موسوعة كربلاء الجزء ١

موسوعة كربلاء 8%

موسوعة كربلاء مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 735

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 735 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 452423 / تحميل: 5265
الحجم الحجم الحجم
موسوعة كربلاء

موسوعة كربلاء الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وقد اقتصرنا على رواية واحدة من هذه الروايات ، سوف ترد في معرض حديث الإمام عليعليه‌السلام عند مروره بكربلاء ، عما حدث ويحدث فيها.

١٧٤ ـ معرفة زكرياعليه‌السلام بما سيجري على الإمام الحسينعليه‌السلام :

الظاهر أن كل الأنبياء كانوا على علم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقد أطلعهم الله تعالى على مجيء خاتم النبيين وأهل بيتهعليهم‌السلام . فكانوا على علم بالخمسة أصحاب الكساء وأسمائهم ومكانتهم. ومن ذلك ما وجد على لوح سفينة نوحعليه‌السلام فقد وجد مرسوما عليه كف لها خمسة أصابع ، مكتوب عليها :

(محمد ـ إيليا ـ شبّر ـ شبير ـ فاطما)

وكان كل نبي يتوسل بهذه الأسماء المباركة إلى الله تعالى في الملمات والأزمات فيفرج الله عنه. فبهذه الأسماء توسل آدم إلى الله فتاب عليه ، وبها توسل نوحعليه‌السلام حين كادت سفينته تغرق فاستوت على الموج ، وبها دعا يوسفعليه‌السلام دعاء الفرج وهو في السجن ففرج الله عنه وجعله ملكا.

ولذلك لا نستغرب معرفة زكرياعليه‌السلام للحسينعليه‌السلام ولما سيجري عليه. فحين وهبه الله يحيى بعد أن بلغ من الكبر عتيا ، وقدر له أن يقتل ، واساه بمقتل الحسينعليه‌السلام سبط محمد خاتم الأنبياء وأفضلهم ، وقصّ عليه قصته.

١٧٥ ـ حديث مقتل يحيى بن زكرياعليه‌السلام :

(مناقب ابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٣٨ ط نجف)

«في حديث مقاتل عن علي زين العابدين عن أبيه الحسينعليه‌السلام قال» :

إن امرأة ملك بني اسرائيل(١) كبرت وأرادت أن تزوج بنتها منه للملك (أي هيرودس) ، فاستشار الملك يحيى بن زكريا فنهاه عن ذلك. فعرفت المرأة ذلك ، وزينت بنتها وبعثتها إلى الملك ، فذهبت ولعبت بين يديه (أي رقصت في مجلس شرابه). فقال لها الملك : ما حاجتك؟ قالت : رأس يحيى بن زكريا. فقال الملك :

__________________

(١) اسم المرأة (هيروديا) وكانت زوجة فيليبس ، ولدت منه بنتا اسمها (سالومي). ثم عشقها أخوه الملك هيرودس ، فهربت هيروديا معه وتزوجها. والمفهوم من الكلام اللاحق أنها حين كبرت أرادت أن تزوج ابنتها سالومي من الملك أيضا. فاستشار زكريا فأنكر ذلك. فحقدت عليه هيروديا ودبرت له المكيدة لقتلهعليه‌السلام .

٢٠١

يا بنية حاجة غير هذه. قالت : ما أريد غيره. وكان الملك إذا كذب فيهم عزل عن ملكه (اعتبر الإخلاف بالوعد هنا كذبا) فخير بين ملكه وبين قتل يحيى ، فقتله. ثم بعث برأسه إليها في طشت من ذهب ، فأمرت الأرض فأخذتها.

وسلط الله عليهم (بخت نصر) فجعل يرمي عليهم بالمجانيق ولا تعمل شيئا.فخرجت عليه عجوز من المدينة فقالت : أيها الملك إن هذه مدينة الأنبياء (أي طبريا) لا تنفتح إلا بما أدلك عليه. قال : لك ما سألت. قالت : ارمها بالخبث والعذرة ، ففعل فتقطعت فدخلها. فقال : علي بالعجوز فقال لها : ما حاجتك؟قالت : في المدينة دم يغلي فاقتل عليه حتى يسكن ، فقتل عليه سبعين ألفا حتى سكن.

يا ولدي يا علي ، والله لا يسكن دمي حتى يبعث المهدي(١) فيقتل على دمي من المنافقين الكفرة الفسقة سبعين ألفا.

١٧٦ ـ الله سيثأر للحسينعليه‌السلام مثلما ثأر ليحيىعليه‌السلام :

(أعيان الشيعة للسيد الأمين ج ٤ ص ١٣٦)

روى الحاكم في المستدرك بعدة أسانيد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس.

قال : أوحى الله تعالى إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني قتلت بيحيى بن زكريا (أو على دم يحيى بن زكريا) سبعين ألفا ، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.

(وفي مناقب ابن شهراشوب ج ٣ ص ٢٣٤ ط نجف) :

عن تاريخ بغداد ، وخراسان ، والإبانة ، والفردوس ، قال ابن عباس : أوحى الله تعالى إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ، وأقتل بابن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.

وعن الصادقعليه‌السلام : قتل بالحسين مائة ألف وما طلب بثأره ، وسيطلب بثأره.

١٧٧ ـ مقارنة بين محنة النبي يحيى ومحنة الإمام الحسينعليه‌السلام :

(بقلم المؤلف)

لقد جرت قدرة الله تعالى على أن يكون الأنبياء محط ابتلائه سبحانه وامتحانه

__________________

(١) الإمام المهدي (ع) هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (ع) ، وهو الإمام الحجة القائم الذي سيظهر في آخر الزمان فيملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا.

٢٠٢

واختباره فها هو ابراهيمعليه‌السلام يبلغ من الكبر عتيا وقد رزقه الله اسماعيل ، وما كاد يفرح به وتقرّ به عينه ، حتى أمره سبحانه بذبحه ، فامتثل أمره وامتثل ابنه أمره أيضا ، وكاد يذبح إسماعيل لو لا أن فداه الله بذبح عظيم. قال تعالى في سورة الصافات :( وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩)رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥)إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (١٠٧). والذبح العظيم هو الحسينعليه‌السلام .

وها هو زكرياعليه‌السلام يحرم الولد والنسل حتى إذا أدركه الكبر دعا ربه مخلصا ، فرزقه الله من زوجته العاقر ولدا اسمه (يحيى) تقر به عينه ويرثه من بعده. حتى إذا شب يافعا اختاره الله إلى جواره مذبوحا مقتولا.

وها هو النبي الكريم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ، يختم حياته بامتحان عظيم وقد حرمه الله الولد والنسل إلا من ابنته الزهراءعليها‌السلام ، فشاء سبحانه في سابق قضائه وتقديره أن يرى حفيده الحسين مقتولا مذبوحا في أرض كربلاء ، هو وجميع أهل بيته ما عدا الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وأن يرى حرمه ورهطه مشردين وأطفاله صرعى ونساءه سبايا مقيدات بالأصفاد.

ومن التشابه العجيب بين محنة يحيىعليه‌السلام ومحنة الحسينعليه‌السلام أن يحيى قضى مذبوحا وأخذ رأسه فقدم مهرا لبغيّ من بغايا بني إسرائيل ، تماما كما قضى الحسينعليه‌السلام مذبوحا وحمل رأسه لأبغى رجل من آل أبي سفيان وهو يزيد بن معاوية. وهذا مفاد قول الحسينعليه‌السلام : «من هوان الدنيا على الله أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل ، والرأس ينطق بالحجة عليهم ، فلم يضر ذلك يحيى». يومي بذلكعليه‌السلام إلى ما سيؤول إليه حاله من قتله وقطع رأسه وحمله إلى أشقى أهل الأرض ، وكيف أن رأسه الشريف سينطق بالحق ويسمع ويجيب ، تماما كما حدث ليحيى بن زكريا ، وذلك أن رأس الحسينعليه‌السلام كان يقرأ وهو على رمح طويل في الكوفة قوله تعالى :( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ) (٩) [الكهف : ٩].

هذا مع أن محنة الحسينعليه‌السلام لا تقارن في وطأتها مع محنة يحيىعليه‌السلام فيحيى قتل وحده ، والحسين قتل معه من أهل بيته سبعة عشر رجلا ما لهم على وجه الأرض

٢٠٣

شبيه. ويحيى لم تقتل له أطفال ولم تسب له نساء ولا عيال ، والحسينعليه‌السلام ذبحت أطفاله وسبيت نساؤه وعياله. ويحيى لم يمنع من شرب الماء ، بينما الحسينعليه‌السلام منع هو وعياله وأطفاله من شرب الماء حتى قضوا عطاشى ظامئين.

ولعله لهذا التشابه الكبير بين يحيى والحسينعليهما‌السلام وبين زكريا وخاتم النبيين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان من إعجاز القرآن الكريم أن يبتدىء سبحانه قصة يحيى بن زكريا (التي وردت في مطلع سورة مريم) برموز تشير بشكل خفي إلى ما سيكون من محنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بولده الحسينعليه‌السلام ، كما كان من محنة زكريا بيحيىعليه‌السلام ، فابتدأ سبحانه قصة يحيىعليه‌السلام بقوله( كهيعص ) (١) [مريم : ١].

١٧٨ ـ معنى( كهيعص ) :

هناك روايتان في هذا الموضوع عن الإمام الحجةعليه‌السلام . إحداهما عن إسحق الأحمر (وردت في مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ج ٣ ص ٢٣٧ ط نجف) والثانية عن سعد بن عبد الله (وردت في معالي السبطين لمحمد مهدي المازندراني ج ١ ص ١١٠ ط حجر إيران). وسوف ندمج الروايتين.

