موسوعة كربلاء الجزء ١

موسوعة كربلاء 8%

موسوعة كربلاء مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 735

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 735 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 452379 / تحميل: 5265
الحجم الحجم الحجم
موسوعة كربلاء

موسوعة كربلاء الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

٥ - عقيدتنا في الله تعالى

نعتقد: أنّ الله تعالى واحد احد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، هو الاَوّل والآخر، عليم، حكيم، عادل، حي، قادر، غني، سميع، بصير. ولا يوصف بما تُوصف به المخلوقات؛ فليس هو بجسم ولا صورة، وليس جوهراً ولا عرضاً، وليس له ثقل أو خفة، ولا حركة أو سكون، ولا مكان ولا زمان، ولا يشار إليه(١) ؟. كما لا ندَّ له، ولا شبه، ولا ضدّ، ولا صاحبة له ولا ولد، ولا شريك، ولم يكن له كفواً أحد، لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار.

ومن قال بالتشبيه في خلقه، بأن صوَّر له وجهاً ويداً وعيناً، أو أنّه ينزل إلى السماء الدنيا، أو أنّه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر، أو نحو ذلك(٢) ، فانّه

____________________

(١) روي عن الامام عليعليه‌السلام قوله في جواب ذعلب: «لم أكن بالذي اعبد رباً لم أره» ثم أردف قائلاً في وصف الله تعالى: «ويلك لم تره العيون بمشاهدة الاَبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان. ويلك يا ذعلب، إنّ ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون ولا بالقيام قيام انتصاب ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللّطافة لا يوصف باللّطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمجسّة، قائل لا باللّفظ، هو في الاَشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كل شيء فلا يقال شيء فوقه، وأمام كل شيء فلا يقال له أمام، داخل في الاَشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج».

التوحيد للصدوق: ٣٠٤ - باب حديث ذعلب - ، أمالي الصدوق: ٢٨٠ المجلس الخامس والخمسون، بحار الاَنوار: ٤/٢٧.

(٢) كقول الكرامية (إنّه تعالى في جهة فوق)!!

=

٢١

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

____________________

=

راجع: الفرق بين الفرق: ١٣١، الملل والنحل: ١/ ٩٩، وكذلك الأشاعرة في الإبانة في اصول الديانة: ٣٦ - ٥٥، وكذلك الوهابية رسالة العقيدة الحموية لإبن تيمية: ١/ ٤٢٩، الهدية السنية : ٩٧، والرسالة الخامسة منها لعبد اللطيف حفيد محمد بن عبدالوهاب.

وكذلك القول بأنه تعالى يتحد مع أبدان العارفين! كما حكم الصوفية قال العارف البلجرامي في كتابه «سبحة المرجان»:

انما الخلق المظهر الباري

هو في كل جزئه ساري

وقال الآخر منهم:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

ويراجع ديوان الشيخ ابن الفارض، كما في قصيدته التائية الكبرى المسماة بنظم السلوك ومطلعها:

سقتني حميا الحب راحة مقلتي

وكأسي محيا من عن الحسن جلت

وقصيدته اليائية، مطلعها:

سائق الأضعان يطوي البيد طي

منعما عرج على كثبان طي

ورسائل الشيخ عطار وغيرها كثير.

ذكر العلامة الحلي معقبا على هذه الخرافات بقوله: (فانظرو إلى هؤلاء المشايخ الذين يتبركون بمشاهدهم كيف اعتقادهم في ربهم، وتجويزهم تارة الحلول واخرى الاتحاد، وعبادتهم الرقص والتصفيق والغناء) إلى أن قال: (ولقد شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسينعليه‌السلام وقد صلوا المغرب سوى شخص واحد منهم كان جالسا لم يصل، ثم صلوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص، فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص، فقال: وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل؟ أيجوز ان يجعل بينه وبين الله حاجباً؟ فقلت: لا فقال: الصلاة حاجب بين العبد والرب) نهج الحق: ٥٨.

يراجع: مناقب العارفين للافالكي، وأسرار التوحيد: ١٨٦، والأنوار في كشف الاسرار للشيخ روزبهان البقلي، والمجلد الثاني من احياء العلوم للغزالي.

٢٢

بمنزلة الكافر به، جاهل بحقيقة الخالق المنزَّه عن النقص، بل كل ما ميّزناه بأوهامنا في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلنا مردود إلينا - على حد تعبير الامام الباقرعليه‌السلام (١) - وما أجلّه من تعبير حكيم! وما أبعده من مرمى علمي دقيق!

وكذلك يلحق بالكافر من قال: إنّه يتراءى لخلقه يوم القيامة(٢) ، وإن

____________________

(١) انظر بحار الاَنوار: ٦٩/٢٩٣ ح٢٣، المحجة البيضاء: ١/٢١٩.

(٢) حيث حكم الاَشاعرة بأنّ الله تعالى يتراءى لخلقه. راجع: الابانة في أصول الديانة لاَبي الحسن الاَشعري: ٥ و٦، الملل والنحل: ١/٨٥ إلى ٩٤، وحاشية الكستلي المطبوع في هامش شرح العقائد للتفتازاني: ٧٠، اللوامع الالهية: ٨٢ و٩٨.

ويضيف البغدادي: (وأجمع أهل السنة على أنّ الله تعالى يكون مرئياً للمؤمنين في الآخرة، وقالوا بجواز رؤيته في كل حال ولكل حي من طريق العقل، ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصة في الآخرة من طريق الخبر). الفرق بين الفرق: ٣٣٥ - ٣٣٦.

وباستثناء المجسّمة الذين زعموا أنّ أهل المحشر كافة سيرونه - تعالى عن ذلك - يوم القيامة نصب أعينهم باتصال اشعّتها بجسمه، ينظرون إليه لا يمارون كما لا يمارون في الشمس والقمر ليس دونهما سحاب.. فإنّ محل النزاع منحصر في أنّ رؤية الباري تعالى هل هي ممكنة مع تنزيهه؟ أم هي مع التنزيه ممتنعة مستحيلة؟ فالاَشاعرة ذهبوا إلى الاَول وذهبنا نحن - تبعاً لائمتناعليهم‌السلام - إلى الثاني.

راجع - للتفصيل: كتاب كلمة حول الرؤية للاِمام السيد عبد الحسين شرف الدين؛ فقد أوفى الغرض بمناقشة هذه المسألة واستعراضها باسلوب رصين.

هذا كله بالاضافة إلى ما ورد من الاَحاديث - المزعومة - التي ذكرت بأن الله خلق آدم على صورته، وأنّ له جوارح مشخصة، كالاَصابع والساق والقدم، وأنّ في ساقه علامة يعرف بها، وأنّه يضع قدمه في جهنّم يوم القيامة لتكف عن النهم فتقول: قط! قط!، وأنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يراه - سبحانه - فيقع ساجداً، وأنّ الله يهبط يوم القيامة إلى العباد ليقضي بينهم، وأنّ المسلمين يرون ربّهم يوم القيامة كما يرون القمر لا يضامون في رؤيته. وغيرها الكثير؛ لاحظ: صحيح البخاري: ٨/٦٢، ٩/١٥٦، وصحيح مسلم: ٤/٢١٨٣ وغيرها، سنن ابن ماجه: ١/٦٤، مسند أحمد: ٢/٢٦٤ وغيرها، الموطأ: ١/٢١٤ ح٣٠، أصل الشيعة وأصولها - مقدمة المحقّق - هامش ص ٢٤.

٢٣

نفى عنه التشبيه بالجسم لقلقة في اللسان؛ فان أمثال هؤلاء المدّعين جمدوا على ظواهر الاَلفاظ في القرآن الكريم أو الحديث، وأنكروا عقولهم وتركوها وراء ظهورهم. فلم يستطيعوا أن يتصرَّفوا بالظواهر حسبما يقتضيه النظر والدليل وقواعد الاستعارة والمجاز.

٢٤

٦ - عقيدتنا في التوحيد

ونعتقد: بأنّه يجب توحيد الله تعالى من جميع الجهات، فكما يجب توحيده في الذات ونعتقد بأنّه واحد في ذاته ووجوب وجوده، كذلك يجب - ثانياً - توحيده في الصفات، وذلك بالاعتقاد بأنّ صفاته عين ذاته - كما سيأتي بيان ذلك - وبالاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية؛ فهو في العلم والقدرة لا نظير له، وفي الخلق والرزق لا شريك له، وفي كلّ كمال لا ندَّ له.

وكذلك يجب - ثالثاً - توحيده في العبادة؛ فلا تجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه، وكذا إشراكه في العبادة في أيّ نوع من أنواع العبادة؛ واجبة أو غير واجبة، في الصلاة وغيرها من العبادات.

ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك، كمن يرائي في عبادته ويتقرَّب إلى غير الله تعالى، وحكمه حكم من يعبد الاَصنام والاَوثان، لا فرق بينهما(١) .

____________________

(١) يذكر الشيخ المظفرقدس‌سره في محاضراته الفلسفية قوله: (في بحثنا الالهي نخطو خطوات ونجتاز مراحل:

١ - المرحلة الاولى: في إثبات أصل واجب الوجود.

٢ - المرحلة الثانية: بعد ثبوت أصل واجب الوجود لا بدّ أن يكون هو صرف الوجود.

٣ - المرحلة الثالثة: بعد ثبوت المرحلتين ننتقل إلى وحدانيته؛ لاَنّه إذا ثبت أنّه صرف الوجود فلا بد أن يكون واحداً؛ لاَنّ صرف الشيء لا بدّ أن يكون واحداً، وإلاّ لم يكن صرف الشيء، وإذا كان عارياً من كل حد فلا يعقل أن يتعدّد؛ لاَنّ الاَشياء إنّما تتمايز بالحدود.

فالتوحيد لا ينحصر في الاعتقاد بوحدة واجب الوجود وأنه صرف الوجود، بل هو تعالى واحد في خلقه وفيضه، فكل الاَشياء من فيضه وتجليات لنوره).

ثم يذكر الشيخقدس‌سره برهانا للقدماء على التوحيد، وملخصه: ( العالم واحد فلا

=

٢٥

أمّا زيارة القبور وإقامة المآتم، فليست هي من نوع التقرُّب إلى غير الله تعالى في العبادة - كما توهّمه بعض من يريد الطعن في طريقة الامامية، غفلة عن حقيقة الحال فيها(١) - بل هي من نوع التقرُّب إلى الله تعالى

____________________

=

بد أن يكون الخالق واحدا؛ فهناك تلازم بين وحدة الخالق ووحدة المخلوق - وهو العالم - بحيث لو فرض وجود عالمين لفرض وجود إلهين اثنين، وهو مقولة: الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

ثم يشير عند شرحه لخطبة التوحيد المشهورة للامام عليعليه‌السلام عند قولهعليه‌السلام : «وكمال توحيده الاخلاص له»: والفكرة العامية للاخلاص هو الاخلاص بالعبادة، ولكن هذا المعنى لا يترتب على ما قبله، ولا ينسجم مع ما بعده؛ فالاخلاص يعني تنزيه من كل النقائص، ومن كل شيء يقدح في كونه واجب الوجود، فهو أعم من الاخلاص في العمل والعبادة، فالتوحيد لا يكون توحيداً حقيقياً إلا إذا وحدته من جميع الجهات في ذاته وصفاته وأفعاله وعبادته أيضاً، فالاخلاص له يعني التوحيد من جميع الجهات، وتنزيهه عن الشريك من جميع النواحي إلى آخره).

