لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام

لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام0%

لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام مؤلف:
المحقق: السيد حسن الأمين
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 198

  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15289 / تحميل: 2931
الحجم الحجم الحجم
لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام

لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام

مؤلف:
العربية

انعاك يا هاني ، فقال محمد بن الأشعث : قد رضينا بما رأى الأمير لنا كان أم علينا انما الأمير مؤدب.

وفي رواية ان ابن زياد قال لهاني لما دخل عليه : يا هاني اما تعلم ان أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحدا من هذه الشيعة الا قتله غير أبيك وغير حجر وكان من حجر ما قد علمت ، ثم لم يزل يحسن صحبتك ، ثم كتب الى أمير الكوفة ان حاجتي قبلك هاني ، قال : نعم ، قال : فكان جزائي ان خبأت في بيتك رجلا يقتلني ، قال : ما فعلت فعند ذلك أخرج الذي كان عينا عليهم.

وبلغ عمرو بن الحجاج ان هانيا قد قتل ، فاقبل في مذحج حتى احاط بالقصر ومعه جمع عظيم ثم نادى وقال : انا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة وقد بلغهم ان صاحبهم قد قتل فاعظموا ذلك ، فقيل لابن زياد : هذه فرسان مذحج بالباب ، فقال لشريح القاضي : أدخل على صاحبهم فانظر اليه ثم أخرج وأعلمهم انه حي لم يقتل ، فدخل شريح فنظر اليه فقال هاني لما رأى شريحا : يا لله يا للمسلمين أهلكت عشيرتي أين أهل المصر والدماء تسيل على لحيته اذ سمع الصيحة على باب القصر فقال : اني لأظنها اصوات مذحج وشيعتي من المسلمين انه ان دخل علي عشرة نفر انقذوني ، فلما سمع كلامه شريح خرج اليهم فقال لهم : ان الأمير لما بلغه كلامكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول اليه فأتيته فنظرت اليه فأمرني ان القاكم وأعرفكم انه حي وان الذي بلغكم من قتله باطل ، فقال له عمرو بن الحجاج وأصحابه : اما اذا لم يقتل فالحمد لله ثم انصرفوا.

ولما ضرب عبيد الله هانئا وحبسه خاف ان يثب به الناس ، فخرج فصعد المنبر ومعه اشراف الناس وشرطه وحشمه ، فخطب خطبة موجزة وحذر الناس وهددهم ، فما نزل حتى دخلت النظارة المسجد من قبل باب التمارين

٤١

يشتدون ويقولون : قد جاء ابن عقيل ، فدخل عبيد الله القصر مسرعا وأغلق ابوابه. قال عبد الله بن حازم : انا والله رسول ابن عقيل الى القصر لأنظر ما فعل هاني ، فلما ضرب وحبس ركبت فرسي فكنت أول داخل الدار على مسلم بن عقيل بالخبر ، فاذا نسوة من مراد مجتمعات ينادين يا عبرتاه يا ثكلاه ، فدخلت على مسلم فأخبرته الخبر فأمرني ان أنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله وكانوا فيها أربعة آلاف رجل ، فقال لمناديه : ناد يا منصور أمت وكان ذلك شعارهم فنادى ، فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه فاجتمع اليه أربعة آلاف ، فعقد لعبد الله بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة وقال : سر أمامي في الخيل ، وعقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد وقال : انزل في الرجال ، وعقد لأبي تمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة ، وعبأ ميمنته وميسرته ووقف هو في القلب وأقبل نحو القصر ، وتداعى الناس واجتمعوا فما لبثنا الا قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق وما زالوا يتوثبون حتى المساء ، وبعث عبيد الله الى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر ، وأحاط مسلم بالقصر فضاق بعبيد الله أمره ، وكان أكثر عمله ان يمسك باب القصر وليس معه ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من اشراف الناس وأهل بيته وخاصته ، وأقبل من نأى عنه من اشراف الناس يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميين ، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون على أصحاب مسلم فينظرون اليهم وأصحاب مسلم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم ويفترون على عبيد الله وعلى أمه وأبيه ، فدعا ابن زياد كثير بن شهاب وامره ان يخرج فيمن اطاعه من مذحج فيسير في الكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب ويحذرهم عقوبة السلطان ، وأمر محمد بن الأشعث ان يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضر موت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس ، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي

٤٢

وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن ابجر السلمي (العجلي خ ل) وشمر بن ذي الجوشن العامري (الضبابي خ ل) وحبس باقي وجوه الناس عنده استيحاشا اليهم لقلة عدد من معه من الناس ، فخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن مسلم ، وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة ، فبعث ابن عقيل الى محمد بن الأشعث عبد الرحمن بن شريح الشيباني ، فلما رأى ابن الأشعث كثرة من أتاه تأخر عن مكانه ، وجعل محمد بن الأشعث وكثير بن شهاب والقعقاع وشبث بن ربعي يردون الناس عن اللحوق بمسلم ويخوفونهم السلطان ، حتى اجتمع اليهم عدد كثير من قومهم وغيرهم ، فصاروا الى ابن زياد من قبل دار الروميين ، فقال له كثير : أصلح الله الأمير معك في القصر ناس كثير فاخرج بنا اليهم فأبى عبيد الله ، وعقد شبث بن ربعي لواء فأخرجه ، وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء وأمرهم شديد ، فأمر عبيد الله من عنده من الاشراف أن يشرفوا على الناس فيمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة ويخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة ويعلموهم وصول الجند من الشام اليهم. وتكلم كثير بن شهاب حتى كادت الشمس ان تغرب فقال : أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ولا تعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن أقمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم ان يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتليكم في مغازي الشام ، وان يأخذ البريء منكم بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له بقية من أهل المعصية الا اذاقها وبال ما جنت أيديها. وتكلم الاشراف بنحو من ذلك ، فلما سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرقون ، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها فتقول : انصرف الناس يكفونك ، ويجيء الرجل الى ابنه وأخيه ويقول : غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر انصرف فيذهب به فينصرف ، فما زالوا يتفرقون حتى أمسى ابن عقيل في خمسمائة ، فلما اختلط الظلام جعلوا يتفرقون ،

٤٣

فصلى المغرب وما معه الا ثلاثون نفسا في المسجد ، فلما رأى انه قد أمسى وليس معه الا أولئك النفر خرج متوجها الى أبواب كندة فلم يبلغ الأبواب الا ومعه عشرة ، ثم خرج من الباب فاذا ليس معه انسان ، فالتفت فاذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق ولا يدله على منزله ولا يواسيه بنفسه ان عرض له عدو ، فمضى على وجهه متحيرا في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب ، حتى خرج الى دور بني جبلة من كندة فمضى حتى اتى الى باب امرأة يقال لها طوعة ام ولد كانت للأشعث بن قيس فأعتقها وتزوجها السيد الحضرمي فولدت له بلالا ، وكان بلال قد خرج مع الناس وأمه قائمة تنتظره ، فسلم عليها ابن عقيل فردتعليه‌السلام وطلب منها ماء فسقته وجلس ، ودخلت ثم خرجت فقالت : يا عبد الله ألم تشرب؟ قال : بلى ، قالت : فاذهب الى أهلك فسكت ، ثم أعادت مثل ذلك فسكت ، ثم قالت في الثالثة : سبحان الله يا عبد الله قم عافاك الله إلى أهلك فانه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحله لك ، فقام وقال : يا أمة الله ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة فهل لك في أجر ومعروف ولعلي مكافيك بعد هذا اليوم ، قالت : يا عبد الله وما ذاك؟قال : انا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغروني وأخرجوني ، قالت :أنت مسلم؟ قال : نعم ، قالت : أدخل فدخل الى بيت في دارها غير البيت الذي تكون فيه وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ ، ولم يكن بأسرع من ان جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه فقال لها : والله انه ليريبني كثرة دخولك الى هذا البيت وخروجك منه منذ الليلة ان لك لشأنا ، قالت له : يا بني اله عن هذا ، قال : والله لتخبريني ، قالت له ، اقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء ، فألحّ عليها فقالت ، يا بني لا تخبرن أحدا من الناس بشيء مما أخبرك به ، قال : نعم فأخذت عليه الايمان فحلف لها فأخبرته فاضطجع وسكت.

٤٤

ولما تفرق الناس عن مسلم طال الأمر على ابن زياد وجعل لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا كما كان يسمع اولا ، فقال لأصحابه : اشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحدا فأشرفوا فلم يجدوا أحدا ، قال : فانظروهم لعلهم تحت الظلال(١) قد كمنوا لكم ، فنزعوا الأخشاب من سقف المسجد وجعلوا يخفضون بشعل النار في ايديهم وينظرون وكانت أحيانا تضيء لهم وتارة لا تضيء كما يريدون ، فدلوا القناديل وأطنان القصب تشد بالحبال ثم تجعل فيها النيران ثم تدلى حتى تنتهي الى الأرض ، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها فلا يرون أحدا حتى فعل ذلك بالظلة التي فيها المنبر ، فلما لم يروا شيئا اعلموا ابن زياد بتفرق القوم ، ففتح باب السدة(٢) التي في المسجد ثم خرج فصعد المنبر وخرج اصحابه معه وأمرهم فجلسوا قبيل العتمة(٣) ، وأمر عمر بن نافع فنادى الا برئت الذمة من رجل من الشرط(٤) أو العرفاء(٥) والمناكب(٦) أو المقاتلة صلّى العتمة الا في المسجد ، فلم يكن الا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس ، ثم أمر مناديه فأقام الصلاة وأقام الحرس خلفه ، وأمرهم بحراسته من أن يدخل اليه من يغتاله وصلى بالناس ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

__________________

(١) الظلال بالكسر جمع ظلة والظلة بالضم كهيئة الصفة ، والصفة بناء في الدار معروف (منه).