عن سعد بن عبد الله ، قال : قلت لصاحب الأمر (عج) : أخبرني يابن رسول الله عن تفسير (كهيعص)؟. فقال : «هذه الحروف من أنباء الغيب ، الذي أطلع الله عليه عبده زكريا ، ثم قصّها على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذلك أن زكرياعليه‌السلام سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسةعليه‌السلام ، فأهبط عليه جبرئيل وعلمه إياها. فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسنعليهم‌السلام سرّي عنه همه وانجلى كربه (أو : سرّ وزال عنه غمومه وفرج عنه همومه وانجلى كربه) ، وإذا ذكر الحسينعليه‌السلام غلبته العبرة ووقعت عليه الزفرة (أو : خنقته العبرة ووقعت عليه الكدورة).

فقال ذات يوم : إلهي (ما بالي) إذا ذكرت أربعة منهم تسليت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسينعليه‌السلام تدمع عيني وتثور زفرتي (ويكسر خاطري)؟فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصته ووقعته ، فقال :.

( كهيعص )

فالكاف : اسم كربلاء ، والهاء : هلاك العترة ، والياء : يزيد ، وهو ظالم الحسينعليه‌السلام ، والعين : عطشه ، والصاد : صبره.

٢٠٤

وما أحسن ما قيل في ذلك : (معالي السبطين ج ١ ص ١١١)

يا قتيلا صبره الممدوح من رب العباد

حيث قال الله فيه : كاف ها يا عين صاد

كربلا الكاف وقد حلّ بها البلا

قتلت فيه بيوم الطف سادات الملا

ويزيد ياؤها المعهود والعين تلا

عطش السبط وقد أضرم نارا للفؤاد

فلما سمع زكريا ذلك لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب ويقول : إلهي أتفجع خير خلقك بولده؟ إلهي أتنزل الرزية بفنائه؟ إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أتحل هذه الفجيعة بساحتهما؟

ثم كان زكرياعليه‌السلام يقول : إلهي ارزقني ولدا تقرّ به عيني على الكبر ، واجعله وارثا رضيا يوازي محله الحسين ، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبه ، ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده.

فاستجاب الله دعاءه ، فرزقه يحيى وفجعه به. وكان يوم استجابة دعائه يوم أول المحرم ، وأمر الملائكة فنادت زكريا وهو قائم يصلي في محرابه : (إن الله يبشّرك بيحيى) «انتهى كلام الحجةعليه‌السلام ».

١٧٩ ـ قصة حياة يحيى بن زكريا من مولده إلى مقتله كما وردت في العهد الجديد بتصرف :

(إنجيل لوقا ، إصحاح ١ ؛ وإنجيل متى ، إصحاح ١٤)

كان في أيام الملك (هيرودس) حاكم الرومان على فلسطين ، كاهن اسمه زكريا.وكان هو وزوجته (إليصابات) من الأبرار ، القائمين بكل أحكام الله ووصاياه.وكانت (إليصابات) عاقرا لا تنجب أولادا ، وكانت متقدمة في السن كزوجها زكريا.فنادى ربه أن يهبه غلاما بارا ويوما كان في المعبد فأصابته القرعة أن يحضر أعمال الهيكل. وبينما هو داخل الهيكل ظهر له ملاك من عند الله واقفا عن يمين مذبح البخور. فلما رآه زكريا اضطرب وخاف. فقال له الملاك : لا تخف يا زكريا فإن مناجاتك قد سمعت ، وإن الله يبشّرك بغلام من امرأتك اليصابات اسمه يحيى (أي يوحنا) وستفرح به ويفرح به كثير من الناس. لأنه سيكون تقيا ، ولا يشرب

٢٠٥

الخمر ولا المسكر. وسيمتلىء بالروح القدس وهو في بطن أمه ، فيردّ الكثيرين من بني إسرائيل إلى ربهم. فلم يصدّق زكريا هذه البشرى وقال للملاك : كيف أصدق هذا وأنا شيخ وامرأتي عاقر ، فقال له الملاك : سوف تبقى صامتا لا تقدر على الكلام حتى ترى وليدك ، لأنك لم تصدّق كلامي الذي سيتم في حينه وكان الناس ينتظرون زكريا وقد أبطأ عن الخروج من الهيكل. فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم ، ففهموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل ، فكان يومي إليهم. ولما انتهت مدة خدمته للهيكل مضى إلى بيته وبعد تلك الأيام حملت إليصابات وأنجبت طفلا ، وعندما اختلف الموجودون في تسميته نطق والده قائلا : لا تختلفوا فقد سماه الله (يحيى).وقص على أهله ما جرى له في الهيكل وكيف بشره الملاك بولادة يحيى.

كان يحيى يعيش في البراري ويأكل عسل النحل ، ويلبس نطاقا من جلد على وسطه وثيابا عادية. وكان يدعو الناس إلى الرجوع لطريق الخير ويحثهم على الأعمال الحسنة ، وكان يقف دائما في وجه الباطل ولا يسكت عنه ، مما دعا إلى حقد الحكام عليه.

ولما أراد (هيرودس) أن يتزوج من زوجة أخيه (هيروديا) قام يحيى بوجه هذا العمل لأنه حرام في الشريعة اليهودية ، وانتقد هيرودس وقال له : لا يحل أن تكون لك. ولما أراد أن يقتله بناء على نقمة (هيروديا) خاف من الشعب ، لأن يحيى كان عندهم بمنزلة النبي ، فأودعه السجن.

ثم لما صار يوم ميلاد هيرودس رقصت ابنة هيروديا في جموع المدعوين ، فسرّت هيرودس. فوعدها بأن يعطيها ما تطلب وأقسم على ذلك. فقالت وقد لقّنتها أمها شيئا : أريد رأس يوحنا المعمدان على طبق. فاغتم الملك ، ولكنه وجد نفسه ملزما بالتنفيذ بناء على إلحاح الموجودين وما أخذ على نفسه من الأقسام ، فأرسل وقطع رأس يحيى في السجن. فأحضر رأسه على طبق ودفعه إلى الصبية (وهي سالومي) فجاءت به إلى أمها. ثم تقدم تلاميذ يحيى ورفعوا الجسد ودفنوه ، ثم أتوا إلى المسيحعليه‌السلام فأخبروه بما حدث(١) .

__________________

(١) لزيادة الاطلاع راجع كتاب قصة المسيح بن مريمعليه‌السلام لعبد الحميد جودت السحار ، تجد قصة يحيى بن زكريا بشكل مفصل.

٢٠٦

١٨٠ ـ أوجه الشبه بين يحيى والحسينعليه‌السلام :

(معالي السبطين للمازندراني ، ج ١ ص ٩١١١

يقول السيد محمد مهدي المازندراني الحائري :

ولقد أشبه يحيى الحسينعليه‌السلام من جهات شتى :

١ ـ في مدة الحمل ، فكان حمل يحيى ستة أشهر كالحسينعليه‌السلام .

٢ ـ يحيى بشر به زكريا قبل ولادته ، كما بشّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بولادة الحسينعليه‌السلام .

٣ ـ يحيى لم يسمّ باسمه أحد قبله ، وكذلك الحسينعليه‌السلام .

٤ ـ يحيى لم يرضع من ثدي أمه وأرضع من السماء ، والحسينعليه‌السلام لم يرضع من فاطمةعليها‌السلام بل أرضع من لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبهامه.

٥ ـ يحيى رفع إلى السماء بعد الولادة ، والحسينعليه‌السلام أيضا رفع إلى السماء لتزوره الملائكة يوم السابع من ولادته ، ويوم شهادته.

٦ ـ يحيى كان يتكلم في بطن أمه ، والحسينعليه‌السلام كذلك ، قال : يقول في بطن أمه فاطمةعليها‌السلام : يا أماه أنا العطشان ، يا أماه أنا العريان ، يا أماه أنا السحقان.

٧ ـ يحيى لم ير فرحا طول عمره ، وكذلك الحسينعليه‌السلام .

٨ ـ يحيى قتل مظلوما ، والحسينعليه‌السلام قتل كذلك.

٩ ـ الذي قتل يحيى مشكوك في نسبه ، وكذلك قاتل الحسينعليه‌السلام .

١٠ ـ يحيى بكت عليه ملائكة السموات ، والحسينعليه‌السلام بكت عليه ملائكة السموات والأرض وجميع الموجودات.

١١ ـ يحيى بقي دمه يغلي ، فكلما وضعوا عليه التراب ازداد غليانا ، حتى صار تلا عظيما ، فما سكن حتى سلّط الله على بني إسرائيل بخت نصر ، وقتل سبعين ألفا من بني إسرائيل ، ولكن الحسينعليه‌السلام دمه يغلي حتى يظهر ولده المهدي (عج).

وهو وإن كان قتل به سبعون ألفا وسبعون ألفا ولكنه ما يسكن دمه حتى يطلب المهديعليه‌السلام بثأره.

١٢ ـ يحيى قطع رأسه ووضع في طشت من ذهب بين يدي عدوه ونطق بكلمة ، وهي أن قال : اتق الله يا أيها الملك ، فإنها لا تجوز لك ، أن تباشر ابنتك (أي

٢٠٧

ربيبتك). والحسينعليه‌السلام لما قتل سمعوا رأسه الشريف يقرأ القرآن على الرمح ، ولما وضع في الطشت بين يدي يزيد قرأ آية من القرآن ، واللعين يضرب ثناياه بقضيب من خيزران.

ولكن شتان بين مصيبة يحيى ومصيبة الحسينعليه‌السلام ، فيحيى قتل لوحده ، أما الحسينعليه‌السلام فقد قتل هو وكل إخوته وأولاده وأبناء عمومته ، وذبح ابنه في حجره ، وقتل عطشانا ، ورضّ جسده الشريف ، ثم سبيت حريمه وذريته.

(أقول) : ولأن مصيبة يحيىعليه‌السلام شبيهة بمصيبة الحسينعليه‌السلام ، كان الحسينعليه‌السلام يذكر يحيى ومصيبته وهو في طريقه إلى الشهادة في كربلاء.

فأول ما ذكره ، حين أقبل إليه عبد الله بن عمر ونصحه ، فقال له : «يا أبا عبد الرحمن ، إن من هوان هذه الدنيا على الله أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل ، والرأس ينطق بالحجة عليهم ، فلم يضر ذلك يحيى بن زكريا ، بل ساد الشهداء ، فهو سيدهم يوم القيامة».

