موسوعة كربلاء الجزء ١

موسوعة كربلاء 10%

موسوعة كربلاء مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 735

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 735 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 452247 / تحميل: 5265
الحجم الحجم الحجم
موسوعة كربلاء

موسوعة كربلاء الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ولـمـّا أخبر النبي عن نزول الوحي وتلا الآيتين إرتفعت أصواتهم بقولهم: اتنهينا، اتنهينا.

وكلّ هذا يعرف عن رسوخ هذه العادة الشنيعة وهذا العمل القبيح في المجتمع العربي آنذاك إلى درجة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستطع ـ تحت ضغط الظروف ـ أن يقطع مادة الفساد منذ هبوطه أرض المدينة دفعة واحدة، بل تدرّج في تحقيق التحريم، وترسيخه في أذهانهم ونفوسهم.

رووا أصحاب السنن والمسانيد أنّه لـمّا نزل تحريم الخمر قال عمر: أللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) قال فدعي عمر فقرئت عليه فقال: أللّهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) فكان منادي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اُقيمت الصّلاة ينادي ألّا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: أللّهم بيّن لنا بياناً شافياً، فنزلت:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

قال عمر: اتنهينا، اتنهينا(١) .

ويظهر ممّا رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم: انّ نهي الرسول عن الخمر كان مشهوراً عندما كان مقيماً بمكّة بين ظهراني قريش، وخرج الأعشى إلى رسول الله يريد الإسلام ومعه قصيدته المعروفة في مدح النبي التي مستهلّها:

الم تغتمض عينك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السليم مسهّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنّما

تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا

__________________

(١) سنن أبي داود: ج ٢ ص ١٢٨، مسند أحمد: ج ١ ص ١٥٣، سنن النسائي: ج ٨ ص ١٨٧، مستدرك الحاكم: ج ٢ ص ٢٧٨، إلى غير ذلك من المصادر.

٤١

إلى أن قال:

فإيّاك والميتات لاتقربنها

لا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا

و لاتقربنَّ حرّة كان سرها

عليك حراماً فانكحن أو تأبّدا(١)

فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها إعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للسلم فقال له: يا أبا بصير إنّه حرّم الزنا، فقال الأعشى: والله إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من ارب، فقال له يا أبا بصير:

فإنّه يحرّم الخمر، فقال الأعشى:

أمّا هذه فو الله إنّ في النفس منها لعُلالات، ولكنّي منصرف فأتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فاُسلم، فانصرف فمات في عامه هذا، ولم يعد إلى رسول الله(٢) .

وببالي أنّه جاء في بعض المصادر أنّه قيل له: إنّه يحرّم الأطيبين والمراد بهما الخمر والزنا، وقد عرفت أنّه مع ما رأى من نور النبوّة ودخل عليه من بصيص الإيمان لم يتحمّل ترك الخمر، فعاد ليتروّى منها، ليعود بعد عام إلى المدينة، ولكن وافاه الأجل قبل أن يسلم.

وهذا مَثل آخر يعرب عن ترسّخ هذه العادة القبيحة في ذلك المجتمع.

٨ ـ وأد البنات

أوّل من لطّخ يده بدم البنات البريئات هم العرب الجاهليّون، فقد كانوا يئدون بناتهم لأعذار مختلفة واهية، فتارة يتذرّعون بخشية الإملاق، والاُخرى يتجنّون بحجّة

__________________

(١) الأرمد: الذي يشتكي عينيه من الرمد، والسليم: الملدوغ، والمسهّد: الذي منع من النوم، والمهدد ـ على وزن معلل ـ: اسم امرأة، وتأبّد: أي تعزّب وابتعد عن النساء.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٨٦.

٤٢

الاجتناب عن العار، وقد حكى سبحانه عقيدة العرب في بناتهم ووأدهنّ في آيات نذكر ما يلي:

( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( النحل / ٥٨ و ٥٩ ).

والآية تصوّر احساس القوم وإنفعالهم عندما كان أحدهم يبشّر بولادة أُنثى له، فكان يتجهّم وجهه ويتغيّر إلى السواد، ويظهر فيه أثر الحزن والكراهة، والقوم يكرهون الاُنثى مع أنّهم جعلوها لله سبحانه(١) ، ثمّ لم يزل الحزن يتزايد فيمتلئ الشخص غيظاً، وعند ذلك يستخفي من القوم الذي يستخبرونه عمّا ولد له، إستنكافاً منه، وخجلاً ممّا بشّر به من الاُنثى، ثمّ هو ينكر في أمر البنت المولودة له أيحفظها على ذل وهوان، أم يخفيها في التراب، ويدفنها حيّة وهذا هو الوأد( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي في قتل البنات البريئات المظلومات.

ثمّ إنّه سبحانه يحارب بشدّة هذا العمل الإجرامي في بعض الآيات ويقول:

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) ( الإسراء / ٣١ ).

فالله سبحانه هو المتكفّل برزقهم ورزق أولادهم وقتلهم خطأ عظيم عند الله.

وقال سبحانه:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ( الأنعام / ١٥١ )

ويؤكّد القرآن على تحريم قتل هذه البنات المظلومات بأنّ المؤودة سيسأل منها يوم القيامة، قال سبحانه:( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) ( التكوير / ٨ ).

__________________

(١) إشارة إلى قوله سبحانه:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ و ٢٢ ).

٤٣

وقد ذكر أصحاب السير بعض الدوافع التي دفعت العرب إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف الظالم بشأن تلك البريئات لا يسع المجال لنقلها، ولكن يظهر ممّا نقله صعصعة بن ناجية ـ جد الفرزدق ـ: أنّ ذلك العمل الإجرامي كان شائعاً ورائجاً في غير واحدة من القبائل آنذاك، وإليك البيان:

إنّ صعصعة بن ناجية بن عقال كان يفدّي المؤودة من القتل، ولـمـّا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: يا رسول الله إنّي كنت أعمل عملاً في الجاهلية، أفينبغي ذلك اليوم ؟ قال: وما عملك ؟ فقال: إنّه حضر ولادة امرأة من العرب بنتاً، فأراد أبوها أن يئدها، قال فقلت له: أتبيعها ؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها ؟ قال: قلت إنّما أشتري حياتها ولا أشتري رقّها، فاشتريتها منه بناقتين عشراوين وجمل، وقد صارت لي سُنَّة في العرب على أن أشتري ما يئدونه بذلك فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا مؤودة وقد أنقذتها.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لك أجره إذ منّ الله عليك بالإسلام(١) .

وقد ذكر الفرزدق إحياء جدّه للمؤودات في كثير من شعره كما قال:

ومنّا الذي منع الوائدات

وأحيى الوئيد فلم يؤدد(٢)

ويعرب عن شيوع هذه العادة الوحشيّة والمروّعة قوله سبحانه:

( وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( الأنعام / ١٣٧ ).

وكذا قوله:( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ( الأنعام / ١٤٠ ).

__________________

(١) بلوغ الارب: ج ٣ ص ٤٤.

(٢) المصدر نفسه.

٤٤

٩ ـ أكل الخبائث من الدماء والحشرات

كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوانات كالفأر والضب الوزغ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل الميتة بجميع أقسامها أعني المنخنقة، والموقوذة، والمتردّية والنطيحة، وما أكل السبع، وكانوا يملؤون الأمعاء من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما يسيل منها من الدماء.

هذا ورغم أنّه مضى على ظهور التشريع الإسلامي إلى الآن أربعة عشر قرناً كثيراً من الاُمم غير المسلمة تأكل أصناف الحيوانات حتّى الكلب والهر، بل والديدان والأصداف، وقد اتّخذ الإسلام بين هذا وذاك طريقاً وسطاً، فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من بني الإنسان، فحلّل من البهائم الضأن والمعز والبقر والإبل، وكرّه أكل لحوم الفرس والحمار، وحلّل من الطيور غير ذات الجوارح ممّا له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، كما حلّل من لحوم البحر بعض أنواع السمك، واشترط في كل واحد من هذه اللحوم نوعاً من التذكية.

والإمعان في الآية التالية يقودنا إلى أنّ العرب كانت تفقد نظام التغذية، أو كانت تتغذّى من كلّ ما وقعت عليه يدها من اللحوم، كما أنّها كانت تفقد الطريقة الصحيحة لذبح الحيوان، فكانوا يقتلونه بالتعذيب بدل ذبحه، وإليه يشير قوله سبحانه:

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ) ( المائدة / ٣ ).

فقد كانوا ينتفعون من الميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح باسم الأصنام والأوثان.

