الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء11%

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء
  • البداية
  • السابق
  • 528 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76167 / تحميل: 5682
الحجم الحجم الحجم
الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ISBN: ٩٦٤-٤٦٥-١٦٩-٣
العربية
١

تذكرة الفقهاء

الجزءالتّاسع

تأليف

العلامة الحلي

٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

٤

٥

كتاب الجهاد‌

وفيه فصول‌ :

٦

٧

الأوّل :

فيمن يجب عليه‌

مسألة ١ : الجهاد واجب بالنصّ والإجماع.

قال الله تعالى :( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ) (١) وقال تعالى :( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها »(٣) .

وفيه فضل كثير.

قال ابن مسعود : سألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّ الأعمال أفضل؟ قال : « الصلاة لوقتها » قلت : ثمّ أيّ؟ قال : « برّ الوالدين » قلت : ثمّ أيّ؟ قال : « الجهاد في سبيل الله »(٤) .

ومن طريق الخاصّة : قول الباقرعليه‌السلام : « إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : فوق كلّ ذي برّ برٌّ حتى يقتل في سبيل الله ، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ ، وفوق كلّ ذي عقوق عقوق حتى يقتل أحد والديه [ فإذا قتل أحد والديه ] فليس فوقه عقوق »(٥) .

ولا خلاف بين المسلمين في وجوبه ، ووجوبه على الكفاية عند عامّة‌

____________________

(١) البقرة : ٢١٦.

(٢) التوبة : ٥.

(٣) صحيح البخاري ٤ : ٢٠.

(٤) المصنّف - لابن أبي شيبة - ٥ : ٢٨٥ - ٢٨٦ ، سنن سعيد بن منصور ٢ : ١١٨ / ٢٣٠٢.

(٥) التهذيب ٦ : ١٢٢ / ٢٠٩ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٨

أهل العلم(١) ، لقوله تعالى :( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ) (٢) وهو يدلّ على سقوط الذنب بتركه.

وحكي عن سعيد بن المسيّب أنّه واجب على الأعيان ؛ لقوله تعالى :( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً ) (٣) (٤) .

وهي محمولة على ما إذا استنفرهم الإمام ؛ لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا استُنْفرتم فانفروا »(٥) .

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث السرايا ويقيم هو وأصحابه.

ومعنى وجوبه على الكفاية أنّ الخطاب به عامٌّ على جميع الناس ، فإذا قام به قوم تحصل الكفاية بجهادهم ، سقط عن الباقين.

وفروض الكفايات كثيرة مذكورة في مواضع ، وهو كلّ مهمّ ديني يريد الشرع حصوله ، ولا يقصد به عين مَنْ يتولّاه ، ومن جملته إقامة الحجج العلميّة ، والجواب عن الشبهات ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على خلاف يأتي ، والصناعات المهمّة ، كالخياطة والنساجة والبناء‌

____________________

(١) المغني والشرح الكبير ١٠ : ٣٥٩.

(٢) النساء : ٩٥.

(٣) التوبة : ٤١.

(٤) الحاوي الكبير ١٤ : ١٤٢ ، حلية العلماء ٧ : ٦٤٥ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٥٩ - ٣٦٠ ، تفسير القرطبي ٣ : ٣٨.

(٥) صحيح البخاري ٤ : ١٨ و ٢٨ و ٩٢ ، صحيح مسلم ٣ : ١٤٨٧ / ١٣٥٣ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٣ - ٤ / ٢٤٨٠ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٢٦ / ٢٧٧٣ ، سنن الترمذي ٤ : ١٤٨ - ١٤٩ / ١٥٩٠ ، سنن البيهقي ٩ : ١٦ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١٠ : ٤١٣ / ١٠٨٤٤ و ١١ : ٣٠ - ٣١ / ١٠٩٤٤.

٩

وأشباهها ، ودفع الضرر عن المسلمين ، والقضاء ، وتحمّل الشهادة ، وتجهيز الموتى ، وإنقاذ الغرقى ، وردّ السلام.

مسألة ٢ : يتعيّن الجهاد في مواضع ثلاثة :

أ - إذا التقى الزحفان وتقابل الصفّان ، حرم على مَنْ حضر الانصرافُ ، وتعيّن عليه الثبات ؛ لقوله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ) (١) الآية.

ب - إذا نزل بالبلد الكفّارُ ، تعيّن على أهله قتالهم ودفعهم.

ج - إذا استنفر الإمام قوماً ، وجب النفير معه ؛ لقوله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مالَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ) (٢) .

مسألة ٣ : والجهاد واجب في زمان دون زمان وفي مكان دون مكان.

فأمّا الزمان : فجميع أيّام السنة ما عدا الأشهر الحُرُم ؛ لقوله تعالى :( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (٣) وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرَّم ورجب ، فلا يبدأ المسلمون فيها بالقتال لمن يرى لها حرمة.

وأمّا المكان : فجميع البقاع إلّا الحرم ؛ لقوله تعالى :( وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ) (٤) .

____________________

(١) الأنفال : ١٥.

(٢) التوبة : ٣٨.

(٣) التوبة : ٥.

(٤) البقرة : ١٩١.

١٠

وقال بعض الناس من العامّة : إنّ ذلك منسوخ بجواز القتال في كلّ وقت ومكان ؛ لقوله تعالى :( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (١) (٢) وبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن الوليد إلى الطائف في ذي القعدة(٣) .

وأصحابنا قالوا : إنّ حكم ذلك باقٍ فيمن يرى لهذه الأشهر وللحرم حرمةً ، والعامّ قد يُخصّ بغيره.

مسألة ٤ : أوجب الله تعالى في كتابه الهجرة عن بلاد الشرك‌ وبقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) (٤) .

والناس في الهجرة على أقسام ثلاثة :

الأوّل : مَنْ تجب عليه ، وهو مَنْ كان مستضعفاً من المسلمين بين الكفّار لا يمكنه إظهار دينه ولا عذر لهم من وجود عجز عن نفقة وراحلة.

الثاني : مَنْ لا تجب عليه الهجرة من بلاد الكفّار لكن تُستحبّ لهم ، وهو كلّ مَنْ كان من المسلمين ذا عشيرة ورهط تحميه عن المشركين ، ويمكنه إظهار دينه والقيام بواجبه ، ويكون آمناً على نفسه ، كالعبّاس وإنّما استحبّ له المهاجرة لئلّا يكثر سواد المشركين.

الثالث : مَنْ تسقط عنه الهجرة لأجل عذر من مرضٍ أو ضعفٍ‌ أو‌

____________________

(١) التوبة : ٥.

(٢) أحكام القرآن - للكياهراسي - ١ : ٨٣ ، أحكام القرآن - للجصّاص - ١ : ٢٥٨ ، أحكام القرآن - لابن العربي - ١ : ١٠٧ ، الجامع لأحكام القرآن ٢ : ٣٥١.

(٣) اُنظر : المغازي - للواقدي - ٣ : ٩٢٣ ، وتفسير الطبري ٤ : ٣١٤ ، وتاريخ الطبري ٢ : ١٧٧ ، والطبقات الكبرى - لابن سعد - ٢ : ١٥٨.