كما ذكرهعليه‌السلام كثيرا وهو في طريقه إلى العراق. فعن الإمام زين العابدينعليه‌السلام قال : خرجنا مع الحسينعليه‌السلام فما نزل منزلا ولا ارتحل عنه إلا وذكر يحيى بن زكرياعليه‌السلام .

٢ ـ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ب

ما يجري على أهل بيتهعليهم‌السلام من بعده

١٨١ ـ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة الحسين وما يلاقيه أهل بيتهعليهم‌السلام :

(الإرشاد للشيخ المفيد ، ص ٢٥١ ط نجف)

روي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ذات يوم جالسا ، وحوله علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فقال لهم : كيف بكم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى (أي متفرقة)؟فقال الحسينعليه‌السلام : نموت موتا أو نقتل؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل تقتل يا بني ظلما ، ويقتل أخوك ظلما ، وتشرد ذراريكم في الأرض.

فقال الحسينعليه‌السلام : ومن يقتلنا يا رسول الله؟ قال : شرار الناس. قال : فهل يزورنا بعد قتلنا أحد؟ قال : نعم طائفة من أمتي يريدون بزيارتكم برّي وصلتي ، فإذا

٢٠٨

كان يوم القيامة جئتهم إلى الموقف حتى آخذ بأعضادهم ، فأخلهم من أهواله وشدائده.

١٨٢ ـ ما يحصل لذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٦٦ ط نجف)

أخبرنا عين الأئمة أبو الحسن علي بن أحمد الكرباسي ، حدثنا خالد بن نافع مولى ابن عباس ، قال : سمعت ابن عباس يقول : أخذ بيدي عليعليه‌السلام وقال : يا عبد الله بن عباس ، كيف بك إذا قتلنا وولغت الفتنة في أولادنا ، وسبيت ذرارينا كما تسبى الأعاجم؟ قال : فقلت أعيذك بالله يا أبا الحسن يا بن عم ، لقد كلمتني بشيء ساءني ، وما ظننت أنه يكون هذا. أما ترى الإيمان ما أحسنه ، والإسلام ما أزينه ، أتراهم فاعلين ذلك بنا؟ لعلها أمة غير هذه الأمة. قالعليه‌السلام : لا والله ، بل هذه الأمة!

١٨٣ ـ وعيد شديد لظلمة آل بيت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٣٦ ط نجف)

عن ميمون بن مهران ، في قوله تعالى :( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) [إبراهيم : ٤٢] قال : هذا وعيد من الله لظلمة أهل بيت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعزية للمظلوم.

وسوف نستعرض في هذا الفصل طائفة من الأخبار المستفيضة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي تنبأت باستشهاد الحسينعليه‌السلام .

وكما أن هذه الأخبار هي من كرامات مولانا الحسينعليه‌السلام ، فهي من معجزات الحبيب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إخباره بالغيب ، وهو مما علمه الله تعالى وأطلعه عليه ، مصداقا لقوله تعالى :( فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ) وهذا الإعلام هو جزء مما أطلع الله عليه نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمور التي ستحدث على أهل بيته وعلى أمته من بعده. وهو ما أملاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإمام عليعليه‌السلام فكتبه عليعليه‌السلام بخط يده ، على جلد خاص ، فسمي فيما بعد (الجفر).

فاسمحوا لي أن أعرفكم على الجفر وعلومه قبل سرد تلك الروايات.

٢٠٩

علوم أهل البيتعليه‌السلام بالمغيبات

١٨٤ ـ علم الجفر :

(كتاب الحسين في طريقه إلى الشهادة للسيد علي بن الحسين الهاشمي ص ١٦١)

الجفر لغة : هو الجلد المشغول ، إذ كان الناس في القديم يعملون جلود الأنعام ويرققونها ليكتبوا عليها. ثم تقدمت هذه الصناعة حتى صاروا يكتبون على جلد الغزال وأطلقوا عليه اسم (رق الغزال). وإلى الآن نجد بعض الكتب والحروز مكتوبة على هذا النوع من الجلد. ومن ثم أطلقت كلمة (الجفر) على (علم الجفر) وهو من العلوم التي اختص بها الإمام عليعليه‌السلام بادىء بدء ، كما اختص بغيره من العلوم ، وهو من العلوم التي علمه إياها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصه به دون غيره كعلم المنايا والبلايا. ولقد دوّن الإمام هذا العلم على جلد الجفر ، وصار يتوارثه من بعده أولاده الميامين. وهو من الأسرار التي لم يطلّع عليها أحد من الناس حتى أيام الإمام الصادقعليه‌السلام حيث أفضى بهعليه‌السلام إلى بعض خواص أصحابه.

وقد ذكر كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في (الدر المنظم في السر الأعظم) قال : جفر الإمام عليعليه‌السلام ألف وسبعمائة مصدر من مفاتيح العلوم ومصابيح النجوم المعروف عند علماء الحروف (بالجفر الجامع والنور اللامع) وهو عبارة عن لوح القضاء والقدر عند الصوفية. وقيل العلم المكنون والسر المصون. وقيل باللغة الخفية عند السادة الحرفية ، وهو عبارة عن أسرار الغيوب. وقيل مفتاح اللوح والقلم. وقال أهل الملاحم هو عبارة عن سر حوادث الكون ، وقيل مفتاح العلم اللدني.

والجفر عبارة عن كتابين : أحدهما ذكره الإمام عليعليه‌السلام على المنبر وهو قائم يخطب بالكوفة ، والآخر أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتابته في هذا العلم المكنون ، وهو المشار إليه بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعلي بابها. فكتبه الإمام عليعليه‌السلام حروفا مفرقة على طريقة سفر آدمعليه‌السلام .وفي ذلك قال الشاعر :

(دائرة المعارف ج ١ ص ٢)

وقد عجبوا لأهل البيت لما

أتاهم علمهم في مسك جفر

ومرآة المنجم وهي صغرى

أرته كلّ عامرة وقفر

وتوجد في مخازن الكتب نوادر مخطوطة في هذا العلم. فإن في دار الكتب

٢١٠

المصرية كتاب مخطوط اسمه (الجفر الجامع والنور الساطع) للإمام الأعظم علي بن أبي طالبعليه‌السلام يقع في مجلدين ضخمين. وقد ضمت مكتبة الدكتور حسين علي محفوظ على كتاب مخطوط اسمه (الدر المنظم في السر الأعظم في الجفر الجامع والنور اللامع) لمؤلفه كمال الدين أبو سالم محمد بن طلحة النصيبي الشافعي المتوفى سنة ٦٥٢ ه‍ وتاريخ كتابة النسخة عام ١٢٧٣ ه‍. وفي مكتبة السيد علي بن الحسين الهاشمي النجفي نسخة خطية عنوانها (الجفر الجامع : جفر علي وجفر جعفر الصادق) لمؤلفه محي الدين بن العربي.

١٨٥ ـ علوم أهل البيت ٣ :(المجالس السنية ، ج ٥ ص ٣١٠)

قال الشيخ المفيد وغيره : كان الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : علمنا غابر ومزبور ، ونكت في القلوب ، ونقر في الأسماع. وإن عندنا الجفر الأحمر والجفر الأبيض ومصحف فاطمةعليها‌السلام ، وإن عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج إليه الناس.

فسئل عن تفسير ذلك ، فقال : (أما الغابر) فالعلم بما يكون ، (وأما المزبور) فالعلم بما كان ، (وأما النكت في القلوب) فهو الإلهام ، (والنقر في الأسماع) حديث الملائكة ، يسمع كلامهم ولا ترى أشخاصهم. وأما (الجفر الأحمر) فوعاء فيه سلاح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولن يظهر حتى يقوم قائمنا أهل البيت. وأما (الجفر الأبيض) فوعاء فيه توراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وكتب الله الأولى. وأما (مصحف فاطمة) ففيه ما يكون من حادث وأسماء من يملك إلى أن تقوم الساعة.وأما (الجامعة) فهي كتاب طوله سبعون ذراعا إملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخط علي بن أبي طالب بيده ، فيه والله جميع ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة ، حتى أن فيه أرش الخدش ، والجلدة ونصف الجلدة.

شرح : الأرش : هو الدية أو الغرامة ، والمعنى أن هذا الكتاب فيه كل الأحكام الشرعية ، حتى غرامة من يخدش جلد غيره.

١٨٦ ـ لكل إمام صحيفة يعرف منها كل ما يجري عليه :

(مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني ، ص ٢٨٨ ط حجر)

عن أبي عبد الله البزاز عن حريز ، قال : قلت لأبي عبد الله الصادقعليه‌السلام :جعلت فداك ، ما أقل بقاءكم أهل البيت وأقرب آجالكم بعضها من بعض ، مع حاجة الناس إليكم؟ فقال : إن لكل واحد منا صحيفة ، فيها ما يحتاج إليه أن يعمل في

٢١١

مدته ، فإذا انقضى ما فيها مما أمر به ، عرف أن أجله قد حضر. فأتاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينعى بنعي إليه نفسه ، وأخبره بما له عند الله. وإن الحسينعليه‌السلام قرأ صحيفته التي أعطيها وفسّر له ما يأتي ، بنعي ينعى. وبقي فيها أشياء لم تقض ، فخرج للقتال ، وكانت تلك الأمور التي بقيت.

١٨٧ ـ صحيفة بإملاء عليعليه‌السلام فيها كل شيء :

(كتاب سليم بن قيس الكوفي ، ص ٢٧)

عن سليم بن قيس أنه قال : لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام بكى ابن عباس بكاء شديدا. ثم قال ما لقيت هذه الأمة بعد نبيها! ولقد دلت على ابن عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذي قار ، فأخرج صحيفة وقال لي : يا بن عباس هذه صحيفة أملاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطي بيدي. قال : فأخرج لي الصحيفة ، فقلت :يا أمير المؤمنين اقرأها علي ، فقرأها. وإذا فيها كل شيء منذ قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكيف يقتل الحسينعليه‌السلام ومن يقتله ، ومن ينصره ومن يستشهد معه.وبكى بكاء شديدا وأبكاني. وان فيما قرأه : كيف يصنع به ، وكيف تستشهد فاطمةعليها‌السلام وكيف يستشهد الحسنعليه‌السلام وكيف تغدر به الأمة. فلما قرأ مقتل الحسينعليه‌السلام ومن يقتله ، أكثر البكاء. ثم أدرج الصحيفة ، وفيه ما كان ويكون إلى يوم القيامة.