كما كانوا يستفيدون من « المنخنقة » وهي التي تدخل رأسها بين شعبتين من

٤٥

شجرة فتختنق فتموت أو تخنق بحبل الصائد، « والموقوذة » وهي التي تضرب حتّى تموت، « والمترديّة » وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر، « والنطيحة » وهي التي ينطحها غيرها فتموت.

١٠ ـ التقسيم بالأزلام

كان التقسيم بالأزلام ميسراً رائجاً بينهم، وكان لهذا العمل صبغة الدين، وقد اختلفوا في تفسيره على قولين:

١ ـ قالوا: المراد طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفائلون بها في أسفارهم، وابتداء أُمورهم، وهي سهام كانت في الجاهليّة مكتوب على بعضها: « أمرني ربّي »، وعلى بعضها « نهاني ربّي »، وبعضها غفل لم يكتب عليه شيء، فإذا أرادوا سفراً أو أمراً يهتمّون به، ضربوا على تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه « أمرني ربّي »، مضى الرجل في حاجته، وإن خرج الذي عليه « نهاني ربّي » لم يمض، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعاد.

٢ ـ روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين كيفيّة التقسيم بالأزلام بشكل آخر، فقال:

إنّ الأزلام عشرة، سبعة لها انصباء وثلاثة لا انصباء لها، فالتي لها انصباء: الفذ، التوأم، المسبل، النافس، الحلس، الرقيب، المعلى. فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستّة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم.

والتي لا انصباء لها: السفيح والمنيح والوغد.

وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاء، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام، ويدفعونه إلى رجل، وثمن الجزور على من تخرج له « التي لا انصباء لها »

٤٦

وهو القمار، فحرّمه الله تعالى(١) .

والتفسير الثاني أنسب لكون البحث في الآية عن اللحوم المحرّمة.

١١ ـ النسيء في الأشهر الحرم

لقد شاع في الألسن أنّ العرب لـمّا كانوا أصحاب غارات وحروب وكان استمرار الحروب والغارات مانعاً عن إدارة شؤون المعاش، عمدوا إلى تحريم القتال والحرب في الأشهر الأربعة المعروفة بالأشهر الحرم أعني: « رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرّم ».

والظاهر من بعض الآيات أنّ التحريم هذا كان مستنداً إلى تشريع سماوي، كما هو المستفاد من قول الله تعالى:

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) ( التوبة / ٣٦ ).

فإنّ قوله( ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) إشارة إلى أنّه جزء من الدّين القيّم لا من طقوس العرب الجاهلي، ولعلّه كان سنّة من سنن النبي إبراهيم ورثتها عنه العرب.

وعلى كلّ تقدير فقد كان العرب يتدخّلون في هذا التشريع الإلهي فيؤخّرون الحرمة من الشهر الحرام إلى بعض الأشهر غير المحرّمة.

وبعبارة اُخرى كانوا يؤخّرون الحرمة، ولا يبطلونها برفعها من أساسها واصلها حفاظاً على السنّة الموروثة عن أسلافهم عن النبي إبراهيمعليه‌السلام .

فمثلاً كانوا يؤخّرون تحريم محرّم إلى صفر، فيحرّمون الحرب في صفر

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ١٥٨ وما أشبه التقسيم بالأزلام بالعمل المعروف في عصرنا ب‍ « اليانصيب الوطني ».

٤٧

ويستحلّونها في محرّم فيمكثون على ذلك زماناً ثمّ يزول التحريم عن صفر ويعود إلى محرّم، وهذا هو المعنى بالنسيء ( أي التأخير ).

وكان الدافع وراء هذا النسيء هو انّهم أصحاب حروب وغارات، فكان يشقّ عليهم أن يمتنعوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم، ولا يغزون فيها، ولهذا كانوا يؤخّرون تحريم الحرب في محرّم إلى شهر صفر، قال سبحانه:

( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة / ٣٧ ).

روى أهل السير أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة حجّة الوداع:

« ألا وانّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات، ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب مضربين جمادى وشعبان »(١) .

والحديث يعرب عن شكل آخر للنسيء غير ما ذكرناه فإنّ ما ذكرناه كان مختصاً بتأخير حكم الحرب من محرّم إلى صفر، ولكن النسيء المستفاد من الحديث على وجه آخر وهو أنّ المشركين كانوا يحجّون في كل شهر عامين فحجّوا في ذي الحجة عامين، وحجّوا في محرّم عامين، ثمّ حجوا في صفر عامين، وكذا في بقيّة الشهور اللاحقة حتّى إذا وافقت الحجّ التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام القادم حجّة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فعند ذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته ».

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٢٢.

٤٨

١٢ ـ الربا ذلك الاستغلال الجائر

كان العرب الجاهليّون يرون البيع والربا متماثلين، ويقولون: « إنّما البيع مثل الربا » فيضفون الشرعيّة على الربا كإضفائها على البيع، ولكن شتّان ما بين البيع والربا، فإنّ الثاني ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة، ويفسد الأمن والاستقرار، ويهيء النفوس للانتقام بأية وسيلة ممكنة ويدعو إلى الفرقة والاختلاف سواء كان الربا مأخوذاً من قبل الفرد أو مأخوذ من جانب الدولة.

وفي الثاني من المفاسد ما لا يخفى إذ أدنى ما يترتّب عليه تكديس الثروة العامّة، وتراكمها في جانب، وتفشّي الفقر والحرمان في الجانب الآخر، وظهور الهوّة السحيقة بين المعسرين والموسيرين بما لا يسدّه شيء.

ولسنا هنا بصدد بيان هذه المفاسد والمساوئ، لكن الهدف هو الإشارة إلى أنّ الربا كان من دعائم الاقتصاد الجاهلي، والقرآن نزل يوبّخ العرب على ذلك بوجه لا مثيل له، ويقول سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة / ٢٧٨ و ٢٧٩ ).

ويقول سبحانه:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( البقرة / ٢٧٥ ).

والآية تشبّه آكل الربا بالممسوس المجنون، فكما أنّه لأجل اختلال قوّته المميّزة لا يفرّق بين الحسن والقبح، والنافع والضار، والخير والشر، فهكذا حال المرابي عند أخذ الربا، فلأجل ذلك عاد لا يفرّق بين الربا والبيع، ويقول:( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) مع أنّ الذي تدعو إليه الفطرة وتقوم عليه الحياة الإجتماعية للإنسان، هو أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه، بما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه.

٤٩

وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه، مع زيادة فهذا شيء يخالف قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فإنّ ذلك يؤدِّي من جانب المرابي إلى إختلاس مال المدين، وتجمّعه عند المرابي وهذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو إلّا من مال الغير، فهو في الانتقاص والانفصال من جانب، وفي الزيادة والانضمام من جانب آخر، ونتيجة ذلك هو ظهور الاختلاف الطبقي الهائل الذي يؤول إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة ثريّة تملك كل شيء، وطبقة فقيرة تفقد كل شيء، والأُولى تعاني من البطنة، والثانية تتضرر من السغب.

خاتمة المطاف

ونختم البحث بما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره من أنّه قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس ـ وهما من الخزرج ـ وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعُتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.

قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟

قال له عتبة: خرج فينا رجل يدّعي أنّه « رسول الله » سفَّه أحلامَنا وسبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم ؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع: أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهجره المدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب.

٥٠

فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود.

فقال: فأين هو ؟ قال: جالس في الحجر وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم فلا تسمع منه ولا تكلَّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر ؟ لابدّ أن أطوف بالبيت، فقال له: ضع في أُذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشّى اُذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسوله اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر إليه فجأة.

فلمّا كان الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل منّي أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أعرفه حتّى أرجع إلى قومي فأخبرهم، ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به، وقال لرسول الله: « أنعم صباحاً » فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحيّة أهل الجنّة: السلام عليكم.

فقال أسعد: إنّ عهدي بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمّد ؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى شهادة اَن لاَ إلَه إلّا الله وإنّي رسولُ الله وأدعوكم:

١ ـ إلّاتُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

٢ ـوَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .

٣ ـوَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .

٤ ـوَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .

٥ ـوَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلّا بِالحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

٦ ـوَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ .

٧ ـوَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ .

٥١

٨ ـلا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَهَا .

٩ ـوَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ .

١٠ ـوَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( الأنعام / ١٥١ و ١٥٢ ).

فلمّا سمع أسعد هذا قال: أشهد أنْ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وإنّك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، بيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك، فلا أحد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن ينعم الله لنا أمرنا فيه، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك، كانوا يبشّروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له(١) .