(٢) السدة بالضم سقيفة أمام باب الدار وما يبقى من الطاق المسدود ، وسدة المسجد الأعظم ما حوله من الرواق. قالوا : والسدة باب الدار والبيت ، يقال رأيته قاعدا بسدة بابه وبسدة داره مع ان قولهم سدة بابه يدل على أن السدة غير الباب (منه).

(٣) العتمة وقت صلاة العشاء الآخرة (منه).

(٤) الشرط كصرد طائفة من أعوان الولاة معروفة ، واحده شرطة بالضم فالسكون وهو شرطي كتركي وشرطي كجهني ، سموا بذلك لأنهم اعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها (منه).

(٥) جمع عريف كامرء وأمير وهو الرئيس كما تقدم (منه).

(٦) المناكب رؤوس العرفاء كما مر (منه).

٤٥

أما بعد فان ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره ومن جاء به فله ديته ، اتقوا الله عباد الله والزموا طاعتكم وبيعتكم ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا ، يا حصين بن نمير ، وهو صاحب شرطته ، ثكلتك أمك ان ضاع باب من سكك الكوفة وخرج هذا الرجل ولم تأتني به ، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة فابعث مراصد على أهل الكوفة ودورهم ، وأصبح غدا واستبرأ الدور وجس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل ، ثم دخل القصر وقد عقد لعمرو بن حريث راية وأمره على الناس ، فلما أصبح جلس مجلسه واذن للناس فدخلوا عليه ، وأقبل محمد بن الأشعث فقال مرحبا بمن لا يستغش ولا يتهم ، ثم أقعده الى جنبه.

وأصبح ابن تلك العجوز فغدا الى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان مسلم بن عقيل من أمه ، فأقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فساره ، فعرف ابن زياد سراره ، فقال له ابن زياد في جنبه بالقضيب : قم فاتني به الساعة ، فقام وبعث معه قومه لأنه علم ان كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل مسلم ، فبعث معه عبيد الله(١) بن العباس السلمي في سبعين رجلا من قيس حتى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلما سمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم انه قد اتي فخرج اليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، ثم عادوا اليه فشد عليهم كذلك فأخرجهم مرارا وقتل منهم جماعة ، واختلف هو وبكر بن حمران الأحمري ضربتين فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى وفصلت لها ثنيتاه ، وضربه مسلم في رأسه

__________________

(١) في جميع المواضع التي ذكر فيها في هذا المقام عبيد الله بن العباس السلمي ، ذكر بدله في كامل ابن الأثير عمرو بن عبيد الله بن العباس السلمي (منه).

٤٦

ضربة منكرة وثناه بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع الى جوفه ، فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطنان القصب ثم يرمونها عليه من فوق البيت ، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتا سيفه في السكة ، فقال محمد بن الأشعث ، لك الأمان لا تقتل نفسك وهو يقاتلهم ويرتجز بأبيات حمران بن مالك الخثعمي يوم القرن :

أقسمت لا أقتل الا حرا

وأن رأيت الموت شيئا نكرا

أخاف أن أكذب أو اغرا

أو أخلط البارد سخنا مرا

رد شعاع الشمس فاستقرا

كل امرىء يوما ملاق شرا

أضربكم ولا أخاف ضرا

فقال له محمد بن الأشعث : انك لا تكذب ولا تغر ولا تخدع ان القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضائريك ، وكان قد أثخن بالحجارة وعجز عن القتال فأسند ظهره الى جنب تلك الدار ، فأعاد ابن الأشعث عليه القول لك الأمان ، فقال آمن أنا؟ قال : نعم ، فقال للقوم الذين معه : الي الأمان؟ قال القوم له : نعم الا عبيد الله بن العباس السلمي فانه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل وتنحى ، فقال مسلم : أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم.

وفي رواية انه لما سمع وقع حوافر الخيل لبس درعه وركب فرسه وجعل يحاربهم حتى قتل منهم جماعة ، وفي رواية أحد وأربعين رجلا ، فنادى اليه ابن الأشعث لك الأمان ، فقال : وأي أمان للغدرة الفجرة ، وأقبل يقاتلهم ويرتجز بالأبيات المتقدمة ، فنادوا اليه انك لا تكذب ولا تغر فلم يلتفت الى ذلك ، وتكاثروا عليه بعد ان أثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه الى الأرض فأخذ أسيرا.

