

الحسيب النّسيب هو الّذي يختلط بدماء الحسين.

لقد امتاز شهداء الطّفّ بأمور :

«منها» : أن ضمّتهم والحسين تربة واحدة ، ومقام واحد ، حتّى أصبحت قبورهم مزارا لجميع زوار الحسين.

و «منها» : أنّهم ذهبوا إلى الله والرّسول في وفد يرئسه الحسين.

و «منها» : اختلاط دمائهم بدماء الحسين ، وارتفاع رؤوسهم مع رأسه على الرّماح ، ووطء أجسامهم مع جسمه.

سلّ كربلاء كم حوت منهم بدور دجى

كأنّها فلك للأنجم الزّهر

ويذكّرنا موقف جون في كربلاء بموقف عمرو بن الجموح في أحد ، كان عمرو من أصحاب الرّسول ، وكان رجلا أعرج ، وله بنون أربعة يشهدون المشاهد مع النّبيّ ، ويوم أحد خرج أولاده مع الرّسول ، فأراد هو الخروج أيضا فحاول قومه أن يحبسوه ، وقالوا له : أنت رجل أعرج ، ولا حرج عليك ، وقد ذهب بنوك مع النّبيّ ، وماذا تبغي بعد هذا؟!.

فقال : يذهب أولادي إلى الجنّة ، وأجلس أنا عندكم ثمّ أخذ درقته ، وذهب وهو يقول : أللهمّ لا تردّني إلى أهلي ، فخرج ولحقه بعض قومه. يكلمونه في القعود ، فأبى وجاء إلى النّبيّ ، وقال له : يا رسول الله : أنّ قومي يريدون أن يحبسوني عن هذه المكرمة والخروج معك ، والله إنّي أرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال له : أمّا أنت ، فقد عذرك الله ، ولا جهاد عليك ، فأبى ، فقال النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

١١٥

لقومه وبنيه : لا عليكم أن تمنعوه ، لعلّ الله يرزقه الشّهادة ، فخلّوا سبيله فاستشهد رضوان الله عليه»(١) .

__________________

(١) انظر ، سنن البيهقي الكبرى : ٩ / ٢٤ ح ١٧٥٩٩ ، الجهاد لابن المبارك : ١ / ٥٩ ح ٧٨ ، صفوة الصّفوة : ١ / ٦٤٦ ، الإصابة : ٦ / ٤٥١ ، السّيرة النّبويّة : ٤ / ٣٩ ، تفسير القرطبي : ٨ / ٢٢٦.

١١٦

يوم الفتح

قال الإمام الصّادقعليه‌السلام : «أنّ الحسين لمّا فصل متوجها إلى العراق أمر بقرطاس ، وكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم ، أمّا بعد ؛ فإنّه من لحق بي استشهد ، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح ، والسّلام»(١) .

ولم يرد الإمام بالفتح فتح البلاد والممالك ، وإنّما أراد ظهور أمر الله ، وانتصار كلمة الإسلام ، وقد كان الإمام على يقين من هذا الإنتصار ، ولذا قال : ومن تخلّف لم يدرك الفتح ، أي لم ينل شرف الجهاد في سبيل الدّين(٢) . حاربت أميّة صاحب الدّعوة ، وهي على الشّرك ظاهرا وباطنا ، ولمّا جاء نصر الله والفتح استسلمت ، وأظهرت الإسلام ، وأبطنت الكفر ، ولمّا انتقل النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ربّه عادت إلى محاربة الإسلام ، ولكن عن طريق الكيد والتّآمر ، كما تدل حكاية أبي سفيان مع الإمام حين بويع أبو بكر بالخلافة ، حيث قال أبو سفيان لعليّ : «إن شئت ملأتها لك عليهم خيلا ورجالا»(٣) .

وقال للإمام : «والله إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلّا دمّ يا آل عبد مناف ، فيما

__________________

(١) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف السّيّد ابن طاوس الحسني : ٤٠.

(٢) انظر ، كامل الزّيارات لابن قولوية : ٧٥.

(٣) انظر ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١ / ٧٤.

١١٧

أبو بكر من أموركم ، أين المستضعفان ، أين الأذلان عليّ والعبّاس»(١) .

فردّه الإمام وأفهمه أنّه منافق يغش الإسلام ، ويكيد للمسلمين.

ظنّ أبو سفيان أنّ الفرصة قد سنحت لبلوغ مآربه بموت الرّسول ، والنّزاع على الخلافة ، وما درى أنّ عليّا حامي حمى الإسلام له بالمرصاد ، كما كان له في بدر ، واحد ، والأحزاب ؛ وتمضي الأيّام ، ويصبح ابن أبي سفيان ملكا على المسلمين ، فحاول أن يؤسّس للفكر والإلحاد ، ويجعل الملك في نسل الشّرّاك إلى آخر يوم ، ولكن الحسين له بالمرصاد كما كان عليّ لأبيه من قبل.