إنّ هذا النص التاريخي يدفعنا إلى القول بأنّ رئيس الخزرج كان قد وقف على داء قومه العيّاء، ودوائه الناجع، وإنّ قومه لن يسعدوا أبداً بالتحالف مع هذا وذاك وشن الغارات وإن انتصروا على الأوس، وإنّما يسعدون إذا رجعوا إلى مكارم الأخلاق، وتحلّوا بفضائلها التي جاءت أُصولها في هاتين الآيتين اللتين تلاهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجر إسماعيل.

عرف وافد الخزرج على أنّ مجتمع يثرب ومن والاه قد أشرفوا على الدمار والإنهيار، لأجل أنّهم غارقين في غمرات الشرك، ووأد البنات، واقتراف الفواحش، وقتل النفس المحترمة، وأكل مال اليتيم، وبخس الأموال عند الكيل والتوزين، وترك العدل والقسط في القول والعمل، ونقض عهود الله إلى غير ذلك من الأعمال السيئة فلا يصلحهم إلّا إذا خرجوا عن شراك هذه المهالك والموبقات.

__________________

(١) أعلام الورى بأعلام الهدى: ص ٥٧، وللقصة ذيل جدير بالمطالعة وقد أخذنا منها موضع الحاجة.

٥٢

فخرج إلى يثرب ومعه مبعوث من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعني « مُصعبَ بن عُمير » فبشّر أهل يثرب بما عرف من الحقّ، وصار ذلك تمهيداً لقدوم الرسول الأكرم إلى بلده، بعد ما بعثوا وفوداً إلى مكّة ليتعرّفوا على رسول الله ويبايعوه على ما هو مذكور في السيرة والتاريخ.

فنقول: كان هذا هو موطن النبي ودار ولادته وهذه هي ثقافة قومه وحضارة بيئته، وهذه صفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهذه هي علومهم ومعارفهم، حروبهم وغاراتهم، عطفهم وحنانهم، كل ذلك يعرب عن إنحطاط حضاري، وإنحلال خلقي، كاد أن يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار لو لا أن شاء الله حياتهم الجديدة وميلادهم الحديث.

وأين هذا ممّا جاء به القرآن الكريم والسنّة النبويّة من الدعوة إلى التوحيد، ورفض الأصنام والأوثان، وحرمة النفوس، والأعراض والأموال، والدعوة إلى العلم، والقراءة والكتابة، والحث على العدل والقسط في القول والعمل، والتجنّب عن الدعارة والفحشاء، ومعاقرة الخمر والميسر، فلو دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على أنّ ما جاء به من الأُصول لا يمتّ إلى بيئته بصلة.

هذا ما في الذكر الحكيم حول الوضع الإجتماعي والثقافي والعقائدي والعسكري للعرب في العصر الجاهلي وما كانوا عليه من حيرة وضلال، وسقوط وانهيار، فهلمّ معي ندرس وضع العرب الجاهلي عن طريق آخر وهو الإمعان في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام الذي عاين الوضع الجاهلي بأُمّ عينيه، فقد قام الإمام في خطبه ورسائله وقصار كلماته ببيان أحوال العرب قبل البعثة، وما كان يسودهم من الوضع المؤسف، وبما أنّ الإمام هو الصادق المصدّق، نقتطف من كلامه في مجال الخطب والرسائل والكلم القصار ما يمتّ إلى الموضوع بصلة، وفي ذلك غنى وكفاية لمن أراد الحقّ:

٥٣

أ ـ الفوضويّة العقائديّة

١ ـ« وَأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقةٌ، وَأهْواءٌ مُنتَشِرَةٌ، وَطَرائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِ بِخَلْقِهِ، اَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ اَوْ مُشِيرٍ إلى غَيْرِهِ، فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَاَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ » (١) .

٢ ـ« بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، واسْتَزَلَّتْهُمُ الكِبْرِيَاءُ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الجَاهِلِيَّةُ الجَهْلاَءُ، حَيَارَىٰ فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ، وَبَلاَء مِنَ الجَهْلِ فَبَالَغَ صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي النَّصِيْحَةِ ومضَىٰ عَلَى الطَّرِيقَةِ وَدَعَا إلى الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ » (٢) .

٣ ـ« والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَزَمَ فِيْهَا حَبْلُ الدِّينِ، وتزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وتشَتَّتَ الأَمْرُ، وَضَاقَ المَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، وَالعَمَى شَامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الاِيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وتنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ. اَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ، بِهِمْ سَارَتْ اَعْلاَمُهُ، وقامَ لِوَاؤُهُ. فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِاَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بِاَظْلاَفِهَا، وقامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا، فَهُمْ فِيْهَا تَائِهُونَ، حَائِرُونَ، جَاهِلُونَ، مَفْتُونُونَ، في خَيْرِ دَارٍ وَشَرِّ جِيْرَانٍ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بِاَرْض عَالِمِهَا مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُهَا مُكْرَمٌ » (٣) .

٤ ـ« واشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسُولُهُ، ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ، قَدْ قَادَتْهُمْ اَزِمَّةُ الحَيْنِ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَى اَفْئِدَتِهِمْ اَقْفَالُ الرَّيْنِ » (٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٩٥.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ٢.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٩١.

٥٤

٥ ـ« ثُمَّ اِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ حِيْنَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الاِنْقِطَاعُ، واقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الإِطِّلاعُ، واظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ اِشْرَاقٍ، وقَامَتْ بِاَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ، وَخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وازِفَ مِنْهَا قِيادٌ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا، وَاقْتِرَاب مِنْ اَشْرَاطِهَا، وتصَرُّم مِنْ اَهْلِهَا، وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا، وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا، وَعَفَاءٍ مِنْ اَعْلاَمِهَا، وتكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا، وقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا، جَعَلَهُ اللهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ، وَكَرَامَةً لأمَّتِهِ، وربِيعاً لأهْلِ زَمَانِهِ، ورفْعَةً لأعْوَانِهِ، وَشَرَفاً لأنْصَارِهِ » (١) .

ب ـ الوضع الإجتماعي في العصر الجاهلي

٦ ـ« اَرْسَلَهُ عَلَى حِيْنِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُوْلِ هَجْعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، واعْتِزَام مِنَ الفِتَنَ وانْتِشَارٍ مِنَ الاُمُورِ، وتلَظٍّ مِنَ الحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الغُرُورِ، عَلَى حِيْنِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وايَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، واغْوِرَاءٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الهُدَى، وَظَهَرَتْ اَعْلاَمُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهِا ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيْفَةُ، وَشِعَارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ، فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ وَاذْكُرُوا تِيْكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ واخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ » (٢) .

ج ـ المستوى الثقافي لأهل الجاهلية

٧ ـ« وَلاَتَكُونُوا كَجُفَاةِ الجَاهِلِيَّةِ، لاَ فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ، وَلاَ عَنِ الله يَعْقِلُونَ، كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي اَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً ويخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً » (٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٨.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٨٩.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٦٦.

٥٥

٨ ـ« اَمَّا بَعْدُ فَاِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وَلَيْسَ اَحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَيَدَّعِي نُبُوَّةً، وَلاَ وَحْياً » (١) .

د ـ سيادة الوثنية

٩ ـ« فَبَعَثَ الله مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ اِلَىٰ عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إلى طَاعَتِهِ بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَاَحْكَمَهُ » (٢) .

١٠ ـ« بَعَثَهُ حِينَ لاَعَلَمٌ قَائِمٌ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ » (٣) .

ه‍ ـ العصبية الجاهليّة

١١ ـ« اَضَاءَتْ بِهِ البِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ المُظْلِمَةِ، والجَهَالَةِ الغَالِبَةِ، وَالجَفْوَةِ الجَافِيَةِ، وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الحَرِيمَ وَيسْتَدِلُّونَ الحَكِيمَ، وَيحْيَونَ عَلَى فَتْرَةٍ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَة » (٤) .

و ـ مأكلهم ومشربهم

١٢ ـ« اِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَاَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَاَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنْيِخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتأْكُلُونَ الجَشِبَ وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ،

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٠٤ و ٣٣.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ١٤٧.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٦.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٥١.

٥٦

وَتَقْطَعُونَ اَرْحَامَكُمْ، الاَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، والآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ » (١) .

ز ـ مكانة المرأة في الجاهلية

١٣ ـ كلامه في المرأة الجاهلية مخاطباً عسكره قبل لقاء العدوّ بصفّين:« وَلاَ تَهِيْجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً وَاِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ اُمَرَاءَكُمْ، فَاِنَّهُنَ ضَعِيفَاتُ القُوَى والاَنْفُسِ والعُقُولِ، اِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَاِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ المَرْأَةَ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِالفَهْرِ، أَوِ الهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ » (٢) .

