الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء0%

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف: محمد جواد مغنية
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف:

ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528
المشاهدات: 64205
تحميل: 3635

توضيحات:

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 528 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64205 / تحميل: 3635
الحجم الحجم الحجم
الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ISBN: 964-465-169-3
العربية

أمضي على دين النّبيّ

قال الله تعالى :

( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) (١) .

كلّ إنسان له عاطفة ، وشهوات ، وميول ، تقيّا كان أو شقيّا ، والفرق أنّ الشّقي إذا تصادمت عاطفته مع دينه تغلّبت العاطفة على الدّين ، وكانت هي الغالبة ، وهو المغلوب ، فإذا مالت نفسه إلى الحرام اقتحمه غير مكترث بواعظ ، ومزدجر بزاجر ، أمّا التّقيّ فعلى العكس يتغلب دينه على عاطفته ، فإذا راودته النّفس إلى المعصية وهمّ بها تذكّر أمر الله ونهيه ، وزجر مشاعره ، ونهى نفسه عن ميولها وهواها.

والأشياء الّتي تقود العاطفة وتحركها كثيرة لا يبلغها الإحصاء ، كالجاه ، والمال والنّساء ، والولد والصّداقة ، وما إلى ذلك ، ولكن عاطفة الأب تّجاه ولده أقواها جميعا ، فكم من عالم تثق به النّاس قادته هذه العاطفة إلى المهالك ، وأودت بدينه

__________________

(١) الصّافّات : ١٠٢ ـ ١٠٦.

١٦١

وجاهه وكيانه ، وهنا يعرف المؤمن حقّا ، ويتميّز عن الزّائف.

والآية الكريمة خير مثال على ذلك ، فإنّ الوالد أرفق النّاس بولده. وأحبّهم إلى قلبه ، ومع هذا فإنّ دين إبراهيمعليه‌السلام تغلب على هذا الرّفق ، والحبّ ، وهذه العاطفة الأبويّة ، وأقدم على ذبح ولده طاعة لله سبحانه وأيضا استسلم ولده للذّبح طاعة لخالقه رغم عاطفته ورغبته في الحياة.

وكذلك الحسينعليه‌السلام سلّم للذّبح ولديه عليّ الأكبر(١) ، والطّفل الرّضيع(٢) ،

__________________

(١) انظر ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٦١ ـ ١٦٤ ، إبصار العين : ٢١ طبعة النّجف ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٤٠ ، و : ٦ / ٢٥٦ ، المعارف : ٢١٣ و ٢١٤ ، مقاتل الطّالبيّين : ٥٥ و ٥٦ ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٣٠ ، والأخبار الطّوال : ٢٥٤ ، تأريخ الطّبري : ٦ / ٦٢٥.

(٢) هو عبد الله بن الحسين بن عليّعليه‌السلام ولد في المدينة ، وقيل في الطّفّ ولم يصح ، وأمّه الرّباب بنت امرىء القيس وهي الّتي يقول فيها الإمام الحسينعليه‌السلام :

لعمرك إنّني لأحبّ دارا

تحلّ بها سكينة والرّباب

قال المسعودي في ينابيعه : ٣ / ٧٧ ، والإصبهاني : ٣٥ و ٩٥ ، والطّبري : ٤ / ٣٤٢ ، و : ٢ / ٣٦٠ طبعة أوربا ، وغيرهم : إنّ الحسين لمّا آيس من نفسه ذهب إلى فسطاطه فطلب طفلا له ليودّعه فجاءته به اخته زينب فتناوله من يدها ووضعه في حجره ، فبينما هو ينظر إليه إذ أتاه سهم فوقع في نحره فذبحه. قالوا : فأخذ دمه الحسين عليه‌السلام بكفّه ورمى به إلى السّماء وقال : أللهمّ لا يكون أهون عليك من دم فصيل قالوا : فروي عن الباقر عليه‌السلام أنّه لم تقع من ذلك الدّم قطرة إلى الأرض

والّذي رماه بالسّهم حرملة بن الكاهن (كاهل) الأسدي ، وقيل : إنّ الّذي رماه عقبة بن بشر الغنوي ، وقيل : غير ذلك. انظر ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٧١ ـ ١٧٢ وهامش «١» من ص ١٧٣ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ١٣١ ـ ١٣٢ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٢٢٢ ، الإختصاص للشّيخ المفيد : ٣٠ ، نسب قريش : ٥٩ ، سرّ السّلسلة العلوية : ٣٠ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٦٥ ولم يذكر اسم أمّه ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٨ طبعة النّجف ، البحار : ١٠ / ٢٣ ، و : ٤٥ / ٤٦ و ٤٧ طبعة آخر ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٣٢ ، مثير الأحزان لابن نما الحلّي : ٣٦ ، البداية والنّهاية لابن كثير : ٨ / ١٨٦ ، أخبار الدّول للقرماني : ١٠٨ ، منتهى الآمال : ١ / ٦٩٣ ، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي : ٢٥٢ ، ـ

١٦٢

وأخاه أبا الفضل(١) ، وجميع أقاربه وأصحابه ، ثمّ ضحّى بنفسه ، وسلّمها للسّيوف ، والرّماح ، والسّهام طاعة لله جلّ وعزّ ، وبرز إلى الموت مردّدا شعاره

__________________

ـ الإحتجاج : ٢ / ٢٥ ، ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي : ٣ / ٧٨ طبعة اسوة ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ١٠٨ و ١٣٥.

