تربة الحسين عليه السلام الجزء ١

تربة الحسين عليه السلام33%

تربة الحسين عليه السلام مؤلف:
الناشر: دار المحجّة البيضاء
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 232

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 232 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59752 / تحميل: 3716
الحجم الحجم الحجم
تربة الحسين عليه السلام

تربة الحسين عليه السلام الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار المحجّة البيضاء
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

٢١

٢٢

التعرف على الأرض :

إنّ طبيعة الإنسان تدفعه للتعرف على ما يجري حوله ؛ ولذا منذ وجوده على الأرض ، بدأ يتفاعل مع البيئة المحيطة به ، وأخذ يتأمل في هذه البيئة وعلاقتها بحياته ؛ إذ هذه البيئة لها إرتباط بمكونات الأرض ومنتجاتها ، هكذا تتزايد معلومات الإنسان عن الأرض ، عبر تاريخها الطويل حتى القرن الأخير ، حيث إزدادت هذه المعلومات بشكل واسع ، مما حمل العلماء على حصرها ضمن علم مستقل أطلقوا عليه اسم( الجيولوجيا ) وهو مصطلع مُعرَّب عن الكلمة الإنجليزية(geology) المشتقة من الكلمتين الأغريقيتين(ge) يعني الأرض(Logus) وتعنى علم « وهو علم يبحث في كل ما يتعلق بالأرض ، حيث تركيبها الكيميائي والمعدني وخَواصّها الطبيعية والكيميائية والميكانيكية ، بالإضافة إلى العمليات الداخلية والخارجية التي أثَّرت وتُوثِّر عليها منذ نشأتها الأولى

كما أن الجيولوجيا أيضا تعني بدراسة أحداث الماضي السحيق ، وكذلك الأحياء النباتية والحيوانية التي عاشت فوق سطح الأرض ، وفي أعماق البحار ثم ماتت واندثرت ، والتعرف إلى خواص تطورها وقيمتها الإقتصادية على مَرّ العصور ، بالإضافة إلى دراسة الثروات المائية والبترولية والمعدنية التي توجد تحت سطح الأرض وفي أعماقها »(٧) وإليك بعض الأبحاث عن التربة

أ ـ أنواع التربة :

يقول أخصائي فيزياء التربة ( ديل سوار تزن دروبر ) : « والتربة عالم يفيض بالعجائب ، ولكنها عجائب لا يستطيع أن يصل إلى كنهها أو يكشف

______________________

(٧) ـ المهندس ، د. أحمد عبد القادر : ( الجيولوجيا والجيلوجيون ) مجلة القافلة ، ج ٣٦ ، شعبان ١٤٠٨ هـ ، ص ١٤

٢٣

أمرها إلا العلوم والدراسات العلمية »(٨) ويعبر الجغرافيون الطبيعيون عن التربة وألوانها وأنواعها وخصوبتها بما يأتي :

عَرّفوها بأنها : الغطاء الرقيق المتفتت الذي يغطي سطح الأرض في كثير من الجهات كما أنّهم قَسموها إلى التالي :

١ ـ تربة صلصالية : وتحتوي على نسبة عالية من المواد الذائبة ، وتحتفظ بكميات كبيرةٍ من المياه ، إلا أن حراثتها ليست سهلة بسبب تماسك جزئياتها الترابية وعلى كل فهي أصلح تربة زراعية ، وخَاصّة إلى القمح والشعير وغير ذلك

٢ ـ تربة رملية : وهي صالحة بشكل عام لزراعة الخضروات والفواكه ، وإنها سهلة الحراثة بسبب تفتت جزئياتها الترابية

٣ ـ تربة غرينية : وهي إما أن تكون أصلية أي جاثية فوق الصخور التي نشأت منها ؛ وهي على لون الصخور ذاتها وإما أن تكون منقولة : أي جاثية فوق صخور غريبة عنها ؛ مثل تربة السهول ، ومثل وادي الفرات أو وادي النيل وغير ذلك(٩)

ب ـ ألوان التربة :

قَسّمَ الجغرافيون الطبيعيون التربة إلى الألوان الآتية :