١٨٨ ـ لوح عند فاطمةعليها‌السلام رآه جابر الأنصاري ، وفيه ذكر الأئمةعليهم‌السلام :

(المنتخب لفخر الدين الطريحي ، ص ٠٩٣)

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال : دخل جابر الأنصاري إلى أبي في مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له : يا جابر ، بحق جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أخبرتني عن اللوح ، أرأيته عند أمي فاطمة الزهراءعليها‌السلام . فقال جابر : أشهد بالله العظيم ورسوله الكريم ، لقد أتيت إلى فاطمة الزهراءعليها‌السلام في بعض الأيام لأهنّئها بولدها الحسينعليه‌السلام بعد ما وضعته بستة أيام ، فإذا هي جالسة وبيدها لوح أخضر من زمردة خضراء ، وفيه كتابة أنور من الشمس ، وله رائحة أطيب من المسك (الأذفر).فقلت له : ما هذا اللوح يا بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقالت : هذا اللوح أهداه الله إلى أبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيه اسم محمد المصطفى واسم علي المرتضى واسم ولديّ الحسن والحسين ، وأسماء الأئمة الباقين من ولدي. فسألتها أن تدفعه إلي لأنظر ما

٢١٢

فيه ، فدفعته إلي فسررت به سرورا عظيما فقلت لها : يا ست النساء ، هل تأذنين لي أن أكتب نسخته؟ فقالت : افعل. فأخذته ونسخته عندي.

فقال له الباقرعليه‌السلام : هل لك أن تريني نسخته بعينها الآن؟ فمضى جابر إلى منزله ، فأتى بصحيفة من كاغذ (أي ورق) مكتوب فيها :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) . هذا كتاب من (العزيز) العليم ، أنزله الروح الأمين ، على خاتم النبيين أجمعين. أما بعد ، يا محمد عظّم أسمائي واشكر نعمائي ولا تجحد آلائي ، ولا ترج سوائي ولا تخش غيري ، فإنه من يرجو سوائي ويخش غيري ، أعذبه عذابا لا أعذب به أحدا من العالمين.

يا محمد ، إني اصطفيتك على سائر الأنبياء ، وفضلت وصيك عليا على سائر الأوصياء. وجعلت ولدك الحسنعليه‌السلام عيبة علمي بعد انقضاء مدة أبيه. وجعلت الحسينعليه‌السلام خير أولاد الأولين والآخرين ، ومن نسله الأئمة المعصومين ، وعليه تشب فتنة صماء ، فالويل كل الويل لمن حاربه وغصبه حقه. ومنه يعقب زين العابدين ، وبعده محمد الباقر لعلمي ، والدايع إلى سبيلي على منهاج الحق. ومن بعده جعفر الصادق القول والعمل. ومن بعده الإمام المطهر موسى بن جعفر. ومن بعده علي بن موسى الرضا ، يقتله كافر عنيد ، ذو بأس شديد. ومن بعده محمد الجواد يقتل مسموما. ومن بعده علي الهادي يقتل بالسم. ومن بعده الحسن العسكري يقتل بالسم. ومن بعده القائم المهديعليه‌السلام وهو الذي يقيم اعوجاج الدين ، ويأخذ ثأر الأئمة الطاهرين ، صلوات الله عليهم أجمعين ، وهو رحمة للعالمين ، وسوط عذاب على الظالمين. وسألقي عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوبعليه‌السلام ، فتذل أوليائي قبل ظهوره ، وتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم ، فيظهر حجتي منهم ، فيقتلون ويحرقون وتصبغ الأرض من دمائهم ، ويفشو الويل والرنة في نسائهم. أولئك أوليائي حقا ، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندسية ، وبهم أكشف الزلازل وأدفع الأصفاد والأغلال. أولئك عليم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون.

فقال بعض أصحاب الصادقعليه‌السلام : يا مولانا لو لم نسمع في دهرنا إلا فضل هذا الحديث لكفانا فضله.

وقالعليه‌السلام : ولكن فصنه إلا عن أهله.

٢١٣

١٨٩ ـ نزول الوصية الإلهية على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة كتاب مختوم يفكه الأئمةعليهم‌السلام ويعملون بمقتضاه :(أسرار الشهادة للدربندي ، ص ٥٠)

في رواية معاذ بن كثير عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : إن الوصية نزلت من الله تعالى على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا لم ينزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاب مختوم إلا الوصية. فقال جبرئيل : يا محمد هذه وصيتك إلى أمتك عند أهل بيتك. وكان كلما استلم إمام فض خاتما منها وعمل بما فيه.

وقد ورد هذا الحديث في الأخبار المستفيضة بل المتواترة معنى. فقد وردت تلك الأخبار بأسانيد معتبرة ومتون متقاربة.

وقد ورد في بعض منها : ثم دفعه إلى الحسينعليه‌السلام ففك خاتما ، فوجد فيه : أن قاتل وتقتل ، واخرج بقوم إلى الشهادة ، فلا شهادة لهم إلا معك ، واشر نفسك للهعزوجل ، ففعل. ثم دفعه إلى علي بن الحسينعليه‌السلام ففك خاتما ، فوجد فيه : أن اطرق واصمت والزم منزلك ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ، ففعل.

ثم دفعه إلى محمد بن علي (الباقر) ففك خاتما ، فوجد فيه : فسّر كتاب الله وصدّقه آباءك وورّث ابنك واصطنع الأمة وقم بحق الله ، وقل الحق في الخوف ، ولا تخافنّ إلا اللهعزوجل ، فإنه لا سبيل لأحد عليك. ثم دفعه إلى ابنه جعفر (الصادق) ففك خاتما ، فوجد فيه : أن حدّث الناس وافتهم ، وانشر علوم أهل بيتك ، وصدّق آباءك الصالحين ، ولا تخافن إلا اللهعزوجل وأنت في حرز وأمان ، ففعل. ثم دفعه إلى ابنه موسى (الكاظم) ، وكذلك دفعه موسى إلى الذي بعده ، ثم كذلك إلى العلم المهديعليه‌السلام .

٣ ـ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستشهاد الحسينعليه‌السلام

* راجع الفقرات رقم ١١٣ و ١١٤ و ١١٥ و ١٢٨ و ١٤٥ و ١٤٦ و ١٤٧.

١٩٠ ـ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل الحسينعليه‌السلام ودعوته إلى مودة أهل البيتعليهم‌السلام :(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٦٣)

ولما أنت على الحسينعليه‌السلام من مولده سنتان كاملتان ، خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر ، فلما كان في بعض الطريق وقف فاسترجع ودمعت عيناه. فسئل عن ذلك؟فقال : هذا جبريل يخبرني عن أرض بشاطئ الفرات يقال لها كربلاء ، يقتل فيها

٢١٤

ولدي الحسين بن فاطمةعليه‌السلام . فقيل : من يقتله يا رسول الله؟ فقال : رجل يقال له يزيد ، لا بارك الله في نفسه. وكأني أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه ، وكأني أنظر إلى السبايا على أقتاب المطايا ، ويهدى رأسه إلى يزيد.

ثم صعد المنبر مغموما مهموما ، حزينا كئيبا باكيا ، وأصعد معه الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ووضع يده اليمنى على رأس الحسنعليه‌السلام واليسرى على رأس الحسينعليه‌السلام وقال : «اللهم إن محمدا عبدك ورسولك ، وهذان أطائب عترتي وخيار أرومتي وأفضل ذريتي ومن أخلفهما في أمتي ، وقد أخبرني جبرئيل أن ولدي هذا مخذول مقتول بالسم ، والآخر شهيد مضرج بالدم. اللهم فبارك له في قتله واجعله من سادات الشهداء. اللهم ولا تبارك في قاتله وخاذله ، وأصله حرّ نارك ، واحشره في أسفل درك الجحيم». قال : فضج الناس بالبكاء والعويل فقال لهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أتبكون ولا تنصرونه؟ اللهم فكن أنت له وليا وناصرا».

وقال ابن عباس : خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل موته بأيام يسيرة إلى سفر له ثم رجعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو متغير اللون محمر الوجه فخطب خطبة أخرى موجزة وعيناه تهملان دموعا(١) . ثم قال : «يا قوم إني مخلف فيكم الثّقلين : كتاب الله ، وعترتي وأرومتي ومزاج مائي وثمرة فؤادي ومهجتي ، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. ألا وإنني لا أسألكم في ذلك إلا ما أمرني ربي (أسئلكم عن الموؤدة في القربى) واحذروا أن تلقوني على الحوض غدا وقد آذيتم عترتي وقتلتم أهل بيتي وظلمتموهم».

والآن نذكر ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنحو التواتر ، في إخباره عن شهادة الحسينعليه‌السلام بكربلاء وبكائه عليه قبل وقوع الحادثة. نبدأ بروايات أمير المؤمنينعليه‌السلام .

١٩١ ـ مرور أمير المؤمنينعليه‌السلام على كربلاء :

(تاريخ ابن عساكر ، الجزء الخاص بالحسينعليه‌السلام ص ٩١٦٥

عن عبد الله بن نجيّ عن أبيه ، أنه سافر مع علي بن أبي طالبعليه‌السلام وكان صاحب مطهرته ، فلما حاذوا نينوى ، وهو منطلق إلى صفين ، نادى عليعليه‌السلام :صبرا أبا عبد الله ، صبرا أبا عبد الله بشط الفرات. قلت : من ذا أبو عبد الله؟ قال :دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعيناه تفيضان. فقلت : يا نبي الله أغضبك أحد؟ ما

__________________

(١) اللهوف على قتلى الطفوف ، ص ١١ وذكر هذا الكلام وعمر الحسينعليه‌السلام سنتان.