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ٢٦.

(٢) نهج البلاغة، الكتاب رقم ١٤ من وصيّته لهعليه‌السلام .

٥٧
٥٨

(٣)

ميلاد النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

أو

تبلّج النور في الظلام الحالك

إنّ التعرّف على حياة النبي يتوقّف على دراسة مراحل ثلاث تشكّل فصول عمره المبارك وهي:

١ ـ من ولادته إلى بعثته.

٢ ـ من بعثته إلى هجرته.

٣ ـ من هجرته إلى رحلته.

إنّ أصحاب السير والتواريخ درسوا الفصول الثلاثة على ضوء الروايات والأحاديث التي تلقّوها عن الصحابة والتابعين، ونحن ندرسها على ضوء القرآن الكريم، فنقول:

إتّفق المؤرخون على أنّ النبي الأكرم ولد عام الفيل، وهي السنة الّتي عمد أبرهة إلى تدمير الكعبة وهدمها ولكنّه باء بالفشل وهلك هو وجنوده بأبابيل، كما يحكي عنه قوله سبحانه:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ *وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ *فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ) ( الفيل / ١ ـ ٥ ).

ومن أراد الوقوف على تفصيل القصّة فعليه المراجعة إلى كتب السيرة والتفسير والتاريخ.

٥٩

ويظهر ممّا أخرجه مسلم أنّ هذا اليوم يوم مبارك، قال: إنّ أعربياً قال: يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الإثنين ؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه، واُنزل عليّ فيه(١) .

لم يذكر القرآن ما يرجع إلى المرحلة الاُولى من حياته إلّا شيئاً قليلاً نشير إليها إجمالاً:

١ ـ عاش يتيماً فآواه سبحانه.

٢ ـ كان ضالاًّ فهداه.

٣ ـ كان عائلاً فأغناه.

٤ ـ كما ذكر أسماءه في غير واحد من السور.

٥ ـ جاءت البشارة باسمه « أحمد » في الإنجيل.

٦ ـ كان أُمّياً لم يدرس ولم يقرأ ولم يكتب.

٧ ـ كان قبل البعثة مؤمناً موحّداً عابداً لله فقط.

فإليك البحث عن هذه الاُمور واحد بعد آخر:

١ ـ الإيواء بعد اليُتمْ

ولد النبيّ الأكرم من والدين كريمين فوالده عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.

واتّفقت الإماميّة والزيديّة وجملة من محقّقي السنّة على أنّه كان موحّداً مؤمناً.

ويستدل من صفاته المحمودة، وفضائله المرموقة، والأشعار المأثورة، على

__________________

(١) مسند أحمد: ج ٥ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٩، والسنن الكبرى للبيهقي: ج ٤ ص ٢٩٣، وصحيح مسلم ـ كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ج ١ ص ٩٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

يوم أعطي من المخافة ضيما

والمنايا يرصدنني أن أحيدا

وفي كامل ابن الأثير ، عوضا عن (فلق) : (شفق) ، وفي تاريخ ابن عساكر (غبش) ، وفي الوفيات (غلس). والسّوام : طائر.

ومعنى البيتين : إذا كانت المنايا تحيط بي من كل جانب ، فألقي يدي إلى الضيم مخافة الموت ، فلن أكون بطلا يغير عند الصبح على الأعداء ، ولن أدعى يزيدا.

ترجمة محمّد بن الحنفية

كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يحب ابنه محمّد بن الحنفية حبا شديدا. وقد روي عنه أنه قال : من أحبني فليحبّ ابني محمدا. وقد ذكر علماء الرجال أن المحمّدين الثلاثة وهم : ابن الحنفية وابن أبي بكر وابن أبي حذيفة ، كانوا يساوقون في الدرجة.

ولقد كان محمّد بن الحنفية معذورا في تركه النصرة لأخيه وإمامه في كربلاء ، لأنه كان مبتلى بمرض شديد في ذلك الوقت. وما تضمنته الأخبار من حيث حسن نصيحته لأخيه والبكاء الشديد لأجله ، وحصول الغشية بعد الغشية له مرارا لأجل فراقه ، يكشف عن قوة إيمانه ، وعن سرّ ما قاله أمير المؤمنينعليه‌السلام في شأنه.

٤٧٢ ـ نساء بني عبد المطلب يجتمعن للنياحة ويطلبن من الحسينعليه‌السلام عدم السفر :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٢٨)

وأقبلت نساء بني عبد المطلب ، فاجتمعن للنياحة لمّا بلغهن أن الحسينعليه‌السلام يريد الشخوص من المدينة ، حتّى مشى فيهن الحسينعليه‌السلام ، فقال : أنشدكنّ الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ورسوله. قالت له نساء بني عبد المطلب : فلمن نستبقي النياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيوم مات فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن ورقية وزينب وأم كلثوم!. جعلنا الله فداك من الموت ، يا حبيب الأبرار من أهل القبور.

٤٢١

٤٧٣ ـ أم سلمة ترجو الحسينعليه‌السلام عدم السفر ، وجوابه لها :

(مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٥٢)

وقالت أم سلمة [إحدى زوجات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ] : لا تحزنّي بخروجك إلى العراق ، فإني سمعت جدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «يقتل ولدي الحسين بأرض العراق ، في أرض يقال لها كربلا ، وعندي تربتك في قارورة دفعها إليّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال الحسينعليه‌السلام : يا أماه وأنا أعلم أني مقتول مذبوح ظلما وعدوانا. وقد شاءعزوجل أن يرى حرمي ورهطي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا. قالت أم سلمة : وا عجبا فأنى تذهب وأنت مقتول؟. قالعليه‌السلام : يا أماه إن لم أذهب اليوم ذهبت غدا ، وإن لم أذهب في غد ذهبت بعد غد ، وما من الموت والله بدّ ، وإني لأعرف اليوم الّذي أقتل فيه ، والساعة التي أقتل فيها ، والحفرة التي أدفن فيها كما أعرفك ، وأنظر إليها كما أنظر إليك. وفي

(لواعج الأشجان) ص ٢٩ : وأعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي».وإن أحببت يا أماه أن أريك مضجعي ومكان أصحابي. فطلبت منه ذلك ، فأراها تربته وتربة أصحابه(١) . ثم أعطاها من تلك التربة ، وأمرها أن تحتفظ بها في قارورة ، فإذا رأتها تفور دما تيقنت قتلهعليه‌السلام وفي اليوم العاشر من المحرم بعد الظهر ، نظرت إلى القارورتين فإذا هما تفوران دما(٢) .

وفي (لواعج الأشجان) ص ٢٩ : ثم أشار إلى جهة كربلا ، فانخفضت الأرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده. فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديدا ، وسلّمت أمرها إلى الله تعالى.

__________________

(١) مدينة المعاجز ، ص ٢٤٤.

(٢) الخرايج والجرايح للقطب الراوندي في باب معجزاته ؛ ومقتل العوالم ، ص ٤٧.

٤٢٢

ترجمة السيدة أم سلمة

(النجوم الزاهرة لابن تغري بردي ، ج ١ ص ١٥٦)

وفي سنة ٦١ ه‍ توفيت أم المؤمنين (أم سلمة) واسمها هند بنت سهيل بن المغيرة المخزومية ، زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهي بنت عم أبي جهل ، وبنت عم خالد بن الوليد. بنى بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنة ثلاث من الهجرة ، وكانت قبله عند الرجل الصالح أبي سلمة بن عبد الأسد ، وهو أخو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرضاعة. وكانت من أجمل النساء ، وطال عمرها ، وعاشت ٨٤ سنة. وقد عاصرت وفاة الحسينعليه‌السلام وحزنت عليه وبكته بكاء كثيرا. وهي آخر زوجات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاة ، توفيت سنة ٦١ ه‍ ، وصلّى عليها سعيد بن زيد ، ودفنت بالبقيع.

٤٧٤ ـ منزلة أم سلمة :

(العيون العبرى لابراهيم الميانجي ، ص ٢١)

اسمها هند ، زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . كانت قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند أبي سلمة المخزومي. وحالها في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين والزهراء والحسنينعليهم‌السلام أشهر من أن يذكر. وهي أفضل أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد خديجةعليها‌السلام .