(١) العبّاس بن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ولد سنة ست وعشرين من الهجرة ، وكان له عقب ، وكان يسمّى بالسّقّاء ، ويكنى أيضا أبا قربة. وكان رجلا وسيما جميلا ، يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطّان في الأرض ، وكان يقال له قمر بني هاشم ، وكان لواء الحسينعليه‌السلام معه يوم قتل.

انظر ، مقاتل الطّالبيّين : ٨٩ ـ ٩٠ ، و : ٥٨ طبعة آخر ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ١٢٩ ، الإمامة والسّياسة لابن قتيبة : ٢ / ١٢ ، تأريخ خليفة : ٢٣٥ ، مروج الذّهب للمسعودي : ٣ / ٧٧ ، المعارف لابن قتيبة : ٢١٧ و ٢١١ و ٨٨ ، الإشتقاق : ٢٩٦ ، جمهرة أنساب العرب : ٢٦٥ و ٢٦١ ، جمع الفوائد : ٢ / ٢١٨ ، ينابيع المودّة : ٣ / ١٧ ، و : ٦٧ و ٦٨ طبعة اسوة ، جواهر العقدين : ٢ / ٣٢٩ ، الإرشاد : ٢ / ١٠٩ ، و : ٢٥٥ طبعة آخر.

انظر أيضا ، الإرشاد : ٢ / ١٢٥ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٧٤ و ٢٣٤ ، إبصار العين في أنصار الحسين : ٢٥ طبعة النّجف الأشرف ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٢٦٠ ، و : ٤ / ١٠٨ ، عوالم العلوم : ١٧ / ٣٤٣ ، البحار : ٤٥ / ٤٠ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٢٩ و ٣٠ ، العقد الفريد : ٢ / ٨٣ ، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي : ١٤٢ ، إعلام الورى : ٢٨ ، مثير الأحزان : ٢٨ ، أسرار الشّهادة : ٣٨٧ ، و : ٣٣٧ طبعة آخر ، تأريخ الطّبري : ٦ / ١٣٧ ، روضة الواعظين : ١٥٧ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٧٦ ، تظلّم الزّهراء : ١١٨ ، المنتخب للطّريحي : ٣١١ ، و : ٣٠٥ طبعة آخر ، رياض المصائب : ٣١٣ ، المقتل للمقرّم : ٢٦٦ ـ ٢٧٠ ، منتهى الآمال : ١ / ٦٨٦ و ٦٨٧ ، الخصال : ١ / ٦٨ ، معالي السّبطين : ١ / ٤٤١ و ٤٤٠ ، الدّمعة السّاكبة : ٤ / ٣٢٢ ـ ٣٢٤ ، الفصول المهمّة لابن الصّباغ المالكي : ١ / ٦٤٥ و : ٢ / ١٦٧ ، النّعيم المقيم لعترة النّبأ العظيم : ٢٣٥ ، بتحقّيقنا.

وفي المقاتل : ٨٩ قال : والعبّاس آخر من قتل من إخوته لأمّه وأبيه ولكنّ الإصفهاني كعادته يطلق العنان لقلمه بدون تروّي وبصيرة لأنّه يردف قائلا : فقدّمهم بين يديه ، فقتلوا جميعا ، فحاز ميراثهم ونحن نسأل كم تتصوّر أيّها المؤرّخ أنّ العبّاس بقي حيّا بعد إخوته حتّى يحوز ميراثهم؟ وهل أنّ العبّاس كان يفكّر بالمادّيات كما تفكّر أنت وغيرك؟ وهل وهل إلخ.

وكان يقال له «قمر بني هاشم» لو سامته وجماله. انظر ، تأريخ الطّبري : ٤ / ١١٨.

١٦٣

الوحيد : «أمضي على دين النّبيّ»(١) .

ومن أجل هذا الشّعار القدّسي استشهد عليّ ، والحسن ، والحسين وأصحابهم وشيعتهم الخلّص ، وهو المثل الأعلى لكلّ من والى آل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حقّا وصدقّا ، والفلسفة الصّحيحة للتّشيّع الحقّ الّتي لا يحلّ محلها أيّة فلسفة أخرى.

عش في زمانك ما استطعت نبيلا

واترك حديثك للرّواة جميلا

ولعزّتك استرخص حياتك أنّه

أغلى وإلّا غادرتك ذليلا

تعطي الحياة قيادها لك كلّما

صيرّتها للمكرمات ذلولا

العزّ مقياس الحياة وضلّ من

قد عدّ مقياس الحياة الطّولا

قل كيف عاش ولا تقل كم عاش من

جعل الحياة إلى علاه سبيلا

لا غرو أن طوت المنيّة ماجدا

كثرت محاسنه وعاش قليلا

قتلوك للدّنيا ولكن لم تدم

لبني اميّة بعد قتلك جيلا

ولرّب نصر عاد شرّ هزيمة

تركت بيوت الظّالمين طلولا

حلّت بصّفّين الكتاب رماحهم

ليكون رأسك بعده محمولا

يدعون باسم محمّد وبكربلا

دمه غدا بسيوفهم مطلولا(٢)

__________________

(١) انظر ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٩٧ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٢٥٨.

(٢) انظر ، ديوان الأزري الكبير ، للشّيخ كاظم الأزري التّميمي : ٢٣٤.

١٦٤

لا عمل بعد اليوم

أنّ الّذين رصدوا خطوات الحياة منذ درج الإنسان على وجه الأرض ، واستعرضوا الماضي يدركون أنّ جيلنا هذا لم يستقل بخلق المدنيّة الحديثة وإيجادها ، وإنّما هي نتيجة لازمة لإطّراد تقدم الإنسان ورقيّة على سلّم التّصاعد منذ وجد حتّى الآن ، فالسّلف شريك الخلف في كلّ ما تحويه المدنيّة من أفانين وأعاجيب. إنّ حلقة الإتّصال بين الماضي والحاضر هي وراثة الثّاني للأوّل ، في جميع أشيائه الماديّة والمعنويّة ، إنّ حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها بناية واحدة ، وكلّ عصر هو حجر في بنائها ، إذن نحن نعيش بالماضي والحاضر معا ، كما ستعيش الأجيال المقبلة بنا والمستقبل.