يراجع: الفلسفة الاسلامية؛ محاضرات الشيخ المظفرقدس‌سره على طلاب كلية الفقه في النجف الاشرف، الدرس العاشر: ٩١، والدرس الحادي عشر: ٩٣، والدرس الرابع عشر: ١٠٣.

(١) وفي هذه العبارة التي ذكرها المصنفقدس‌سره إشارة إلى الشبهة التي أثارها بعض خصوم الشيعة حول زيارة القبور وأشاعوا انّها محرّمة. واعتمدوا في ذلك على الحديث النبوي الذي نقله النسائي في سننه، ولفظه «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج»: ٤/٩٥. ونقله أيضاً بنفس اللفظ: كنز العمال: ١٦/٣٨٨ ح٤٥٠٣٩. وذكره أيضاً ابن ماجه في سننه، ولكن بلفظ مختلف هو: «لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله زوّارت القبور»: ١/٥٠٢ باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور، ح١٥٧٤ و ١٥٧٥ ، ١٥٧٦. ولا يخفى ما في متن الحديثين من تفاوت واضطراب؛ فلفظ زائرات يختلف عن زوّارت - بصيغه المبالغة - وكذلك عدم ورود الزيادة التي ذكرها النسائي اضافة إلى ذلك، ذكر هذا الحديث كل من محمد ناصر الدين الاَلباني في: سلسلة الاَحاديث الضعيفة: ١/٢٥٨ ح٢٢٥، وكذلك ابن عدي في: الكامل في الضعفاء: ٥/١٦٩٨ بدون ذكر الزيادة الموجودة في سنن النسائي.

=

٢٦

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

____________________

=

هذا من ناحية المتن، أما بالنسبة إلى السند، ففي سند هذا الحديث: عبدالوارث بن سعيد وأبو صالح - على رواية النسائي وراوية ابن ماجه الاولى - وعبدالله بن عثمان وعبدالرحمن بن بهمان - على رواية ابن ماجه الثانية - وهؤلاء يمكن الاطلاع على احوالهم مما يلي: -

١- عبدالوارث بن سعيد: قال عنه ابن حبان: كان قدرياً. وقال ابن أبي خيثمة: وكان يرمى بالقدر. وقال الساجي: كان قدرياً ذم لبدعته، وقال ابن معين: كان يرى القدر ويظهره. ذكر ذلك في تهذيب التهذيب: ٦/ ٣٩١ - ٣٩٢.

٢ - أبو صالح: وهو مردد بين ميزان البصري وبين باذام مولى ام هاني. والمرجح عند أهل الرجال والحديث أنه باذام. وباذام هذا قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: ١/ ٣٦٤ - ٣٦٥ أنه قال فيه أحمد: كان ابن مهدي قد ترك حديثه، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: ولم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه. وقال زكريا بن أبي زائدة، كان الشعبي يمر بأبي صالح فيأخذ باذنه فيهزها ويقول: ويلك تفسر القرآن وأنت لا تحفظ القرآن، وقال ابن المديني عن القطان عن الثوري: قال الكلبي قال لي أبو صالح: كلما حدثتك كذب. ونقل ابن الجوزي عن الازدي أنه قال: كذاب.

هذا ما ذكره تهذيب التهذيب. أما في سلسلة الأحاديث الضعيفة فبعد أن ذكر الحديث ورجح أن أبو صالح هذا هو باذام قال: (وأبو صالح هذا مولى ام هانئ بنت أبي طالب، واسمه باذان ويقال: باذام. وهو ضعيف عند جمهور النقاد ولم يوثقه أحد إلا العجلي وحده. بل كذبه اسماعيل بن أبي خالد والأزدي، ووصمه بعضهم بالتدليس وقال الحافظ في «التقريب»: ضعيف مدلس. وهو ضعيف عند ابن الملقن وعبد الحق الأشبيلي). سلسلة الأحاديث الضعيفة: ١/ ٢٥٨.

٣- عبدالله بن عثمان: قال النسائي: ثقة، وقال مرة: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان يخطئ ‎ وقال عبدالله بن الدورقي عن ابن معين: أحاديثه ليست بالقوية. وقال: ابن خثيم ليس بالقوي علي بن المديني قال: ابن خثيم منكر الحديث. ذكره تهذيب التهذيب: تهذيب التهذيب: ٦/ ١٣٥.

٤- عبدالرحمن بن بهمان: وهذا قال فيه ابن المديني: لا نعرفه. كما نقله عنه في تهذيب التهذيب: ٦/ ١٣٥.

هذا هو حال سند هذا الحديث وحال متنه، ويضاف إلى ذلك أنه معارض بأخبار أخر

=

٢٧

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

____________________

=

كثيرة أحسن منه متناً وأقوى سنداً؛ فقد جاء من الأحاديث التي تحث على زيارة قبر النبي العديد العديد منها ما في كنز العمال: ١٥/ ٦٥١ ح ٤٢٥٨٢ - ٤٢٥٨٤، وكذا في جزئه الخامس / ١٣٥ ح ١٢٣٦٨ - ١٢٣٧٣، وكذلك ما جاء في السنن الكبرى للبيهقي: ٥/ ٢٤٥ باب زيارة قبر النبي، وأما في زياره القبور بصورة عامة فلا حظ: كنز العمال: ١٥/ ٦٤٦ الفصل الثالث في زيارة القبور وفي الاحاديث من ٤٢٥٥١ إلى ٤٢٥٥٨، والسنن الكبرى للبيهقي: ٥/ ٢٤٩ باب زيارة القبور التي في بقيع الغرقد، وباب زيارة قبور الشهداء. وكذا في سنن ابن ماجه: ١/ ٥٠٠ باب ما جاء في زيارة القبور. وغير هذه المصادر الكثير الكثير مما يقصر هذا الموضع عن عدها. ولو سلمنا صحة الحديث السابق - جدلا - ومقاومته ومعارضته لكل هذه الأحاديث الصحيحة القوية، فان هذا الأحاديث يمكن أن نعتبرها ناسخة له إذا لا حظنا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم بالاخرة» ذكره كنز العمال: ١٥/ ٦٤٦ ح ٤٢٥٥٥ وغيره كثير. هذا كله بالاضافة إلى إجماع المسلمين على جواز زيارة القبور، بل رجحانها واستحبابها، وقيام السيرة على ذلك منذ عهد النبي، فقد ذكر البيهقي في سننه الكبرى وغيره بأنه كلما كانت ليلة عائشة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون» ذكره في الجزء: ٥/ ٢٤٩، وذكر النسائي في سننه، كتاب الجنائز، باب زيارة قبور المشركين، وأبو داود في سننه في زيارة القبور ح٣٢٣٤، وبن ماجه في سننه في باب ما جاء في زيارة قبور المشركين: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. بالاضافة إلى الاحاديث المتكاثرة التي تذكر بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعلم عائشة الدعاء عند زيارة القبور. ولو تجاوزنا هذا كله ورجعنا إلى الحديث الذي اعتمدوه ولا حظناه - بغض النظر عن كل ما قدمناه - فلن نجد فيه الدلالة التي ذكروها بل قد استفاد الكثير من المحدثين والفقهاء كراهة زيارة القبور بالنسبة للنساء فقط لا غير، وإليك نص العبارة التي ذكرها البيهقي في سننه الكبرى: ٤/ ٧٨، فقد قال: (إن فاطمة بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده ثم قال: وقد روينا في الحديث الثابت عن أنس بن مالك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مر بامرأة عند قبر وهي تبكي فقال: «اتقي الله واصبري» وليس في الخبر أنه نهاها عن الخروج إلى المقبرة، وفي ذلك تقوية لما روينا

=

٢٨

بالاعمال الصالحة، كالتقرُّب إليه بعيادة المريض، وتشييع الجنائز، وزيارة الاخوان في الدين، ومواساة الفقير.

فإنّ عيادة المريض - مثلاً - في نفسها عمل صالح يتقرَّب به العبد إلى الله تعالى، وليس هو تقرُّباً إلى المريض يوجب أن يجعل عمله عبادة لغير الله تعالى أو الشرك في عبادته، وكذلك باقي أمثال هذه الاَعمال الصالحة التي منها: زيارة القبور، وإقامة المآتم، وتشييع الجنائز، وزيارة الاِخوان.

أما كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الاَعمال الصالحة الشرعية، فذلك يثبت في علم الفقه، وليس هنا موضع إثباته(١) .

____________________

=

عن عائشة إلا أن اصح ما روي ذلك صريحا حديث أم عطية وما يوافقه من الأخبار، فلو تنزهن عن اتباع الجنائز والخروج إلى المقابر وزيارة القبور كان أبرأ لدينهن). انتهى كلامه. وحديث أم عطية هو: قالت نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا: السنن الكبرى: ٤/ ٧٧ قال: وأخرجه مسلم في الصحيح من وجهين عن هشام. سنن ابن ماجه ١/ ٥٠٢ ح ١٥٧٧.

ولزيادة الاطلاع والتوضيح راجع: كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب، للسيد محسن الأمين العاملي.

(١) وعلى سبيل المثال نذكر ما ورد في السنة والسيرة للنبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله حول رجحان أمثال هذه الاَعمال الصالحة؛ منها ما رواه البخاري في صحيحه في باب فضائل أصحاب النبي: ٤/٢٠٤ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «على مثل جعفر فلتبك البواكي» وكذلك ندب النبي إلى البكاء على حمزة فقال: «على مثل حمزة فلتبك البواكي» راجع: طبقات ابن سعد: ٢/٤٤، ومغازي الواقدي: ١/٣١٧، ومسند أحمد: ٢/٤٠. وذكر النسائي في سننه، كتاب الجنائز باب زيارة قبور المشركين، وابو داود في سننه في زيارة القبور ح ٣٢٣٤ وابن ماجه في سننه في باب ما جاء في زيارة قبور المشركين: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زار قبر اُمه فبكى وأبكى من حوله.

وكذلك صح بكاء الزهراءعليها‌السلام على أبيها وبكاء زينب بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام على أخويها الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وقال الامام الصادقعليه‌السلام : «قال الحسينعليه‌السلام : أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى» كامل الزيارات: ١٠٨.

وقالعليه‌السلام : «نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة، وكتمان سرنا جهاد

=

٢٩

والغرض؛ إنّ إقامة هذه الاَعمال ليست من نوع الشرك في العبادة - كما يتوهمه البعض - وليس المقصود منها عبادة الاَئمّة، وإنّما المقصود منها إحياء أمرهم، وتجديد ذكرهم، وتعظيم شعائر الله فيهم( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإنَّها مِنْ تَقْوى القُلُوب ) (١) .

فكلّ هذه أعمال صالحة ثبت من الشرع إستحبابها، فإذا جاء الانسان متقرِّباً بها إلى الله تعالى، طالباً مرضاته، استحقّ الثواب منه، ونال جزاءه.

____________________

=

في سبيل الله». بحار الأنوار: ٤٤/ ٢٧٨ ح٤.

وقال الامام الرضاعليه‌السلام : «من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» أمالي الصدوق: المجلس السابع عشر.

(١) الحج ٢٢: ٣٢.

٣٠

٧ - عقيدتنا في صفاته تعالى

ونعتقد: أنّ من صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات الجمال والكمال - كالعلم، والقدرة، والغنى، والاِرادة، والحياة - هي كلّها عين ذاته، ليست هي صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلاّ وجود الذات؛ فقدرته من حيث الوجود حياته، وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حي، وحي من حيث هو قادر، لا إثنينيه في صفاته ووجودها، وهكذا الحال في سائر صفاته الكماليّة.