في (كفاية الأثر) عن شداد بن أوس : أنه بعد ما قاتل مع عليعليه‌السلام يوم الجمل أتى المدينة. قال : فدخلت على أم سلمة. قالت : من أين أقبلت؟. قلت : من البصرة. قالت : مع أي الفريقين كنت؟. قلت : يا أمّ المؤمنين إني توقّفت عن القتال إلى انتصاف النهار ، فألقى الله في قلبي أن أقاتل مع عليعليه‌السلام . قالت : نعم ما عملت ، لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من حارب عليا حاربني ، ومن حاربني حارب الله». قلت : فترين أن الحق مع عليعليه‌السلام ؟. قالت : أي والله ، عليّ مع الحق والحق معه. والله لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن لأمتي فرقة وخلفة ، فجامعوها إذا اجتمعت ، فإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط ، ثم ارقبوا

٤٢٣

أهل بيتي ، فإن حاربوا فحاربوا ، وإن سالموا فسالموا ، وإن زالوا فزالوا معهم ، فإن الحق معهم حيث كانوا». قلت : فمن أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم؟. قالت :هم الأئمة بعده كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عدد نقباء بني إسرائيل : علي وسبطاي وتسعة من صلب الحسينعليه‌السلام . أهل بيته هم المطهرون والأئمة المعصومون. قلت : أما والله هلك الناس إذ قالت :( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (٣٢) [الروم : ٣٢].

ومن فضائل أم سلمة رضي الله عنها تسليم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها تربة الشهداء في خبر القارورة المشهور.

ومنها : إيداع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندها الكتاب الّذي كتبه ، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء أهل النار.

ومنها : إيداع أمير المؤمنينعليه‌السلام عندها الكتب. فعن الإمام الحسينعليه‌السلام أنه قال : إن الكتب كانت عند أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلما سار إلى العراق استودعها أم سلمة رضي الله عنها. فلما مضى كانت عند الحسنعليه‌السلام ، فلما مضى كانت عند الحسينعليه‌السلام .

ومنها : إيداع الحسينعليه‌السلام لدى المضي إلى العراق عندها كتب علم أمير المؤمنينعليه‌السلام وذخائر النبوة وخصائص الإمامة. فلما قتلعليه‌السلام ورجع علي بن الحسينعليه‌السلام دفعتها إليه.

٤٧٥ ـ وصية الحسينعليه‌السلام لأخيه محمّد بن الحنفية قبيل مغادرته المدينة ، وفيها يبيّن سبب خروجه وهو الإصلاح والأمر بالمعروف :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٨)

ثم دعا الحسينعليه‌السلام بدواة وبياض ، وكتب فيها هذه الوصية لأخيه محمّد :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمّد بن علي المعروف بابن الحنفية :

إن الحسين بن عليعليهما‌السلام يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، جاء بالحق من عند الحق. وأن الجنة والنار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور.

إني لم أخرج أشرا(١) ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت أطلب

__________________

(١) أشر : كفرح لفظا ومعنى.

٤٢٤

الإصلاح في أمّة جدّي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي محمّد وسيرة أبي علي بن أبي طالب(١) . فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا صبرت حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ، ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين.

هذه وصيتي إليك يا أخي ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب.والسلام عليك وعلى من اتبع الهدى ، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(٢) .

ثم طوى الكتاب وختمه بخاتمه ، ودفعه إلى أخيه محمّد بن الحنفية.

ثم ودّعه وخرج في جوف الليل يريد مكة بجميع أهله ، وذلك لثلاث ليال مضين من شهر شعبان سنة ٦٠ ه‍ (لعله يقصد أن وصوله كان في هذا التاريخ).

يقول الدينوري في (الأخبار الطوال) ص ٢٢٨ :

لم يبق في المدينة عند رحيل الحسينعليه‌السلام بأهله غير محمّد بن الحنفية. أما ابن عباس فقد كان خرج إلى مكة قبل ذلك بأيام.

وفي (المنتخب) للطريحي ، ص ٤٢١ :

وعن سكينة بنت الحسينعليها‌السلام قالت : لما خرجنا من المدينة ما كان أحد أشدّ خوفا منا أهل البيت.

__________________

(١) مقتل المقرم ، ص ١٥٦ نقلا عن مقتل العوالم ، ص ٥٤ ؛ وكذلك في مناقب ابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٤١. وفي المنتخب للطريحي زيادة (وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين).

(٢) غير خاف مغزى السبط المقدس من هذه الوصية ، فإنه أراد الهتاف بغايته الكريمة من نهضته المقدسة ، وتعريف الملأ نفسه ونفسيته ومبدأ أمره ومنتهاه ، ولم يبرح يواصل هذا بأمثاله إلى حين شهادته ، دحضا لما كان الأمويون يموّهون على الناس بأن الحسينعليه‌السلام خارج على خليفة وقته ، يريد شقّ العصا وتفريق الكلمة واستهواء الناس إلى نفسه ، لنهمة الحكم وشره الرئاسة ، تبريرا لأعمالهم القاسية في استئصال آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولم يزلعليه‌السلام مترسلا كذلك في جميع مواقفه هو وآله وصحبه حتّى دحروا تلك الأكذوبة ، ونالوا أمنيتهم في مسيرهم ومصير أمرهم.

٤٢٥

الطريق المؤدية من المدينة إلى مكة

قال الإمام الحسينعليه‌السلام وهو خارج من المدينة المنوّرة :

( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٢١) [القصص : ٢١]

وقالعليه‌السلام حين وافى مكة المكرمة :

( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ) (٢٢) [القصص: ٢٢]

٤٢٦

خروج الحسينعليه‌السلام من المدينة إلى مكة

[الأحد ٢٨ رجب سنة ٦٠ ه‍]

قال تعالى :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) [النساء : ١٠٠]

٤٧٦ ـ المنازل من المدينة إلى مكة :

(البلدان لليعقوبي)

نذكر فيما يلي المنازل التي يمرّ بها المسافر من المدينة إلى مكة. قال اليعقوبي :ومن المدينة إلى مكة عشر مراحل عامرة آهلة : فأولها [ذو الحليفة] ومنها يحرم الحاج إذا خرجوا من المدينة ، وهي على أربعة أميال من المدينة

(الميل : ٨ / ١ كم). ومنها إلى [الحفيرة] وهي منازل بني فهر من قريش. وإلى [ملل] وهي في هذا الوقت منازل قوم من ولد جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام . وإلى [السيّالة] وبها قوم من ولد الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام . وإلى [الرّوحاء] وهي منازل مزينة. وإلى [الرّويثة] وبها قوم من ولد عثمان بن عفان وغيرهم من العرب. وإلى [العرج]. وإلى [سقيا بني غفار] وهي منازل بني كنانة. وإلى [الأبواء] وهي منازل أسلم. وإلى [الجحفة] وبها قوم من بني سليم ، وغدير خم من الجحفة على ميلين عادل عن الطريق. وإلى [قديد] وبها منازل خزاعة. وإلى [عسفان]. وإلى [مرّ الظهران] وهيمنازل كنانة. وإلى [مكة المكرّمة] حرسها الله.

٤٧٧ ـ خروج الحسينعليه‌السلام من المدينة ونزوله في مكة :

(تاريخ دمشق لابن عساكر ، الجزء الخاص بالحسين ، ص ٢٠٠)

وخرج الحسينعليه‌السلام وعبد الله بن الزبير من ليلتهما إلى مكة. فقدما مكة ، فنزل الحسينعليه‌السلام دار العباس بن عبد المطلب ، ولزم ابن الزبير الحجر.

٤٧٨ ـ من كلام للحسينعليه‌السلام قاله لعبد الله بن مطيع العدوي بعد أن حذّره من الاغترار بأهل الكوفة :(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٩)

فبينا الحسين كذلك بين مكة والمدينة في موضع يقال له [الشريفة] إذ استقبله عبد

٤٢٧

الله بن مطيع العدوي ، فقال له : أين تريد يا أبا عبد الله ، جعلني الله فداك؟. فقال :أما في وقتي هذا فإني أريد مكة ، فإذا صرت إليها استخرت الله في أمري بعد ذلك.فقال له عبد الله بن مطيع : خار الله لك يابن رسول الله فيما قد عزمت عليه ، غير أني أشير عليك بمشورة فاقبلها مني. فقال له الحسينعليه‌السلام : وما هي يابن مطيع؟.فقال : إذا أتيت مكة فاحذر أن يغرّك أهل الكوفة ، فإن فيها قتل أبوك وطعن أخوك بطعنة كادت أن تأتي على نفسه فيها ، فالزم الحرم فأنت سيد العرب في دهرك هذا.وفي (تذكرة الخواص) لسبط ابن الجوزي ، ص ٢٥٤ ط نجف : «ولن يعدلوا بك أحدا ، ويأتيك الناس من كل جانب». فو الله لئن هلكت ليهلكن أهل بيتك بهلاكك.