٢١٥

شأن عينيك تفيضان؟ قال : ما أغضبني أحد ، بل قام من عندي جبرئيل قبل ، فحدثني أن الحسينعليه‌السلام يقتل بشط الفرات. وقال : هل لك إلى أن أشمك من تربته؟ قال :قلت نعم. فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها ، فلم أملك عينيّ أن فاضتا.

١٩٢ ـ رواية مشابهة :

(تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص ٢٦١)

وذكر ابن سعد أيضا عن الشعبي ، قال : لما مرّ عليعليه‌السلام بكربلاء في مسيره إلى صفين وحاذى نينوى (قرية على الفرات) ، وقف ونادى صاحب مطهرته (أي وضوئه) : أخبر أبا عبد الله ما يقال لهذه الأرض. فقال : كربلاء.

فبكى حتى بلّ الأرض من دموعه. ثم قال : دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي ، فقلت له : ما يبكيك؟ فقال : كان عندي جبرئيل آنفا ، وأخبرني أن ولدي الحسينعليه‌السلام يقتل بشط الفرات بموضع يقال له كربلا. ثم قبض جبرئيل قبضة من تراب ، فشمني إياها ، فلم أملك عينيّ أن فاضتا.

١٩٣ ـ روايات أم سلمة (رض):(تاريخ بغداد ، ج ١ ص ١٤٢ ط ١)

عن أبي جعفرعليه‌السلام عن أم سلمة ، قالت : قال رسول اللهعليه‌السلام : يقتل حسين على رأس ستين من مهاجري. وفي معجم الطبراني ، عن أم سلمة ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يقتل الحسينعليه‌السلام حين يعلوه القتير (أي بوادر الشيب).

١٩٤ ـ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى مقتل الحسينعليه‌السلام في كربلاء :

(إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي ، ص ٢١٧ ط بيروت)

عن أم سلمة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من عندنا ذات ليلة ، فغاب عنا طويلا ، ثم جاءنا وهو أشعث أغبر ، ويده مضمومة. فقلت له : يا رسول الله ، مالي أراك أشعث أغبر؟ فقال : أسري بي في هذه الليلة إلى موضع من العراق ، يقال له : كربلاء ، فرأيت فيه مصرع الحسينعليه‌السلام وجماعة من ولدي وأهل بيتي ، فلم أزل ألتقط دماءهم فيها في يدي ، وبسطها فقال : خذيه واحتفظي (به) فأخذته فإذا هي شبه تراب أحمر. فوضعته في قارورة وشددت رأسها واحتفظت بها.

فلما خرج الحسينعليه‌السلام متوجها نحو أهل العراق ، كنت أخرج تلك القارورة في كل يوم وليلة ، فأشمها وأنظر إليها ، ثم أبكي لمصابها. فلما كان يوم العاشر من المحرم ـ وهو اليوم الذي قتل فيه ـ أخرجتها في أول النهار وهي بحالها ، ثم عدت

٢١٦

إليها آخر النهار ، فإذا هي دم عبيط (أي طري طازج). فضججت في بيتي وكظمت غيظي ، مخافة أن يسمع أعداءهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة. فلم أزل حافظة للوقت واليوم حتى جاء الناعي ينعاه ، فحقق ما رأيت.

١٩٥ ـ حديث أم سلمة (خبر القارورة):(تاريخ ابن عساكر ، ص ١٧٥)

عن الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة :

عن أم سلمة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : كان الحسن والحسينعليهما‌السلام يلعبان بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي ، فنزل جبرئيل فقال : يا محمد إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك! وأومأ بيده إلى الحسينعليه‌السلام . فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضمه إلى صدره ، ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم سلمة ، وديعة عندك هذه التربة. قالت : فشمها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : ريح كرب وبلاء. قالت : وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم سلمة ، إذا تحولت هذه التربة دما فأعلمي أن ابني قد قتل.

قال : فجعلتها أم سلمة في قارورة ، ثم جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول : إن يوما تحوّلين دما ليوم عظيم.

١٩٦ ـ الحسينعليه‌السلام يري أم سلمة مضجعه في كربلاء :

(بحار الأنوار للمجلسي ، ج ٤٥ ص ٨٩ ط ٣)

جاء في (الخرايج والجرايح) للقطب الراوندي :

من معجزات الحسينعليه‌السلام أنه لما أراد العراق ، قالت له أم سلمة : لا تخرج إلى العراق ، فقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يقتل ابني الحسين بأرض العراق ، وعندي تربة دفعها إلي في قارورة. فقال الحسينعليه‌السلام : إني والله مقتول كذلك ، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضا. وإن أحببت أن أريك مضجعي ومصرع أصحابي. ثم مسح بيدهعليه‌السلام على وجهها ، ففسح الله عن بصرها ، حتى رأيا ذلك كله ، وأخذ تربة فأعطاها من تلك التربة أيضا في قارورة أخرى ، وقالعليه‌السلام : إذا فاضت دما فاعلمي أني قتلت.

فقالت أم سلمة : فلما كان يوم عاشوراء ، نظرت إلى القارورتين بعد الظهر ، فإذا هما قد فاضتا دما ؛ فصاحت.

٢١٧

١٩٧ ـ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقتل الحسينعليه‌السلام :

(ينابيع المودة لسليمان القندوزي ج ٢ ص ١٤٣)

أخرج ابن سعد والطبراني عن أم المؤمنين عائشة (رض) رفعته ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أخبرني جبرئيل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، وجاءني بهذه التربة ، وأخبرني أن فيها مضجعه.

١٩٨ ـ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر عائشة بمقتل الحسينعليه‌السلام :

(مثير الأحزان لابن نما ، ص ٨)

عن أبي الفرج الجوزي عن رجاله ، عن عائشة قالت : دخل الحسين على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو غلام يدرج ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي عائشة ألا أعجبك ، لقد دخل علي آنفا ملك ما دخل علي مثله (وفي رواية : ملك المطر أو ملك القطر). فقال : إن ابنك هذا مقتول ، وإن شئت أريتك من تربته التي يقتل بها ، فتناول ترابا أحمر ، فأخذته أم سلمة فخزنته في قارورة. فأخرجته يوم قتله وهو دم.

١٩٩ ـ رواية أنس بن مالك الأنصاري :

(تاريخ ابن عساكر ص ١٦٩)

عن أنس بن مالك قال : استأذن ملك القطر على ربهعزوجل أن يزور النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأذن له ، فجاءه وهو في بيت أم سلمة. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم سلمة احفظيعلينا الباب لا يدخل علينا أحد. فبينا هي على الباب إذ جاء الحسينعليه‌السلام ففتح الباب ، فجعل يتقفز على ظهر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبي يلثمه ويقبله. فقال له الملك :أتحبه يا محمد؟ قال : نعم. قال: أما إن أمتك ستقتله! وإن شئت أن أريك من تربته المكان الذي يقتل فيها!(فأراه إياه). قال : فقبض قبضة من المكان الذي يقتل فيه ، فأتاه بسهلة حمراء (أو تراب أحمر). فأخذتها أم سلمة فجعلتها في ثوبها. قال ثابت : كنا نقول إنها كربلاء.

٢٠٠ ـ رواية أبي أمامة :

(تاريخ ابن عساكر ـ الجزء الخاص بالحسين ص ١٧١)

في تاريخ ابن عساكر ، والذهبي ، ومجمع الزوائد للهيثمي وغيرها ، عن أبي أمامة (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنسائه : لا تبكوا هذا الصبي «يعني حسينا».

٢١٨

قال : وكان يوم أم سلمة ، فنزل جبرئيل ، فدخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الداخل ، وقال لأم سلمة : لا تدعي أحدا أن يدخل علي.

فجاء الحسينعليه‌السلام فلما نظر إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البيت أراد أن يدخل ، فأخذته أم سلمة فاحتضنته وجعلت تناغيه وتسكته. فلما اشتد في البكاء خلت عنه. فدخل حتى جلس في حجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال جبرئيل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أمتك ستقتل ابنك هذا. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقتلونه وهم مؤمنون بي؟ قال : نعم يقتلونه. فتناول جبرئيل تربته فقال: مكان كذا وكذا.

فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد احتضن حسينا ، كاسف البال مهموما. فظنت أم سلمة أنه غضب من دخول الصبي عليه. فقالت : يا نبي الله ، جعلت لك الفداء ، إنك قلت لنا : لا تبكوا هذا الصبي ، وأمرتني أن لا أدع أحدا يدخل عليك ، فجاء فخليت عنه. فلم يرد عليها.

فخرج إلى أصحابه وهم جلوس ، فقال لهم : «إن أمتي يقتلون هذا» وفي القوم أبو بكر وعمر ، وكانا أجرأ القوم عليه. فقالا : يا نبي الله ، يقتلونه وهم مؤمنون؟!.قال : نعم. هذه تربته ، فأراهم إياها.

٢٠١ ـ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقتل الحسينعليه‌السلام وأصحابه في عمورا :

(بحار الأنوار للمجلسي ج ٤٥ ص ط ٣)

عن جابر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : قال الحسينعليه‌السلام لأصحابه قبل أن يقتل : إن رسول الله قال لي : «يا بني إنك ستساق إلى العراق ، وهي أرض قد التقى بها النبيون وأوصياء النبيين ، وهي أرض تدعى (عمورا). وانك تستشهد بها ويستشهد معك جماعة من أصحابك ، لا يجدون ألم مس الحديد. وتلا : (قلنا :( قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) [الأنبياء : ٦٩]. يكون الحرب بردا وسلاما عليك وعليهم». فأبشروا فو الله لئن قتلونا فإنا نرد على نبينا.