قال الراوي فأتي ببغلة فحمل عليها واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه وكأنه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ثم قال : هذا أول الغدر ، فقال

٤٧

له محمد بن الأشعث : أرجو أن لا يكون عليك بأس ، قال : وما هو الا الرجاء أين أمانكم انّا لله وإنّا إليه راجعون وبكى ، فقال له عبيد الله بن العباس : ان من يطلب مثل الذي تطلب اذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبك ، فقال : والله ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل ارثي وان كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا ، ولكني ابكي لأهلي المقبلين الي ، ابكي لحسين وآل حسين.ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال : يا عبد الله اني أراك والله ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير تستطيع ان تبعث من عندك رجلا على لساني ان يبلغ حسينا فاني لا أراه الا وقد خرج اليوم أو هو خارج غدا وأهل بيته ، ويقول له ان ابن عقيل بعثني اليك وهو أسير في ايدي القوم لا يرى انه يمسي حتى يقتل ، وهو يقول لك ارجع فداك ابي وأمي بأهل بيتك ولا يغررك أهل الكوفة فانهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل ، ان أهل الكوفة قد كذبوك وليس لمكذوب رأي ، فقال ابن الأشعث : والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد اني قد أمنتك.

وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل الى باب القصر واستأذن ودخل على ابن زياد فأخبره خبر ابن عقيل وضرب بكر إياه وما كان من أمانه ، فقال له عبيد الله : وما أنت والأمان كأنا أرسلناك لتؤمنه ، انما أرسلناك لتأتينا به فسكت.

وانتهي بابن عقيل الى باب القصر وقد اشتد به العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الاذن فيهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمرو بن حريث ومسلم بن عمرو الباهلي(١) وكثير بن شهاب ، واذا قلة(٢) فيها ماء بارد موضوعة على الباب ، فقال مسلم : اسقوني من هذا الماء ، فقال

__________________

(١) هو والد قتيبة بن مسلم أمير خراسان المشهور (منه).

(٢) اي جرة (منه).

٤٨

له مسلم بن عمرو : أتراها ما ابردها لا والله لا تذوق منها قطرة ابدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم ، فقال له مسلم : ويلك من أنت؟ فقال : انا الذي عرف الحق اذ أنكرته ونصح لامامه اذ غششته واطاعه اذ خالفته ، انا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له ابن عقيل : لأمك الثكل ما أجفاك وأفظك وأقسى قلبك انت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني ، ثم جلس فتساند الى الحائط وبعث عمرو بن حريث وقيل عمارة بن عقبة غلاما له فأتاه بقلة عليها منديل وقدح فصب فيه ماء فقال له : اشرب ، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما من فمه فلا يقدر ان يشرب ففعل ذلك مرة أو مرتين ، فلما ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه في القدح فقال : الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته ، وفي ذلك يقول المؤلف من قصيدة يرثي بها مسلما رضي الله عنه :

يا مسلم بن عقيل لا أغب ثرى

ضريحك المزن هطالا وهتانا

بذلت نفسك في مرضاة خالقها

حتى قضيت بسيف البغي ظمآنا

كأنما نفسك اختارت لها عطشا

لما درت ان سيقضي السبط عطشانا

فلم تطق ان تسيغ الماء عن ظمأ

من ضربة ساقها بكر بن حمرانا

وخرج رسول ابن زياد فأمر بادخاله اليه ، فلما دخل مسلم لم يسلم عليه بالأمرة ، فقال له الحرسي : الا تسلم على الأمير فقال : ان كان يريد قتلي فما سلامي عليه وان كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه ، فقال له ابن زياد : لعمري لتقتلن ، قال : فدعني أوصي الى بعض قومي ، قال : افعل ، فنظر مسلم الى جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد فقال : يا عمران بيني وبينك قرابة ولي اليك حاجة وهي سر ، فامتنع عمر أن يسمع منه ، فقال له ابن زياد : ولم تمتنع ان تنظر في حاجة ابن عمك ، فقام معه فجلس بحيث ينظر اليهما ابن زياد ، فقال له : ان علي بالكوفة دينا سبعمائة درهم فبع سيفي

٤٩

ودرعي فاقضها عني ، واذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها ، وابعث الى الحسينعليه‌السلام من يرده فاني قد كتبت اليه أعلمه ان الناس معه ولا أراه الا مقبلا ، فقال عمر لابن زياد : اتدري أيها الأمير ما قال لي انه ذكر كذا وكذا ، فقال ابن زياد : لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن ، اما ماله فهو له ولسنا نمنعك ان تصنع به ما أحب ، واما جثته فانا لن نشفعك فيها ، وفي رواية فانا لا نبالي اذا قتلناه ما صنع بها ، واما حسين فانه ان لم يردنا لم نرده.