لمن هذه الأنظمة والقوانين الّتي ترتكز عليها السّياسة؟ ومتى نشأت هذه الأديان الّتي شيّدت لها المعابد والمعاهد ، ونبتت بذورها وأيعنت في كلّ قلب حتّى سيّرت الأمم والأفراد في مسالكها الخاصّة والعامّة؟ وأين أرباب هذه الألوف من الكتب الّتي فرضت نفسها على الكلّيات والجامعات؟ أمّا منشأ اللّغات وتطورها فعلمها عند ربّي ، فأي مادّة تقع عليها العين نجت من يد الماضي! وأي روح لم تسترشد بحكمته وتهتد بسنائه! وكم حوت كنوز آبائنا العرب من جواهر الحكمة ، فأضاعها ورّاثها الأقربون وانتفع بها الأباعد

١٦٥

الغاصبون ، واتّخذوا من ثمارها وسيلة إلى الكبرياء ، والتّعاظم علينا ، وهي لنا ومن ميراثنا الّذي ذهلنا عنه حتّى أصبح فريسة الذّئاب.

قرأت في مجلّة «المختار» كلمة بعنوان «أطع هذا الحافز» للدّكتور وليم مولتون ، وهي على طولها وعرضها تتلخص بجملة نطق بها أحد أبطال الطّفّ الّذين ناصروا الحسين بن عليّ. وهو عابس بن أبي شبيب البطل العربي ، قالها عند ما رأى السّيوف ، والرّماح ، والسّهام ، والأحجار تنهال وتتراكم على الحسين وأهل بيته وأصحابه ، فأججّ هذا المنظر في نفسه شعلة جعلت الدّماء تشب في عروقه كاللهب المضطرم ، وخيّل إليه أنّ السّماء والأرض قد استحالتا إلى دخان ورماد ، فنظر إلى مولى كان معه يدعى شوذبا(١) ، وناداه يا شوذب ما في نفسك أن تصنع اليوم ، قال شوذب : اقاتل حتّى أقتل دون ابن رسول الله ، قال عابس ذلك الظّن بك ـ أنّه لا عمل بعد اليوم ـ(٢) حكمة بالغة ليس كمثلها شيء إلّا العمل بها ، ولو قالها غربي لقرأتها في كلّ صحيفة وسمعتها من كلّ لسان ، ولكنّه منّا ، وعربي مثلنا.

وصدق شوذب القول بالفعل فقاتل حتّى قتل ، وماذا فعل عابس الّذي نطق بهذه الحكمة الخالدة ـ لا عمل بعد اليوم ـ تقدّم من الحسين وقال : أما والله ما أمسى على وجه الأرض قريب أو بعيد أحبّ عليّ منك ، ولو قدرت أن أدفع عنك القتل بشيء أعزّ عليّ من نفسي لفعلت ، ثمّ مضى إلى المعركة فعرفه رجل

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٣٨ و : ٥ / ٤٤٣ و ٤٤٤ ، مقتل الحسين : ٢ / ٢٢ ، شرح الأخبار : ٣ / ٢٤٩ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ١٠٥ ، إقبال الأعمال : ٣ / ٧٩ ، بحار الأنوار : ٤٥ / ٧٣ ، ٩٨ / ٢٧٣ ، معجم رجال الحديث : ١٠ / ٤٥ رقم «٥٧٦٤» ، إعلام الورى : ١ / ٤٦٤.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٣٨ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٥٤.

١٦٦

من أصحاب ابن سعد يدعى ربيع بن تميم ، وكان شاهده مع الإمام عليّ في صفّين ، ورأى منه الأعاجيب ، فصاح ربيع بأصحابه : أيّها النّاس هذا أسد الأسود لا يخرجنّ إليه أحد ، فأخذ عابس ينادي ألا رجل فهابه القوم ، فنادى ابن سعد : ويلكم ارضخوه بالحجارة ، فانهالت عليه من كلّ جانب ، فلمّا رأى عابس ذلك ألقى درعه ومغفره وشدّ عليهم ؛ قال ربيع رأيته والله يطرد أمامه أكثر من مئتين ، ثمّ تكاثروا عليه فقتلوه ، واختصم الجيش في قتله وادّعاه الجميع ، فأصلح ابن سعد بينهم بقوله : هذا لم يقتله واحد ، كلّكم قاتله ، فهدأت الفتنة(١) .

قتل عابس وضحّى بنفسه في سبيل مبدئه وإحياء عقيدته ، ومات شهيد الحقّ والفضيلة ، وبلغ بعمل ساعة ما لم يبلغه غيره بعمل الدّهر كلّه ، وحاول ابن سعد أن يصرع الأقمار بالأحجار فهوت على رأسه وقلبه ، ترجمه بها يد التّأريخ ما وجد له قارئا أو سامعا.

أنّ نداء ـ لا عمل بعد اليوم ـ هو الشّعار الوحيد الّذي يعبّر عن مبدأ شهداء الطّفّ وعقيدتهم الّتي من أجلها نصبوا مهجهم هدفا للسّهام والرّماح دون الحسين ، وهل تجدي الأعمال كلّها بعد قتل الحسين! إذن العمل كلّه في هذا اليوم بل في هذه اللّحظة الّتي ما زال الحسين فيها حيّا.