٢٠٢ ـ الإخبار بقتل الحسينعليه‌السلام قبل ولادته :

(دائرة المعارف لمحمد حسين الأعلمي ج ١٥ ص ١٨٠)

في الكافي ومرآة العقول (ج ١ ص ٢٩٣) عن الصادقعليه‌السلام أن جبرئيل نزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : يا محمد إن الله (يقرئك السلام) ويبشرك بمولود يولد من فاطمةعليها‌السلام تقتله أمتك من بعدك. فقال : يا جبرئيل ، وعلى ربي السلام ، لا حاجة

٢١٩

لي في مولود يولد من فاطمة تقتله أمتي من بعدي ثم عرج إلى السماء ثم هبط ، فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ، ويبشرك بأنه جاعل في ذريته الإمامة والوصية. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد رضيت.

٢٠٣ ـ روايات ابن عباس (رض):(مثير الأحزان لابن نما ص ١٢)

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رض) أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع الحسن والحسين وفاطمة وعليعليهما‌السلام ، فلما نظر إليهم بكى. فقال له أصحابه : يا رسول الله ، ما ترى واحدا من هؤلاء إلا بكيت ، أو ما فيهم من تسرّ برؤيته؟ فقال : والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية ، ما على وجه الأرض نسمة أحب إلي منهم. وإنما بكيت لما يحل بهم من بعدي ، وذكرت ما يصنع بهذا ولدي الحسين. كأني به وقد استجار بحرمي وقبري فلا يجار ، ويرتحل إلى أرض مقتله ومصرعه ، أرض كرب وبلاء. تنصره عصابة من المسلمين ، أولئك سادة شهداء أمتي يوم القيامة ، فكأني أنظر إليه وقد رمي بسهم فخر عن فرسه صريعا. ثم يذبح كما يذبح الكبش مظلوما.

ثم انتحبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكى وأبكى من حوله ، وارتفعت أصواتهم بالضجيج. ثم قام وهو يقول : اللهم إني أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي.

٢٠٤ ـ رواية أخرى : (البداية والنهاية لابن كثير ج ٦ ص ٢١٦)

قال أبو الحافظ أبو بكر البزاز في مسنده عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : كان الحسينعليه‌السلام جالسا في حجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال جبرئيل : أتحبه؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :وكيف لا أحبه وهو ثمرة فؤادي؟ فقال : أما إن أمتك ستقتله ، ألا أريك من موضع قبره؟ فقبض قبضة ، فإذا تربة حمراء.

إخبار الإمام عليعليه‌السلام

٢٠٤ ـ رواية ميثم التمار :(أمالي الصدوق ، ص ١١٠)

حدثنا الشيخ الصدوق ، قال : حدثنا عن جبلة المكية ، قالت : سمعت ميثم التمار يقول : والله لتقتلن هذه الأمة ابن نبيها في المحرم ، لعشر مضين منه ، وليتخذن أعداء الله ذلك اليوم يوم بركة. وان ذلك لكائن ، قد سبق في علم الله تعالى ذكره.أعلم ذلك بعهد عهده إلي مولاي أمير المؤمنينعليه‌السلام

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛(١) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة(٢) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله

__________________

(١) ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.

(٢) الاصل : المسألة.

٢٦١

بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا ـ لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية ـ : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين ـ أعني : القدم والحدوث ـ محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه ـ أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط ـ ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى / ٥٩ MB / أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين ـ أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث ـ ، والمحال قد يستلزم المحال.

٢٦٢

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا / ٥٦ DA / ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح ـ ولا جدليا ـ لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة ـ ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا ـ لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت ـ ؛ ولا الزاميا ـ لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء ـ أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل ـ وهو لزوم التسلسل في الشروط ـ جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون

٢٦٣

الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم ـ كالمحقق الطوسي واتباعه ـ ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه ، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل ـ لوجوبه حينئذ عندهم ـ ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط

٢٦٤

التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة / ٦٠ MA / الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له ـ كالأصلحية مثلا ـ ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة الله ـ تعالى ـ بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا(١) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بايجاب السؤال : بأنّ قدرته ـ تعالى ـ متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات / ٥٦ DB / ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا

__________________

(١) ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

٢٦٥

من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا ـ أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط ـ. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد ـ بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح ـ. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للايجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول ـ على فرض الايجاب المذكور ـ : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره ـ تعالى ـ في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

٢٦٦

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة ـ انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب ـ أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم ـ والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة ـ أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي ـ ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للايجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالايجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع / ٦٠ MB / الانفكاك المساوق للقدم ـ أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة ـ وهو الوجوب بالداعى في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للايجاب المقصود هاهنا ـ مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلى أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للايجاب المطلق فيمكن للأشعري ـ الّذي لا يقول بالايجاب اصلا ـ ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق

٢٦٧

الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن / ٥٧ DA / أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للايجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للايجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها ، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للايجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للايجاب المقصود هنا ـ أعني : ايجاب

٢٦٨

الحكماء ـ معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة ـ أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم ـ وهو المراد بالايجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل ـ أعني : ايجاب الحكيم ـ فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للايجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للايجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للايجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا ـ أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة ـ كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس

٢٦٩

إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في / ٦١ MA / الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع الانفكاك ـ كان حاصل كلامهم انّ تاثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ ـ أعني : الداعي القديم ـ كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين / ٥٧ DB / لا تكفي للترجيح ـ كما مرّ ـ ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني ـ أعني : نفي الايجاب الخاصّ ـ فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من

٢٧٠

وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعى أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه ـ أي : فرض الايجاب بالاختيار ـ في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالايجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين

٢٧١

الرازي في الاربعين بانّه قال : الترجيح يفيد الاولوية دون الوجوب(١) ، وأمّا عكسه فثابت لأنّ كلّ من قال بتحقيق الايجاب الخاصّ قال باستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فالقول بنفي الايجاب الخاصّ يدور مع القول بجواز الترجيح بلا مرجّح وجودا لا عدما ، والقول بثبوته يدور مع القول بامتناعه عدما لا وجودا ، وامّا قولهم بنفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك فهو يدور مع القول بالقدم وجودا وعدما وبالعكس ؛ ولذا جميع القائلين بالحدوث نفوه وبالعكس وجميع القائلين بالقدم اثبتوه وبالعكس. فقولهم بنفي هذا الايجاب صحيح على أصولهم وقواعدهم وصحيح في الواقع ونفس الأمر أيضا ، ودليلهم عليه تمام على الفلاسفة. ولا يمكن للفلاسفة أن يعارضوهم بصورة الاختيار بأنّه يلزم حينئذ أيضا امّا القدم أو التوقّف على الشروط الغير المتناهية ، لأنّهم لمّا جوّزوا الترجيح بلا مرجّح فيجوز لهم أن يقولوا لا يفتقر حدوث الحادث إلى مرجّح سوى الإرادة ليلزم أحد الأمرين ، ولا يمكن للفلاسفة أن يلتزموا مثل ذلك لتتمّ المعارضة ، فدليلهم تامّ على أصلهم هذا لا فى الواقع ونفس الأمر. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يجوّزوا الترجيح بلا مرجّح فالدليل المذكور من قبلهم غير تامّ على أصولهم ، لأنّه إذا عارضهم الفلاسفة بصورة الاختيار فان أجابوا بعدم لزوم أحد الأمرين لكفاية الداعي فللفلاسفة أيضا أن يلتزموا مثل ذلك ـ كما تقدّم ـ ، فتتمّ المعارضة عليهم.

ومنها ـ أي : ومن وجوه الاختلال في الاستدلال المذكور / ٦١ MB / إذا جعل دليلا لنفي الايجاب المذكور ، أي : استحالة الانفكاك ـ : انّ المراد من استلزامه القدم انّه مستلزم للقدم بالنوع يعني قدم الفعل المطلق ـ أي : طبيعة الفعل أو الفرد المنتشر ـ ، لا قدم فرد شخصيّ أو جميع الاشخاص. وحينئذ فيرد انّ استلزام الايجاب بالمعنى المذكور لقدم الفعل المطلق بديهى ، لأنّ عدم انفكاك الواجب عن العالم اي فعل ما هو بعينه قدم فعل ، فانّ الاستدلال عليه باستلزام نقيضه التوقّف على الشرط الحادث لغو مستدرك. والمراد بنقيضه هو الحدوث بالنوع ـ أي : حدوث الفعل المطلق ـ ، إلاّ انّا لا نريد هنا بالحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق وأمثالهما حدوث فعل ما أو

__________________

(١) راجع : الاربعين ، ج ١ ، ص ٣٢٠ ، ٣٢١.

٢٧٢

حدوث طبيعة الفعل المتحقّق في ضمن فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل / ٥٨ DA / المتحقّق في ضمن فعل ـ أعني : طبيعة ما ـ ، بل المراد حدوث مطلق النوع والطبيعة ـ أي : عموم هذا المفهوم المتحقّق في ضمن جميع الافراد بأن لا تكون طبيعة ما من طبيعة الفعل قديما أيضا ـ. فالمراد من الحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراد الفعل والسرّ في ذلك انّ المراد بقدم الفعل المطلق ما يطلق عليه الفعل ـ أعني : فردا ما ـ ، والمراد بحدوث الفعل المطلق نفي ذلك القدم ـ أعني : قدم فردا ما ـ ؛ والنفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فيكون المراد حدوث جميع الافراد.

ومنها : انّ التخلّف عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة وإن كان محالا لكن جاز أن يكون لازما ، لاجتماع المتنافيين وهما الموجب بالمعنى المذكور وحدوث أثره المطلق ، أي : عدم كون فعله المطلق قديما بان يكون مجموع افعاله وآثاره حادثا.

وأورد على هذا الوجه : بانّه خارج عن آداب المناظرة ، لانّه إذا سلّم محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يثبت مطلوب المستدلّ ، إذ ليس غرضه إلاّ انّه على هذا التقدير يلزم القدم ، والمورد قد سلّمه ، فلا ايراد.