وفي رواية انه حين دخل قال له الحرسي : سلم على الأمير فقال :اسكت ويحك والله ما هو لي بأمير ، فقال ابن زياد : لا عليك سلمت ام لم تسلم فانك مقتول ، فقال له مسلم : ان قتلتني فلقد قتل من هو شر منك من هو خير مني ، فقال له ابن زياد : قتلني الله ان لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الاسلام ، فقال له مسلم : اما انك احق من احدث في الاسلام ما لم يكن ، وانك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك ، فقال ابن زياد : يا عاق يا شاق خرجت على امامك وشققت عصا المسلمين وألحقت الفتنة ، فقال مسلم : كذب انما شق عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، واما الفتنة فانما الحقتها انت وأبوك زياد بن عبيد عبد بني علاج من ثقيف ، وانا أرجو ان يرزقني الله الشهادة على يدي شر بريته ، فقال له ابن زياد : منتك نفسك امرا حال الله دونه وجعله لأهله ، فقال له مسلم :ومن أهله يا ابن مرجانة اذا لم نكن نحن أهله ، فقال ابن زياد : أهله أمير المؤمنين يزيد ، فقال مسلم : الحمد لله على كل حال رضينا بالله حكما بيننا وبينكم ، فقال له ابن زياد : أتظن ان لك في الأمر شيئا؟ فقال له مسلم : والله ما هو الظن ولكنه اليقين. وقال له ابن زياد : ايه ابن عقيل أتيت الناس وهم جميع وأمرهم ملتئم فشتتت أمرهم بينهم وفرقت كلمتهم وحملت بعضهم

٥٠

على بعض ، قال : كلا لست لذلك أتيت ، ولكنكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف وتأمرتم على الناس بغير رضى منهم ، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر وندعوهم الى حكم الكتاب والسنة ، وكنا أهل ذلك ، فقال له ابن زياد : وما أنت وذاك يا فاسق ، لم لم تعمل بذلك اذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ، قال مسلم : انا أشرب الخمر ، اما والله ان الله ليعلم انك تعلم انك غير صادق ، وان أحق بشرب الخمر مني وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا فيقتل النفس التي حرم الله قتلها ويسفك الدم الذي حرم الله على الغضب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا ، فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم عليا والحسن والحسين وعقيلا ، وأخذ مسلم لا يكلمه. وفي رواية انه قال له : أنت وأبوك أحق بالشتيمة فاقض ما أنت قاض يا عدو الله.

ثم قال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ثم اتبعوه جسده ، فقال مسلم: والله لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني(١) ، فقال ابن زياد : اين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف ، فدعي بكر بن حمران ، فقال له : اصعد فلتكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد به وهو يكبر ويستغفر الله ويسبحه ويصلي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وخذلونا ، فضرب عنقه واتبع رأسه جثته ، ونزل بكر الذي قتله مذعورا ، فقال له ابن زياد : ما شأنك؟ فقال: أيها الأمير رأيت ساعة قتله رجلا أسود شنيء الوجه حذائي عاضا على اصبعه أو قال على شفته ، ففزعت منه فزعا لم أفزعه قط ، فقال ابن زياد : لعلك دهشت. فقام محمد بن الأشعث الى عبيد الله ابن زياد فكلمه في هاني بن عروة فقال : انك قد عرفت

__________________

(١) قيل انه يشير الى انه كأبيه دعيان وليسا من قريش.

٥١

منزلة هاني في المصر وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه اني وصاحبي سقناه اليك وأنشدك الله لما وهبته لي فاني أكره عداوة المصر وأهله ، فوعده ان يفعل ، ثم بدا له وأمر بهاني في الحال وقال : أخرجوه الى السوق فاضربوا عنقه ، فاخرج هاني حتى اتي بها الى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم وهو مكتوف ، فجعل يقول : وا مذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه يا مذحجاه أين مذحج ، فلما رأى ان أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ثم قال : اما من عصا أو سكين او حجارة او عظم يحاجز بها رجل عن نفسه ، ووثبوا اليه فشدوه وثاقا ، ثم قيل له : أمدد عنقك ، فقال : ما انا بها سخي وما انا بمعينكم على نفسي ، فضربه مولى لعبيد الله بن زياد تركي يقال له رشيد بالسيف فلم يصنع شيئا ، فقال له هاني : الى الله المعاد اللهم الى رحمتك ورضوانك ، ثم ضربه أخرى فقتله. وبصر عبد الرحمن بن الحصين المرادي بعد ذلك بقاتل هاني فحمل عليه بالرمح فطعنه فقتله وأخذ بثأر هاني.