نعم، هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها، لا في حقائقها ووجوداتها؛ لاَنّه لو كانت مختلفة في الوجود - وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات - للزم تعدّد واجب الوجود، ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد(١) .

وأمّا الصفات الثبوتية الاضافية - كالخالقية، والرازقية، والتقدّم، والعلّية - فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية، وهي القيّومية

____________________

(١) يشير الشيخ المظفرقدس‌سره إلى هذا المعنى بقوله: -

(أمّا القول بالاعتبار الذي معناه أنّ الصفات لا واقع خارجي لها، فنحن نعتبر هذا الكلام غير صحيح؛ لاَنّ الله تعالى وصف نفسه بأنّه عليم حكيم قادر هو محض القدرة والعلم والحياة، لا أنّه ذات لها القدرة والعلم والحياة، ولكن هذه الصفات متغايرة بالمفهوم الذي يفهم منه لدى الذهن؛ لاَنّها ألفاظ غير مترادفة، فتغايرها اعتباري مفهومي فقط، فلا تغاير في الصفات وجوداً، ولا من حيث الحيثيّة، ولا تعددها اعتباري كما ذكروا، بل هناك تعدد مفهومي يحكي عن حقيقة هو كلّ الحقائق. قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «فمن وصفه فقد عدّه..» أليس هو قد وصفه بصفات كثيرة؟! ولكنه يعني أنّ من وصفه بصفات زائدة على الذات، بحيث يوجب تعدد الذات وتعدّد القدماء، ويخرج عن كونه واجب الوجود).

الفلسفة الاسلامية محاضرات الشيخ المظفرقدس‌سره : ١٠٢.

٣١

لمخلوقاته، وهي صفة واحدة تنتزع منها عدّة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات.

وأمّا الصفات السلبية التي تسمّى بصفات الجلال، فهي ترجع جميعها إلى سلب واحد هو سلب الامكان عنه؛ فإنّ سلب الاِمكان لازمه - بل معناه - سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون، والثقل والخفّة، وما إلى ذلك، بل سلب كل نقص.

ثمّ إنّ مرجع سلب الاِمكان - في الحقيقة - إلى وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصفات الثبوتية الكمالية، فترجع الصفات الجلالية (السلبية) آخر الاَمر إلى الصفات الكمالية (الثبوتية) ، والله تعالى واحد من جميع الجهات، لا تكثّر في ذاته المقدّسة، ولا تركيب في حقيقة الواحد الصمد.

ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية؛ لمّا عزّ عليه أن يفهم كيف أنّ صفاته عين ذاته، فتخيّل أنّ الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب؛ ليطمئنّ إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثّرها، فوقع بما هو أسوأ؛ إذ جعل الذات التي هي عين الوجود، ومحض الوجود، والفاقدة لكلّ نقص وجهة إمكان، جعلها عين العدم ومحض السلب(١) ، أعاذنا الله من شطحات الاَوهام، وزلاّت الاَقلام.

____________________

(١) في كلام المصنّفقدس‌سره إشارة إلى ما ذهب إليه الشيخ الصدوققدس‌سره في قوله: (كلّما وصفنا الله تعالى من صفات ذاته فإنّما نريد بكل صفة منها نفي ضدّها عنه عز وجل. ونقول: لم يزل الله عز وجل سميعاً بصيراً عليماً حكيماً قادراً عزيزاً حياً قيوماً واحداً قديماً. وهذه صفات ذاته.

ولا نقول: إنّه عز وجل لم يزل خلاّقاً فاعلاً شائياً مريداً راضياً ساخطاً رازقاً وهاباً متكلماً؛ لاَنّ هذه صفات أفعاله، وهي محدثة لا يجوز أن يقال: لم يزل الله موصوفاً بها) الاعتقادات: ٨.

=

٣٢

كما لا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى أنّ صفاته الثبوتية زائدة على ذاته؛ فقال بتعدّد القدماء، ووجود الشركاء لواجب الوجود، أو قال بتركيبه - تعالى عن ذلك -(١) .

____________________

=

الاعتقادات: ٨.

ولا يخفى أن هذا يعني أنه يمكن انطباق عدة سلوب على موضوع واحد؛ فمعنى الحياة هو عدم الموت، ومعنى العلم عدم الجهل، ومعنى القدرة عدم العجز.. وهكذا، وهذه اسلوب يمكن انطباقها على ذات واحدة، فيتبين أن الله - تعالى عن ذلك - هو مجموعة اسلوب، ويعقب الشيخ المظفر على ذلك بقوله: (نحن نحترم الشيخ الصدوق - كمحدث وناقل - فاذا تحدث عن مثل هذه الامور فلا نقبل آراءه. فنحن نريد أن نقول: أنه لا تعدد حقيقي، ولا من حيث الحيثية، ولا تعدد اعتباري؛ لأن التعدد من ناحية الاعتبار ومن ناحية الحيثية لا قيمة له، فالفكرة التي نؤمن بها يعرب عنها الفارابي بقوله : (هو عالم من حيث قادر ، وقادر من حيث هو حي ، وحي من حيث هو عالم ..) إن هذه الصفات ليس فيها تعدد حقيقي ولا تعدد حيثية ؛ لان جهة العلم ليست غير جهة الحياة ، فالتعدد الذي نتصوره هو بالمفهوم الذي يحكي عن حقيقة ، وتعددها عين وحدتها نحن نقول : انه عالم من حيث هو قادر ، وهو حيثيات واقعية ولكن لا بمعنى ان لها وجودات مستقلة ، بل بمعنى ان نفس الوجود هو بنفسه العلم وهو بنفسه القدرة لا ان القدرة موجودة بذلك الوجود لتكون حيثية مقابلة لتلك الحيثية ، فهذه الصفات وان كانت حقيقة وواقعية ففي عين تعددها هي واحدة ، وتعدد هذه المفاهيم يكشف عن معنى حقيقي ولكن ليس هناك تعدد حتى بالمعنى ، وهذا العمق في هذا القول هو الذي غاب عن أفكار أصحاب الاقوال السابقة ) لاحظ : الفلسفة الاسلامية للمظفر : ١٠١ - ١٠٢. راجع : تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد ٤١، وكذلك : مطارح النظر في شرح الباب الحادي عشر للشيخ صفي الدين الطريحي : الفصل الثالث : ١٣١- ١٦٢.

(١) نجد أنّ الشيخ المؤلف قد اوضح هذه المسألة من حيث أنّ الاَقوال فيها كما يلي: -

١ - الصفات زائدة على الذات، ولكنها لازمة لها أي واجبة الوجود أيضاً، هذا قول الاَشاعرة.

٢ - قول الكرامية بأنّ الصفات زائدة على الذات ولكنها غير لازمة لها؛ لاَنّها لو كانت

=

٣٣

قال مولانا أمير المؤمنين وسيِّد الموحّدينعليه‌السلام : «وكمالُ الاِخلاصِ لهُ نفيُ الصِفاتِ عنهُ؛ لشهادةِ كلِّ صفةٍ أَنَّها غيرُ المَوصوفِ، وشهادةِ كلِّ موصوفٍ أنَّه غيرُ الصفةِ، فمَنْ وَصَفَ الله سبحانه فَقدْ قرنَهُ، ومَنْ قرنَهُ فَقدْ ثنّاهُ، ومَنْ ثنّاهُ فَقدْ جزّأَهُ، ومن جزّأَهُ فَقدْ جَهِلَهُ...»(١) .

____________________

=

لازمة لكانت واجبة الوجود وحينئذٍ يلزم تعدد واجب الوجود.

٣- وقول بأن وجود الصفات نفس وجود الذات أي متحدة بالوجود مع تعدد الحيثية، كتعدد حيثيات صفات الانسان ، فالنفس في وحدتها كل القوى أي وجودا.

٤- وقول بأن هذا التعدد اعتباري ، أي ليس هناك تعدد في الوجود ولا في الحيثيات ، وإنما يعتبرها الذهن ، ومنشأ الاعتبار هو نفس الذات.

فهذه الأقوال جميعا لا نرتضيها ؛ لأنها كلها غير صحيحة ، وإنما نشأ الخلط في دقة النظر في فهم عينية الصفات للذات.

الأشاعرة لم يفهموا معنى عينية الصفات للذات وظنوا أن معنى ذلك أنه تعالى لا صفات له ، والكرامية قالوا : إن الصفات لو كانت ملازمة للزم تعدد واجب الوجود ، والقائلون بتعدد الحيثيات قالوا بأن هذا لا يثلم عقيدة التوحيد ، والقائلون بالاعتبار قالوا : إن القول بتعدد الحيثيات غير معقول.

الفلسفة الاسلامية للشيخ المظفر : ١٠٠.

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١ (من كلام لهعليه‌السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والاَرض)، الاحتجاج: ٢/٤٧٣ ح١١٣.

٣٤

٨ - عقيدتنا في العدل

ونعتقد: أنّ من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنّه عادل غير ظالم، فلا يجور في قضائه، ولا يحيف في حكمه؛ يثيب المطيعين، وله أن يجازي العاصين، ولا يكلِّف عباده ما لا يطيقون، ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقّون(١) .

ونعتقد: أنّه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة، ولا يفعل القبيح؛ لاَنّه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح، مع فرض علمه بحسن الحسن، وقبح القبيح، وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح، فلا الحسن يتضرّر بفعله حتى يحتاج إلى تركه، ولا القبيح يفتقر إليه حتى يفعله. وهو مع كل ذلك حكيم؛ لا بدّ أن يكون فعله مطابقاً للحكمة، وعلى حسب النظام الاَكمل(٢) .

____________________

(١) العدل هو الجزاء على العمل بقدر المستحق عليه، والظلم هو منع الحقوق، والله تعالى عدل كريم جواد متفضل رحيم قد ضمن الجزاء على الاعمال والعوض على المبتدئ من الآلام، ووعد التفضل بعد ذلك بزيادة من عنده، فقال تعالى( لِلّذينَ أحسَنُوا الحُسْنَى وزيادة ) يونس ١٠: ٢٦. فخبّر أنّ للمحسنين الثواب المستحق وزيادة من عنده، وقال:( مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِهَا ) يعني له عشر أمثال ما يستحق عليها،( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فِلا يُجزَى إلاّ مِثْلَها وَهُم لا يُظلَمون ) الانعام ٦: ١٦٠. يريد أنّه لا يجازيه بأكثر مما يستحقه، ثم ضمن بعد ذلك العفو ووعد بالغفران. فقال سبحانه( وإنّ ربّك لَذو مَغفِرةٍ للنَّاسِ على ظلمهم ) الرعد ١٣: ٦. وقال سبحانه:( إنّ الله لا يَغْفِر أن يُشركَ بِهِ ويَغفر مَا دُونَ ذَلِكَ لَمَنْ يَشاءُ ) النساء ٤: ٤٨... وقد أمر الله تعالى بالعدل ونهى عن الجور فقال تعالى:( إنَّ الله يأمُر بِالعَدلَ والاِحْسن ) النحل ١٦: ٩٠.

تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد: ١٠٣.

(٢) وتعتبر الشيعة الامامية العدل من أصول الدين وليس هو في الحقيقة اصلاً مستقلاً، بل هو

=

٣٥

فلو كان يفعل الظلم والقبح - تعالى عن ذلك - فانّ الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صور:

١ - أن يكون جاهلاً بالأمر، فلا يدري أنّه قبيح.

٢ - أن يكون عالماً به، ولكنّه مجبور على فعله، وعاجز عن تركه.