وقد ندم التّوابون بعد قتل الحسين على تركهم نصرته ، فنهضوا وثاروا وقتلوا ، ولكن عملوا بعد قتل الحسين ، ولا عمل بعد قتله إلّا الحسرة والتّلهف ، قال

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٣٥٥ و ٤٤٣ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٩٧ ، شرح الأخبار : ٣ / ٢٤٩ ، معجم رجال الحديث : ١٠ / ١٩٣ رقم «٦٠٥٢» ، رجال الطّوسي : ٢٠٣ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢٠٠ ، مثير الأحزان : ٢١.

١٦٧

شاعرهم عبد الله بن الحرّ(١) :

فيا لك حسرة ما دمت حيّا

تردّد بين حلقي والتّراقي

فلو فلق التّلهف قلب حيّ

لهمّ اليوم قلبي بإنفلاق

فقد فاز الألى نصروا حسينا

وخاب الآخرون أولوا النّفاق(٢)

وهذا تفسير قول أبي الشّهداء ـ فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ، والحياة مع

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠. لعلّ من أصدق النّماذج الّتي حفظها لنا تأريخ تلك الفترة قول عبيد الله بن الحرّ ، الّذي فرّ من الكوفة حين اتّهمه عبيد الله بن زياد بعدم الولاء للسّلطة ، وقدم إلى كربلاء ، فنظر إلى مصارع الشّهداء وقال :

يقول أمير غادر حقّ غادر

ألا كنت قاتلت الشّهيد بن فاطمة

فيا ندمي ألّا أكون نصرته

ألا كلّ نفس لا تسدد نادمة

وإنّي لأنّي لم أكن من حماته

لذو حسرة ما إن تفارق لازمة

سقى الله أرواح الّذين تأزروا

على نصره سقيا من الغيث دائمة

وقفت على أجداثهم ومجالهم

فكاد الحشى ينفض والعين ساجمة

لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى

سراعا إلى الهيجا حماة خضارمة

تآسوا على نصر ابن بنت نبيّهم

بأسيافهم آساد غيل ضراغمة

فإن يقتلوا فكلّ نفس تقية

على الأرض قد أضحت لذلك واجمة

وما إن رأى الرّاؤون أفضل منهم

لدى الموت سادات وزهرا قماقمة

أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا

فدع خطة ليست لنا بملائمة

لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم

فكم ناقم منّا عليكم وناقمة

أهم مرارا أن أسير بجحفل

إلى فئة زاغت عن الحقّ ظالمة

فكفوا وإلّا زرتكم بكتائب

أشدّ عليكم من زحوف الدّيالمة

انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٦٣ و : ٤ / ٣٦٠ و : ٥ / ٤٦٩ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢٢٩ ، مقتل الحسين لابي مخنف : ٢٤٥ ، تأريخ دمشق : ٢٧ / ٤٣٠.

(٢) انظر ، خزانة الأدب : ٢ / ١٥٧ ، الأخبار الطّوال : ٢٦٢ ، ترجمة الإمام الحسين من الطّبقات الكبرى لابن سعد : ٩٤.

١٦٨

الظّالمين إلّا برما»(١) ـ لم يستفد من هذا الدّرس الّذي هو أبلغ دروس الحياة ، سوى أبطال الطّفّ الّذين تسابقوا إلى الموت بين يدي الحقّ ، والفضيلة فرحين مستبشرين.

وبين هؤلاء الأبطال شبه كبير من الوجهة النّفسيّة ؛ فدرس بعضهم يوقفنا على حقيقة الباقين لا نستثني منهم سوى رجل واحد ، هو الضّحاك ابن عبد الله المشرقي ، فإنّه لازم الحسين من أوّل يوم حتّى إذا لم يبق مع الإمام إلّا اثنان الضّحاك ثالثهم ، استأذن الحسين فأذن له فركب فرسه ونجا ، حاول الضّحاك أن يلائم بين إرادة الحياة واحترام العقيدة ، وأن تسالم كلّ واحدة جارتها ، ولمّا وقع بينها العداء الصّراع قدّم مصالحه الشّخصيّة على عقيدته(٢) ، على عكس النّتيجة الّتي انتهى إليها الحرّ الرّياحي(٣) .

تطوع الحرّ بن يزيد الرّياحي في جيش ابن زياد لحرب الحسين ، ولمّا أيقن أنّ الحسين مقتول لا محالة انسحب من جيش الكوفة وصحب معه ولده الشّاب بكير وانضمّا إلى الإمام وقتلا معا بين يديه ، لقد كان في الحرّ حنكة ومرونة إلى جانب إيمانه القوي ، فحاول أن يؤلّف بين إيمانه وتقلبات البيئة والظّروف ، فقال

__________________

(١) تقدّمت تخريجاته.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤١٨ و ٤٤٥ و ٤٢٢ وفي ٤٣٦ و : ٤ / ٣٢٠ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١١٣ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ٩٥ ، الأخبار الطّوال : ٢٥٦.

(٣) انظر ، جمهرة أنساب العرب لابن حزم : ٢١٥ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٨٢ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٢٣٠ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ٥٥١ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٦٨ ، الإمامة والسّياسة : ٢ / ١١ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٠٢ ، الأخبار الطّوال للدّينوري : ٢٤٨ ـ ٢٥٣ ، أنساب الأشراف : ١٦٩ ـ ١٧٦ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ٨٥.