(٤) النساء : ٩٧.

١١

عدم نفقةٍ ، فلا جناح عليه ؛ لقوله تعالى :( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ) (١) لأنّهم بمنزلة المكرهين.

والهجرة باقية أبداً مادام الشرك باقياً ؛ لما روي عنهعليه‌السلام أنّه قال : « لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها »(٢) .

وقولهعليه‌السلام : « لا هجرة بعد الفتح »(٣) محمول على الهجرة من مكة ؛ لأنّها صارت دار الإسلام أبداً ، ولا هجرة بعد الفتح فاضلة كفضلها قبل الفتح ؛ لقوله تعالى :( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ) (٤) الآية.

مسألة ٥ : يشترط في وجوب الجهاد اُمور ستّة : البلوغ والعقل والحُرّيّة والذكورة والسلامة من الضرر ووجود النفقة ، وليس الإسلام عندنا شرطاً لوجوب شي‌ء من فروع العبادات وإن كان شرطاً في صحّتها ، خلافاً لأبي حنيفة(٥) .

والبلوغ والعقل شرطان لوجوب سائر الفروع.

قال ابن عمر : عرضت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أُحد وأنا ابن أربع‌

____________________

(١) النساء : ٩٨.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٣ / ٢٤٧٩ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٤٠ ، مسند أحمد ٥ : ٦٥ - ٦٦ / ١٦٤٦٣.

(٣) صحيح البخاري ٤ : ١٨ و ٢٨ ، سنن الترمذي ٤ : ١٤٨ - ١٤٩ / ١٥٩٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٣٩ ، مسند أحمد ١ : ٣٧٤ / ١٩٩٢ ، المعجم الكبير - للطبراني - ٣ : ٣٠٩ / ٣٣٩٠.

(٤) الحديد : ١٠.

(٥) اُنظر : المستصفى ١ : ٩١ ، واُصول السرخسي ١ : ٧٤.

١٢

عشرة ، فلم يجزني في المقاتلة(١) .

والعبد لا يملك نفسه ومشغول بخدمة مولاه.

وقد روي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبايع الحُرّ على الإسلام والجهاد ، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد(٢) .

ولافتقار المجاهد إلى مال يملكه بحيث يصرفه في نفقته وزاده وحمله وسلاحه ، والعبد لا يملك شيئاً ، فهو أسوأ حالاً من الفقير.

والنساء لا يجب عليهنّ الجهاد ؛ لضعفهنّ عن القيام ، ولهذا لا يُسهم لهنّ. ولا يجب على الخنثى المشكل ؛ لعدم العلم بذكوريّته ، فلا يجب مع الشكّ في شرطه.

والمراد من السلامة من الضررِ السلامةُ من المرض والعمى والعرج ، قال الله تعالى :( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) (٣) .

ولا يسقط عن الأعور ولا عمّن عرجه يسير يتمكّن معه من الركوب والمشي من غير مشقّة ، ولا عمّن مرضه يسير لا يمنعه عنهما ، كوجع الضرس والصداع اليسير ، وإنّما يسقط عن ذي العرج الفاحش والمرض الكثير.

وأمّا وجود النفقة : فهو شرط ؛ لقوله تعالى :( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ) (٤) .

____________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٥٠ / ٢٥٤٣ ، المغني والشرح الكبير ١٠ : ٣٦١.

(٢) المغني والشرح الكبير ١٠ : ٣٦١.

(٣) الفتح : ١٧.

(٤) التوبة : ٩١.

١٣

ويشترط في النفقة الكفاية له ولعائلته مدّة غيبته ، ووجود سلاح يقاتل به ، وراحلة إن احتاج إليها ؛ لقوله تعالى :( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ) (١) .

ولو أخرج الإمام معه العبيدَ بإذن ساداتهم ، والنساءَ والصبيانَ ، جاز الانتفاع بهم في سقي الماء والطبخ ومداواة الجرحى ، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يُخرج معه اُمّ سليم وغيرها من نساء الأنصار(٢) .

ولا يخرج المجنون ؛ لعدم النفع به.

مسألة ٦ : وأقلّ ما يفعل الجهاد في كلّ عام مرّة واحدة.

قال الله تعالى :( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (٣) أوجب بعد انسلاخ الأشهر الحُرُم الجهادَ. والأصل عدم التكرار.

ولأنّ الجزية تجب على أهل الذمّة في كلّ عام ، وهي بدل عن النصرة ، فكذلك مُبْدلها ، وهو الجهاد.

ولأنّ تركهم أكثر من ذلك يوجب تقويتهم وتسلّطهم ، فيجب في كلّ عام إلّا من عذر ، مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عددٍ أو عُدّةٍ أو ينتظر الإمام مدداً يستعين به أو يكون في الطريق مانع أو عدم علف يحتاجون إليه أو عدم ماء أو يحسن رأي العدوّ في الإسلام ويطمع في إسلامهم إن أخّر قتالهم ونحو ذلك ممّا يرى المصلحة معه بترك القتال ، فيجوز تركه بهدنة‌

____________________

(١) التوبة : ٩٢.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٤٠ و ٤١ ، صحيح مسلم ٣ : ١٤٤٣ / ١٨١٠ ، سنن أبي داوُد ٣ : ١٨ / ٢٥٣١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٥٢ / ٢٨٥٦ ، سنن الترمذي ٤ : ١٣٩ / ١٥٧٥.

(٣) التوبة : ٥.

١٤

وغير هدنة ، فقد صالح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قريشاً عشر سنين وأخّر قتالهم حتى نقضوا عهده ، وأخّر قتال قبائل من العرب بغير هدنة(١) .

ولو احتاج الإمام إلى القتال في عام أكثر من مرّة ، وجب ذلك ؛ لأنّه فرض كفاية ، فوجب منه ما دعت الحاجة إليه.

مسألة ٧ : الغزو في البحر أفضل من غزو البرّ ؛ لما فيه من عظم المشقّة وكثرة الخطر ، فإنّه بين خطر العدوّ وخطر الغرق ، ولا يتمكّن من الفرار إلّا مع أصحابه ، وقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « شهيد البحر مثل شهيدَي البرّ »(٢) .

وقتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم وقد روى العامّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لأمّ خلاد : « إنّ ابنكِ له أجر شهيدين » قالت : ولِمَ ذاك يا رسول الله؟ قال : « لأنّه قتله أهل الكتاب »(٣) .

والأولى أن يبدأ بقتال مَنْ يلي دار الإسلام ؛ لقوله تعالى :( قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ ) (٤) إلّا أن يكون الخوف من الأبعد أكثر فيبدأ بهم.

والجهاد في ابتداء الإسلام لم يكن واجباً ، بل منعهم الله تعالى منه وأمر المسلمين بالصبر على أذى الكفّار والاحتمال منهم على ما قال تعالى :( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ - إلى قوله تعالى -وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٢٢٨ ، المغني ١٠ : ٣٦٢ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٦٣.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٩٢٨ / ٢٧٧٨ ، المعجم الكبير - للطبراني - ٨ : ٢٠٠ - ٢٠١ - ٧٧١٦.