وفي (لواعج الأشجان) للسيد الأمين ، ص ٣٤ : لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي ، فوالله لئن هلكت لنسترقنّ بعدك.

وجاء في (مقتل الحسين) لأبي مخنف ص ١٦ : ثم إن الحسين توجه سائرا حتّى جاوز [الشريفة] فاستقبله عبد الله بن مطيع القرشي ، وقال له : جعلت فداك ، إني أنصحك ، إذا دخلت مكة فلا تبرحنّ منها ، فهي حرم الله والأمان للناس. فأقم فيها وتألّف أهلها ، وخذ البيعة على كل من دخلها من الناس ، وعدهم العدل وارفع الجور عنهم ، وأقم فيها خطباء تخطب وتذكّر على المنابر شرفك ، وتشرح فضلك ، ويخبرونهم بأن جدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأباك علي بن أبي طالب ، وأنك أولى بهذا الأمر من غيرك. إياك أن تذكر الكوفة فإنها بلد مشؤوم قتل فيها أبوك ، ولا تبرح من حرم الله تعالى ، فإن معك أهل الحجاز واليمن كلها ، وسيقدم إليك الناس من الآفاق وينصرفون إلى أمصارهم ، وادعهم إلى بيعتك. فاقبل نصيحتي وسر مسددا ، فو الله إن قبلت لترشدن. فقال الحسينعليه‌السلام : جزاك الله عني كل خير ، فإني قابل نصيحتك.

٤٧٩ ـ من كلام للحسينعليه‌السلام وهو خارج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة :

(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٩)

وخرج الحسينعليه‌السلام في جوف الليل يريد مكة في جميع أهل بيته ، وذلك لثلاث ليال مضين من شعبان سنة ٦٠ ه‍.

(كذا في مقتل الخوارزمي) ، أما في مقتل المقرّم ص ١٥٧ فجاء نقلا عن تاريخ الطبري ج ٦ ص ١٩٠ ما نصه :

٤٢٨

«وخرج الحسين من المدينة متوجها نحو مكة ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب ودخل مكة يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان». وهو الأصح كما ذكر العلامة الأمين في (لواعج الأشجان) في حاشية صفحة ٢٩.

فلزم الطريق الأعظم ، فجعل يسير وهو يتلو هذه الآية :( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٢١) [القصص : ٢١]. فقال له ابن عمه مسلم بن عقيل : يابن رسول الله ، لو عدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادة كما فعل عبد الله بن الزبير ، كان عندي خير رأي ، فإني أخاف أن يلحقنا الطلب. فقال له الحسينعليه‌السلام : لا والله يابن عم لا فارقت هذا الطريق أبدا ، أو أنظر إلى أبيات مكة ، ويقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى.

يقول السيد جعفر الحلي :

خرج الحسين من المدينة خائفا

كخروج موسى خائفا يتكتمّ

وقد انجلى عن مكة وهو ابنها

وبه تشرّفت الحطيم وزمزم

٤٨٠ ـ الملائكة تعرض على الحسينعليه‌السلام المساعدة :

(اللهوف على قتلى الطفوف لابن طاووس ، ص ٢٧)

ذكر المفيد في كتابه (مولد النبي) بإسناده إلى الإمام الصادقعليه‌السلام قال : لما سار أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام من مكة ليدخل المدينة ، لقيته أفواج من الملائكة المسوّمين والمردفين ، في أيديهم الحراب ، على نجب من نجب الجنة. فسلّموا عليه ، وقالوا : يا حجة الله على خلقه بعد جده وأبيه وأخيه ، إن اللهعزوجل أمدّ جدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنا في مواطن كثيرة ، وإن الله أمدّك بنا. فقال لهم : الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلاء ، فإذا وردتها فأتوني. فقالوا : يا حجة الله ، إن الله أمرنا أن نسمع لك ونطيع ، فهل تخشى من عدوّ يلقاك فنكون معك؟.فقالعليه‌السلام : لا سبيل لهم عليّ ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي.

٤٨١ ـ مسلمو الجن يعرضون على الحسينعليه‌السلام مساعدته ونصرته :

(مثير الأحزان للجواهري ، ص ٩)

وأتته أفواج مسلمي الجن ، فقالوا : يا سيدنا نحن من شيعتك وأنصارك ، فمرنا بأمرك وما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كل عدوّ لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك. فجزاهم الحسين خيرا وقال لهم : أو ما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي رسول الله :( أَيْنَما

٤٢٩

تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ ) [النساء : ٧٨]. وقال سبحانه :( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ) (١٥٤) [آل عمران : ١٥٤]. وإذا أقمت مكاني فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس ، وبماذا يختبرون؟. ومنذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء؟ وقد اختارها الله يوم دحي الأرض ، وجعلها معقلا لشيعتنا ومحبينا ، تقبل أعمالهم وصلواتهم وتجاب دعاؤهم ، وتكون لهم أمانا في الدنيا والآخرة. ولكن تحضرون يوم السبت وهو يوم عاشوراء ، الّذي في آخره أقتل ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي وإخوتي وأهل بيتي ، ويسار برأسي إلى يزيد.فقالت الجن : نحن والله يا حبيب الله وابن حبيبه ، لو لا أنّ أمرك طاعة ، وأنه لا يجوز مخالفتك ، لقتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك. فقال لهمعليه‌السلام : نحن والله أقدر عليهم منكم ، ولكن( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) [الأنفال : ٤٢].

٤٨٢ ـ ديار علي والحسينعليهما‌السلام مقفرة :

(الإمام الحسين يوم عاشوراء طبع مؤسسة البلاغ ، ص ٥٨)

ها هي ديار علي والحسين والزهراءعليهم‌السلام قد أمسى عليها ليل الفراق ، وأحاطتها وحشة البعد والغربة. لقد نأى الحسينعليه‌السلام ، وأمست المدينة موحشة ، تبكي سيدها الراحل ، والقلوب يعتصرها الأسى ، والنفوس يفترسها الألم ، ويحوطها الخوف والوجل.

٤٣٠

على طريق الشهادة : من المدينة إلى مكة إلى كربلاء

٤٣١

الفصل الثالث عشر

في مكة المكرّمة

[الجمعة ٣ شعبان سنة ٦٠ ه‍]

٤٨٣ ـ من كلام للحسينعليه‌السلام لما وافى مكة المكرمة :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٩)

وسارعليه‌السلام حتّى وافى مكة (يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان) فيكون مقامه في الطريق نحوا من خمسة أيام(١) . فلما نظر إلى جبالها من بعيد جعل يتلو هذه الآية :( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ) (٢٢) [القصص :٢٢]. فنزل دار العباس بن عبد المطّلب(٢) . فأقام بمكة باقي شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثماني ليال من ذي الحجة. حيث خرج إلى العراق يوم التروية ، وهو اليوم السابق ليوم عرفة.

وفي (تذكرة الخواص) لسبط ابن الجوزي ، ص ٢٤٨ ط نجف :

وقال السدي : خرج الحسينعليه‌السلام من المدينة وهو يقرأ :( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ ) [القصص : ٢١]. فلما دخل مكة ، فقال له عمرو بن سعيد : ما أقدمك؟. فقال : عائذا بالله وبهذا البيت.

٤٨٤ ـ هدف الهجرة :

(مع الحسين في نهضته لأسد حيدر ، ص ٦٩)

هاجر الحسينعليه‌السلام من دار الهجرة ، واتجه شطر البيت الحرام قبلة المسلمين ، وكانت غايته هناك أن يجتمع بوجهاء الناس وزعماء الأمة وأهل الرأي ، الذين قدموا إلى مكة للحج.

(أقول) : إضافة إلى أن الكعبة المشرّفة هي أكثر الأماكن أمنا ، فلها حرمتها

__________________

(١) لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٣٤.

(٢) مقتل المقرم ، ص ١٥٨ عن تاريخ ابن عساكر ، ج ٤ ص ٣٢٨.

٤٣٢

الخاصة ، إذ لا يجوز فيها قتال ولا اعتداء. يقول تعالى عن البيت الحرام :( فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (٩٧) [آل عمران : ٩٧].

وترى جانبا صورة عن حرم الكعبة المشرفة وأقسامه المختلفة.

٤٨٥ ـ أهل مكة يستبشرون بقدوم الحسينعليه‌السلام :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٩٠ ط نجف)

قال أحمد بن أعثم الكوفي : ولما دخل الحسينعليه‌السلام مكة فرح به أهلها فرحا شديدا ، وجعلوا يختلفون إليه غدوة وعشية.