٣ - أن يكون عالماً به، وغير مجبور عليه، ولكنه محتاج إلى فعله.

٤ - أن يكون عالماً به، وغير مجبور عليه، ولا يحتاج إليه، فينحصر في أن يكون فعله له تشهّياً وعبثاً ولهواً.

وكل هذه الصور محال على الله تعالى، وتستلزم النقص فيه وهو محض الكمال، فيجب أن نحكم أنه منزَّه عن الظلم وفعل ما هو قبيح.

____________________

=

مندرج في نعوت الحق ووجوب وجوده المستلزم لجامعيّته لصفات الجمال والكمال فهو شأن من شؤون التوحيد، ولكن الاَشاعرة لما خالفوا العدلية - وهم المعتزلة والامامية - فانكروا الحسن والقبح العقليين وقالوا: ليس الحسن إلاّ ما حسّنه الشرع وليس القبح إلاّ ما قبحه الشرع، وأنه تعالى لو خلد المطيع في جهنم والعاصي في الجنة لم يكن قبيحاً؛ لاَنّه يتصرف في ملكه( لا يُسئَلُ عَمَّا يَفْعَل وَهُم يُسْئَلُونَ ) الانبياء ٢١: ٢٣. أمّا العدلية فقالوا: انّ الحاكم في تلك النظريات هو العقل مستقلاً، ولا سبيل لحكم الشرع فيها إلاّ تأكيداً وارشاداً، والعقل يستقل بحسن بعض الاَفعال وقبح البعض الآخر ويحكم بأنّ القبيح محال على الله تعالى؛ لاَنّه حكيم وفعل القبيح مناف للحكمة وتعذيب المطيع ظلم والظلم قبيح وهو لا يقع منه تعالى.

وبهذا أثبتوا لله صفة العدل وأفردوها بالذكر دون سائر الصفات إشارة الى خلاف الاشاعرة.

والعدلية بقاعدة الحسن والقبح العقليين اثبتوا جملة من القواعد الكلامية : كقاعدة اللطف ، ووجوب شكر المنعم ، ووجوب النظر في المعجزة ، وعليها بنوا أيضا مسألة الجبر والاختبار التي هي من معضلات المسائل.

للتفصيل راجع : أصل الشيعة واصولها للشيخ كاشف الغطاء : ٢٣٠.

مطارح النظر للشيخ الطريحي : الفصل الرابع ١٦٤.

٣٦

غير أن بعض المسلمين جوَّز عليه تعالى فعل القبيح(١) - تقدَّست أسماؤه - فجوَّز أن يعاقب المطيعين، ويدخل الجنّة العاصين، بل الكافرين، وجوَّز أن يكلِّف العباد فوق طاقتهم وما لا يقدرون عليه، ومع ذلك يعاقبهم على تركه، وجوَّز أن يصدر منه الظلم والجور والكذب والخداع، وأن يفعل الفعل بلا حكمة وغرض ولا مصلحة وفائدة، بحجّة أنّه( لا يُسئَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسئَلونَ ) (٢) .

فربُّ أمثال هؤلاء الذين صوَّروه على عقيدتهم الفاسدة: ظالم، جائر، سفيه، لاعب، كاذب، مخادع، يفعل القبيح ويترك الحسن الجميل، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، وهذا هو الكفر بعينه، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه:( وَمَا اللهُ يُريدُ ظُلْماً للعِبَادِ ) (٣) .

وقال:( وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ ) (٤) .

وقال:( وَمَا خَلَقْنَا الْسَّمواتِ والاَرضَ وَمَا بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (٥) .

وقال:( وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ والاِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (٦) .

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، سبحانك ما خلقت هذا باطلاً.

____________________

(١) والى ذلك ذهبت الاَشاعرة بقولهم إنّ الله تعالى قد فعل القبائح بأسرها من أنواع الظلم والشرك والجور والعدوان ورضي بها وأحبّها - جل عن ذلك سبحانه وتعالى -. ولتفصيل هذه الاَفكار الباطلة يراجع: نهج الحق للعلامة الحلّي: ٨٥، شرح العقائد وحاشيتة للكستلي: ١٠٩ و١١٣، الملل والنحل: ١/٨٥، ٨٨، ٩١، الفصل لابن حزم: ٣/٦٦ و٦٩، شرح التجريد للقوشجي: ٣٧٣.

(٢) الانبياء ٢١: ٢٣.

(٣) غافر ٤٠: ٣١.

(٤) البقرة ٢: ٢٠٥.

(٥) الدخان ٤٤: ٣٨.

(٦) الذاريات ٥١: ٥٦.

٣٧

٩ - عقيدتنا في التكليف

نعتقد: أنّه تعالى لا يكلِّف عباده إِلاّ بعد إقامة الحجّة عليهم(١) ، ولا

____________________

(١) لا بد من معرفة أنّ حقيقة التكليف تعني: إرادة المريد من غيره ما فيه كلفة ومشقة. فيكون عندئذ المرجع هو الارادة، بقرينة ما ذكر في التعريف من الكلفة والمشقة. وأردف السيد الشريف المرتضى علم الهدى بعد ذلك بقوله - مصحّحاً القول: إنّ التكليف لا يحسن إلاّ بعد اكمال العقل ونصب الادلّة -: (وأنه تعالى اكمل العقول وحصل سائر الشروط فلا بد من أن يكلِّف، وهذا يدل على أن التكليف غير التعريف ). وقد بحث علماؤنا مباحث التكليف بصورة مستفيضة ذاكرين وجوه المراد بالتكليف وتعلقها بالمكلِّف والمكلَّف وصفات المكلف، والغرض من هذا التكليف، والوجه المجرى به إليه، وما الافعال التي يتناولها، وما المكلِّف الذي كلف هذه الاَفعال، وبأي شيء مختص من الصفات حتى يحسن أو يجب تكليفه. والمعلوم أنّ هذا الموضوع هو من بحوث الارادة الذي استحق من المتكلمين عناية وعنواناً مفرداً على أثر الاختلاف العظيم بين العلماء وزعماء المذاهب في المشيئة الالهية المذكورة في آيات الذكر الحكيم وتعلقها بأمور غير مرضية لديه سبحانه، ثمّ في تأويلها بوجوه لا تخلو عن التكلّف في الاَكثر وأهمّها الآية ١٤٨ من سورة الاَنعام( سَيقوُل الّذين أشركُوا لو شاءَ الله ما أشركْنَا ولا آباؤُنَا ولا حَرّمنا مِنْ شَيء كَذلِكَ كذّبَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأسَنَا قُلْ هَل عِنْدَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبعونَ إلاّ الظَنَّ وإنْ أَنْتُمْ إلاّ تخرُصُون ) والآية ٢٠ من سورة الزخرف:( وَقالُوا لَو شَاءَ الرّحمنُ ما عبدنهُمْ مَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلمٍ إنْ هم إلاّ يَخرُصوُنَ ) وآيات كثيرة توهم تعلق إرادة الخالق بما يستقبحهُ المخلوق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن هذا يبدو أنّ شيخنا المظفرقدس‌سره أفرد عنواناً مستقلاً للتكليف سطر فيه ما يمكن أن يختصر نظرية الامامية في هذا الباب، ذلك أنّ مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام لها موقف واضح معروف يؤكّد على تنزيه الرب الكريم سبحانه وتقديسه عن كل ما هو قبيح أو شبه قبيح وشدة استنكارها بتعلّق مشيئة الله أو إرادته بشرك أو ظلم أو فاحشة قط، فضلاً عن فعله أو خلق فعله أو الاَمر به؛ إذ كل ذلك سيقع خلافاً لحكمته وعدله وفضله.

=

٣٨

يكلِّفهم إلاّ ما يسعهم ما يقدرون عليه وما يطيقونه وما يعلمون؛ لاَنّه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصِّر في التعليم.

أمّا الجاهل المقصِّر في معرفة الاَحكام والتكاليف فهو مسؤول عند الله تعالى، ومعاقَب على تقصيره؛ إذ يجب على كلّ إنسان أن يتعلَّم ما يحتاج إليه من الاَحكام الشرعية(١) .

____________________

=

ومحصلة القول ما ذكره الشيخ المفيد بقوله: إنّ الله تعالى لا يريد إلاّ ما حسن من الاَفعال، ولا يشاء إلاّ الجميل من الاعمال، ولا يريد القبائح، ولا يشاء الفواحش - تعالى الله عمّا يقول المبطلون علواً كبيرا- :

قال الله تعالى :( وما الله يريد ظلماً للعباد ) غافر ٤٠ : ٣١.

وقال تعالى :( يريد الله بكم اليسرة ولا يريد بكم العسر ) البقرة ٢ : ١٨٥.

وقال تعالى :( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) النساء ٤ : ٢٦.

وقال تعالى :( والله يرريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماُ ) النساء ٤: ٢٧.

وقال تعالى :( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسن ضعيفا ) النساء ٤: ٢٨. فخبر سبحانه أنه لا يريد بعباده العسر بل يريد بهم اليسر ، وأنه يريد لهم البيان ولا يريد لهم الضلال ، ويريد التخفيف عنهم ولا يريد التثقيل عليهم ، فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم لنافى ذلك إرادة البيان لهم والتخفيف عنهم واليسر لهم وكتاب الله تعالى شاهد بضد ما ذهب اليه الضالون المفترون على الله الكذب تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كلبيرا.

لاحظ : الذخيرة للسيد المرتضى : ١٠٥، تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد : المجلد ٥ من مصنفات الشيخ المفيد : ٤٨-٥١.

(١) ويدلّ عليه ما ورد في كتاب الله تعالى من قوله:( فَسْئَلُوا أَهلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ) النحل ١٦: ٤٣ وقوله تعالى:( فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا في الدِّين ولُينذرِوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعوا إليْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرون) التوبة ٩: ١٢٢.

ويدلّ عليه أيضاً قول الامام الصادقعليه‌السلام عندما سئل عن قوله تعالى:( قلْ فَلِلّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ ) الانعام ٦: ١٤٩. فقالعليه‌السلام : «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً؟ فان قال نعم قال له: أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال: كنت

=

٣٩

ونعتقد: أنّه تعالى لا بدَّ أن يكلِّف عباده، ويسنَّ لهم الشرائع، وما فيه صلاحهم وخيرهم؛ ليدلّهم على طرق الخير والسعادة الدائمة، ويرشدهم إلى ما فيه الصلاح، ويزجرهم عمّا فيه الفساد والضرر عليهم وسوء عاقبتهم، وإن علم أنّهم لا يطيعونه؛ لاَنّ ذلك لطف ورحمة بعباده، وهم يجهلون أكثر مصالحهم وطرقها في الدنيا والآخرة، ويجهلون الكثير ممّا يعود عليهم بالضرر والخسران، والله تعالى هو الرحمن الرحيم بنفس ذاته، وهو من كماله المطلق الذي هو عين ذاته، ويستحيل أن ينفك عنه.

ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمرّدين على طاعته، غير مناقدين إلى أوامره ونواهيه.

____________________

=

جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟! فيخصم، فتلك الحجة البالغة». الاَمالي للشيخ الطوسي: ٩ ح١٠/١٠. ونقله عنه: البحار: ٢/٢٩ ح١٠.

والحديث الوارد عن الامام الصادقعليه‌السلام : (عليكم بالتفقه في دين الله ، ولا تكونوا أعرابا ؛ فانه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزك له عملا .)الكافي :١/٢٤ ح٧.