(٣) سنن أبي داود ٣ : ٥ - ٦ / ٢٤٨٨ ، سنن البيهقي ٩ : ١٧٥.

(٤) التوبة : ١٢٣.

١٥

ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (١) ثمّ لمـّا قويت شوكة الإسلام أذن الله تعالى في قتال مَنْ يقاتل ، فقال( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) (٢) ثمّ أباح ابتداء القتال في غير الأشهر الحُرُم ثمّ أمر به من غير شرط في حقّ مَنْ لا يرى حرمةً للحرم والأشهر الحُرُم بقوله تعالى :( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) (٣) .

وكان فرض الجهاد في المدينة على الكفاية في ابتداء الوجوب عندنا ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : أنّه كان فرض عين(٤) .

وأمّا بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فالكفّار إن كانوا قاطنين في بلادهم غير قاصدين لقتال المسلمين ، فالجهاد لهم فرض كفاية لا فرض عين ، وإلّا لتعطّلت المعايش.

والكفاية تحصل بشيئين :

أحدهما : أن يبعث الإمام في كلّ ثغر جماعة يقومون بحرب من بإزائهم من الكفّار ويحصل بهم القصد من امتناع دخولهم إلينا ، وينبغي أن يحتاط بأحكام الحصون وحفر الخنادق ونحوها ويرتّب في كلّ ناحية أميرا قيّما بأمور الجهاد وحراسة المسلمين.

والثاني : أن يدخل(٥) دار الكفّار غازياً بنفسه أو يبعث جيشاً يؤمّر عليهم مَنْ فيه كفاية ؛ اقتداءً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث كان يبعث السرايا‌

____________________

(١) آل عمران : ١٨٦.

(٢) البقرة : ١٩٠.

(٣) البقرة : ١٩١.

(٤) الحاوي الكبير ١٤ : ١١٠ و ١١١ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٤٤ ، منهاج الطالبين : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٤١٠.

(٥) أي الإمام.

١٦

والجيوش(١) .

وأقلّه في كلّ سنة مرّة ، وما زاد فهو أفضل.

وقال بعض الشافعيّة : تجب إدامته بحسب الإمكان بحيث لا يبقى إلّا مسلم أو مسالم(٢) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ الغالب أنّ الأموال والعدد لا توفّي تجهيز الجيوش أكثر من مرّة واحدة في السنة.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فَعَل ذلك ، فإنّ غزاة بدر كانت في السنة الثانية من الهجرة ، وغزاة أُحد في الثالثة ، وغزاة ذات الرقاع في الرابعة ، وغزاة الخندق في الخامسة ، وغزاة بني المصطلق في السادسة ، وفتح خيبر في السابعة ، وفتح مكة في الثامنة ، وغزاة تبوك في التاسعة(٣) .

وإن لم يستقرّ الكفّار في بلادهم بل قصدوا بلدةً من بلاد المسلمين(٤) . قاصدين لها ، فالوجه أنّ الوجوب لا يتعيّن(٥) وصفه ، بل يكون فرضَ كفاية - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٦) - فإن قام به البعض ، وإلّا وجب على الأعيان. ويستوي في ذلك الغني والفقير والحُرّ والعبد ، ولا يحتاج إلى إذن سيّده. والثاني : أنّه فرض عين(٧) .

____________________

(١) اُنظر على سبيل المثال : سنن أبي داوُد ٣ : ٣٧ / ٢٦١٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٥٣ / ٢٨٥٧ و ٢٨٥٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٥١ ، روضة الطالبين ٧ : ٤١١.

(٣) اُنظر على سبيل المثال : تاريخ الطبري ٢ : ١٣١ و ١٨٧ و ٢٢٦ - ٢٢٧ و ٢٣٣ و ٢٦٠ و ٢٩٨ و ٣٦٦.

(٤) في « ق ، ك » : بلاد الإسلام. وفي الطبعة الحجريّة : بلد المسلمين.

(٥) أي : أنّ الوجوب لا يصير عينيّاً. وفي « ك » : « لا يتغيّر » بدل « لا يتعيّن ».

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٦٥ ، وروضة الطالبين ٧ : ٤١٦ ، منهاج الطالبين : ٣٠٧.

١٧

فإن حصلت المقاومة من غير مرافقة العبيد ، فللشافعيّة وجهان ، أحدهما : أنّ الحكم كذلك ؛ لتقوى القلوب وتعظم الشوكة وتشتدّ النكاية في الكفّار. والثاني : أنّه لا ينحلّ الحجر عنه ؛ لأنّ في الأحرار غنيةً عنهم(١) .

ولو أحوج الحال إلى الاستعانة بالنساء ، وجب.

ولو لم يتمكّن أهل البلد من التأهّب والتجمّع ، فمَنْ وقف عليه كافر أو كفّار وعلم أنّه يُقتل ، وجب عليه المدافعة عن نفسه بقدر ما يمكنه ، سواء الذكر والاُنثى ، والحُرّ والعبد ، السليم والأعمى والأعرج ، ولو لم يعلم القتل بل جوّز السلامة وأن يؤسر إن استسلم وإن امتنع قُتل ، وجب عليه الاستسلام ؛ فإنّ الأسر يحتمل معه الخلاص.

ولو امتدّت الأيدي إلى المرأة ، وجب عليها الدفع وإن قُتلت ؛ لأنّ المكره(٢) على الزنا لا تحلّ له المطاوعة(٣) .

والبلاد القريبة من تلك البلدة يجب عليهم النفور إليها مع عجز أهلها لا مع عدم العجز ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : أنّه يجب(٤) .

وأمّا البلاد البعيدة : فإن احتيج إلى مساعدتهم ، وجب عليهم النفور ، وإلّا فلا.

وللشافعيّة وجهان ، أحدهما ، عدم الوجوب على مَنْ بعد عن مسافة القصر. و [ الثاني : ](٥) يجب على الأقربين فالأقربين إلى أن يكفّوا ويأمن أهل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٦٥ - ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٤١٦.

(٢) كذا ، والأنسب بسياق العبارة : لأنّ مَنْ اُكره.

(٣) أي : لا تحلّ له المطاوعة لدفع القتل.

(٤) الوجيز ٢ : ١٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٦٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٤١٧.

(٥) زيادة يقتضيها السياق.

١٨

البلدة(١) .

وينبغي للأقربين التثبّت إلى لحوق الآخرين مع احتمال الحال ذلك.

ولا يشترط وجدان الركوب فيمن يكون بلده دون مسافة القصر مع قدرته.

وأمّا مَنْ بعد إلى مسافة القصر : فللشافعيّة وجهان : عدم الاشتراط ؛ لشدّة الخطب ، وثبوته كالحجّ(٢) . وكذا الوجهان في اشتراط الزاد(٣) .