فان قيل : المقصود ليس إلاّ ابطال الاستدلال لا ابطال المدّعى ـ أعني : محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور ـ ، فلا يثبت انّ المدّعى ـ أعني : محالية حدوث الفعل المطلق على تقدير الايجاب بالمعنى المذكور ـ بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال ، فالغرض هنا

ليس إلاّ التنبيه على فساد الاستدلال ، وهو يحصل بما ذكر ـ أعني : امكان استلزام المحال المحال ـ ؛

قلنا : للمستدلّ أن يقول : بناء الاستدلال على فرض جواز اجتماع الايجاب المذكور والحدوث ، فانّا فرضنا جواز الحدوث على هذا التقدير وأقمنا الاستدلال ، وليس بناء الاستدلال على فرض الايجاب المذكور ومحالية الحدوث ، فلا يرد علينا شيء إلاّ ما ارتكبنا من التطويل. وأمّا الايراد بانّ الحدوث على هذا التقدير محال فلا يتمّ استدلالكم ، فلا يضرّنا ، بل هو مدّعانا!. نعم! لو أجرينا الدليل على تقدير محالية هذا

٢٧٣

الحدوث لورد علينا مع ارتكاب هذا التطويل هذا الايراد ، لكن ليس كذلك ، بل أجرينا الدليل على فرض جواز الحدوث على ذلك التقدير ، فلا ايراد علينا.

ومنها : انّ توقّف حدوث الفعل المطلق على شرط حادث مستلزم للخلف. بيانه : انّه لو كان الفعل المطلق حادثا والفاعل موجبا فلا ريب في انّ أوّل ما يحدث عن ذلك الفاعل يجب أن يتوقّف على الشرط لئلاّ يلزم التخلّف المحال ، فيلزم أن يكون أوّل ما صدر عنه ذلك الشرط لا المشروط المفروض أوّلا ، هذا خلف!.

وانت تعلم انّ هذا أيضا نافع للمستدل وليس مضرّا له ـ كما لا يخفى ـ.

ومنها : انّ توقّف الحادث على تقدير الايجاب المذكور على شرط حادث مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه. بيانه : انّا قلنا انّ المراد بلزوم قدم العالم على فرض الايجاب المذكور هو قدم الفعل المطلق ـ أي : ما يطلق عليه الفعل ، أعني : فردا ما ـ ، فاذا ورد عليه النفي كان المنفي مجموع الافراد ، لأنّ النفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فاذا لم يكن الفعل المطلق قديما يكون جميع الأفعال حادثة موقوفة على شرط حادث خارج عنها ، وذلك الشرط أيضا من جملة الافعال الّتي يتوقّف على الشرط المذكور ، فيكون ذلك الشرط موقوفا على نفسه ، فتصير صورة الاستدلال هكذا : لو كان الفاعل موجبا لزم أن يكون فعل ما قديما وإلاّ ـ أي : وإن لم يكن فعل ما قديما ـ يكون كلّ فعل حادثا ، وإذا كان كلّ فعل حادثا يلزم توقّف هذا الحدوث ـ أعني : حدوث المجموع ـ على شرط حادث هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فذلك الشرط لكونه من الفعل المطلق يجب أن يكون داخلا فيه ، ولكونه شرطا له ـ أي : للفعل المطلق ـ يجب أن يكون مقدّما عليه ، فيلزم تقدّمه على نفسه. وعلى ما ذكر فلزوم توقّف الشيء على نفسه ـ أعني : الدور ـ ظاهر لا يقبل المنع ، لأنّه إذا كان المراد بحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراده ، والشرط المتوقّف عليه كان من جملة الافراد.

ثمّ ( ان )(١) توقّف مجموع الافراد على الشرط المذكور لكان الشرط المذكور أيضا يتوقّف على نفسه ، فيلزم توقّف شيء شخصى بعينه على نفسه ، وهو الدور.

__________________

(١) لفظة « ان » غير موجودة في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

٢٧٤

وبذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأفاضل : انّه على تقدير حدوث الفعل المطلق لا ريب في لزوم توقّفه على الشرط ، إلاّ انّ اللازم تقدّم فرد من العالم على فرد آخر لا تقدّم الشيء على نفسه.

والظاهر انّ هذا المورد حمل المطلق على الفعل العامّ المشترك بين جميع الافراد ، وفهم حينئذ وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ـ كما فهمه بعض آخر ـ : انّ الشرط الحادث الّذي يتوقّف عليه الفعل المطلق العامّ فرد من أفراد هذا العامّ ، فيكون الفعل العامّ متحقّقا فيه ، فاذا توقّف هذا العامّ المتحقّق في ضمن بعض الافراد على هذا العامّ المتحقّق في ضمن الشرط / ٦٢ MA / المذكور يلزم تحقّق الطبيعة قبل تحقّق الطبيعة ، وهو تقدم الشيء على نفسه ؛ فأورد : بانّ اللازم حينئذ تقدم فرد على فرد وهو كذلك ، فانّ غاية الأمر انّ تحقق هذا المطلق في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر ، ولا مانع فيه ، لأنّ الطبيعة ليس لها تحقّق على حدة وتحقّقها انّما هو بتحقّق فرد منها ، فتقدّمها على نفسها بتقدّم فرد منها على فرد آخر إنّما هو في الحقيقة تقدّم فرد منها على فرد آخر ـ كما مرّ / ٥٨ DB / في مباحث اثبات الواجب ـ. فلا يلزم هنا على هذا من توقّف الفعل المطلق على ما حملوه عليه على الشرط إلاّ تقدّم الشرط من أفراد الفعل المطلق على المشروط به منها ، فالصحيح في وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ما ذكرناه. وحينئذ لا مجال للايراد اصلا.

ثمّ أنت تعلم انّ لزوم تقدّم الشيء على نفسه من فرض الحدوث لا يضرّ المستدلّ ، بل هو مؤكّد لمطلوبه. لأنّ غرضه انّ الحدوث مع فرض الايجاب المذكور يتضمّن مفسدة لزوم التسلسل ، فاذا أورد عليه بانّه يتضمّن تقدّم الشيء على نفسه أيضا ، فله أن يقول : ذلك يؤكّد مطلوبي ، فالواجب عدم حدوث العالم في صورة الايجاب المذكور بل اللازم حينئذ قدمه. وبالجملة هذا الايراد كسابقه خارج عن آداب المناظرة ، لانّ غرض المستدلّ ابطال التوقّف ، فبطلانه من جهة استلزام توقّف الشيء على نفسه أقوى دليل على مطلوبه.

ثمّ مع لزوم تقدّم الشيء على نفسه إن كان التسلسل أيضا لازما فيلزم فيه

٢٧٥

محذوران ، وأن منع لزوم التسلسل.

وقيل : انّ ذلك الشرط الحادث يتوقّف على نفسه لا على شرط حادث آخر ، فلا يلزم إلاّ تقدّم الشيء على نفسه دون التسلسل ، وحينئذ يلزم محذور واحد نعم! لو قيل في صورة التسلسل : لا يلزم تقدّم الشيء على نفسه ـ لأنّ التسلسل وتقدّم الشيء على نفسه لا يجتمعان ـ ، لكان له وجه ولم يكن لهذا الايراد مجال.

ومن الأفاضل من حكم بصحّة اجراء الدليل المذكور إن جعل المفسدة فيه لزوم تقدّم الشيء على نفسه لا لزوم التسلسل ، حيث قال بعد أن جزم بأنّ الاستدلال المذكور لا يصحّ اجرائه من قبل المعتزلة ولا من قبل الاشاعرة برهانيا ولا الزاميا لبعض الوجوه السابقة : نعم! يمكن اجرائه الزاميا على تقرير آخر على تقدير حدوث الفعل المطلق بأن يقال : لو كان الفاعل موجبا لزم قدم الفعل المطلق وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه لو كان الفعل المطلق حادثا لتوقّف حدوثه على شرط هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فهو من حيث انّه داخل في الفعل المطلق متأخّر ومن حيث انّه شرط لحدوث الفعل المطلق متقدّم ، فيلزم تقدّمه على نفسه ؛ انتهى.

وما ذكره من عدم صحّة اجرائه من قبل الأشاعرة قد علمت خلافه ممّا تقدّم ؛ هذا.

وقد بيّن بعض الأفاضل لزوم تقدّم الشيء على نفسه في الاستدلال المذكور بوجه آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : انّ الحادث المذكور ـ أي : الّذي كلامنا فيه ـ بانه يتوقّف على شرط حادث هو أوّل الحوادث ، فالشرط الحادث إمّا أن يكون عينه أو متأخّرا عنه. وهذا على تقدير الحدوث بالنوع ـ بأن يكون الفعل المطلق حادثا لحدوث مجموع الأشخاص ـ ظاهر جدّا ، إذ لا يبقى شيء يكون خارجا عنها حتّى يكون شرطا لها متقدّما عليها ، وحينئذ يلزم إمّا تقدّم الشيء على نفسه أو على ما يتقدّم عليه.

وأورد عليه : بانّ الحادث المذكور لعلّه لا يكون أوّل حادث بل يوجد في مرتبة واحدة أمور غير متناهية على سبيل الاجتماع ، ويكون كلّ واحد منها موقوفا على واحد آخر ، وحينئذ فكلّ واحد حادث يتوقّف على شرط حادث آخر وهكذا ، و

٢٧٦

لا ينتهي إلى أمر يكون أوّل الحوادث ـ أعني : يكون متأخّرا عن نفسه أو عمّا يتأخّر عنه ـ ، فلا يلزم إلاّ التسلسل على سبيل الاجتماع ، لا توقّف الشيء على نفسه.