١٦٩

في نفسه ـ أصانع القوم بما لا ينفعهم ولا يضرّ الحسين كي لا يظنوا أنّي خرجت من طاعة ـ ولمّا امتنع عليه الوئام بين إحياء العقيدة وإرادة الحياة استجاب إلى صوت ضميره الحي وقام بواجب الحقّ فضحّى بحياته وحياة ولده في سبيل إحياء إيمانه الصّادق.

قدّم الحرّ عقيدته على حياته ، وقدّم الضّحاك حياته على عقيدته ، ولم يكن هذا الفارق الوحيد بين الرّجلين ، فقد بعث منظر القتل ، والقتلى في نفس الحرّ الشّجاعة والإقدام على الموت ، بينما بعث في نفس الضّحاك الجبن لذى أدّى به إلى الهزيمة والفرار. فرّ الضّحاك رغبة في البقاء على نفسه وأهله ، وقدّم الحرّ ولده الشّاب إلى المذبحة طيّب النّفس ، ولمّا رآه قتيلا يتخبط بدمه قال : الحمد لله يا بني الّذي نجّاك من القوم الظّالمين ، ومنّ عليك بالشّهادة بين يدي إمامك.

أنّ تطوع الحرّ في جيش ابن زياد وموقفه من الحسين باديء ذي بدء لا يدل على عقيدته ودخيلة نفسه السّامية ، كما أنّ انضمام الضّحاك إلى الإمام منذ اللّحظة الأولى إلى قرب الشّوط الأخير لا ينبيء عن زهده في الشّهادة لأجل الحقّ ، بل يشعر بالإقدام والتّضحية.

من هذه المقارنة يدرك البصير أنّ ثوب الوطنية والطّنطنة والتّهويل ، لا يدل على الإخلاص والتّضحية ، كما أنّ الهدوء وعدم الثّرثرة والتّشدق بالألفاظ الفارغة لا تكشف عن الخيانة والجبن ولكن :

إذا اشتبكت(١) دموع في خدود

تبين من بكى ممّن تباكى(٢)

__________________

(١) في بعض المصادر (انسكبت) وفي البعض (اشتبهت) وفي البعض (استبكت).

(٢) ينسب هذا الشّعر تارة إلى حكيم من حكماء العرب كما في تفسير القرطبي : ٨ / ٢٣٠ ، وتارة إلى ـ

١٧٠

ما أحبّ الباطل شابّا ولا كهلا

في ليلة العاشر من المحرّم ، ضرب للحسينعليه‌السلام فسطاط ، ليطلي بالمسك والنّورة ، ولمّا دخله وقف برير بن خضير الهمداني ، وعبد الرّحمن ابن عبد ربّه الأنصاري تختلف مناكبهما ، يتضايقان ، ليسبق كلّ واحد صاحبه إلى فاضل المسك ، فيفوز بما لمسته أنامل الطّهر والقداسة ، فيعبق نشره مع نشر الدّم الزّكي ، دم الشّهادة والتّضحية ، قال راوي الحديث : فأخذ برير يهازل عبد الرّحمن ويضاحكه فأجابه عبد الرّحمن دعنا ، فو الله ما هذه بساعة باطل.

قال برير : والله لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابّا ولا كهلا(١) . ولكنّي لمستبشر بما نحن لاقون ، والله ما بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، وودّدت أنّهم مالوا علينا السّاعة(٢) .

أنّ الباطل في عرف القدّيسين مثل عبد الرّحمن وبرير أن يختار الإنسان الحسن مع القدرة على الأحسن ، فذكر الله في هذه السّاعة الّتي هي أشبه ما تكون

__________________

ـ المتنبي كما في الدّيوان : ٥٨٦ ، وتارة ثالثة إلى الشّريف المرتضي كما في التّرجمة.

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٢١ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩٣ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١١٥.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٢١ و ٤٢٣ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ١٠٦ ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٣٧ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١١٢.

١٧١

بساعة النّزع وتسليم الرّوح خير من الدّعابة ، والبكاء أولى من الإبتسام ، وما كان عبد الرّحمن يجهل بريرا. كيف وقد تخرجا من مدرسة واحدة على معلم واحد ، على سيّد الوصيّين وإمام المتّقين الّذي كان يلقّنهم دروس الكمال بأفعاله قبل أقواله ، ويعلمهم أنّ الإستخفاف بصغير الذّنوب من أكبر الذّنوب ، لأنّه استخفاف بالله ، وشرائعه ، وقوانيه!.

لم تكن تلك الدّروس الّتي تلقّاها برير وعبد الرّحمن عن المعلم الأعظم ألفاظا تذروها الرّياح ، وأصواتا لا تتجاوز الآذان ، بل هي بذور تغرس في النّفس فتحيا وتنمو إلى أن تصبح غرائز وملكات تحرك أربابها ، وتقودهم إلى مرضاة الله ورضوانه.

لقد عرف عبد الرّحمن بريرا كهلا وما عرفه شابّا ، والشّباب مظنّة الوقوع في الخطايا ، فنفى برير الطّيب الّذي لم يلغ في حياته كلّها بألفاظ اللهو والعبث ، نفى عن نفسه هذه المظنّة بحجّة لا تعادلها حجّة في القوّة والصّدق ـ والله لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابّا ولا كهلا ـ وأي حجّة أقوى في الدّلالة ، وأصدق في الشّهادة على سير الإنسان وسلوكه من شهادة قومه وعشيرته الّذين صاحبوه كبيرا وصغيرا ، وخالطوه غنيّا وفقيرا ، ورؤوا أفعاله ، وسمعوا أقواله في جميع أطواره وأدواره في سرّه وعلانيته ، ورضاه وغضبه ، وحزنه وسروره ، ونعيمه وبؤسه ، لقد تمكن برير من نفسه وتغلب على شهواته في دور شبابه ، دور طفولة العقل ، والإستسلام إلى الملذات والأهواء ، فهو كامل في شبابه ، كامل في كهولته ، لم يرتكب منكرا ولم يقترف سيئة لا أوّلا ولا آخرا. وما أحبّ باطلا ألبتة ، وهؤلاء قومه وعارفوه ، يشهد كبيرهم وصغيرهم أنّه منذ صغره اهتدى إلى