مسألة ٨ : لو نزل الكفّار في خراب أو على جبل في دار الإسلام بعيد عن البلدان ، احتمل مساواته لنزولهم في البلد ، لأنّه من دار الإسلام ، وعدمه ، لأنّ الديار تشرف بسكون المسلمين.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

ولو أسروا مسلماً أو جماعةً من المسلمين ، فالوجه : أنّه كدخول دار الإسلام ؛ لأنّ سبب حرمة دار الإسلام حرمة المسلمين ، فالاستيلاء على المسلمين أعظم من الاستيلاء على دارهم.

ويحتمل المنع ؛ لأنّ إعداد الجيش وتجهيز الجند لواحد يقع في الأسر بعيد.

وللشافعيّة وجهان(٥) .

____________________

(١) الوجيز ٢ : ١٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٤١٧.

(٢) الوجيز ٢ : ١٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٤١٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٤١٧.

(٤) الوجيز ٢ : ١٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٤١٧ - ٤١٨.

(٥) الوجيز ٢ : ١٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٦٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٤١٨.

١٩

ولو كانوا على القرب من دار الإسلام وتوقّعنا استخلاص الاُسراء لو مشينا إليهم ، وجب. ولو توغّلوا في دار الكفر ولم يمكن التسارع إليهم ، انتظرنا الإمكان.

مسألة ٩ : الجهاد قسمان :

أحدهما : أن يكون للدعاء إلى الإسلام ، ولا يجوز إلّا بإذن الإمام العادل أو مَنْ نصبه لذلك ، عند علمائنا أجمع ؛ لأنّه أعرف بشرائط الدعاء وما يدعوهم إليه من التكاليف دون غيره.

قال بشير : قلت للصادقعليه‌السلام : رأيتُ في المنام أنّي قلتُ لك : إنّ القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير ، فقلتَ : نعم ، هو كذلك ، فقال الصادقعليه‌السلام : « هو كذلك هو كذلك »(١) .

وقال أحمد : يجب مع كلّ إمام برّ وفاجر ؛ لرواية أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الجهاد واجب عليكم مع كلّ إمام(٢) برّاً كان أو فاجراً »(٣) (٤) .

وهو محمول على القسم الثاني من نوعي الجهاد ، مع أنّ أبا هريرة طُعن في حديثه ، ولهذا أدّبه عمر(٥) على كثرة حديثه ، ولو لا التهمة في حديثه لما فعل عمر به ذلك ، خصوصاً مع معارضته للكتاب العزيز حيث‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٧ / ٢ ، التهذيب ٦ : ١٣٤ / ٢٢٦.

(٢) في المصادر : أمير.

(٣) سنن أبي داوُد ٣ : ١٨ / ٢٥٣٣ ، سنن الدار قطني ٢ : ٥٦ / ٦ ، سنن البيهقي ٣ : ١٢١ و ٨ : ١٨٥.

(٤) المغني ١٠ : ٣٦٥ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٦٦.

(٥) شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - ٤ : ٦٧ - ٦٨.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الرّأس الشّريف علوم القرآن الكريم ، والرّسول العظيم.

أيهدى إلى الشّامات رأس ابن فاطم

ويقرعه بالخيزرانة كاشحه

وتسبى كريمات النّبيّ حواسرا

تفادي الجوا من ثكلها وتراوحه

يلوح لها رأس الحسين على القنا

فتبكي وينهاها عن الصّبر لائحه

٤١
٤٢

رضا الله رضانا أهل البيت

من كلام سيّد الشّهداء أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام :

«اللهمّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك واجمعني عليك بخدمة توصلني إليك ، وكيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظّهور ما ليس لك حتّى يكون المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! عميّت عين لا تراك عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبّك نصيبا»(١) .

هكذا عرف الله سبحانه أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام . عرفوه حتّى كأنّهم يرونه وجها لوجه ، وحتّى كأنّهم يسمعون أوامره ، ونواهيه رأسا وبلا واسطة ، لقد فتح الله لهم أبواب العلوم بربوبيته وعظمته ، وأضاء لهم طرق الإخلاص له في توحيده وطاعته ، وشرّفهم بالفضائل على جميع خلقه ، فما نطقوا إلّا بكلمة الله ، وما عملوا إلّا بما يرضي الله ، وما قطعوا أمرا ، إلّا بأمر من الله. لمّا عزم الحسين على الخروج إلى العراق قام خطيبا ، وقال :

«الحمد لله ما شاء الله ، ولا قوّة إلّا بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق

__________________

(١) انظر ، كتاب الإقبال لابن طاوس : ٣٤٩ ، من دعاء الحسين يوم عرفة.

٤٣

يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النّواويس ، وكربلاء فيملأنّ منّي أكراشا جوفا ، وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، من كان باذلا فينا مهجته ، وموطّنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّني راحل ، مصبحا إنّ شاء الله تعالى»(١) .

قيل للإمام الصّادقعليه‌السلام : «بأي شيء يعلم المؤمن أنّه مؤمن؟

قال : بالتّسليم والرّضا فيما ورد عليه من السّرور أو السّخط»(٢) .

إذن لا يقاس المؤمن المخلص بالإعتقادات والعبادات ، وإنّما يقاس إيمانه وإخلاصه بالتّسليم لأمر الله ، وطيب نفسه بما يرضي الله ، ولو كان قرضا بالمقاريض ، ونشرا بالمناشير.

قال أمير المؤمنين : «أوحى الله إلى داود : تريد ، وأريد ، ولا يكون إلّا ما أريد ، فإن أسلمت لما أريد أعطيت ما تريد ، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثمّ لا يكون إلّا ما أريد»(٣) .

وقال : «... ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه ، فإنّ في الله خلفا من غيره ، وليس من الله خلف في غيره ...»(٤) .

__________________

(١) انظر ، شرح الأخبار ، القاضي النّعمان المغربي : ١٤٦ ، كشف الغمّة : ٢ / ٢٣٩ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٢٥.

(٢) انظر ، اصول الكافي : ٢ / ٦٢ ح ١٢.

(٣) انظر ، توحيد الصّدوق : ٣٣٧.

(٤) انظر ، نهج البلاغة : من كتاب لهعليه‌السلام تحت رقم (٢٧).

٤٤

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من طلب رضا مخلوق بسخط الخالق سلّط الله عليه ذلك المخلوق»(١) .

وأوضح مثال على هذه الحقيقة جزاء ابن زياد لابن سعد. قاتل هذا الحسينعليه‌السلام طمعا في ملك الرّي ، فحرمه من الملك ، ثمّ سلّط الله عليه المختار(٢) فذبحه على فراشه ، وحرمه الحياة.( فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) .