رأينا الإستعمار إذا ثارت عليه الشّعوب المستضعفة ، وأرادت ، التّحرر من نيره واستغلاله يختار من أهل البلاد خائنا كيزيد ، وينصّبه حاكما على الشّعب ، ويمنحه اسم الإستقلال ، فيكّون للخائن الإسم ، وللإستعمار الحكم ، وتبقى الأوضاع كما كانت ، أو أسوأ حيث صبغت بالصّبغة الشّرعيّة ، كما فعلت فرنسا بسورية ولبنان ، والإنجليز في مصر أيّام فاروق ، وفي العراق أيّام نوري سعيد ، يقول الشّاعر العراقي مخاطبا حاكم العراق في عهد الإنجليز :

فأنت للحكم اسم

والإنجليز المسمّى

وهذا ما أراد معاوية تطبيقه بالذات من خلافة ولده يزيد ، واستمرار الملك في نسل أبي سفيان ، أراد أن يكون الإسم للإسلام في الظّاهر ، والحكم للشّرك والإلحاد في الواقع. وسلك كلّ سبيل لتحقّيق هذه الغاية ، فمن دس السّم بالعسل ، إلى القتل بالسّيف ، ومن دفن الأحياء ، إلى سبّ الأموات ، إلى ما لا نهاية لجرائمه وموبقاته.

__________________

(١) انظر ، المصدر السّابق : ٣ / ٢٠٢.

١١٨

وما كانت لتخفى هذه الحقيقة على الحسين ، وما كان ابن عليّ ليبخل بدمه على دين جدّه ، كيف وهو القائل : «فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ، والحياة مع الظّالمين إلّا برما»(١) . رأى الحسين أنّ الأمويّين يخدعون النّاس باسم الإسلام ، كما يخدع عميل الإستعمار الشّعب باسم الإستقلال ، فأراد الإمام أن يفضحهم ، ويثبت للملأ أنّهم أعدى أعداء الإسلام ، فنهض باسم الدّين ، وحقوق المسلمين ، يمثّل شعور كلّ مسلم لا يستطيع الجهر بما ينوي ويضمر ، نهض وهو أعزل إلّا من الحقّ ، وجابه الباطل صاحب العدّة والعدد ، ودعا إلى كتاب الله ، وسنّة الرّسول ، فقتله الأمويون ، وذبحوا أطفال الرّسول وسبوا نساءه ، لا لشيء إلّا لأنّهم دعاة للدّين ، والحقّ ، فعرف النّاس بعد وقعة الطّفّ أنّ الأمويّين ما زالوا مشركين ، كما كانوا يوم بدر ، واحد ، والأحزاب ، وأنّهم لم يؤمنوا بالله ورسوله طرفة عين ، وأنّهم يضمرون للإسلام كلّ شرّ وعناد ، وقد صور الشّاعر هذه الحقيقة بقوله يصف يزيد بن معاوية(٢) :

لئن جرت لفظة التّوحيد في فمه

فسيفه بسوى التّوحيد ما فتكا

قد أصبح الدّين منه يشتكي سقما

وما إلى أحد غير الحسين شكا

فما رأى السّبط للدّين الحنيف شفا

إلّا إذا دمه في كربلاء سفكا

* * *

يا ويّح دهر جنى بالطّفّ بين بني

محمّد وبني سفيان معتركا

حاشا بني فاطم ما القوم كفؤهم

شجاعة لا ولا جودا ولا نسكا

ما ينقم النّاس منهم غير أنّهم

ينهون أن تعبد الأوثان والشّركا

__________________

(١) تقدّمت تخريجاته.

(٢) انظر ، ديوان سيّد جعفر الحلّي : ١٧٦.

١١٩

وكان لفاجعة كربلاء دوي هائل اهتّزت له الدّنيا بكاملها ، حتّى كأنّ النّبيّ نفسه هو المقتول. وقامت الثّورات في كلّ مكان يتلو بعضها بعضا ، حتّى زالت دولة الأمويّين من الوجود ، وتمّت كلمة الله بالقضاء على الشّرك المستتر باسم الإسلام ، وهذا ما عناه الحسين بقوله لبني هاشم : «ومن تخلّف لم يبلغ الفتح ، والسّلام»(١) .

وإذا أردت مثالا يوضّح هذه الحقيقة فانظر إلى المظاهرات الّتي تقوم بها الشّعوب ضدّ الحاكم الخائن ، فإنّ المتظاهرين يعلمون علم اليقين أنّه سيطلق عليهم النّار ، وأنّ القتلى ستقع منهم بالعشرات ، ومع ذلك يقدمون ولا يكترثون بالموت ، لأنّ غايتهم أن يفتضح هذا الخائن ، وأن يعرف العالم مقاصده ونواياه ، فينهار حكمه ، ويبيد سلطانه ، وتكون الدّماء البريئة ثمنا لتحرر البلاد من العبودية والإستغلال.

ومن هنا كان لأصحابها هذا التّقديس ، والتّعظيم ، تقام لهم التّماثيل في كلّ مكان ، وتسمّى باسمائهم فرق الجيش والشّوراع ، وتشاد الأندية والمعاهد ، ويرتفع شأن اسرهم إلى أعلى مكان ، ومن قبل لم يكونوا شيئا مذكورا.

ودماء كربلاء لم تكن ثمنا لحرّية فرد أو شعب أو جيل ، بل ثمنا للدّين الحنيف ، والإنسانيّة جمعاء ، ثمنا لكتاب الله وسنّة الرّسول ومن هنا كان لها ما للقرآن والإسلام من التّقديس والإجلال ، كما أنّ لدماء الأحرار ما لأوطانهم من التّكريم والتّعظيم ، وكان لبني هاشم اسرة الحسين ما كان لأسر الشّهداء الأحرار.

__________________

(١) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف السّيّد ابن طاوس الحسني : ٤٠ ، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب : ٣ / ٢٣٠.

١٢٠