١٧٢

سبيل الرّشد والسّداد ، يستبق الخيرات ، ويسارع إلى المكرمات ، يناصر الحقّ والعدالة ، ويحارب الظّلم والعدوان. ومن أقواله وهو في معركة الطّفّ(١) :

يعرف فينا الخير أهل الخير

أضربكم ولا أرى من ضير

كذلك فعل الخير من برير

وكلّ خير فله برير

لقد ارتكز حبّه الخير ، وبغضه الشّر على إيمانه القوي ، وعقيدته في شخصيته ، وثباته في عزمه ، وثقته من مقدرته وشجاعته.

كان برير يوم الطّفّ كلّما تكرّرت الفظائع من العدوّ يقف منذرا ومحذرا عاقبزة البغي مذكرا بالله تعالى وأهل بيت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بقول لين خفيف على النّفوس والأسماع ، فما فاه بكلمة في موقف يشعر بهجر أو فحش.

فكان في مواقفه كلّها متّنزنا في أقواله ، كاظما لغيظه ، معتصما بالصّبر والأناة ، لذلك عند ما أكثر عليهم القول لم يزيدوا في جوابه حرفا على قولهم : «لقد أكثرت الكلام يا برير».

قال لهم في موقف : «يا قوم اتّقوا الله فإنّ ثقل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أصبح بين أظهركم» ، وقال في موقف ثان : «أفجزاء محمّد هذا؟!» ، وفي ثالث : «لا أفلح قوم ضيعوا ابن بنت نبيّهم ، أفّ لهم غدا»(٢) .

ولمّا حمل جيش البغي على الحسين وأصحابهعليه‌السلام انقّض عليهم برير كالصّاعقة يفريهم بسيفه ويقول : «أضربكم ولا أرى من ضير»(٣) .

__________________

(١) انظر ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٢٥٠.

(٢) انظر ، أمالي الشّيخ الصّدوق : ٢٢٢ ، بحار الأنوار : ٤٤ / ٣٨٣ و : ٤٥ / ٥.

(٣) تقدّمت تخريجاته.

١٧٣

هذه ألفاظه ، وهذا اسلوبه ، وخطابه مع قوم ما وضعت ألفاظ السّباب واللّعن إلّا للدّلالة على خساستهم. إنّ تلك الفظائع لم تخلق من برير رجلا غير برير ، فهو هو ذاك الوادع المتواضع ، والزّاهد الخاشع الدّاعي إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإذا كان برير عظيما فكيف يفوّه بالحقير الّذي يستطيع النّطق به الطّفل الصّغير ، والمرأة الضّعيفة ، والسّفيه الفاجر ، إذا كان برير عظيما فليدع الكلام للسّيف وحده. برز برير لقتال جيش الظّلام وبين جنبيه قلب يستبشر بالموت استبشاره بعناق الحور العين ، فلم يدن أحد منه لشجاعته وهيبته ، فكان يحمل على الأعداء ويفرون من بين يديه خشية من لقائه ، فيناديهم اقتربوا منّي يا قتلة المؤمنين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول ربّ العالمين ، ولمّا عجزوا عن مقاومته وجها لوجه اغتاله كعب بن جابر بطعنة رمح في ظهره ، بعد أن قتل منهم ثلاثين رجلا ، فأودت الطّعنة بحياته الطّاهرة الزّكيّة الّتي شهد لصاحبها الرّجال والنّساء من قومه وعارفيه أنّه ما عرف الباطل شابّا ولا كهلا ؛ قال بعض من أعان على الحسينعليه‌السلام لكعب عندما رآه قاصد اغتيال برير : ويّلك هذا الّذي كان يعلمنا القرآن(١) ، وأقسمت زوّجته لدى رجوعه إليها أن لا تكلمه أبدا(٢) . لقد لبّى برير

__________________

(١) انظر ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٢٤٨ ولكن بلفظ «برير بن خضير» بدل «يزيد بن الحصين» كما جاء في الفصول المهمّة لابن الصّباغ المالكي : ٢ / ١٤٤ ، بتحقّيقنا. وكان من الزّهّاد الّذين يصومون النّهار ويقومون اللّيل ، فقال : يابن رسول الله إئذن لي أن آتي هذا الفاسق عمر بن سعد فأعظه لعلّه يتّعظ ويرتدع عمّا هو عليه ، فقال الحسين : ذاك إليك يا برير ، فذهب إليه حتّى دخل على خيمته فجلس ولم يسلّم ، فغضب عمر وقال : يا أخا همدان ما منعك من السّلام عليّ ألست مسلما اعرف الله ورسوله وأشهد بشهادة الحقّ؟ فقال له برير : لو كنت عرفت الله ورسوله كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول الله تريد قتلهم ، وبعد فهذا الفرات يلوح بصفائه ويزلج كأنّه بطون الحيّات تشرب منه كلاب

١٧٤

دعوة ربّه وقدّم حياته قربانا بين يدي الله ورسوله ، وفاز بكرامة الدّنيا والآخرة. وذلك هو الفوز العظيم.