ولبى أصحاب الحسين نداءه ، ورحلوا معه ، وبذلوا مهجهم دونه طلبا لمرضاة الله ، ورغبة بلقائه وثوابه ، فلقد كان حنظلة بن أسعد الشّبامي(٤) يوم الطّفّ يقف بين يدي الحسين يقيه السّهام ، والرّماح ، والسّيوف بوجهه ونحره ، وينادي يا قوم! إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ، مثل قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، والّذين من بعدهم :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٥) ،( وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) (٦) . يا قوم لا تقتلوا حسينا :( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ

__________________

(١) انظر ، تحف العقول : ٥٢.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري ، «ثورة المختار» : ٤ / ٤٨٧ ـ ٥٧٧ و : ٧ / ١٤٦ ، الفرق بين الفرق : ٣١ ـ ٣٧ ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٨٢ ـ ١٠٨ ، الحور العين : ١٨٢ ، الأخبار الطّوال : ٢٨٢ ـ ٣٠٠ ، أخبار اليمن : ٣٢ ، الفاطميون في مصر : ٣٤ ـ ٣٨.

(٣) الرّوم : ٤٧.

(٤) الشّبامي : شبام بطن من همدان ، من القحطانية (يمن ، عرب الجنوب) كوفي.

(٥) غافر : ٣١.

(٦) غافر : ٣٠ ـ ٣٢.

٤٥

افْتَرى ) (١) .

ثمّ قال حنظلة : السّلام عليك يا أبا عبد الله ، صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك ، وعرّف بيننا وبينك في جنته ، وقاتل حتّى قتل رضوان الله عليه(٢) ، وكان من الّذين عناهم الله بقوله تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ) (٣) .

__________________

(١) طه : ٦١.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٤٣ ، مقتل الحسين : ٢ / ٢٤.

(٣) البقرة : ٢٠٧.

٤٦

روح النّبيّ والوصيّ

قال عبد الله بن عمّار ، وقد شهد معركة الطّفّ : «ما رأيت مكثورا قطّ ، قتل ولده وأهل بيته ، وأصحابه أربط جأشا من الحسين ، وإن كانت الرّجال لتشدّ عليه ، فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عنه إنكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب ، وكان يحمل فيهم ، وقد تكاملوا ثلاثين ألفا ، فينهزمون بين يديه ، كأنّهم الجراد المنتشر ثمّ يرجع إلى مركزه ، وهو يقول : «لا حوّل ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم»(١) .

لقد دهش هذا الرّاوي من شجاعة الحسين ، ومضي عزمه ، وذهل ، وهو ينظر إليه ، وقد شدّ على ثلاثين ألفا(٢) فتنكشف عنه إنكشاف المعزى إذا شدّ عليها اللّيث ، لقد دهش وذهل ، وما درى أنّه ابن عليّ القائل : «والله لو تظاهرت العرب

__________________

(١) انظر ، تأريخ بغداد : ٣ / ٣٣٤ ، شرح الأخبار : ٢ / ١٦٤ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٤٩ و ٧٠ ، المجدي في أنساب الطّالبيّين : ١٢ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢٠٤ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٩٤ ، ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر : ٣٣٣.

(٢) نعتقد أنّ عدد الجيش الأموي في كربلاء يتجاوز الأربعة آلآف ، وهو العدد الّذي يبدو مقبولا لدى المؤرّخين. فقد ورد على لسان الطّرمّاح بن عديّ في كلامه مع الحسين حين لقي الحسين في عذيب الهجانات ، قوله : «... وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من النّاس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعا أكثر منه ، فسألت عنهم ، فقيل : اجتمعوا ليعرضوا ، ثمّ يسرحون إلى الحسين انظر ، الطّبري : ٥ / ٤٠٦. وتذكر كتب المقتل عدّة روايات في عدد أفراد الجيش الأموي ، أقربها إلى تمثيل الحقيقة في نظرنا أنّ العدد يتراوح بين عشرين وثلاثين ألفا.

٤٧

على قتالي لما ولّيت عنها ، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها»(١) . وتعجب الرّاوي من صبر الحسين وإيمانه ، ونسي أنّه ابن من خاطب الله بقوله : «اللهمّ أنّك تعلم لو أنّي أعلم أنّ رضاك في أن أضع ظبّة سيفي في بطني ، ثمّ انحني عليه حتّى يخرج من ظهري لفعلت»(٢) .

أنّ أهل البيت لا يقيمون وزنا لشيء في هذه الحياة ، ولا يكترثون ، ولو ملئت الأرض عليهم خيلا ، ورجالا ، ويصبرون على التّضحية بالنّفس ، والنّساء ، والأطفال ، ويطيقون كلّ حمل إلّا سخط الله وغضبه ، فإنّهم يفرون منه ، ويعجزون عنه ، ولا يستطيعون الصّبر على اليسير منه ، مهما تكن الظّروف.

وهنا تبرز خصائص الإمامة ، والعصمة(٣) ، ونجد السّر الّذي يميّز أهل البيت عن غيرهم من النّاس الّذين يصعب عليهم كلّ شيء إلّا معصية الله ، فإنّها أهون عندهم من التّنفس ، وشرب الماء ، أنّ الحسين بشر يأكل الطّعام ، ويمشي في الأسواق ، ولكنّه يحمل صفة تجعله فوق النّاس أجمعين ، وقد أشار النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذه الصّفة بقوله : «حسين منّي ، وأنا من حسين»(٤) ، ومحمّد من نور الله ،

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الرّسالة «٢٥».

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ١ / ٣٣١٧ و : ٤ / ٢٢ و : ٥ / ٣٨ ، في عنوان «مقتل عمّار ....» ، المعيار الموازنة : ١٣٦ ، وقعة صفّين لنصر : ٣٢٠ ، سير أعلام النّبلاء : ٦ / ٦٥ ، الإصابة : ٤ / ٧٦٩.

(٣) استدل علماء الشّيعة على عصمة الإمام بأنّ الغاية من وجوده إرشاد النّاس إلى الحقّ ، وردعهم عن الباطل ، فلو أخطأ أو عصى لكان كمن يزيل القذارة بمثلها ، ولإفتقر الإمام إلى آخر ، ويتسلسل ، وهذا دليل نظري ، أمّا الدّليل العملي الملموس على عصمة عليّ وأولاده الأئمّة فسيرتهم وتضحياتهم في سبيل الحقّ ، والعدالة ، وكفى بموقف الحسين دليلا قاطعا ، وبرهانا ساطعا على عصمته. (منهقدس‌سره ).

(٤) انظر صحيح التّرمذي : ١٣ / ١٩٥ ، و : ٥ / ٦٥٦ / ٣٧٧٥ ، و : ٢ / ٣٠٧ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٥١ ح ـ

٤٨

فالحسين ، إذن من نور الله ، وقد علّق الأستاذ العلايلي على هذا الحديث : «بأنّه يفيد الإمتزاج ، والإتحاد»(١) .