كما ورد في الرسائل العملية للعلماء الأعلام : يجب على المكلف تعلم مسائل الشك والسهو التي في معرض ابتلائه لئلا يقع - لولا التعلم - في مخالفة تكليف إلزامي متوجه اليه عند طروهما لاحظ منهاج الصالحين للسيد السيستاني : العبادات / مسألة ١٩ص١٣.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

الحذر الحذر. (فما نزل حتّى دخلت النظارة المسجد من قبل باب التمّارين يشتدون ويقولون : قد جاء مسلم بن عقيل). فنزل عن المنبر مسرعا وبادر حتّى دخل القصر وأغلق الأبواب.

نهضة مسلم بن عقيلعليه‌السلام

٥٥٤ ـ خروج مسلم بن عقيل للقتال :(لواعج الأشجان ، ص ٤٧)

قال عبد الله بن حازم : أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هانئ.فلما ضرب وحبس ، ركبت فرسي فكنت أول داخل الدار على مسلم بن عقيل بالخبر. فإذا نسوة من (مراد) مجتمعات ينادين : يا عبرتاه يا ثكلاه!.

فدخلت على مسلم فأخبرته الخبر ، فأمرني أنادي في أصحابه ، وقد ملأ به الدور حولهم ، وكانوا فيها أربعة آلاف. فقال لمناديه ناد : يا منصور أمت! وكان ذلك شعارهم. (وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفا). فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه.

فاجتمع إليه أربعة آلاف ، فعقد لعبد الله بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وقال : سر أمامي في الخيل. وعقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد ، وقال : انزل في الرجال. وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان. وعقد للعباس بن جعدة [بن هبيرة] الجدلي على ربع المدينة. وعبأ ميمنته وميسرته ووقف هو في القلب.

٥٥٥ ـ زحف مسلم إلى القصر ، لقتال ابن زياد المتحصّن فيه :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٦ ؛ ولواعج الأشجان ص ٤٧)

وأقبل مسلم بن عقيل في وقته ذلك ، ومعه ثمانية عشر ألفا أو يزيدون ، وبين يديه الأعلام والسلاح الشاك. وهم في ذلك يشتمون ابن زياد ويلعنون أباه. وأقبل مسلم يسير حتّى خرج في بني الحرث بن كعب ، ثم خرج على مسجد الأنصار ، حتّى أحاط بالقصر.

(قال عبد الله بن حازم : وتداعى الناس واجتمعوا. فما لبثنا إلا قليلا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسّوقة. وما زالوا يتوثّبون حتّى المساء.

وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة ، فجمعهم عنده في القصر. وأحاط مسلم بالقصر فضايق بعبيد الله أمره. وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر ، وليس معه إلا

٤٨١

ثلاثون رجلا من الشرطة وعشرون رجلا من أشراف الناس ، وأهل بيته وخاصته.وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قبل الباب الّذي يلي دار الروميين).

وركب أصحاب ابن زياد ، واختلط القوم فاقتتلوا قتالا شديدا ، وابن زياد في جماعة من الأشراف قد وقفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة الناس (وأصحاب مسلم يرمونهم بالحجارة ، ويشتمونهم ويفترون على عبيد الله وعلى أمه وأبيه).

٥٥٦ ـ تخذيل الناس عن مسلم :(مثير الأحزان للجواهري ، ص ٢٣)

فدعا ابن زياد كثير بن شهاب ، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ، فيسير في الكوفة ويخذّل الناس ويخوّفهم من الحرب ، ويحذّرهم عقوبة السلطان. وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة ، فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس. وقال لشبث بن ربعي وحجّار بن أبجر وشمر بن ذي الجوشن مثل ذلك.

فخرجوا يردّون الناس عن مسلم ويخوّفونهم السلطان ، حتّى اجتمع إليهم عدد كثير من قومهم وغيرهم ، فصاروا إلى ابن زياد.

فقال كثير بن شهاب : أصلح الله الأمير ، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس وغيرهم!. فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم ، ثم أشرفوا على الناس (من فوق القصر) فمنّوا أهل الطاعة بالزيادة والكرامة ، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة وأهل الشام.

٥٥٧ ـ ابن زياد يخذّل الناس عن مسلم ، ويخوّفهم بمجيء جند الشام :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٦)

قال : وجعل رجل من أصحاب ابن زياد يقال له : كثير بن شهاب ، ومحمد بن الأشعث ، والقعقاع بن شور ، وشبث بن ربعي ، ينادون فوق القصر بأعلى أصواتهم : ألا يا شيعة مسلم بن عقيل ، ألا يا شيعة الحسين بن علي ، الله الله في أنفسكم وأهليكم وأولادكم ، فإن جنود أهل الشام قد أقبلت ، وإن الأمير عبيد الله قد عاهد الله ، لئن أنتم أقمتم على حربكم ولم تنصرفوا من يومكم هذا ، ليحرمنّكم العطاء ، وليفرّقنّ مقاتلتكم في مغازي أهل الشام ، وليأخذن البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، حتّى لا يبقى منكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال أمرها.

٤٨٢

٥٥٨ ـ تفرّق الناس إلى بيوتهم :(المصدر السابق ، ص ٢٠٧)

فلما سمع الناس مقالة أشرافهم أخذوا يتفرقون ويتخاذلون عن مسلم بن عقيل ، ويقول بعضهم لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة ، وغدا تأتينا جموع أهل الشام!.فينبغي أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم.

قال : وكانت المرأة تأتي أخاها وأباها أو زوجها أو بنيها فتشرده. ثم جعل القوم يتسللون ، والنهار يمضي حتّى غربت الشمس.

٥٥٩ ـ تفرّق الناس عن مسلم حتّى بقي وحيدا :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٤٩ ط نجف)

فلما سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرقون. وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها فتقول : انصرف ، الناس يكفونك. ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول : غدا يأتيك أهل الشام ، فما تصنع بالحرب والشر ، انصرف. فيذهب به فينصرف. فما زالوا يتفرقون حتّى أمسى ابن عقيل في خمسمائة.

فلما اختلط الظلام جعلوا يتفرقون (فدخل مسلم المسجد الأعظم) فصلى المغرب وما معه إلا ثلاثون نفسا في المسجد. فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر ، خرج متوجها إلى أبواب كندة. فلم يبلغ الأبواب إلا ومعه عشرة. ثم خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان!.

فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا يدله على الطريق ولا يدله على منزله ، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو. فمضى على وجهه متحيّرا في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب ، حتّى خرج إلى دور بني جبلة من كندة (انظر الشكل ٦ ـ مخطط الكوفة القديمة ، حيث تظهر منازل كندة في جنوبي الكوفة ، وأبواب كندة) صفحة ٥٦٠.

٥٦٠ ـ كيف عمل ابن زياد على تخذيل الناس :

(مثير الأحزان للجواهري ، ص ٢٣)

لما أحيط بابن زياد وهو في القصر ، فكّر بتخذيل الناس عن مسلم ، واستخدم لذلك عدة طرق منها :

١ ـ التخويف من الحرب والتحذير من عقوبة السلطان.

٢ ـ إغراء الناس بإعطاء الأمان لمن يأتيه.

٤٨٣

٣ ـ إغراء المطيع بزيادة العطاء ، وحرمان العاصي من العطاء.

٤ ـ تخويف الناس بأن جيش الشام زاحف إليهم ، وأنهم لا يقدرون عليه.

٥ ـ بعث رجال يشيعون الإنهزامية في نفوس الناس ، حتّى يقول كل واحد : لا علاقة لي بهذا الأمر!.

٥٦١ ـ ابن زياد يصلي العشاء بالناس ويحذّرهم :

(مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٨١)

ولما تفرّق الناس عن مسلم وسكن لغطهم ولم يسمع ابن زياد أصوات الرجال ، أمر من معه في القصر أن يشرفوا على ظلال المسجد لينظروا هل كمنوا فيها ، فكانوا يدلون القناديل ويشعلون النار في القصب ويدلونها بالحبال إلى أن تصل إلى صحن الجامع ، فلم يروا أحدا ، فأعلموا ابن زياد.

فنزل إلى المسجد قبل العتمة [أي وقت صلاة العشاء] وأجلس أصحابه حول المنبر. وأمر فنودي في الكوفة : برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء والمقاتلة ، صلى العتمة إلا في المسجد.

فامتلأ المسجد ، ثم صلى بالناس. وقام فحمد الله ، ثم قال : أما بعد ، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره ، ومن أتانا به فله ديّته. فاتقوا الله عباد الله ، والزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.

ثم أمر صاحب شرطته الحصين بن تميم أن يفتش الدور والسكك ، وحذّره بالفتك به إن أفلت مسلم ، وخرج من الكوفة.

فوضع الحصين الحرس على أفواه السكك ، وتتبع الأشراف الناهضين مع مسلم ، فقبض على عبد الأعلى بن يزيد الكلبي ، وعمارة بن صلخب الأزدي ، فحبسهما ثم قتلهما.

٥٦٢ ـ صفة أهل العراق والكوفيين خاصة :

(مختصر تاريخ العرب لسيد أمير علي [١٨٤٩ ـ ١٩٢٨ م] ، ص ٧٢)

يقول سيد أمير علي : كان أهل العراق والكوفة ، أنصار علي والحسن والحسينعليهم‌السلام ، وهم وإن كانوا متحلّين بالحماسة وشدة البأس ، إلا أنهم قوم

٤٨٤

قلبّ يعوزهم الثبات والحزم. فبينما تراهم يوما شديدي الحماسة لعقيدة يدينون بها ، أو متفانين في الإخلاص لشخص يعضدونه ، إذ بهم في اليوم التالي قد أعرضوا عن العقيدة التي آمنوا بها ، وخذلوا الشخص الّذي أجمعوا على نصرته بالأمس.ولقد قرّحوا قلب الإمام عليعليه‌السلام ، ثم خذلوا الإمام الحسنعليه‌السلام ، ثم قتلوا الإمام الحسينعليه‌السلام .

٥٦٣ ـ التجاء مسلم إلى دار طوعة :(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٧)

فلما رأى مسلم ذلك استوى على فرسه ومضى في بعض أزقة الكوفة ، وقد أثخن بالجراحات ، لا يدري أين يذهب. حتّى صار إلى امرأة يقال لها (طوعة) ، وقد كانت قبل ذلك أم ولد للأشعث بن قيس ، فتزوجها رجل من حضرموت يقال له أسيد الحضرمي ، فولدت له (بلال) بن أسيد [وهي امرأة عربية موالية لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لها شأن كبير في نساء الكوفة].

وكانت المرأة واقفة على باب دارها تنتظر ابنها. فسلّم عليها مسلم فردّتعليه‌السلام . فقال: يا أمّة الله اسقيني ماء ، فسقته فجلس على بابها.

(ودخلت ثم خرجت) فقالت له : يا عبد الله ، ما شأنك أليس قد شربت؟!. قال :بلى.

(وفي مثير الأحزان للجواهري ، ص ٢٤) : «قالت : فاذهب إلى أهلك ، فسكت.ثم أعادت مثل ذلك فسكت. ثم قالت في الثالثة : يا سبحان الله يا عبد الله ، قم إلى أهلك عافاك الله ، فإنه لا يصلح لك الجلوس على باب داري ولا أحلّه لك. فقام مسلم وقال : يا أمة الله ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلي مكافيك بعد اليوم. قالت :

يا عبد الله وما ذاك؟. قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني».