وفي مسلم وهانيرحمهما‌الله تعالى يقول عبد الله بن الزبير(١) الأسدي ، ويقال انها للفرزدق.

وقيل انها لسليمان الحنفي :

فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري

الى هاني في السوق وابن عقيل

الى بطل قد هشم السيف وجهه

وآخر يهوي من طمار(٢) قتيل

اصابهما فرخ البغي(٣) فأصبحا

أحاديث من يسري بكل سبيل

تري جسدا قد غيّر الموت لونه

ونضح دم قد سال كل مسيل

__________________

(١) بفتح الزاي وليس للعرب زبير بفتح الزاي غيره (منه).

(٢) الطمار بفتح الطاء وكسرها : المكان المرتفع. (منه).

(٣) هو ابن زياد لأن امه مرجانة وجدته سمية كانتا كذلك ، وفي نسخة امر اللعين (منه).

٥٢

فتى كان أحيى من فتاة حيية

واقطع من ذي شفرتين صقيل

أيركب اسماء(١) الهماليج(٢) آمنا

وقد طلبته مذحج بذحول

تطوف(٣) حواليه(٤) مراد وكلهم

على رقبة(٥) من سائل ومسول

فان انتم لم تثأروا(٦) بأخيكم

فكونوا بغايا(٧) أرضيت بقليل

__________________

(١) هو اسماء بن خارجة احد الثلاثة الذين ذهبوا بهاني الى ابن زياد (منه).

(٢) جمع هملاج وهو نوع من البراذين (منه).

(٣) مضارع طاف وفي نسخة تطيف مضارع أطافه (منه).

(٤) اي حوالي هاني وهو اشارة الى اجتماعهم حول القصر لتخليص هاني ، وفي نسخة حفافيه جمع حفاف وهو الجانب (منه).

(٥) الرقبة بالفتح الارتقاب والانتظار وبالكسر التحفظ ، اي كلهم مرتقب منتظر لتخليصه او متحفظ مستعد للقتال وبعضهم يسأل بعضا عن حاله وشأنه (منه).

(٦) اي تطلبوا بثأره والخطاب لمذحج (منه).

(٧) اي زواني وفي نسخة ايامى (منه).

٥٣
٥٤

مقتل مسلم وهاني

وقال آخر يخاطب محمد بن الأشعث :

وتركت عمك لم تقاتل دونه

فشلا ولو لا أنت كان منيعا

وقتلت وافد حزب آل محمد

وسلبت أسيافا له ودروعا

وكان ابن زياد لما حوصر في القصر اتي برجل يسمى عبد الأعلى الكلبي كان قد خرج لنصرة مسلم بن عقيل ، فأخذه كثير بن شهاب وبعث به الى ابن زياد ، فقال لابن زياد : انما اردتك فأمر به فحبس ، وأتي برجل آخر يقال له عمارة الأزدي كان خرج أيضا لنصرة مسلم بن عقيل فحبسه ابن زياد أيضا ، فلما قتل مسلم وهاني. دعا ابن زياد بعبد الأعلى فقال له : خرجت لأنظر ما يصنع الناس فأخذني كثير بن شهاب ، فطلب منه ابن زياد ان يحلف على ذلك بالايمان المغلظة فلم يحلف ، فأمر ابن زياد ان يذهبوا به الى جبانة السبيع ويضربوا عنقه ، فانطلقوا به اليها وقتلوه وأمر بعمارة الأزدي ان يذهبوا به الى قومه فضربت عنقه فيهم.

وكان خروج مسلم في الكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة

٥٥

يوم الترويه ، وقتله يوم الأربعاء يوم عرفة لتسع خلون منه على رواية المفيد.وفي رواية ان قتله كان يوم التروية.

وأمر ابن زياد بجثة مسلم وهاني فصلبتا بالكناسة ، وبعث برأسيهما الى يزيد بن معاوية مع الزبير بن الأروح التميمي وهاني بن ابي حية الوداعي وأخبره بأمرهما. وكان رأس مسلم أول رأس حمل من رؤوس بني هاشم وجثته أول جثة صلبت ، فأعاد يزيد الجواب اليه يشكره على فعله وسطوته ويقول له : قد بلغني ان حسينا قد سار الى الكوفة وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان وبلدك من بين البلدان وابتليت به من بين العمال وعندها تعتق أو تعود عبدا ، فظع المناظر والمسالح واحبس على الظنة وخذ على التهمة واكتب اليّ في كل ما يحدث.