قال الأستاذ العقّاد في كتاب «أبو الشّهداء» :

«ظل الحسين على حضور ذهنه ، وثبات جأشه في تلك المحنة المتراكمة الّتي تعصف بالصّبر ، وتطيش بالألباب وهو جهد عظيم لا تحتويه طاقة اللّحم والدّم. فإنّه رضى الله عنه كان يقاسي جهد العطش ، والجوع ، والسّهر ، ونزف الجراح ، ومتابعة القتال ، ويلقي باله إلى حركات القوم ومكائدهم ، ويدبّر لرهطه ما يحبطون به تلك الحركات ، ويتّقون به تلك المكائد ، ثمّ يحمل بلاءه وبلاءهم. ويتكاثر عليه وقر الأسى لحظة بعد لحظة ، كلّما فجع بشهيد من شهدائهم. ولا يزال كلّما أصيب عزيز حمله إلى جانب إخوانه ، وفيهم رمق ينازعهم وينازعونه ، وينسون في حشرجة الصّدور ما فيهم فيطلبون الماء ، ويحزّ طلبهم في قلبه كلّما أعياه الجواب ، ويرجع إلى ذخيرة بأسه ، فيستمد من هذه الآلام الكاوية عزما يناهض به الموت ، ويعرض به عن الحياة ويقول في أثر كلّ صريع : «لا خير في العيش بعدك»(٢) .

__________________

ـ ١٤٤ ، مسند أحمد : ٤ / ١٧٢ ، المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ١٧٧ ، تهذيب الكمال : ٧١ ، اسد الغابة : ٢ / ١٩ ، و : ٥ / ١٣٠ ، تيسير الوصول : ٣ / ٢٧٦ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٤٦ ، البخاري في الأدب المفرد : ح ٣٤٦ ، كنز العمّال : ٦ / ٢٢١ ، و : ١٦ / ٢٧٠ ، و : ١٣ / ١٠١ و ١٠٥ و ١٠٦ ، و : ١٢ / ١٢٩ ح ٣٤٣٢٨ ، و : ٧ / ١٠٧ ، المعجم الكبير للطّبراني : ٣ / ٣٢.

(١) انظر ، سمو المعنى في سمو الذّات : ٧٨ طبعة (١٩٣٩ م).

(٢) انظر ، كتاب «أبو الشّهداء الحسين بن عليّ» : ١٧٦ ، طبعة القاهرة.

٤٩

«لا حوّل ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم»(١) .

يمس أحدنا الخطب مسّا خفيفا فيملاء الدّنيا صراخا وعويلا ، ويمتحنه الله بنقص من المال أو الأهل ، فيخرج من عقله ودينه ، ويجرأ على خالقه بألفاظ تصم منها المسامع ، وتخرس لها الألسن. وتنهال السّهام ، والسّيوف ، والرّماح على الحسين ، ويتفجّر جسده الشّريف بالدّماء ، ويتساقط القتلى من أولاده ، وأصحابه بالعشرات ، وهو ينظر إليهم ، ثمّ لا يزيد على قول : «لا حوّل ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» ، أجل ، لقد قال حين سقط على الأرض مخاطبا ربّه ، وهو يسلّمه النّفس الأخير :

«أللهمّ أنّك قريب إذا دعيت ، محيط بما خلقت ، قابل التّوبة لمن تاب إليك ، قادر على ما أردت أدعوك محتاجا ، وأرغب إليك فقيرا ، وأفزغ إليك خائفا»(٢) .

أنت خائف من ربّك يا أبا عبد الله ، وغيرك في أمان من عقابه!. ومن أي شيء تخاف! من ظلمك وطغيانك وما ظلم أحد في الكون كما ظلمت أو من تهاونك بأمر الله ، وكنت تصلّي له في اليوم واللّيلة ألف ركعة!. أو من سكوتك عن حكّام الجور ، وترك الأمر بالمعروف. وما ضحى أحد في هذه السّبيل كما ضحيت! أو تخشى جبنك وخورك ، وقد لا قيت ثلاثين ألفا بصدرك ، وقلبك ، وكنت عنوانا لصبر الأنبياء ، ومثال الشّجاعة ، والإباء لكلّ جيل كان ويكون!

__________________

(١) انظر ، تأريخ بغداد : ٣ / ٣٣٤ ، شرح الأخبار : ٢ / ١٦٤ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٤٩ و ٧٠ ، المجدي في أنساب الطّالبيّين : ١٢ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢٠٤ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٩٤ ، ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر : ٣٣٣.

(٢) انظر ، مصباح المتهجّد : ٨٢٧ ، إقبال الأعمال : ٣ / ٣٠٤.

٥٠

إذا ماذا أراد الحسين بقوله : «وأفزع إليك خائفا»(١) . أنّه أراد أن يقول لله سبحانه : على الرّغم من كلّ ما حلّ بي يا إلهي فأنا طيّب النّفس ، صابر على امتحانك وبلائك ، راض بحكمك وقضائك ، وما أنا بمتألم ولا متبرم ، لأنّه لا مطمح لي إلّا رضاك ، فإن تألمت وخفت من شيء فإنّما أخاف أن تمنعني حبّك وقربك.

وهنا يقف العقل حائرا ومتسائلا : هل في الكون أعظم ، وأكبر منزلة عند الله من الحسين؟؟ هل ضحى أحد في سبيل الله ، والحقّ كما ضحى الحسين ، وهل وجد من هو في عمقه ورحابته؟! ولو ابتلي أحد بما ابتلي به الحسين لوجدنا وجها للموازنة والمقارنة. لقد سمعنا بمن ضحى بنفسه ، أو بماله ، أو بأولاده ، أمّا من ضحى بكلّ هذه مجتمعة ، أمّا من ذبح أطفاله الصّغار والكبار ، وقتل جميع أهل بيته وأصحابه ، وسبيت نساؤه ، واحرقت دياره ، ونهبت أمواله ، ورفع رأسه على الرّمح ، ووطأت الخيل صدره وظهره ، أمّا كلّ هذه مجتمعة فلم تكن لأحد غير الحسين ، ولن تكون أبدا! وبالتالي ، فإنّنا نتساءل : هل في الكون أعظم من الحسين؟ ونحن نؤمن بأنّه الصّورة الكاملة لعظمة جدّه محمّد ، وأبيه عليّ.

__________________

(١) انظر ، المصدر السّابق.

٥١
٥٢

خروج الإمام بأهله

قامت المرأة بدور هام في وقعة الطّفّ ، وكان لها أبعد الأثر في الكشف عن مخازي الأمويّين ، وانهيار حكمهم ، وتألّب النّاس عليهم ، فمن النّساء من دفعت بابنها أو زوّجها إلى القتل بين يدي الحسين تقربا إلى الله ، والرّسول ، كما فعلت أمّ وهب وزوّجته ، ومنهنّ من حملنّ السّلاح للدّفاع عن نساء النّبيّ وأطفاله ، ومنهنّ من تظاهرنّ ضدّ حكّام الجور الّذين قتلوا ابن بنت رسول الله ، ورشقنّ جيش الطّغاة بالحجارة هاتفات بسب يزيد وابن زياد.