وكان قد نزل بأعلى مكة ، وضرب هناك فسطاطا ضخما ، ونزل عبد الله ابن الزبير داره ب (قيقعان)[وهو موقع غرب مكة عند الحجون]. ثم تحوّل الحسينعليه‌السلام إلى دار العباس ، حوّله إليها عبد الله بن عباس.

وكان أمير مكة من قبل يزيد يومئذ عمرو بن سعيد بن العاص. (وفي رواية ابن أعثم) «عمر بن سعد بن أبي وقاص» ، وهو اشتباه وتصحيف. فأقام الحسينعليه‌السلام مؤذّنا يؤذّن رافعا صوته ، فيصلي بالناس. وهاب عمرو بن سعيد أن يميل الحجّاج مع الحسينعليه‌السلام لما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق ، فانحدر إلى المدينة ، وكتب بذلك إلى يزيد.

وفي (مقتل الحسين) المنسوب لأبي مخنف ، ص ١٧ : وقد كان عبد الله ابن الزبير سبقه إلى مكة ، ولزم الكعبة يصلي بالناس ويطوف البيت. وكان يأتي إلى الحسينعليه‌السلام ويجلس معه الجلسة الخفيفة.

ابن الزبير يمتعض من مجيء الحسينعليه‌السلام :

(المصدر السابق للخوارزمي)

وكان الحسينعليه‌السلام أثقل خلق الله على عبد الله بن الزبير ، لأنه كان يطمع أن يتابعه أهل مكة. فلما قدم الحسينعليه‌السلام اختلفوا إليه [أي ترددوا عليه] وصلّوا معه. ومع ذلك فقد كان ابن الزبير يختلف إليه بكرة وعشية ، ويصلي معه.

وأقام الحسينعليه‌السلام بمكة باقي شهر شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة.وبمكة يومئذ عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب.

٤٣٣

(الشكل ٤) : مخطط الكعبة المشرّفة حرسها الله

٤٣٤

٤٨٦ ـ محاورة الحسينعليه‌السلام مع عبد الله بن عمر في مكة بشأن البيعة ليزيد ، ونصيحة ابن عمر له :(المصدر السابق)

فأقبلا جميعا ، وقد عزما أن ينصرفا إلى المدينة ، حتّى دخلا على الحسينعليه‌السلام . فقال عبد الله بن عمر :

يا أبا عبد الله ، اتّق الله رحمك الله الّذي إليه معادك ، فقد عرفت عداوة هذا البيت لكم ، وظلمهم إياكم. وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية ، ولست آمن أن يميل الناس إليه ، لمكان هذه الصفراء والبيضاء ، فيقتلونك ويهلك فيك بشر كثير ، فإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «حسين مقتول ، فلئن خذلوه ولم ينصروه ليخذلنّهم الله إلى يوم القيامة». وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس ، وتصبر كما صبرت لمعاوية من قبل ، فلعل الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين. فقال له الحسينعليه‌السلام : يا أبا عبد الرحمن ، أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه وفي أبيه ما قاله؟!.

٤٨٧ ـ محاورة الحسينعليه‌السلام مع عبد الله بن عباس ، وبيان فضلهعليه‌السلام وما فعله به الناس :(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٩١)

فقال ابن عباس : صدقت يا أبا عبد الله ، قد قال النبي : «ما لي وليزيد ، لا بارك الله في يزيد ، فإنه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين بن عليعليهما‌السلام ، فو الذي نفسي بيده لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم». ثم بكى ابن عباس وبكى معه الحسينعليه‌السلام ، ثم قال له : يابن عباس أتعلم أني ابن بنت رسول الله؟. فقال : الله م نعم ، لا نعرف في الدنيا أحدا هو ابن بنت رسول الله غيرك ، وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمة كفريضة الصيام والزكاة ، التي لا تقبل إحداهما دون الأخرى. فقالعليه‌السلام : يابن عباس فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وطنه وداره ، وموضع قراره ومولده ، وحرم رسوله ، ومجاورة قبره ومسجده ، وموضع مهاجرته ، وتركوه خائفا مرعوبا لا يستقر في قرار ، ولا يأوي إلى وطن ، يريدون بذلك قتله وسفك دمه ، وهو لم يشرك بالله شيئا ولا اتخذ دون الله وليا ، ولم يتغيّر عما كان عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفاؤه من بعده. فقال ابن عباس : ما أقول فيهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ، لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى( يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً (١٤٢)مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ) (١٤٣) [النساء : ١٤٢ ـ ١٤٣] فعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى.

٤٣٥

وأما أنت أبا عبد الله ، فإنك رأس الفخار : ابن رسول الله ، وابن وصيه ، وفرخ الزهراء نظيرة البتول ، فلا تظن يابن رسول الله بأن الله غافل عما يعمل الظالمون ، وأنا أشهد أن من رغب عن مجاورتك ومجاورة بنيك ، فما له في الآخرة من خلاق.

فقال الحسينعليه‌السلام : اللهم اشهد. فقال ابن عباس : جعلت فداك يابن رسول الله كأنك تنعى إليّ نفسك ، وتريد مني أن أنصرك ، فوالله الّذي لا إله إلا هو لو ضربت بين يديك بسيفي حتّى ينقطع ، وتنخلع يداي جميعا ، لما كنت أبلغ من حقك عشر العشير. وها أنا بين يديك فمرني بأمرك.

فقال ابن عمر : الله م عفوا ، ذرنا من هذا يابن عباس.

ترجمة عبد الله بن عباس

قال السيد إبراهيم الميانجي في (العيون العبرى) ص ٥٤ :

عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو حبر الأمة وعالمها ، دعا له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفقه والحكمة والتأويل ، مقبول من الطرفين. وكان محبا لعليعليه‌السلام وتلميذه. حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنينعليه‌السلام أشهر من أن يخفى.

ولد في الشّعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، ومات بالطائف سنة ٦٨ ه‍ في فتنة ابن الزبير ، وكان قد كفّ بصره في أواخر حياته وعمره سبعون سنة.

وصلى عليه محمّد بن الحنفية ، وضرب على قبره فسطاطا (انظر المعارف لابن قتيبة).وقال المسعودي في (مروج الذهب) : ذهب بصر ابن عباس لبكائه على علي بن أبي طالب والحسن والحسينعليه‌السلام ، وهو الّذي يقول :

إن يأخذ الله من عينيّ نورهما

ففي لساني وقلبي منهما نور

قلبي ذكي وعقلي غير مدّخل

وفي فمي صارم كالسيف مشهور

وقال مسروق كما في (التنقيح) : كنت إذا رأيت عبد الله بن عباس قلت :أجمل الناس ؛ فإذا حدّث قلت : أعلم الناس ؛ فإذا تكلم قلت : أفصح الناس!.

وفي (تذكرة الخواص) لسبط ابن الجوزي ، عن عليعليه‌السلام قال :

لله درّ ابن عباس ، فإنه ينظر من ستر رقيق.

٤٣٦

ترجمة عبد الله بن الزبير بن العوّام

كان يكنّى أبا بكر وأبا حبيب. ولد بعد الهجرة بعشرين شهرا. طلب الخلافة لنفسه بالحجاز ، فسار إليه الحجّاج فحاصره بمكة خمسة أيام ، ثم أصابته رميّة فمات في البيت الحرام. وهو الكبش الّذي تنبّأ به أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه ستنتهك به حرمة البيت. وبعد أن قتل أمر بصلبه فصلب بمكة ، وكان ذلك سنة ٧٣ ه‍.

(انظر المعارف لابن قتيبة)

٤٨٨ ـ عداوة ابن الزبير لأهل البيتعليهم‌السلام :

(الدرجات الرفيعة للسيد علي خان الشيرازي ، ص ١٣٩)

عن سعيد بن جبير أن ابن عباس دخل على ابن الزبير ، فقال له ابن الزبير : إلام تؤنبّني وتعنّفني؟. فقال ابن عباس : إني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

«بئس المسلم يشبع ويجوع جاره». وأنت ذلك الرجل. فقال ابن الزبير : والله إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة ، وتشاجرا.

فخرج ابن عباس من المدينة مكرها ، فأقام بالطائف حتّى مات.

وفي (مقتل الخوارزمي) ج ٢ ص ٢٥١ :

وبقي عبد الله بن الزبير يجدّ في مناوأة محمّد بن الحنفية وعبد الله بن عباس وبقية أهل البيتعليهم‌السلام ، حتّى حبسهما إذ لم يجيباه إلى البيعة.

وحين تلاسن مع عبد الله بن عباس بعد مقتل المختار ، قال ابن الزبير له : لقد علمت أنك ما زلت لي ولأهل بيتي مبغضا ، ولا زلت لكم يا بني هاشم منذ نشأت مبغضا ، ولقد كتمت بغضكم أربعين سنة. فقال ابن عباس له : فازدد في بغضنا ، فوالله ما نبالي أحببتنا أم أبغضتنا!.