وكان يزيد بن معاوية قد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص من المدينة الى مكة في عسكر عظيم وولاه أمر الموسم وأمره على الحاج كلهم فحج بالناس ، وأوصاه بقبض الحسينعليه‌السلام سرا وان لم يتمكن منه يقتله غيلة ، وأمره ان يناجز الحسينعليه‌السلام القتال ان هو ناجزه ، فلما كان يوم التروية قدم عمرو بن سعيد الى مكة في جند كثيف. ثم ان يزيد دس مع الحاج في تلك السنة ثلاثين رجلا من شياطين بني أمية وأمرهم بقتل الحسينعليه‌السلام على أي حال اتفق(١) ، فلما علم الحسينعليه‌السلام بذلك عزم على التوجه الى العراق ، وكان قد احرم بالحج وقد وصله قبل ذلك كتاب مسلم بن عقيل ببيعة أهل الكوفة له ، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وقصر من شعره وأحل من احرام الحج وجعلها عمرة مفردة لأنه لم يتمكن من اتمام الحج مخافة ان

__________________

(١) نقل انفاذ عمرو بن سعيد ودس الثلاثين رجلا صاحب البحار ، وقال انه رآه في بعض الكتب المعتبرة ، ونقل انفاذ عمرو ووصوله يوم التروية ابن طاوس في اللهوف عن معمر بن المثنى في مقتل الحسينعليه‌السلام ، وعمرو هذا كان أمير على مكة ثم ولاه يزيد المدينة كما مر ، ثم انفذه من المدينة الى مكة وأمره على الحاج (منه).

٥٦

يقبض عليه ، فخرج من مكة يوم الثلاثاء وقيل يوم الأربعاء يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجة ، فكان الناس يخرجون الى منى والحسينعليه‌السلام خارج الى العراق ، وقيل خرجعليه‌السلام يوم الثلاثاء لثلاث مضين من ذي الحجة ، ولم يكن علم بقتل مسلم بن عقيل لأن مسلما قتل في ذلك اليوم الذي خرج فيه الحسينعليه‌السلام الى العراق او بعده بيوم أو بخمسة أيام أو ستة ولما عزم الحسينعليه‌السلام على الخروج الى العراق جاءه أبو بكر عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فنهاه عن الخروج الى العراق ، فقال له الحسينعليه‌السلام : جزاك الله خيرا يا ابن عم قد اجتهدت رأيك ومهما يقض الله يكن ، وجاءه عبد الله بن عباس فنهاه عن الخروج أيضا فقال :أستخير الله وأنظر ما يكون ، ثم أتاه مرة ثانية فأعاد عليه النهي وقال : ان أبيت الا الخروج فاخرج الى اليمن ، فقال الحسينعليه‌السلام : يا ابن عم اني والله لأعلم انك ناصح مشفق وقد أزمعت وأجمعت المسير ، ثم خرج ابن عباس فمر بابن الزبير وأنشد :

يا لك من قبرة بمعمر

خلالك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت ان تنقري

هذا حسين خارج فأبشري

وجاءه عبد الله بن الزبير فأشار عليه بالعراق ثم خشي ان يتهمه فقال :لو أقمت لما خالفنا عليك ، فلما خرج ابن الزبير قال الحسينعليه‌السلام : ان هذا ليس شيء أحب اليه من ان أخرج من الحجاز.

وجاءه عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير فأشارا عليه بالامساك عن المسير الى الكوفة ، فقال لهما : ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه فخرج ابن عباس وهو يقول وا حسيناه.

ثم جاءه عبد الله بن عمر فأشار عليه بصلح أهل الضلال وحذره من القتل والقتال ، فقال له : يا أبا عبد الرحمن أما علمت ان من هوان الدنيا على

٥٧

الله ان رأس يحيى بن زكريا أهدي الى بغي من بغايا بني اسرائيل ، أما تعلم ان بني اسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس سبعين نبيا ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئا ، فلم يعجل الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام ، اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعن نصرتي ، وكان الحسينعليه‌السلام يقول : وايم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني ، والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت ، والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرام(١) المرأة.

وجاءه محمد بن الحنفية في الليلة التي أراد الحسينعليه‌السلام الخروج في صبيحتها عن مكة ، فقال له : يا أخي ان أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك وقد خفت ان يكون حالك كحال من مضى ، فان رأيت ان تقيم فانك أعز من بالحرم وأمنعه ، فقال : يا أخي قد خفت ان يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت ، فقال له ابن الحنيفة :فان خفت ذلك فصر الى اليمن او بعض نواحي البر فانك امنع الناس به ولا يقدر عليك أحد ، فقال : أنظر فيما قلت ، فلما كان السحر ارتحل الحسينعليه‌السلام فبلغ ذلك ابن الحنيفة ، فأتاه فأخذ بزمام ناقته وقد ركبها فقال : يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك ، قال : بلى ، قال : فما حداك على الخروج عاجلا ، قال : أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما فارقتك فقال : يا حسين اخرج فان الله قد شاء ان يراك قتيلا ، فقال محمد بن الحنفية : انا لله وانا اليه راجعون فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال ، فقال : ان الله قد شاء ان يراهن سبايا ، فسلم عليه ومضى.