قال السيد أسد حيدر في كتابه (مع الحسين في نهضته) ص ١١٢ :

«وكانت طوعة امرأة عربية موالية لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شأنها شأن كبير ، من نساء الكوفة اللواتي أثبت التاريخ مواقفهن الحاسمة في مناصرة أهل البيتعليهم‌السلام . ولكن الإطار الّذي برزت فيه صورتها في هذا الحادث هو غير إطارها الواقعي».

قالت : أنت مسلم؟. قال : نعم. قالت : ادخل ، فدخل إلى بيت [أي غرفة] في

٤٨٥

دارها غير البيت الّذي تكون فيه ، وفرشت له (وجاءته بمصباح) وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ.

٥٦٤ ـ بلال بن طوعة يفشي أمر مسلم بن عقيل :

(مثير الأحزان للجواهري ، ص ٢٤)

ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها [بلال] فرآها تكثر الدخول والخروج إلى ذلك البيت (وهي باكية). فألحّ عليها ، فأعلمته بعد أن أخذت عليه العهود بالكتمان.(فسكت الغلام ولم يقل شيئا. ثم أخذ مضجعه ونام).

(وفي مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٨) :

«فلما أصبح ابن زياد ، نادى في الناس أن اجتمعوا. ثم خرج من القصر فدخل المسجد ، ثم صعد المنبر فقال : أيها الناس ، إن مسلم بن عقيل السفيه الجاهل ، أتى هذا البلد وأظهر الخلاف وشق عصا المسلمين ، وقد برئت الذمة من رجل أصبناه في داره. ومن جاء به فله ديته ، والمنزلة الرفيعة من أمير المؤمنين ، وله كل يوم حاجة مقضيّة

وأقبل محمّد بن الأشعث حتّى دخل على عبيد الله بن زياد. فلما رآه قال : مرحبا بمن لا يتّهم في مشورة. وأقبل [بلال] إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث فأخبره بمكان مسلم. فقال : اسكت إذن ولا تخبر أحدا. وأقبل عبد الرحمن إلى أبيه فسارّه في أذنه بأن مسلما في منزل طوعة. ثم تنحّى ، فقال ابن زياد : ما الّذي قال لك عبد الرحمن؟. فقال : أصلح الله الأمير ، البشارة الكبرى. قال : وما تلك فمثلك من يبشّر بخير؟. فأخبره بذلك ، فسرّ عدوّ الله ، وقال له : قم فأتني به ولك ما بذلت من الجائزة الكبرى والحظ الأوفى».

٥٦٥ ـ مهاجمة مسلم وإمساكه بعد تمنيته بالأمان الخادع :

(مقتل المقرّم ، ص ١٨٣)

وعند الصباح أعلم ابن زياد بمكان مسلم ، فأرسل ابن الأشعث (ومعه عبيد الله بن العباس السلمي) ليقبض عليه. ولما سمع مسلم وقع حوافر الخيل عرف أنه قد أتي. فعجّل دعاءه الّذي كان مشغولا به بعد صلاة الصبح. ثم لبس لامته [أي درعه] وقال لطوعة : قد أدّيت ما عليك من البرّ ، وأخذت نصيبك من شفاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولقد رأيت البارحة عمي أمير المؤمنينعليه‌السلام في المنام ، وهو يقول لي : أنت معي غدا.

٤٨٦

٥٦٦ ـ البسالة الهاشمية :(المصدر السابق)

ثم بادر مسرعا إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، وصبّ عليه درعه واعتجر بعمامته وتقلّد سيفه.

وخرج إليهم بسيفه وقد اقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ، حتّى أخرجهم من الدار. ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، فأخرجهم مرارا من الدار ، وهو يقول:

هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع

فأنت بكأس الموت لا شكّ جارع

فصبرا لأمر الله جلّ جلاله

فحكم قضاء الله في الخلق ذائع

فقتل منهم واحدا وأربعين رجلا.

(وفي مثير الأحزان للجواهري ، ص ٢٥) :

فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت ، وأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النار في أطنان القصب [جمع طنّ : وهي حزمة القصب] ثم يرمونها عليه من فوق البيت. فلما رأى ذلك خرج إليهم مصلتا سيفه في السكّة ، وكان من قوّته أنه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت.

(وفي كتاب : مع الحسين في نهضته ، ص ١٠٧) :

وقد اشترك في حربه الرجال والنساء والأطفال ؛ فالرجال بالسيوف والرماح والنبال ، والنساء بالنار في أطنان القصب ، تلهب نارا فترميه بها من أعلى السطوح(١) ، والأطفال يرمونه بالحجارة ، وهو يقابل ذلك بشجاعة وبسالة وثبات.

٥٦٧ ـ ابن الأشعث يطلب المدد :

(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢٠٩)

وخرج مسلم في وجوه القوم كالأسد المغضب يضاربهم بسيفه ، حتّى قتل جماعة. وبلغ ذلك ابن زياد ، فأرسل إلى محمّد بن الأشعث : سبحان الله

أبا عبد الرحمن ، بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به ، فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة (فكيف إذا أرسلناك إلى غيره؟).

فأرسل إليه محمّد بن الأشعث : أيها الأمير ، أتظن أنك بعثتني إلى بقّال من

__________________

(١) مروج الذهب للمسعودي ، ج ٣ ص ٦٨.

٤٨٧

بقّالي الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة(١) . أفلا تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام ، وبطل همام ، في كفّه سيف حسام ، يقطر منه الموت الزّؤام؟!.

٥٦٨ ـ الأمان الكاذب :

(المصدر السابق)

فأرسل إليه ابن زياد أن أعطه الأمان ، فإنك لن تقدر عليه إلا بالأمان المؤكد بالأيمان. فجعل محمّد بن الأشعث يناديه : ويحك يابن عقيل لا تقتل نفسك ، لك الأمان. فيقول مسلم : لا حاجة لي في أمان الغدرة الفجرة ، وينشد :

أقسمت لا أقتل إلا حرّا

وإن رأيت الموت شيئا نكرا

كل امرئ يوما ملاق شرّا

ردّ شعاع النفس فاستقرّا

أضربكم ولا أخاف ضرّا

ضرب همام يستهين الدهرا

ويخلط البارد سخنا مرّا

ولا أقيم للأمان قدرا

أخاف أن أخدع أو أغرّا

والأبيات لحمران بن مالك الخثعمي قالها يوم القرن.

٥٦٩ ـ مقاومة حتّى النهاية :(مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٨٤)

واشتدّ القتال ، فاختلف مسلم مع بكير بن حمران الأحمري بضربتين ، فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا ، وأسرع السيف إلى السفلى ، وفصلت له ثنيّتاه [الثنايا : هي الأسنان الأمامية من الفم]. وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة ، وأخرى على حبل العاتق ، حتّى كادت أن تطلع إلى جوفه.

وأثخنت مسلم الجراحات وأعياه نزف الدم ، فاستند إلى جنب تلك الدار ، فتحاملوا عليه يرمونه بالسهام (والنبل) والحجارة. فقال :

(ويلكم) ما لكم ترموني بالحجارة كما ترمى الكفار ، وأنا من أهل بيت النبي المختار!.(ويلكم) أما ترعون حق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عترته؟!.

فقال له ابن الأشعث : لا تقتل نفسك وأنت في ذمتي. قال مسلم : أؤسر وبي طاقة؟. لا والله لا يكون ذلك أبدا. وحمل على ابن الأشعث فهرب منه.

__________________

(١) الجرامقة : جماعة من العجم سكنوا أول الإسلام في الموصل.

٤٨٨

ثم حملوا عليه من كل جانب وقد اشتدّ به العطش ، فطعنه رجل من خلفه ، فسقط إلى الأرض وأسر.

٥٧٠ ـ كيف احتالوا على مسلم وأمسكوه :

(المنتخب للطريحي ، ص ٤٢٧)

وقيل : إنهم احتالوا عليه ، وحفروا له حفرة عميقة في وسط الطريق ، وأخفوا رأسها بالدغل والتراب ، ثم انطردوا بين يديه ، فوقع بتلك الحفرة ، وأحاطوا به ، فضربه ابن الأشعث على محاسن وجهه ، فلعب السيف في عرنين أنفه ومحاجر عينيه ، حتّى بقيت أضراسه تلعب في فمه. فأوثقوه وأخذوه أسيرا إلى ابن زياد.

٥٧١ ـ مسلم بن عقيل يبكي لقدوم الحسينعليه‌السلام :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢١١)

(وفي رواية) : إن محمّد بن الأشعث لما أعطى مسلما الأمان ، رمى بسيفه ، فأخذوه وحملوه على بغلة ، فدمعت عيناه. فقال محمّد : إني لأرجو أن لا بأس عليك.فقال : ويحك ما هو إلا الرجاء ، فأين أمانكم؟. إنا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى.

فقال عبيد الله بن العباس السلمي : من يطلب مثل الّذي طلبت لا يبكي. فقال مسلم : إني والله ما على نفسي أبكي ، لكني أبكي على أهلي المقبلين إليكم ، أبكي على الحسين وآل الحسينعليه‌السلام .

ولما ركب على البغلة ونزع منه السيف ، استرجع وقال : هذا أول الغدر ، وأيس من نفسه ، وعلم أن لا أمان له من القوم.

فقال لمحمد بن الأشعث : إني لأظنك تعجز عن أماني ، أفتستطيع أن تبعث رجلا عن لساني يبلّغ حسينا ، فإني لا أراه إلا قد خرج إلى ما قبلكم ، هو وأهل بيته ، فيقول له : إن مسلما بعثني إليك ، وهو أسير في يد العدو ، يذهبون به إلى القتل ، فارجع بأهلك ، ولا يغرّنّك أهل الكوفة ، فإنهم أصحاب أبيك الّذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل. إن أهل الكوفة قد كذّبوني ، فكتبت إليك وليس لمكذوب رأي.

فقال محمّد : والله لأفعلن. ودعا بإياس الطائي ، وكتب معه إلى الحسينعليه‌السلام ما قاله مسلم عن لسان مسلم. وأعطاه راحلة وزادا. فذهب فاستقبل الحسينعليه‌السلام في (زبالة).

٤٨٩

٥٧٢ ـ مسلم يطلب شربة من الماء :

(الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٦٦)

(وجيء به إلى ابن زياد) فلما جلس مسلم على باب القصر رأى جرة فيها ماء بارد (وكان له يومان ما شرب الماء) ، فقال : اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة ، حتّى تذوق الحميم في نار جهنم. فقال له ابن عقيل : من أنت؟. قال : أنا من عرف الحق إذ تركته ، ونصح الأمة والإمام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته ، أنا مسلم بن عمرو. فقال له ابن عقيل : لأمك الثكل ، ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظك. أنت يابن باهلة أولى بالحميم ، والخلود في نار جهنم مني. (ثم جلس وتساند إلى حائط القصر).

(وفي مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢١٠) :

ثم قال : ويحكم يا أهل الكوفة ، اسقوني شربة من ماء. فأتاه غلام لعمرو ابن حريث المخزومي بقلّة فيها ماء ، وقدح من قوارير [أي زجاج] ، فصبّ القلّة في القدح وناوله ، فأخذ مسلم القدح بيده. فكلما أراد أن يشرب امتلأ القدح دما ، فلم يقدر أن يشرب من كثرة الدم ، وسقطت ثنيّتاه في القدح ، فامتنع من شرب ذلك الماء (وقال : لو كان من الرزق المقسوم لشربته).