أرسل الحسين رسولا إلى زهير بن القين ليأتيه ، ولمّا دخل عليه الرّسول وجده مع قومه يتغذون ، وحين أبلغه رسالة الحسين طرح على كلّ إنسان ما في يده ، وجمد حتّى كأنّ على رأسه الطّير ، فالتفتت امرأة زهير ، وقالت : يا سبحان الله! أيبعث إليك ابن رسول الله ، ثمّ لا تأتيه؟! فذهب زهير إلى الحسين ، وما لبث أن جاء مستبشرا مشرق الوجه ، وقال : قد عزمت على صحبة الحسين لأفديه بنفسي ، واقيه بروحي ، ثمّ التفت إلى زوّجته ، وقال لها : أنت طالق ، إلحقي بأهلك ، فإنّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير ، وأعطاها ما لها ، وسلّمها إلى بعض أهلها. فقامت إليه ، وبكت وودعته قائلة : «كان الله عونا ومعينا لك ، خار

٥٣

الله لك ، أسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسين»(١) .

لقد دفعت هذه الحرّة المصونة المؤمنة بزوّجها إلى سعادة الدّارين ونالت الدّرجات العلى عند الله والنّاس ، فما زال اسمها يعلن على المنابر ويدوّن في الكتب مقرونا بالحمد والثّناء إلى يوم يبعثون ، وهي في الآخرة مع جدّ الحسين وأبيه وأمّه ، وحسن أولئك رفيقا ، وهكذا المرأة العاقلة المؤمنة تدفع بزوّجها إلى الخير ، وتردعه عن الشّر ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

وكانت امرأة من بني بكر بن وائل مع زوّجها في أصحاب عمر بن سعد ، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على أطفال الحسين ، ونساؤه هاربات حاسرات ، يستغثنّ ويندبنّ ، ولا مغيث ، اسودّ الكون في وجهها ، وفار الدّم في قلبها وعروقها ، وأخذت سيفا ، وأقبلت نحو الفسطاط منادية : يا آل بكر أتسلب بنات رسول الله؟! لا حكم إلا لله! يا لثارات رسول الله! فأخذها زوّجها ، وردها إلى رحله(٢) .

وليس من شك أنّ ثورة هذه السّيّدة النّبيلة قد بعثت الإستياء والنّقمة على الأمويّين ، وملأت النّفوس عليهم وعلى سلطانهم حقدا وغيظا ، وكلّ ما حدث في كربلاء ، وفي الكوفة ، وفي مسير السّبايا إلى الشّام كان من أجدى الدّعايات وأنفعها ضدّ الأمويّين.

أمر ابن زياد أن يطاف بالرّأس الشّريف في أزقّة الكوفة يهدد به كلّ من تحدّثه

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٩٨ ، مقتل الحسينعليه‌السلام ، لأبي مخنف : ٧٤ و ١١٣ ، روضة الواعظين : ١٧٨ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٤ ، و : ٤ / ٣٢٠ ، إعلام الورى : ١ / ٤٥٧ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ٩٥ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٢٥٠ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩٣ ، الأخبار الطّوال : ٢٥٦ ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٢) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٧٨.

٥٤

نفسه بالخروج عن طاعته ، وطاعة أسياده ، فكان هذا التّطوّف خير وسيلة لنشر الدّعوة العلوية ، ومبدأ التّشيّع لأهل البيت ، ولعن من شايع ، وبايع ، وتابع على قتل الحسين ، وسلام الله على السّيّدة الحوراء حيث قالت ليزيد : «فو الله ما فريت إلّا جلدك ، وما حززت إلّا لحمك»(١) .

وبعد الطّواف بالرّأس أرسله ابن زياد وسائر الرّؤوس إلى يزيد مع أبي بردة ، وطارق بن ضبّان في جماعة من أهل الكوفة ، ثمّ أمر بنساء الحسين وصبيانه فشدّوا بالحبال على أقتاب الجمال مكشوفات الوجوه ، ومعهم الإمام زين العابدين قد وضعت الأغلال في عنقه ، وسرّح بهم ابن زياد مع مخفر بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن(٢) ، فأسرعا حتّى لحقا بالقوم الّذين معهم الرّؤوس ، وكانوا إذا مرّوا ببلد استقبلهم أهله بالمظاهرات ، والهتافات المعادية ، ورشقتهم النّساء والأطفال بالحجارة يصرخون بهم : يا فجرة ، يا قتلة أولاد الأنبياء.

سبوا الأطفال ، والنّساء ، وطافوا بهنّ وبالرّؤوس ليقضوا على مبدأ عليّ وأبناء عليّ ، فكان السّبي ، والتّطوّاف ، ضربة مميتة لهم ولسطانهم ، ووسيلة حقّقت الغاية الّتي أرادها الحسين من نهضته ، فلقد أثار السّبي الأحزان ، والأشجان في كلّ نفس ، وزاد من فجائع الواقعة المؤلمة ، وكشف أسرار الأمويّين للقاصي والدّاني ، وظهرت قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل ، واستبان للمسلمين في

__________________

(١) انظر ، الإحتجاج : ٢ / ٣٦ ، مثير الأحزان لابن نما : ٨١ ، مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي : ٢٢٧. (٢) انظر ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٩٢ ، ميزان الإعتدال : ١ / ٤٤٩ ، لسان الميزان : ٣ / ١٥٢ ، تأريخ علماء الأندلس : ١ / ١٦٦ ، جمهرة الأنساب : ٢٧٠ ، اللّباب : ٢ / ٦٩ ، المحبّر : ٣٠١ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٤٩ و : ٥ / ٤٥٥ ـ ٤٥٦ ، مثير الأحزان : ٦٥ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٦٠ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ١٦٣ ، الأخبار الطّوال : ٢٥٩ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٢٠٤.

٥٥

كلّ مكان وزمان إلّا الأمويّين أعدى أعداء الإسلام يبطنون الكفر ، ويظهرون الإيمان رياء ونفاقا.

وبذلك نجد الجواب عن هذا السّؤال : لماذا صحب الحسين معه النّساء والأطفال إلى كربلاء؟! وما كان أغناه عن تعرضهم للسّبي والتّنكيل؟!.

لقد صحبهم معه الحسين ليطوفوا بهم في البلدان ، ويراهم كلّ إنسان مكشّفات الوجوه ، يقولون للنّاس ـ وفي أيديهم الأغلال والسّلاسل ـ : «أيّها النّاس انظروا ما فعلت أميّة الّتي تدّعي الإسلام بآل نبّيكم».

نقل عن السّبط ابن الجوزي عن جدّه أنّه قال : «ليس العجب أن يقتل ابن زياد حسينا ، وإنّما العجب كل العجب أن يضرب يزيد ثناياه بالقضيب ، ويحمل نساءه ، سبايا على أقتاب الجمال! ...»(١) . لقد رأى النّاس في السّبايا من الفجيعة أكثر ممّا رأوا في قتل الحسين ، وهذا بعينه ما أراده الحسين من الخروج بالنّساء والصّبيان ، ولو لم يخرج بهنّ لما حصل السّبي والتّنكيل ، وبالتالي لم يتحقّق الهدف الّذي آراه الحسين من نهضته ، وهو إنهيار دولة الظّلم ، والطّغيان.

ولو افترض أن السّيّدة زينب بقيت في المدينة ، وقتل أخوها في كربلاء فماذا تصنع؟! وأي عمل تستطيع القيام به غير البكاء وإقامة العزاء؟!.