١ ـ تربة سوداء : وقد أطلقوا عليها اسم« التسترنوزيوم » وتوجد في أوربا الوسطى الشمالية وهي أجود تربة من حيث صلاحيتها للزراعة على الإطلاق

______________________

(٨) ـ نخبة من العلماء الأمريكيين : الله يتجلى في عصر العلم / ص ١١٦

(٩) ـ الربيعي ، الشيخ عبدالجبار : البراهين العلمية / ٢١٨

٢٤

٢ ـ تربة صفراء : وتسمى« اللوس » وتوجد في شمال الصين وهي ناعمة جداً

٣ ـ تربة حمراء : وتسمى« لاتيريت » هي ذات لون داكن أو أسمر ، وتوجد بكثرة في سهول حلب

٤ ـ تربة سمراء : وتسمى« البوذرول » وهي إما رمادي فاتح أو أبيض ، وتكثر في الغابات

٥ ـ تربة بركانية : وهي تربة خصبة جداً لكثرة المواد المعدنية فيها ، وتوجد في بلاد حَوْرَان ومنطقة الروج جنوب جسر الشغور

٦ ـ تربة المناطق الصحراوية : وهي غنية بالأملاح القابلة للذوبان ويمكن تحويلها إلى حقول زراعية إذا توفرت المياه لريّها

٧ ـ تربة شهبا كلسية : تتكون في المناطق القليلة الأمطار والنبات ، تظهر بيضاء اللون لإحتوائها على نسبة كبيرة من كربونات الكالسيوم وهي جيدة الصّرْف(١٠)

وبعد هذا البيان ؛ تبين لنا أنّ إختلاف الأرض في طبقاتها وألوانها ، لا يمكن أنْ يكون كذلك خَبْطَ عَشْوَاء ، وإنما هي صنع حكيم ، كما قال تعالى :( وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ
بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
) [ الرعد / ٤ ] بُقَاعُ مختلفةَ مع كونها متجاورة متلاصقة : طَيِّبَةٌ إلى سَبِخَة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع والشجر إلى أخرى على عكسها مع إنتظام جميعها في جنس الأرضية ، وكذلك الكُرُوم والزرع والنخيل النابتة في هذه القطع مختلفة

______________________

(١٠) ـ المصدر السابق / ٢٢٠

٢٥

الأجناس والأنواع :( يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ ) وتراها متغيرة الثمار في الأشكال والهيئات والطعوم والروائح متفاضلة فيها ، وفي ذلك دلالة على صنع القادر العالم

ومن غرائب وعجائب هذه الأرض ، ما أشارت إليه الآيات ، كما في قوله تعالى :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ
) [ فاطر / ٢٧ ـ ٢٨ ]

تكليف وعبادة :

إقتضت سنة الله تعالى في خلق الإنسان وإسكانه الأرض ، وتزينه ما عليها له ليمتعه بذلك ويُميّز به أهل السعادة من غيرهم وإلى هذا أشارت الآيات القرآنية التي سنعقد البحثين الآتين من أجلها

١ ـ إبتلاء وإمتحان :

إنّ الأرض هي الغاية من حياة الإنسان فقط ، فقد خلق آدمعليه‌السلام للأرض للتمتع بخيراتها والبقاء فيها إلى وقت محدود ، وإنّها دار إبتلاء وإمتحان ، وإلى هذا أشارت الآية الشريفة :( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) [ البقرة / ٣٦ ] وأيضاً قوله تعالى :( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) [ الكهف / ٧ ]

إنّ النفوس البشرية خلقت للتصفية والتطهير ، بإسكانها الأرض لأجل معلوم ، بالبقاء للتعلق والإرتباط بينها وبين ما على الأرض من أمتعة الحياة : من مال وولد وجاه ، فكان ما على الأرض محبباً لقلوبهم وزينة للأرض وحلية

٢٦

تتحلى بها ؛ لكونها عليها ؛ فتعلقت نفوسهم بالأرض بسببه واطمأنت إليها فإذا إنقضى الأجل المحدود من قبل الله تعالى لتمكينهم في الأرض ؛ تحقق ما أراده من البلاء والإمتحان وسلب ما بينهم وبين ما على الأرض

٢ ـ تقديس وعبادة :