(وفي كتاب المحن لمحمد بن أحمد التميمي ، ص ١٤٥) :

فلما أسر مسلم لغب ، فقال : اسقوني ماء. ومعه رجل من آل أبي معيط (هو عمارة بن عقبة بن أبي معيط) وشمر بن ذي الجوشن. فقال له شمر :

لا نسقيك إلا من النّيل!. فقال المعيطي : والله لا نسقيه إلا من الفرات!. قال :فأمر غلاما له ، فأتاه بإبريق ماء وقدح من قوارير ومنديل. قال : فسقاه ، وتمضمض وخرج الدم ، فما زال يمجّ الدم ولا يسيغ شيئا ، حتّى قال : أخّروه عني.

٥٧٣ ـ ما قاله مسلم بن عقيل لعبيد الله بن زياد حين أدخل عليه وأيقن بالهلاك:

(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢١١)

ثم أتي بمسلم رضي الله عنه فأدخل على ابن زياد فأوقف ولم يسلّم عليه. فقال له الحرسي : سلّم على الأمير. فقال له مسلم : اسكت لا أم لك ، ما لك والكلام ، ما

٤٩٠

هو لي بأمير فأسلّم عليه(١) .(وفي مقتل المقرم ص ١٨٧ أنه قال) : «السلام على من اتّبع الهدى ، وخشي عواقب الردى ، وأطاع الملك الأعلى». فقال ابن زياد : لا عليك سلّمت أو لم تسلّم ، فإنك مقتول(٢) . فقال مسلم : إن قتلتني فلقد قتل من هو شرّ منك من هو خير مني.

(وفي رواية لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٥٧ ط نجف) :

«فقال له ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. فقال له مسلم : أما إنك أحقّ من أحدث في الإسلام ما لم يكن. وإنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك».

ثم قال لمسلم : يا شاقّ يا عاقّ ، خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة!. فقال : كذبت يابن زياد ، إنما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وإنما ألقح القتنة أنت وأبوك زياد بن عبيد ابن بني علاج من ثقيف. وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته(٣) فوالله ما خلعت وما غيرت ، وإنما أنا في طاعة الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد. فقال له ابن زياد : يا فاسق ألم تكن تشرب الخمر بالمدينة!.فقال مسلم : الله يعلم أني ما شربتها قط ، وأحقّ مني بشرب الخمر من يقتل النفس الحرام ويقتل على الغضب والعداوة والظنّ ، وهو في ذلك يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا.

فقال له ابن زياد : يا فاسق منتّك نفسك أمرا حال الله دونه وجعله لأهله. فقال له مسلم : ومن أهله يابن مرجانة؟. فقال له : يزيد بن معاوية. فقال مسلم : الحمد لله (على كل حال) رضينا بالله حكما بيننا وبينكم. فقال له ابن زياد : أتظن أن لك في الأمر شيئا؟. فقال : لا والله ، ما هو بالظن ولكنه اليقين.

فقال ابن زياد له : قتلني الله إن لم أقتلك شرّ قتلة فقال له مسلم : والله لو كان معي عشرة ممن أثق بهم ، وقدرت على شربة ماء ، لطال عليك أن تراني في هذا

__________________

(١) اللهوف ، ص ٣٠ ؛ وتاريخ الطبري ، ج ٦ ص ٢١٢.

(٢) المنتخب للطريحي ، ص ٢٠٠ ؛ ومقتل أبي مخنف ، ص ٣٦.

(٣) مثير الأحزان لابن نما الحلي ، ص ١٧.

٤٩١

القصر. ولكن إن كنت قد عزمت على قتلي فأقم لي رجلا من قريش حتّى أوصي إليه بما أريد.

٥٧٤ ـ وصية مسلم بن عقيلعليه‌السلام :(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢١٢)

ثم نظر مسلم إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فقال له : إن بيني وبينك قرابة ، فاسمع مني ، فامتنع. فقال له ابن زياد : ما يمنعك من الاستماع لابن عمك؟. فقام عمر بن سعد إليه. فقال له مسلم : أوصيك بتقوى الله ، فإن التقوى درك كل خير.ولي إليك حاجة. فقال عمر : قل ما أحببت. فقال : حاجتي إليك أن تستردّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم ، فتبيعه وتقضي عني سبعمائة درهم استدنتها في مصركم هذا ، وأن تستوهب جثتي إن قتلني هذا الفاسق ، فتواريني التراب ، وأن تكتب للحسينعليه‌السلام أن لا يقدم ، فينزل به ما نزل بي.

فقال عمر بن سعد : أيها الأمير ، إنه يقول كذا وكذا. فقال ابن زياد : يابن عقيل ، أمّا ما ذكرت من دينك فإنما هو مالك تقضي به دينك ، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت. وأما جسدك فإنا إذا قتلناك فالخيار لنا ، ولسنا نبالي ما صنع الله بجثتك.وأما الحسين فلا ، ولا كرامة.

٥٧٥ ـ (رواية أخرى) لوصية مسلمعليه‌السلام :(العقد الفريد ج ٤ ص ٣٠٧)

فنظر مسلم في وجوه الناس ، فقال لعمرو بن سعيد (لعله تصحيف : عمر ابن سعد) : ما أرى قرشيا هنا غيرك ، فادن مني حتّى أكلمك. فدنا منه ، فقال له :

هل لك أن تكون سيد قريش ما كانت قريش؟. إن حسينا ومن معه ـ وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة ـ في الطريق ، فارددهم واكتب لهم بما أصابني.

وقال عمرو لابن زياد : أتدري ما قال لي؟. قال ابن زياد : اكتم على ابن عمك.قال : هو أعظم من ذلك. قال : وما هو؟. قال : قال لي إن حسينا ومن معه أقبل ، وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة ، فارددهم واكتب إليه بما أصابني.

فقال له ابن زياد : أما والله إذ دللت عليه ، لا يقاتله أحد غيرك.

٥٧٦ ـ محاورة مسلم بن عقيل مع عبيد الله بن زياد وقد اتّهم مسلما بالفرقة بين المسلمين ، ومصرع مسلمعليه‌السلام :(مقتل الخوارزمي ج ١ ص ٢١٣)

ثم قال ابن زياد : ولكن أريد أن تخبرني يابن عقيل لماذا أتيت أهل هذا البلد ،

٤٩٢

وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة ، فأردت أن تفرّق عليهم أمرهم وتحمل بعضهم على بعض. فقال له مسلم : ليس لذلك أتيت ، ولكنّ أهل هذا المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم ، وأن معاوية حكم فيها ظلما بغير رضى منهم ، وغلبهم على ثغورهم التي أفاء الله بها عليهم ، وأن عاملهم يتجبّر ويعمل أعمال كسرى وقيصر ، فأتينا لنأمر بالعدل ، وندعو إلى الحكم بكتاب الله إذ كنا أهله ، ولم تزل الخلافة لنا ـ وإن قهرنا عليها ـ رضيتم بذلك أم كرهتم ، لأنكم أول من خرج على إمام هدى وشقّ عصا المسلمين ، ولا نعلم لنا ولكم مثلا ، إلا قول الله تعالى :( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) [الشعراء : ٢٢٧].

(وفي مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٨٩ تتمة الكلام) : «قال ابن زياد : ما أنت وذاك ، أولم نكن نعمل فيهم بالعدل!. قال مسلم : إن الله يعلم أنك غير صادق ، وأنك لتقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن. فشتمه ابن زياد وشتم عليا وعقيلا والحسين(١) . فقال مسلم : أنت وأبوك أحقّ بالشتم ، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله(٢) . فنحن أهل بيت موكّل بنا البلاء(٣) ».

شهادة مسلم بن عقيلعليه‌السلام

فقال ابن زياد : اصعدوا به إلى أعلى القصر واضربوا عنقه ، وأتبعوا رأسه جسده.فقال مسلم : أما والله يابن زياد ، لو كنت من قريش أو كان بيني وبينك رحم لما قتلتني ، ولكنك ابن أبيك. فازداد ابن زياد غضبا. (قيل : إنه يشير بهذا الكلام إلى أن عبيد الله مثل أبيه زياد ، دعيّان وليسا من قريش).

ودعا ابن زياد برجل من أهل الشام قد كان مسلم ضربه على رأسه ضربة منكرة (وهو بكر بن حمران) فقال له : خذ مسلما إليك وأصعده إلى أعلى القصر واضرب

__________________

(١) كامل ابن الأثير ، ج ٤ ص ١٤ ؛ وتاريخ الطبري ، ج ٦ ص ٢١٣.

(٢) اللهوف على قتلى الطفوف ، ص ٣١.

(٣) مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ٢١٣.

٤٩٣

أنت عنقه بيدك ، ليكون ذلك أشفى لصدرك. قال : فأصعد مسلم إلى أعلى القصر وهو يسبّح الله ويستغفره ويهلله ويكبّره(١) ويقول : الله م احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا وكذّبونا. وتوجه نحو المدينة وسلّم على الحسينعليه‌السلام (٢) .

وأشرف به الشامي على موضع الحذّائين ، وضرب عنقه ، ورمى برأسه وجسده إلى الأرض(٣) .

٥٧٧ ـ تاريخ خروج مسلم وقتلهعليه‌السلام :

(في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، ص ٢٥٦ ط ٢ نجف) :

قال هشام : وخرج الحسينعليه‌السلام من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة. وكان يوم التروية في اليوم الّذي خرج فيه مسلم بن عقيل بالكوفة.

(وفي لواعج الأشجان ، ص ٧٠) : أن استشهاد مسلم كان يوم عرفة ، لتسع خلون من ذي الحجة على رواية المفيد ، (وفي رواية) يوم التروية(٤) لثمان مضين منه.

ترجمة مسلم بن عقيلعليه‌السلام

هو ابن عقيل بن أبي طالب. كان شجاعا باسلا وهماما حازما. صدق فيه قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لله درّ أبي طالب لو ولد الناس كلهم لكانوا شجعانا».وقال فيه الحسينعليه‌السلام يخاطب أهل الكوفة : «وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل». وما يمنعه أن يكون كذلك وإنه في الصميم من هاشم ، والذروة من بني عمرو العلى ، والقلب من آل عبد مناف؟!.

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ج ٦ ص ٢١٣.

(٢) أسرار الشهادة للفاضل الدربندي ، ص ٢٥٩.

(٣) مثير الأحزان لابن نما ، ص ١٨.

(٤) سمّي اليوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء من منى ، ويخرجون إلى عرفات.

٤٩٤

تابع : ترجمة مسلم بن عقيل

وقال السيد الميانجي في (العيون العبرى) ص ٤٦ و ٤٧ :

كان خروج مسلم بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة ، وقتل يوم الأربعاء يوم عرفة لتسع خلون منه سنة ستين. وكان له من العمر يوم استشهد ما يناهض الستين. وما في بعض الكتب من أنهعليه‌السلام كان يوم قتل ابن ثمانية وعشرين ليس في محله كما هو واضح.

وقال : أمه أم ولد تسمى (عليّة) اشتراها عقيل من الشام ، وكان مسلم صهرا لأمير المؤمنينعليه‌السلام لبنته (رقيّة).

وكفى في فضله وجلالته إرسال الحسينعليه‌السلام إياه سفيرا ورسولا إلى أهل الكوفة.

وفي (أمالي الصدوق) عن ابن عباس ، قال عليعليه‌السلام : يا رسول الله ، إنك لتحبّ عقيلا؟. قال : إي والله ، إني لأحبه حبّين : حبا له ، وحبا لحب أبي طالب له ، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك ، فتدمع عليه عيون المؤمنين ، وتصلي عليه الملائكة المقربون. ثم بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جرت دموعه على صدره. ثم قال : إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي.