__________________

ـ السّواد وخنازيرها

انظر ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ١٠٦ وزاد فأطرق عمر بن سعد ساعة إلى الأرض ثمّ رفع رأسه وقال : إنّي والله أعلمه يا برير علما يقينا أن كلّ من قاتلهم وغصبهم على حقوقهم في النّار لا محالة ، ولكن ويّحك يا برير! أتشير عليّ أن أترك ولاية الرّي فتصير لغيري؟ ما أجد نفسي تجيبني إلى ذلك أبدا ومثله في الكامل لابن الأثير : ٤ / ٣٧ بلفظ «برير». ومثله في أمالي الصّدوق : ٩٦ مجلس ٣٠ طبعة أوّل ، تأريخ الفتوح التّرجمة الفارسية : ٣٨٠ ، منتهى الآمال : ١ / ٦٢٩ بلفظ «برير بن خضير» اللهوف في قتلى الطّفوف : ٩٥ ، المقتل لسّيّد عبد الرّزاق المقرّم : ٢٣٢ ، تأريخ الطّبري : ٦ / ٢٤٣ ، و : ٢٤٠ طبعة آخر ، ٤ / ٣٢٠ بلفظ «برير بن حضير» و : ٥ / ٢٤١ طبعة آخر ، بحار الأنوار : ٤٥ / ٤ و ٥ و ١٥ ، عوالم العلوم للشّيخ عبد الله البحراني الإصفهاني : ١٧ / ٢٣٣ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١١٢ بلفظ «حضير».

(٢) كعب بن جابر : أحد جنود الجيش الأموي ، قالت له زوجته أو أخته لمّا رجع من المعركة : «أعنت على ابن فاطمة ، وقتلت سيّد القراء ، لقد أتيت عظيما من الأمر ، والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبدا» فأجابها بشعر يفتخر فيه بفعله تضمّن بيتا يذكر فيه أنّه أنقذر رضي بن منقذ من القتل حين أعانه على خصمه في المعركة:

قتلت بريرا ، ثمّ حملت نعمة

أبا منقذ لمّا دعا : من يماصع

ونلفت النّظر إلى عقيدة الجبر الظّاهرة عند رضي بن منقذ العبدي في البيت الأوّل في قوله (لو شاء ربّي ما شهدت قتالهم) ، انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

١٧٥
١٧٦

السّيّدة زينب رمز لشيء عميق الدّلالة

يحتفل المصريون في كلّ عام بمولد السّيّدة زينب(١) ، وتجتمع الحشود لهذه الغاية في مسجدها بالألوف ، وكتب محرّر مجلة «الغد» مقالا خاصّا بهذه المناسبة عن السّيّدة ، قال:

«طوال ثلاثة أسابيع في الشّهر الماضي ، وكانت حشود من الرّجال ، والنّساء ، والأطفال تتّجه إلى حيّ السّيّدة ، وتظل تلك الحشود الكبيرة ساهرة رغم البرد الشّديد حتّى الفجر ، وسط الأنوار الزّاهية ألوف من النّاس تستمتع فعلا بالمولد الكبير لبطلة كربلاء زينب أخت شهيد الإسلام الخالد الحسين بن عليّ.

وفي السّرادقات ، والمقاهي المنتقلة ، وحول السّيرك والملاهي ، ترتفع دقّات الدّفوف ونغمات الرّبابة ، وإيقاع الطّبول ، وأصوات المطربين والمنشدين ، وتهتزّ

__________________

(١) السّيّدة زينب بنت الإمام عليّعليه‌السلام أمّها : فاطمة الزّهراء بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي شقيقة الحسن ، والحسينعليهما‌السلام . تزوّجها ابن عمّها عبد الله بن جعفر الطّيّار ذي الجناحين بن أبي طالب ، وولدت له عليّا ، وعونا ويدعى بالأكبر ، وعبّاسا ، ومحمّدا ، وأمّ كلثوم. وذرّيّتها موجودة إلى الآن بكثرة.

انظر ، السّيرة لابن إسحاق : ٢٢٦ ، صحيح البخاري : ٣ / ١٣٦٠ ح ٣٥٠٦ و : ٤ / ١٥٥٥ ح ٤٠١٦ و : ٥ / ٢٤ ، تهذيب الكمال : ١٤ / ٣٦٩ ، الإستيعاب : ١ / ٢٤٢ ، الطّبقات الكبرى : ٤ / ٣٩ ، الإصابة : ١ / ٤٨٧ ، تهذيب الأسماء : ١ / ١٥٥ ، التّرغيب والتّرهيب : ٢ / ٢٠٦ ح ٢١١٧ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ٢٧٣ ، المعجم الكبير : ٢ / ١٠٧ ح ١٤٦٧ و : ١١ / ٣٦٢ ح ١٢٠٢٠ ، أنساب الأشراف : ٢ / ١٨٩ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٣ ، تأريخ الطّبري : ٥ / ١٥٣.

١٧٧

القلوب وتمتليء بالبهجة العريضة وترتفع الأصوات من حناجر الألوف ممتلئة بالحبّ الحقيقي تنادي : «يا رئيسة الدّيوان» ...!

أنّ السّيّدة زينب «رئيسة الدّيوان» رمز لشيء عميق الدّلالة ، أنّها المرأة الباسلة الشّجاعة الّتي ظلّت تضمّد جراح الرّجال في معركة كربلاء من أبناء بيت الرّسول وأتباع الحسين ، حتّى سقطوا جميعا صرعى بين يديها.

لم يرهبها جنود «يزيد بن معاوية» الأنذال السّفّاحون ، الّذين اقتلع حكم يزيد الباطش المطلق من نفوسهم آخر خيط يربطهم بالإنسانيّة فكانوا يقطعون بسيوفهم رقاب الأطفال أمام السّيّدة زينب ، ورأتهم يبقرون بطن غلام من أبناء الحسين ، فلم يزدها ذلك إلّا بسالة وتماسكا ورغبة في النّصر.