ثم خرج ابن عباس ومحمد بن الحنفية وأصحابهما من مكة إلى الطائف. فلم يزل ابن عباس بالطائف حتّى أدركته الوفاة ، فصلى عليه محمّد بن الحنفية رضي الله عنه ودفنه هناك سنة ٦٨ ه‍ ، وهو ابن ٧٢ سنة.

٤٣٧

وبقي بعده محمّد في الطائف. وذكر القتيبي أن محمدا توفي أيضا بالطائف سنة ٨٢ ه‍ ، وهو ابن ٦٥ سنة.

٤٨٩ ـ محاورة الحسينعليه‌السلام مع عبد الله بن عمر ، وبيان أن الله سبحانه سينتقم من قتلته كما انتقم من بني إسرائيل :

(مقتل الخوارزمي ج ١ ص ١٩٢)

ثم أقبل ابن عمر على الحسينعليه‌السلام وقال له : مهلا أبا عبد الله عما أزمعت عليه ، وارجع معنا إلى المدينة ، وادخل في صلح القوم ، ولا تغب عن وطنك وحرم جدك ، ولا تجعل لهؤلاء القوم الذين لا خلاق لهم ، على نفسك حجة وسبيلا. وإن أحببت أن لا تبايع فإنك متروك حتّى ترى رأيك ، فإن يزيد ابن معاوية عسى ألا يعيش إلا قليلا ، فيكفيك الله أمره. فقال الحسينعليه‌السلام : أفّ لهذا الكلام أبدا ما دامت السموات والأرض. أسألك بالله يا أبا عبد الرحمن أعندك أني على خطأ من أمري هذا؟. فإن كنت على خطأ فردّني عنه ، فإني أرجع وأسمع وأطيع. فقال ابن عمر :الله م لا ، ولم يكن الله تبارك وتعالى ليجعل ابن بنت رسوله على خطأ [يعترف له بالعصمة] ، وليس مثلك في طهارته وموضعه من الرسول ، أن يسلّم على يزيد بن معاوية باسم الخلافة. ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الجميل بالسيوف ، وترى من هذه الأمة ما لا تحب. فارجع معنا إلى المدينة ، وإن شئت أن لا تبايع فلا تبايع أبدا ، واقعد في منزلك. فقال له الحسينعليه‌السلام : هيهات يابن عمر ، إن القوم لا يتركوني ، إن أصابوني وإن لم يصيبوني ، فإنهم يطلبوني أبدا حتّى أبايع وأنا كاره أو يقتلوني.

ألا تعلم أبا عبد الرحمن أن من هوان هذه الدنيا على الله أن يؤتى برأس يحيى ابن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل ، والرأس ينطق بالحجة عليهم ، فلم يضرّ ذلك يحيى بن زكريا بل ساد الشهداء ، فهو سيدهم يوم القيامة(١) .

وفي رواية ابن نما : «وإن رأسي يهدى إلى بغيّ من بغايا بني أمية».

ألا تعلم أبا عبد الرحمن أن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى

__________________

(١) روى ابن شهراشوب في المناقب ، ج ٣ ص ٢٣٧ قصة مقتل يحيى بن زكريا ، وذكر قبلها : عن علي بن الحسينعليه‌السلام قال : «خرجنا مع الحسينعليه‌السلام ، فما نزل منزلا ولا ارتحل عنه إلا وذكر يحيى بن زكريا».

٤٣٨

طلوع الشمس سبعين نبيا ، ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنهم لم يصنعوا شيئا ، فلم يعجّل الله عليهم ، ثم أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام(١) . فاتّق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي(٢) واذكرني في صلاتك ، فوالذي بعث جدي محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيرا ونذيرا لو أن أباك عمر بن الخطاب أدرك زماني لنصرني كما نصر جدي ، ولقام من دوني كقيامه من دون جدي. يابن عمر فإن كان الخروج معي يصعب عليك ويثقل ، فأنت في أوسع العذر ، ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دبر كل صلاة ، واجلس عن القوم ، ولا تعجل بالبيعة لهم حتّى تعلم ما تؤول إليه الأمور.

وفي (المنتخب) للطريحي ، ص ٣٨٩ :

ثم قالعليه‌السلام : يا عبد الله ، اتّق الله ولا تدعنّ نصرتي ، ولا تركنن إلى الدنيا ، لأنها دار لا يدوم فيها نعيم ، ولا يبقى أحد من شرها سليم. متواترة محنها ، متكاثرة فتنها. أعظم الناس فيها بلاء الأنبياء ، ثم الأئمة الأمناء ، ثم المؤمنون ، ثم الأمثل فالأمثل.

٤٩٠ ـ وصية الحسينعليه‌السلام لابن عباس وذكره بخير ، وبيان إقامته في مكة :

(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ١٩٣)

ثم أقبل الحسينعليه‌السلام على ابن عباس رضي الله عنه وقال له : وأنت يابن عباس ابن عم أبي ، ولم تزل تأمر بالخير مذ عرفتك ، وكنت مع أبي تشير عليه بما فيه الرشاد والسداد. وقد كان أبي يستصحبك ويستنصحك ويستشيرك وتشير عليه بالصواب ، فامض إلى المدينة في حفظ الله ، ولا تخف عليّ شيئا من أخبارك ، فإني مستوطن هذا الحرم ومقيم به ، ما رأيت أهله يحبونني وينصرونني ، فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم ، واستعصمت بالكلمة التي قالها إبراهيم يوم ألقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل ، فكانت النار عليه بردا وسلاما.

__________________

(١) ذكر المقرم في مقتله ، ص ١٥٥ نقلا عن مثير ابن نما واللهوف : ان عبد الله بن عمر طلب من الحسين البقاء في (المدينة) فأبى ، وقال : إن من هوان الدنيا

(٢) اللهوف على قتلى الطفوف لابن طاووس ، ص ١٧.

٤٣٩

فبكى ابن عباس وابن عمر ذلك الوقت بكاء شديدا ، وبكى الحسينعليه‌السلام معهما ، ثم ودّعهما. فصار ابن عباس وابن عمر إلى المدينة.

٤٩١ ـ عزل الوليد بن عتبة عن المدينة ، وضمّ مكة والمدينة بإمرة عمرو ابن سعيد بن العاص (الأشدق):

بعد أن بلغ يزيد تسامح الوليد بن عتبة مع الحسينعليه‌السلام وضعفه في التصرف في الأمور ، عزله عن المدينة وأقرّ عليها عمرو بن سعيد بن العاص المعروف (بالأشدق) والي مكة ، فأصبحت مكة والمدينة تحت إمرته ، فقدم المدينة في شهر رمضان سنة ٦٠ ه‍.

٤٩٢ ـ بشارات مشؤومة بقدوم الوالي الجديد إلى المدينة :

(الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ، ج ٢ ص ٣)

قال : وذكروا أنه لما بويع يزيد بن معاوية ، خرج الحسينعليه‌السلام حتّى قدم مكة ، فأقام هو وابن الزبير.

قال : وقدم عمرو بن سعيد بن العاص في رمضان أميرا على المدينة وعلى الموسم ، وعزل الوليد بن عتبة. فلما استوى على المنبر رعف ، فقال أعرابي مستقبله : مه مه!. جاءنا والله بالدم. فتلقاه رجل بعمامته ، فقال : مه!. عمّ والله الناس. ثم قام يخطب ، فناوله آخر عصا لها شعبتان ، فقال الأعرابي : مه!. شعب والله أمر الناس. ثم نزل.

ترجمة عمرو بن سعيد (الأشدق)

قتله عبد الملك بن مروان بيده سنة ٧٠ ه‍. وذلك أنه بايع عبد الملك كرها ، فلما خرج عبد الملك إلى قتال الزبير خالفه عمرو إلى دمشق ، فغلب عليها وبايعه أهلها بالخلافة. وذكر الطبري أنه لما صعد المنبر خطب الناس فقال : إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة ونارا ، يدخل الجنة من أطاعه والنار من عصاه ، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله ، وأنه ليس إليّ من ذلك شيء ، وأن لكم عليّ حسن المواساة.

قال : فرجع عبد الملك وحاصره ، ثم خدعه وآمنه ، ثم غدر به فقتله. فيقال إنه ذبحه بيده. وكان عمرو أول من أسرّ البسملة في الصلاة مخالفة لابن الزبير ، لأنه كان يجهر بها (روى ذلك الشافعي وغيره بإسناد صحيح).

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735