ومنها : انّه اذا كان أثر الموجب بالمعنى المذكور حادثا بشخصه أو بنوعه يلزم التخلّف البتة ـ سواء توقّف على الشرط أم لا ـ ، فلا حاجة إلى اعتبار توقّفه على شرط حادث والتزام التسلسل. وتوضيح ذلك : انّ الموجب إمّا تامّ أو ناقص ؛ والتامّ مشترك بين الموجبين : أحدهما ما هو معتبر عند الحكماء ـ وهو ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ ، وثانيهما ما هو معتبر عند المعتزلة ـ وهو ما يوجب الفعل في وقته الّذي تعلّق ارادته به للعلم بالأصلح ـ. والناقص ما يتوقّف صدور الفعل منه على شرط. والموجب بالمعنى المشهور ـ أي : ما يجب صدور الفعل عنه ـ مشترك بين التامّ والناقص. ولا ريب أنّ الموجب المراد هنا هو الموجب التامّ المعتبر عند الحكيم ، والتخلّف عنه غير جائز مطلقا ، واذا توقّف فعله على شرط يتحقّق التخلف ويكون ناقصا لا تامّا.

واعترض بعض الأفاضل على ذلك بانّ الايجاب المقصود هنا لا ينافي عدم وقوع ما يقتضيه الفاعل الموجب بهذا الايجاب لمانع عائد إلى غيره ، إذ حاصل معنى هذا الايجاب هو اقتضاء الذات من جهة لزوم الداعي ، ونحوه امتناع الانفكاك عن الفعل وذلك لا ينافي جواز الانفكاك ، فلا مانع عائد إلى غير ذات الفاعل كعدم امكان الأثر وعدم وقت له قبل وقت حدوثه ، فيجوز أن يكون الموجب بهذا الايجاب غير مستجمع للشرائط المعتبرة في التأثير بحسب نفس الأمر ، فلا يكون تامّا. فلا يستحيل التخلّف عنه ، إذ المحال انّما هو التخلّف عن الموجب التامّ والموجب بهذا المعنى لوجود المانع عن التأثير ليس تامّا ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ الموجب / ٦٢ MB / بالمعنى المقصود هنا ـ أعني : ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ هو الذي قال به الحكماء ، وصرّحوا بأنّه يلزمه قدم فعله وجزموا بانّ الايجاب بهذا المعنى مساوق للقدم ، فهو ما يستحيل انفكاك الفعل عنه بالنظر إلى الداعي مطلقا سواء كان عائدا إلى الذات أو إلى الغير. ومقابله ما لا يمتنع عنه الانفكاك ولو بالنظر إلى الداعي الخارجي كعدم امكان الأثر وعدم / ٥٩ DA / تحقّق وقت قبل وقت

٢٧٧

الحدوث ؛ كيف ولو كان الايجاب المقصود هنا غير مناف لعدم وقوع ما يقتضيه الفاعل لمانع عائد إلى الغير ـ كعدم الوقت وغيره ـ لكان هو بعينه الايجاب الّذي قال به المعتزلة! ، ـ كما اخترناه أيضا ـ.

* * *

( بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب )

ولما بلغ الكلام إلى هنا فلا بأس بأن نشير إلى حقيقة معنى الايجاب والموجب.

فنقول : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل لا بقدرة واختيار ـ كلفظ المضطرّ ـ ، فلا يطلق إلاّ على الطبائع كالماء والنار بالنسبة إلى مقتضى طبائعها. والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل بقدرة واختيار.

وكلّ منهما قد يكون تامّا ويكون ناقصا. امّا الموجب ـ بالفتح ـ كالطبائع الّتي لا يتوقّف تاثيرها على حصول بعض الشرائط أو رفع بعض الموانع. وان توقّف وحصل الشرائط وارتفع الموانع تكون العلّة التامّة حينئذ هو الفاعل مع تلك الشروط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل فقط ناقص وناقصة ـ كالطبائع الّتي يتوقّف تأثيرها على أحدهما ـ. وأمّا الموجب ـ بالكسر ـ فتامّة كلّ فاعل يفعل بقدرة واختيار من دون توقّف فعله على شرط أو رفع مانع ؛ وناقصة ما توقّف فعله على أحدهما بعد حصول الشرط أو رفع المانع لا يخرج الفاعل عن النقصان ، لأنّ التمامية حينئذ للفاعل مع تلك الشرائط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل بمجرّده ناقص.

ثمّ الحكماء لمّا قالوا بوجوب الفعل عنه ـ تعالى ـ بقدرة وإرادة غير منفكّة عنه ـ تعالى ـ وغير زائدة على ذاته لزمهم القول بعدم انفكاكه ـ تعالى ـ عن الفعل ، فيكون الواجب عندهم فاعلا موجبا ـ بالكسر ـ تامّا.

وأمّا المتكلّمون ؛ فالأشاعرة منهم قالوا : انّ القدرة والاختيار والإرادة زائدة على الذات ومنفكّة عنها في الأزل. لا أنّ تلك الصفات منفكّة عنها. بل بمعنى أنّ متعلّقها منفكّ عنها وقتا ما ؛ والمعتزلة منهم قالوا : انّ تلك الصفات ليست زائدة على الذات بل

٢٧٨

هي عينها ، إلاّ أنّ متعلّقها منفك عنها في الأزل لتعلّقها في الأزل بحصول المتعلّق فيما لا يزال نظرا إلى العلم بالمصلحة ؛ فعلى هذين المذهبين ـ أي : مذهب الأشاعرة والمعتزلة ـ لا يكون الواجب موجبا تامّا ، لتحقق الانفكاك المستلزم لتوقّف فعله ـ تعالى ـ على أمر آخر سوى ذاته. إلاّ أنّ ذلك لا يصير منشئا لنقصانه وعدم تماميته ، لأنّ الاصطلاح على أنّ التمامية هنا بمعنى عدم انفكاك الأثر. والانفكاك هنا إمّا لمراعات الأصلح أو لعدم الكماليّة في الأثر ، فلا يتطرّق شوب نقص على حريم كبريائه ـ تعالى ـ.

ويمكن أن يقال : انّ التامّ ما كان صدور الفعل عنه غير متوقّف على شرط خارج عنه ولا يخرج عن التمامية بالتوقّف على أمر داخل ولو حصل به الانفكاك بينه وبين الأثر ؛ والناقص ما توقّف صدور الفعل عنه على شرط خارج. وعلى هذا يكون الواجب عند المعتزلة موجبا تامّا لا ناقصا ، لعدم توقّف فعله على شيء سوى العلم بالأصلح وهو ليس خارجا عن ذاته ، بل عين ذاته عندهم. وعلى مذهب الأشاعرة لا يكون موجبا تامّا ، لكون الصفات عندهم زائدة على الذات.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل(١) حيث قال : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يكون معناه ما أثبت له الايجاب ، وهذا لا يكون إلاّ تامّا ؛ والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ هو ما يفيض الوجوب إلى الغير ـ أي : إلى اثره ـ ، والموجب بهذا المعنى قد يكون تامّا وقد يكون ناقصا ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما علمت من انّ كلاّ منهما يكون تامّا وناقصا.

ومن الفضلاء(٢) من أورد على ما نقلناه من بعض الأفاضل ، حيث قال : الظاهر من إطلاقاتهم أنّ لفظ الموجب انّما يطلق على كلّ فاعل مؤثّر في غيره ـ أي : باعتبار تأثيره في الغير لا باعتبار تأثيره عن الغير ـ. وعلى هذا لا يناسب اطلاق صيغة المفعول الّتي حاصل معناها ما اثبت له الايجاب على فاعل مؤثّر ، سواء كان من الطبائع أولا ؛

__________________

(١) هامش دال : هو ملاّ شمسا الجيلاني ـ ره ـ. منه.

(٢) هامش دال : آقا رضي القزويني ـ ره ـ. منه.

٢٧٩

اللهم إلاّ على المجاز.

وهو كما ترى.

ثمّ إنّ منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء في الايجاب إمّا لزوم القدم لايجابهم ، وإمّا لزعمهم انّ الواجب ـ تعالى ـ عند الحكماء موجب بالفتح ـ وفاعليته ـ تعالى ـ عندهم كفاعلية النار في الاحراق والشمس في الإضاءة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. وهذا الزعم غلط. فانّ الحكماء لا يطلقون عليه ـ تعالى ـ لفظ الموجب ـ بالفتح ـ ، ولو اطلقوه عليه احيانا فالظاهر انّهم يريدون منه كون الفاعل محكوما عليه بوجوب الفعل عنه ، لا كونه مضطرّا ؛ بل هو عندهم موجب ـ بالكسر ـ بمعنى انّه يجب الفعل بالقدرة والاختيار ، فهو موجب ـ أي : مفيض لوجوب المانع قاهر لجميع انحاء عدمه حتّى يصير موجودا ـ ؛ هذا.

واعترض بعض الأعاظم على هذا الايراد أيضا : بانّه لم يثبت فيما سبق حدوث جميع ما سوى الله ـ تعالى ـ مطلقا وإن كان بالنوع ، بل ذلك ممّا لا سبيل إليه عقلا. ولو سلّم ذلك لا يلزم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة وان كان يلزم التخلّف ، وذلك غير المدّعى في الايراد. وأيضا بناء الاستدلال ليس على فرض الايجاب في الأزل ، بل على الايجاب مطلقا والتخلّف مطلقا إنّما يلزم على فرض الايجاب في الأزل ـ أي : الايجاب بمعنى / ٥٩ DB / امتناع الانفكاك مطلقا ـ ، دون الايجاب المطلوب الّذي يشمل الايجاب بالاختيار الّذي قال به المعتزلة ؛

وفيه : انّ حدوث الأجسام والأعراض ثابت بالفعل شخصا ونوعا ـ كما تقدّم ـ.

وأمّا المجرّدات وإن لم يثبت حدوثها بالفعل شخصا ونوعا ولكن العمدة في اثبات حدوثها هو الاجماع والنقل ، وهما كما يدلاّن على حدوثها شخصا فكذلك يدلاّن على حدوثها نوعا أيضا ؛ وقد تقدّم ذلك مفصّلا.

وما ذكره من عدم لزوم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة ـ نظرا إلى عدم صدق / ٦٣ MA / الانفكاك حينئذ لعدم تحقّق القدم بالنوع في الشروط المتعاقبة ـ ؛

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735