__________________

(١) الفرام ، خرقة الحيض (منه).

٥٨

وسمع عبد الله بن عمر بخروجه فقدم راحلته وخرج خلفه مسرعا فأدركه في بعض المنازل ، فقال : اين تريد يا ابن رسول الله؟ قال : العراق ، قال : مهلا ارجع الى حرم جدك ، فأبى الحسينعليه‌السلام ، فلما رأى ابن عمر اباءه قال : يا أبا عبد الله اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبله منك ، فكشف الحسينعليه‌السلام عن سرته فقبلها ابن عمر ثلاثا وبكى وقال : استودعك الله يا أبا عبد الله فانك مقتول في وجهك هذا. وفي رواية انه قبل ما بين عينيه وبكى وقال : استودعك الله من قتيل.

ولما خرج الحسينعليه‌السلام من مكة اعترضته رسل عمرو بن سعيد بن العاص أمير الحجاز من قبل يزيد(١) عليهم أخوه يحيى بن سعيد ليردوه فأبى عليهم ، وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسياط ثم امتنع عليهم الحسينعليه‌السلام وأصحابه امتناعا شديدا ومضى الحسينعليه‌السلام على وجهه فبادروا وقالوا : يا حسين الا تتقي الله تخرج من الجماعة وتفرق بين هذه الأمة ، فقال : لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وانا بريء مما تعملون.

وعن علي بن الحسينعليه‌السلام قال : خرجنا مع الحسينعليه‌السلام فما نزل منزلا ولا ارتحل منه الا ذكر يحيى بن زكريا وقتله ، وقال يوما ، ومن هوان الدنيا على الله ان رأس يحيى بن زكريا أهدي الى بغي من بغايا بني اسرائيل.

وكتب عمرو بن سعيد وهو والي المدينة بأمر الحسينعليه‌السلام الى يزيد ، فلما قرأ الكتاب تمثل بهذا البيت :

فان لا تزر أرض العدو وتأته

يزرك عدو او يلومنك كاشح

ثم سارعليه‌السلام حتى مر بالتنعيم ، فلقي هناك عيرا تحمل هدية قد بعث

__________________

(١) وذلك لأنه كان بمكة عند سفر الحسينعليه‌السلام الى العراق كما مر في الحواشي السابقة (منه).

٥٩

بها بحير(١) بن ريسان الحميري عامل اليمن الى يزيد بن معاوية وعليها الورس والحلل ، فأخذ الهدية وقال لأصحاب الجمال : من أحب ان ينطلق معنا الى العراق وفيناه كراه واحسنا معه صحبته ومن أحب ان يفارقنا أعطيناه كراه بقدر ما قطع من الطريق ، فمضى معه قوم وامتنع آخرون فمن فارق أعطاه حقه ومن سار معه أعطاه كراه وكساه ثم سارعليه‌السلام حتى أتى الصفاح(٢) فلقيه الفرزدق الشاعر.

قال الفرزدق : حججت بأمي سنة ستين ، فبينما انا أسوق بعيرها حتى دخلت الحرم اذ لقيت الحسينعليه‌السلام خارجا من مكة معه أسيافه وأتراسه ، فقلت : لمن هذا القنطار فقيل للحسين بن عليعليهما‌السلام ، فأتيته وسلمت عليه وقلت له : اعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب بأبي انت وأمي يا ابن رسول الله ما أعجلك عن الحج ، فقال : لو لم أعجل لأخذت ، ثم قال لي : من أنت؟ قلت : رجل من العرب فلا والله ما فتشني عن أكثر من ذلك ، ثم قال لي : اخبرني عن الناس خلفك ، فقلت : الخبير سألت قلوب الناس معك وأسيافهم عليك والقضاء ينزل من السماء. والله يفعل ما يشاء ، فقال :صدقت لله الأمر من قبل ومن بعد وكل يوم ربنا هو في شأن ، ان نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على اداء الشكر ، وان حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيته والتقوى سيرته ، فقلت له :أجل بلغك الله ما تحب وكفاك ما تحذر ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها ، وحرك راحلته وقال : السلام عليك.

__________________

(١) بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة (منه).

(٢) الصفاح بوزن كتاب قال ياقوت في معجم البلدان انه موضع بين حنين وانصاب الحرم على يسرة الداخل الى مكة من مشاش وهناك لقي الفرزدق الحسين بن عليعليهما‌السلام ا ه. وقال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص انه لقيه ببستان بني عامر (منه).

٦٠