وهل ترضى لنفسها ، أو يرضى لها مسلم أن تركب جملا مكشوفة الوجه

__________________

(١) انظر ، تذكرة الخواصّ : ١٤٨ طبعة لكنهو ، صورة الأرض لابن حوقل : ١٦١ ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٣٥ ، مروج الذّهب للمسعودي : ٢ / ٩١ ، والعقد الفريد : ٢ / ٣١٣ ، أعلام النّساء : ١ / ٥٠٤ ، ومجمع الزّوائد : ٩ / ١٩٨ ، الشّعر والشّعراء : ١٥١ ، الأشباه والنّظائر : ٤ ، الأغاني : ١٢ / ١٢٠ ، الفتوح لابن أعثم : ٥ / ٢٤١ ، شرح مقامات الحريري : ١ / ١٩٣ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩٧ ، الطّبري في تأريخه : ٦ / ٢٦٧ ، و : ٤ / ٣٥٢ ، الآثار الباقية للبيروني : ٣٣١ طبعة اوفسيت ، قريب منه.

٥٦

تنتقل من بلد إلى بلد تؤلّب النّاس على يزيد ، وابن زياد؟! وهل كان يتسنى لها الدّخول على ابن زياد في قصر الإمارة ، وتقول له في حشد من النّاس : «الحمد لله الّذي أكرمنا بنّبيه محمّد ، وطهرنا من الرّجس تطهيرا ، إنّما يفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا والحمد لله»(١) ؟! وهل كان بإمكانها أن تدخل على يزيد في مجلسه وسلطانه ، وتلقي تلك الخطب الّتي أعلنت بها فسقه ، وفجوره ، ولعن آبائه ، وأجداده على رؤوس الأشهاد؟!.

أنّ السّيّدة زينب لا تخرج من بيتها مختارة ، ولا يرضى المسلمون لها بالخروج مهما كان السّبب ، حتّى ولو قطّع النّاس يزيد بأسنانهم ، ولكن الأمويّين هم الّذين أخرجوها ، وهم الّذين ساروا بها ، وهم الّذين أدخلوها في مجالسهم ، ومهدوا لها طريق سبّهم ولعنهم ، والدّعاية ضدّهم وضدّ سلطانهم.

ومرّة ثانية نقول : هذه هي المصلحة في خروج الحسين بنسائه وأطفاله إلى كربلاء ، وما كان لأحد أن يدركها في بدء الأمر إلّا الحسين وأخته زينب ، عهد إلى الحسين من أبيه عليّ عن جدّه محمّد عن جبريل عن ربّ العالمين. سرّ لا يعلمه إلّا الله ، ومن ارتضاه لعلمه ورسالته.

__________________

(١) انظر ، الإرشاد : ٢ / ١١٥ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ١ / ٤٧١ ، ينابيع المودّة لذوي القربى : ٣ / ٨٧.

٥٧
٥٨

ما ذنب أهل البيت

سؤال ردّدته الأجيال منذ القديم ، ويردّده الآن كلّ إنسان ، وسيبقى خالدا إلى آخر يوم لا يقطعه مرور الزّمن ، ولا تحول دونه الحوادث وإن عظمت.

سؤال نظمه الشّعراء في آلاف القصائد ، ودونه الكتّاب في مئات الكتب ، وأعلنه الخطباء على المنابر في كلّ جزء من أحزاء المعمورة.

سؤال ردّده المؤمن والجاحد ، والكبير والصّغير حتّى الأطفال.

سؤال كبير في معناه ، صغير في مبناه يعبّر عنه بكلمتين فقط ، وهذا هو :

ما ذنب أهل البيت

حتّى منهم أخلوا ربوعه

تركوهم شتّى مصا

ئبهم وأجمعها فظيعه

فمغيّب كالبدر تر

تقب الورى شوقا طلوعه

ومكابد للسّم قد

سقيت حشاشته نقيعه

ومضرج بالسّيف آ

ثر عزّه وأبى خضوعه

ومصفّد لله سلّم

أمر ما قاسى جميعه

وسليبة باتت بأفعى

الهمّ مهجتها لسيعه

ومرّة ثانية

ما ذنب أهل البيت حتّى منهم أخلوا ربوعه؟!.

٥٩

وأي ذنب أعظم من ذنب الحرّة الطّاهرة عند الفاجرات العاهرات؟! وأي جرم أكبر من جرم الأمين المجاهد في سبيل الله عند الخونة الّذين باعوا دينهم وضمائرهم للشّيطان؟! وأي إساءة تعادل إساءة المحقّ عند المبطلين؟! وأي عداء أقوى من عداء الجهلة السّفهاء للعالم الشّريف؟!.

ألا يكفي أهل البيت من الذّنوب أن يشهد القرآن بقداستهم وتطهيرهم ، وأن تعلن الإذاعات في شرق الأرض وغربها في كلّ يوم ، وفي كلّ صباح ومساء :( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) ؟! ألّا يكفي

__________________

(١) لا بدّ لنا من تحديد معنى (الأهل) لغة واصطلاحا ـ كما وردت في كتاب الله ، وأحاديث رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقواميس اللّغة العربيّة ، وذلك لقطع الطّريق على المتلاعبين ، وإلقاء الحجة على الآخرين ، وليكن تحديدنا على نحو الإستعراض السّريع.

فالأهل في اللّغة : أهل الرّجل ، عشيرته ، وذو وقرباه ، جمعه : أهلون ، وأهلات ، وأهل. يأهل ويأهل أهولا وتأهل واتّهل : اتّخذ أهلا.

وأهل الأمر : ولاته ، وللبيت سكّانه ، وللمذهب من يدين به ، وللرّجل زوّجته كأهلته ، وللنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أزواجه ، وبناته ، وصهره عليّعليه‌السلام أو نساؤه ، والرّجال الّذين هم آله ، ولكلّ نبيّ أمّته ، ومكان آهل ، له أهل ومأهول ، فيه أهل (انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي).

وذكر في المعجم الوسيط تعريفا آخر للأهل : الأهل : الأقارب ، والعشيرة ، والزّوجة ، وأهل الشّيء : أصحابه ، وأهل الدّار ونحوها : سكّانها.

وذكر الرّازي صاحب مختارات الصّحاح معنى الأهل فقال : من الأهالة ، والأهالة لغة : الودك والمستأهل هو الّذي يأخذ الأهالة ، والودك دسم اللّحم ، والبيت عيال الرّجل والأهل ، والأرقاب ، والعشيرة ، والزّوجة ، وأهل الشّيء أصحابه ، وأهل الدّار سكّانها.

إذن ، كلمة «أهل» عند ما تطلق فإنّها تحتمل عدّة معان ، فربّما تعني : الزّوجة فقط ، أو الأولاد فقط ، أو الزّوجة والأولاد معا ، أو الأرقاب والعشيرة ، إلى غير ذلك. ولذا نجد كلّ واحدة من هذه المعاني قد وردت في القرآن الكريم ، حيث قال تعالى : ( فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ ـ

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528