حظيت الأرض بالتقديس والتطهير ، لما عليها من مظاهر التطهير الإلهي كما في قوله تعالى :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) [ الأحزاب / ٣٣ ] إذ هو ـالقدوس ـ أي الطاهر المُنَزّه عن العيوب والنقائص ؛ ولذا طَهّر بعض عباده من كل العيوب ، كما نَصّت الآية الخاصة بآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله تعالى :( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) [ النحل / ١٠٢ ] يعني جبرئيل من حيث أنّه ينزل بالقدس من الله ؛ أي بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهي وقوله تعالى :( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) [ طه / ١٢ ]

وتتجلى لنا قداسة الأرض في هذه الآية ؛ حيث أنّ( طُوًى ) ؛ إسم الوادي بطور ، وهو الذي سَمّاه الله بالوادي المقدس ، وهذه التسمية والتوصيف ؛ هي الدليل على أنّ أمره بخلع النعلين إنّما هو لإحترام الوادي أن لا يداس بالنعل ، ثم تفريع خلع النعلين مع ذلك على قوله :( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) يدل على أنّ تقديس الوادي إنّما هو لكونه حظيرة القدس وموطن الحضور والمناجاة ، وعلى هذا النحو يقدس ما يقدس من الأمكنة والأزمنة كالكعبة المشرَّفة ، والمسجد الحرام ، والمشاهد المحترمة في الإسلام ، وكذلك تربة الحسينعليه‌السلام كما سيأتي البحث فيها

ومن مظاهر التقديس في الأرض ، جعل فيها البيت الحرام ـالكعبة ـ وما في ذلك الجعل من مظاهر العبادة والتطهير ، والى هذا أشارت الآية

٢٧

الشريفة :( جَعَلَ اللَّـهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ ) [ المائدة / ٩٧ ] ومعنى القيام في الآية ـ كما هو المستفاد من كلمات المفسرين ـ أنّ الله جعلها لَتقوِّم الناس من خلال التوجه إليها في متعبداتهم ومعاشهم ؛ أما متعبداتهم فالصلاة والطواف حولها ، والتوجه إليها في ذبائحهم وإحتضار موتاهم وغسلهم ودفنهم وأما معاشهم ؛ فأمنهم عندها من المخاوف وأذى الظالمين ، وتحصيل الرزق والاجتماع بجملة الخلق الذي هو أحد أسباب إنتظام معاشهم إلى غير ذلك من المنافع والفوائد ومن مظاهر التقديس والتطهير ، ما أشار إليه الحديث النبوي : ( تمسحوا بالأرض فإنها أمكم وهي بَرَّة بكم )(١١)

توضيح حديث ( تمسحوا بالأرض ) :

وللعلماء في تفسيره وجوه كالتالي :

السيد عبدالله شُبَّر :

وَجّهه بوجوه أهما مايلي :

١ ـ أن المراد بالتمسح التيمم بها عند الضرورة

٢ ـ أن يكون ذلك كناية عن الجلوس عليها ،وإستشهد له بما رواه الراوندي :( أنه أقبل رجلان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فقال أحدهما لصاحبه : اجلس على اسم الله تبارك وتعالى والبركة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجلس على إستك ، فأقبل يضرب الأرض بعصا ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تضربها فإنها أمكم وهي بكم بَرَّةّ )

٣ ـ أن يكون المراد بذلك مباشرة ترابها بالجباه في السجود من غير حائل ، ويكون الأمر للإستحباب وقولهعليه‌السلام : «( فإنّها بكم بَرَّةّ ) أي مشفقة

______________________

(١١) ـ شبّر ، السيد عبدالله : مصابيح الأنوار ، ج ٢ / ١٨٥

٢٨

عليكم كالوالدة البرّة بأولادها يعني منها خلقكم وفيها معاشكم وإليها بعد الموت معادكم»(١٢)

الشريف الرضي :

« والمراد بقوله : ( فإنّها بكم برّة ) يرجع إلى أنّها كالأم للبرية ؛ لأنّ خلقهم ومعاشهم عليها ورجوعهم إليها فلما كانت الأرض تسمى أُمّاً لنا من الوجوه التي ذكرناها ؛ كان قوله عليه الصلاة والسلام :( فإنّها لكم برّة ) يرجع إلى وصفها بالأمومة ؛ لأنّهم يقولون : الأرض ولود ، يريدون كثرة إنشاء الخلق وإستيلادهم عليها