ورأت أخاها العظيم الباسل «الحسين بن عليّ» وقد وقف بمفرده أمام جنود يزيد وهو يرفض التّسليم وراح يقاتلهم بعد أن استشهد كلّ أتباعه وأهله ما عدا ولده زين العابدين الّذي كان مريضا ، ونائما في حضن عمّته «زينب» فتركوه ظنّا منهم أنّه سيلفظ أنفاسه الأخيرة من المرض لكنّه عاش وكان شوكة في جنب الدّولة الأمويّة ، تلك الدّولة الّتي أقامها معاوية بالدّس والشّر ، والتّنكر لأعظم مباديء الإنسانيّة في ذلك الزّمان لرسالة محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

واندفعت زينب من خبائها نحو أخيها حاسرة الرّأس ملتاعة ، وزعقت بكلّ قواها وا حسيناه ثمّ سقط مغمى عليها من الحزن العميق

كانت ترى في نهاية الحسين ، انهيارا لبناء هائل كبير أقامه جدّها النّبيّ في طول الأرض وعرضها ، ليخلّص البشريّة من انحطاطها واندفاعها نحو الفوضى

١٧٨

والشّر!.

ومع ذلك فإنّ مصرع الحسين كان نذيرا لدولة معاوية الآفاق ، وانهارت الدّولة بعد ذلك بنصف قرن وسط أفراح الشّعب.

ظلّ الشّعب العربي يلعن يزيد بن معاوية وخلفاءه حتّى سقطوا بل أنّ الشّعب العربي انتقم من قادة الجيش الأمويّين شرّ انتقام ، فلقي أكثرهم مصرعه بعد أن استشهد الحسين على أيديهم وهو الإمام ، والقائد ، والزّعيم السّياسي المثالي لأمّة العرب في ذلك الحين ، والرّجل الّذي قام برحلته الدّامية إلى العراق ، وهو يعلم أنّ ألوف الجنود المرتزقة من جيش يزيد ، سوف تلحق به وتحول بينه وبين الإتّصال بالشّعب.

وكان الحسين يعلم أنّه مستشهد لا محالة ، هو وأهل بيته ، لكنّه مضى في طريقه دون خوف أو تردّد ، وتلك صفات الزّعماء الحقّيقيّين للشّعوب.

طلبوا منه أن يسلّم نفسه فأبى طلبوا منه البيعة ليزيد ، فرفض أن يبايع شابّا فاسدا شرّيرا ، لا يصلح أن يقود أمّة حديثة في طريقها الطّويل.

وامتشق سيفه ، وظلّ يقاتل جنود الشّيطان يزيد ، خليفة المسلمين الّذي فرضه أبوه معاوية فرضا على الأمّة العربيّة

ولم يكن معه سوى العشرات من الرّجال ، والنّساء ، والأطفال ، كلّ جيشه كان يمكن لفصيلة من الجنود سحقها في لحظات لكن الجيش الصّغير صمد أيّاما طويلة وقاتل بقيادة الحسين ببسالة عجيبة مذهلة ، لم يشهد تأريخ الشّرق أو الغرب مثيلا لها.

كان الحسين عطشان جائعا ورجاله يفتك بهم الظّمأ مثله ، وأطفاله

١٧٩

يصرخون في طلب جرعة ماء كان الحصار من حوله في كربلاء محكما جدّا ، ألوف من جنود الشّيطان يمنعون عنه وعن عياله الماء ...!.

ومع ذلك قاتل وصمد ولم يترك سيفه ورمحه إلّا بعد أن تمزق جسده بعديد من السّيوف والحراب.

وخلال ذلك كلّه خلال أعظم معركة في سبيل العقيدة ، شهدها التأريخ القديم ، لأمّة العرب ، برزت شخصيّة السّيّدة زينب «رئيسة الدّيوان» كما نسمّيها نحن أبناء مصر بطلة باسلة مؤمنة شجاعة حتّى أنّ يزيد بن معاوية الآفاق ، لم يجرؤ على مناقشتها عندما ساقوها إليه ، ورفضت أن تبايعه ، ولعنته ، كما لعنت كلّ الّذين يغدرون ويطعنون المؤمنين في ظهورهم!

ومن أجل ذلك نحن في مصر وفي كلّ الوطن العربي ، نؤمن ببطولة السّيّدة زينب ، كما نؤمن بذلك البطل الخالد «الحسين بن عليّ» أبي الشّهداء جميعا نؤمن بأمثال هؤلاء الأعاظم ، ونحتفل بمولدهم ، ونرقص ، ونغني ، ونطرب ، وننشد الأغاني حول أضرحتهم ، وذلك لأننا نحبّهم ولا أحد يستطيع أن يزيل من قلوبنا الحبّ الصّادق لرائد البطولة الخارقة

وقد نحيا ونمتليء بالأمل فنعمل ونكافح لأنّ مثل هذا الرّمز يضيء لنا الطّريق ، ويشحننا بالرغبات الطّيبة والإيمان بالشّرف.

ونحن لا نبالغ إذا اعتبرنا مولد السّيّدة زينب ومولد الحسين من الأعياد القوميّة لأمّة العرب»(١) .

__________________

(١) انظر ، مجلّة الغد عدد فبراير شباط سنة (١٩٥٩ م) صفحة ٩ تحت عنوان «مولد السّيّدة وأعيان الأمّة العربيّة». (منهقدس‌سره ).

١٨٠