ولم أعثر تحقيقا لعدد أولاده ، والذي ثبت منهم : عبد الله بن مسلم قتل في الطف ، ومحمد بن مسلم أمه أم ولد قتل بعد أخيه عبد الله ، وبنت لها إحدى عشرة أو ثلاث عشرة سنة ، كانت مع أهلالبيت ومع بنات الحسينعليهم‌السلام في سفر كربلاء.

وأما الغلامان الصغيران اللذان قتلا في الكوفة بعد الوقعة ، فقد ذهب بعض أرباب المقاتل إلى أنهما كانا من ولد مسلم بن عقيل ، وأنهما بقيا سنة في السجن ثم قتلا (نقلا عن أمالي الشيخ الصدوق) لكنه مما لا يساعده الاعتبار. والذي ذهب إليه العلامة المجلسي في (البحار) أنهما من ولد جعفر الطيارعليه‌السلام .

٤٩٥

٥٧٨ ـ قصة إنجاب عقيل لمسلم بن عقيل من (عليّة):

(إبصار العين للشيخ السماوي ، ص ٤٠)

روى المدائني (قال) قال معاوية بن أبي سفيان لعقيل بن أبي طالب يوما : هل من حاجة فأقضيها لك؟. قال : نعم ، جارية عرضت عليّ ، وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين ألفا.

فأحبّ معاوية أن يمازحه ، فقال : وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى؟!. تجتزئ بجارية قيمتها أربعون درهما!. فقال عقيل : أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما ، إذا أغضبته ضرب عنقك بالسيف!. فضحك معاوية ، وقال : مازحناك يا أبا يزيد. وأمر فابتيعت له الجارية ، التي أولد منها مسلما.

ولما مات عقيل تخاصم مسلم مع معاوية في أرض بالمدينة ، فامتنع معاوية عن ردّها ، فقال له مسلم : أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا. فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه ، ويقول له : يا بني ، هذا والله ما قاله لي أبوك حين ابتاع أمّك!.

شهادة هانئ بن عروة (رض)

٥٧٩ ـ إخراج هانئ بن عروة رضي الله عنه للقتل :

(لواعج الأشجان للسيد الأمين ، ص ٥٩ ط نجف)

ثم أمر ابن زياد بهانئ بن عروة أن يخرج فيلحق بمسلم بن عقيل. فقام محمّد بن الأشعث إلى عبيد الله بن زياد فكلمه في شأن هانئ بن عروة ، فقال : إنك قد عرفت منزلة هانئ في المصر وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك ، وأنشدك الله لما وهبته لي ، فإني أكره عداوة المصر وأهله. فوعده أن يفعل.

ثم بدا له [أي بدا له شيء جعله يغيّر رأيه] وأمر بهانئ في الحال ، وقال : أخرجوه إلى السوق ، فاضربوا عنقه.

٤٩٦

٥٨٠ ـ مصرع هانئ بن عروة رضي الله عنه :

(مقتل المقرم ، ص ١٩٠)

ثم أخرج هانئ إلى مكان من السوق يباع فيه الغنم وهو مكتوف ، فجعل يصيح :وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، واين مني مذحج (يستغيث بقبيلته). فلما رأى أن أحدا لا ينصره جذب يده ونزعها من الكتاف ، وقال : أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يدافع رجل عن نفسه!. ووثبوا عليه وأوثقوه كتافا. وقيل له : مدّ عنقك ، فقال : ما أنا بها سخيّ ، وما أنا بمعينكم على نفسي ، فضربه بالسيف مولى لعبيد الله بن زياد تركي اسمه (رشيد) فقتله ، وهو يقول : إلى الله المعاد ، الله م إلى رحمتك ورضوانك.

٥٨١ ـ سحل جثتي مسلم وهانئرحمهما‌الله :

(المصدر السابق)

وأمر ابن زياد بسحب مسلم وهانئ بالحبال من أرجلهما في الأسواق(١) وصلبهما بالكناسة منكوسين(٢) . وأنفذ الرأسين إلى يزيد فنصبهما في درب من دمشق(٣) .

وفي مسلم وهانئرحمهما‌الله يقول عبد الله بن الزبير الأسدي :

فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانئ في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشّم السيف وجهه

وآخر يهوي من طمار قتيل

تري جسدا قد غيّر الموت لونه

ونضح دم قد سال كل مسيل

أصابهما أمر اللعين فأصبحا

أحاديث من يسعى بكل سبيل

شرح : الطمار : بفتح الطاء وكسرها ، المكان المرتفع.

__________________

(١) المنتخب للطريحي ، ص ٣٠١.

(٢) مناقب ابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢١٢ ط إيران ؛ ومقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ٢١٥.والكناسة : ضاحية مندرسة ، كانت كناسة لبني أسد ، أي محل رمي الأنقاض لهذه القبيلة ، عند مخرج الكوفة من الغرب ، ثم أصبحت فيها تجارة النقليات وصناعتها (انظر الشكل ٦) ص ٥٦٠.

(٣) تاريخ أبي الفداء ، ج ١ ص ١٩٠ ؛ والبداية والنهاية لابن كثير ، ج ٨ ص ١٥٧.

٤٩٧

ترجمة هانئ بن عروة رضي الله عنه

كان هانئ بن عروة هو وأبوه من وجوه الشيعة في الكوفة. ويروى أنه كان صحابيا كأبيه. وحضر مع أمير المؤمنين عليعليه‌السلام حروبه الثلاث. وكان من أركان حركة حجر بن عديّ الكندي ضد زياد بن أبيه.

وروى المسعودي أنه كان شيخ مراد وزعيمها ، وكان معمّرا ، ذكر بعضهم أنه عاش ٨٣ سنة ، وقيل بضعا وتسعين سنة. وكان يتوكأ على عصا بها زجّ ، وهي التي ضربه ابن زياد بها لما أحضر عنده ، حتّى هشّم أنفه وجبينه. وكان مقتله يوم التروية سنة ٦٠ ه‍ ، في نفس اليوم الّذي قتل فيه مسلم بن عقيل رضوان الله عليهما.

٥٨٢ ـ دفن جثتي مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة رضي الله عنهما :

(وسيلة الدارين في أنصار الحسين لابراهيم الزنجاني ، ص ٢٠٩)

قال الثعلبي : بقيت تلك الجثة الطاهرة على وجه الأرض من غير غسل ولا كفن.ولما دجى الليل ونامت كل عين ، شدّت زوجة ميثم التمّار على نفسها ، وخرجت إلى الكنائس ، وحملت مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وحنظلة بن مرة إلى دارها.ولما انتصف الليل ونامت كل عين حملتهم إلى جنب المسجد الأعظم [مسجد الكوفة] ودفنتهم بدمائهم ، ولم يعلم بها أحد إلا زوجة هانئ ابن عروة ، لأنها كانت في جوارها.

٥٨٣ ـ كتاب من ابن زياد إلى يزيد مع رأسي مسلم وهانئ رضي الله عنهما :

(مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم ، ص ١٩١ ط ٣ نجف)

وبعث ابن زياد برأس مسلم بن عقيل إلى يزيد ، وهو أول رأس حمل من رؤوس بني هاشم ، وجثة مسلم أول جثة صلبت منهم.

وكتب إليه : أما بعد ، فالحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه ، وكفاه مؤونة عدوه. أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله : أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، وأني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال ، وكدتهما حتّى

٤٩٨

استخرجتهما ، وأمكن الله منهما ، فقدمتهما فضربت أعناقهما. وقد بعثت إليك برأسيهما والسلام.

٥٨٤ ـ ردّ يزيد على كتاب ابن زياد ، وشكره على صنيعه :

(تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، ص ٥٢٦)

فكتب إليه يزيد يشكره ويقول : قد عملت عمل الحازم ، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش. وقد صدق ظني فيك. وبلغني أن الحسين قد توجه إلى العراق ، فضع له المناظر والمسالح ، واحترس منه ، واحبس على الظنّة ، وخذ على التهمة.واكتب إليّ في كل ما يحدث من خير وشر ، والسلام.

مصرع عبد الأعلى ابن يزيد الكلبيرحمه‌الله

٥٨٥ ـ مقتل عبد الله بن يزيد الكلبي :

(أنصار الحسين للشيخ محمّد مهدي شمس الدين ، ص ١٢٢ ط ٢)

عبد الأعلى الكلبي شاب كوفي ، ممن بايعوا مسلم بن عقيل. لبس سلاحه حين أعلن مسلم تحركه ، بعد القبض على هانئ بن عروة ، وخرج من منزله ليلحق بمسلم في محلة بني فتيان ، فقبض عليه كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي من مذحج.وكان كثير قد استجاب لعبيد الله بن زياد حين أمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ، فيخذّل الناس عن مسلم بن عقيل.

فأخذ كثير بن شهاب الشابّ عبد الأعلى بن يزيد الكلبي ، فأدخله على عبيد الله بن زياد. فقال عبد الأعلى لابن زياد : إنما أردتك ، فلم يصدّقه. وأمر به فحبس (راجع تاريخ الطبري ، ج ٥ ص ٣٦٩).

ثم إن عبيد الله بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، دعا بعبد الأعلى الكلبي ، فأتي به. فقال له : أخبرني بأمرك. فقال : أصلحك الله ، خرجت لأنظر ما يصنع الناس ، فأخذني كثير بن شهاب. فقال له : فعليك وعليك من الأيمان المغلظة ، إن كان أخرجك إلا ما زعمت!. فأبى أن يحلف. فقال عبيد الله : انطلقوا

٤٩٩

بهذا إلى جبانة السبيع فاضربوا عنقه بها. فانطلقوا به فضربت عنقهرحمه‌الله (راجع تاريخ الطبري ، ج ٥ ص ٣٧٩).

مصرع عمارة ابن صلخب الأزديرحمه‌الله

٥٨٦ ـ مقتل عمارة بن صلخب الأزدي :(المصدر السابق)

عمارة بن صلخب شاب كوفي ، كان قد خرج لنصرة مسلم بن عقيل حين بدأ تحركه ، فقبض عليه وحبس. ثم دعا به عبيد الله بن زياد بعد أن قتل مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة ، فأرسله إلى قبيلته من الأزد (وهم من أكبر أنصاره) فقتله في قومه رضوان الله عليه.

(أقول) : هذان نموذجان حيّان من شبان كثيرين من أهل الكوفة ، قاموا بدافع من شبابهم الغض لينصروا الحق ، فأخذهم ابن زياد اللعين وأعدمهم ، دون أن تصلنا أخبارهم.

٥٨٧ ـ حبس المختار بن أبي عبيدة الثقفي :

(مقتل المقرم ص ١٨١)

وفي يوم مقتل مسلمعليه‌السلام حبس ابن زياد المختار بن أبي عبيدة الثقفي لخروجه مع مسلم(١) .

وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تدعى خطوانية (وهي ناحية في بابل العراق) فجاء بمواليه يحمل راية خضراء ، ويحمل عبد الله بن الحارث راية حمراء ، وركز المختار رايته على باب عمرو بن حريث ، وقال : أردت أن أمنع عمرو(٢) .

ووضح لهما قتل مسلم وهانئ ، وأشير عليهما بالدخول تحت راية الأمان عند عمرو بن حريث ، ففعلا. وشهد لهما ابن حريث باجتنابهما مسلم بن عقيل. وأمر

__________________

(١) الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٦٨.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ٦ ص ٢١٥.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735