ولقوله عليه الصلاة والسلام ( تمسحوا بالأرض ) وجهان :

أحدهما : أن يكون المراد التيمم منها في حالة الطهارة وحالة الجنابة

ثانيهما : أن يكون المراد مباشرة ترابها بالجباه في حال السجود عليها وتعَفّر الوجوه فيها ، ويكون هذا القول أمر تأديب ، لا أمر وجوب ؛ لأنّ من سجد على جلدة الأرض ومن سجد على حائل بينها وبين الوجه واحد في أجزاء الصلاة ، إلا أنّ مباشرتها بالسجود أفضل ، وقد روي أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يسجد على الخمرة ، وهي الحصير الصغير يعمل من سعف النخل ، فبان أنّ المراد بذلك فعل الأفضل لا فعل الأوجب »(١٣)

أقول : الوجوه التي ذكرت يمكن تلخيصها بما ورد عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (إنّ الأرض بكم بَرَّة ، تتيممون منها وتصلون

______________________

(١٢) ـ المصدر السابق

(١٣) ـ الشريف الرضي ، محمد بن أبي أحمد الحسين : المجازات النبوية / ١٨٢ ـ ١٨٣

٢٩

عليها في الحياة ، وهي لكم كفات في الممات ، وذلك من نعمة الله له الحمد ، فأفضل ما يسجد عليه المصلي الأرض النقية ) (١٤)

ـ تكريم إلهي :

كرّم الله تعالى الإنسان بأفضل أنواع النعم ، التي من أهمها ما شُرِّع له من الأحكام عند موته من تغسيل وتكفين وتحنيط وصلاة ومواراة وهذه المراسيم لم تكن لغيره من الخلق ، ويتجلى لنا هذا التكريم فيما يأتي :

١ ـ إنّ جثة ميت الإنسان لا تبقى على وجه الأرض ، كما تبقى جثة ميت الحيوان مثلاً ، بذلك المنظر الذي يوحي إلى عدم تكريم تلك الجثة ، علاوة على بشاعة المنظر

٢ ـ لو بقيت جثة الإنسان بدون مواراة ؛ لتفسخت وظهرت الروائح الكريهة ، وانتشرت الأوبئة الضارة التي تؤدي إلى هلاك الكائنات الحية التي على وجه الأرض ، ولكن التكريم الإلهي للإنسان ، حَثّ على المسارعة بالقيام بهذه المراسيم ، حِفاظاً على كرامته ميتاً ، وحفاظاً على الأحياء من تفشي الأوبئة المضرِّة بهم

٣ ـ إنّ عملية التغسيل فيها من الأسرار الطبية ؛ إذ ثبت علمياً ما نَصّه : « أما الجسد الميت فهو سريع التحلل والتفسخ ، خصوصاً في أيام الصيف ، ويصبح عرضةً لهجوم المكروبات بعد ساعات من الموت ، ومَسّ هذا الجسد من قبل الأحياء قد يؤدي إلى الإصابة بالكثير من الأمراض لاسِيما إذا كانت الوفاة حدثت نتيجة الإصابة بإحدى الأمراض المعدية »(١٥)

______________________

(١٤) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ج ٨٢ / ١٥٦

(١٥) ـ علي ، الدكتور صادق عبد الرضا : القرآن والطب الحديث / ٢٢٩ ـ ٢٣٠

٣٠

ولذا حَثّ الإسلام على المسارعة بتغسيل الميت ، والقيام بهذه الأغسال الثلاثة ، بماء السدر ، والكافور ، والقراح ، فمادة الكافور وأوراق السدر مع الماء مطهرة ومعقمة لبدن الميت من هذه الجراثيم والميكروبات المضرة ، وهذا ما نستفيده من أجوبة بعض الفقهاء

س / ما الحكمة والمصلحة في وجوب غسل مس الميت إذا وضع شخص يده على بدن ميت قبل تغسيله ؟

ج / حكم ومصالح أوامر الله كثيرة ، ومن الممكن أن تكون إحدى حكم غسل مس الميت أن في بدن الميت سموماً تسري إلى الأحياء بالمسّ وترتفع بالغسل(١٦)

س / لأي سبب يُغسَّل الميت بالسدر والكافور ، وما هي عِلّتُه وحِكْمَتهُ ؟

ج / لأمر الرسول ( صلی الله عليه وآله ) المطابق للأخبار الصادرة عن الأئمة ( عليهم السلام ) ، وحكمة ذلك المضارة لعفونة الميت والسموم التي تخرج من بدنه حال الموت(١٧)

ويقول الدكتور حَسّان شمسي باشا : « ويعرف الكافور بأنه يمنع العِثّ ، وبعض الحشرات الأخرى ، كَدِيدَان الخشب ، وقد صُنِعَتْ خزائن من خشب الكافور ظلت أثراً على مر العصور »(١٨) ؛ ولذا إقتضت حكمت التشريع الإلهي المحافظة على هذا الإنسان من بداية دخوله هذه الحياة ؛ إذ من المستحبات غسل الوليد وقد ثبت علمياً ما نَصّه : وقد ثبت اليوم علمياً ، أنّ الدم سريع التفسخ

______________________

(١٦) ـ الكلبيكاني ، السيد محمد رضا : مجمع المسائل ، ج ١ / ١٠٧

(١٧) ـ نفس المصدر ، ج ١ / ١١٣

(١٨) ـ باشا ، الدكتور حسّان شمسي : قبسات من الطب النبوي / ٩٢

٣١

والتلوث ، فبقائه على جسم الإنسان يجهله عِرْضَة للإصابة بالأمراض ، إضافة إلى رائحة غير مقبولة ؛ لهذا إشترط الإسلام الغسل على الحائض والنفساء ـالمرأة التي ولدت حديثاً ـ والطفل المولود »(١٩)

وبعد بيان ما تقدم ، تبين لنا مدى التكريم الإلهي للإنسان ، ومدى المحافظة عليه في بدايته ونهايته ، وإلى هذا يشير الشاعر بقوله :

نغسله عند الولادة مثلما

نغسله عند الوفاة جوارحاً

ليستقبل الداربن بالطهر والتقى

فيصبح في كلٍ على الكلِ راجحاً

وما بين ذي الطُهْرِ من دَنَسِ الخطا

يُطهره الباري ويحسب صالحاً(٢٠)

ـ الأرض بداية ونهاية :

تَنصّ الآيات القرآنية ، على أنّ الأرض بداية الإنسان ونهايته على الإجمال والتفصيل كما في الآيات الآتية وهي :

قوله تعالى :( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ) [ طه / ٥٥ ]

وقوله تعالى :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) [ المرسلات / ٢٥ ـ ٢٦ ]

الكِفْتُ : الجمع والضم والوعاء وعلى هذه المعاني ، أنّ الأرض تجمع الأحياء على ظهرها ، وهي وعاء يضم الأموات في باطنها وقد تقدم السِّر في كوننا على ظهرها ، ويبدوا لنا السر في كوننا في باطنها فيما يأتي :

______________________

(١٩) ـ علي ، الدكتور صادق عبدالرضا : القرآن والطب الحديث / ٢٢٩

(٢٠) ـ البحراني ، السيد محمد صالح الموسوي : النمارق الفاخرة إلى طرائق الآخرة ، ج ٢ / ١٢٩

٣٢

يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( طاب ثراه ) : « أوجبت الشرائع السماوية(٢١) ـوبالأخص شريعة الإسلام ـ دفن الأموات فيها ، ولا يجوز دفن الميت في غيرها ، وأن يوضع خده على الأرض ، ولا يجوز حتى إلقائه في البحر مع التمكن من دفنه بالأرض ، بل ولا إحراقه بالنار ، مع أن المتبادر بادئ النظر ، أنه أبلغ في قمع جراثيم الأموات المضرة بالأحياء كما يصنعه البراهمة الذين يحرقون أمواتهم ، ولكن أليس من الجائز القريب أن يكون جثمان الإنسان يحمل ، أو تُحمل فيه عن مفارقته الحياة مواد من ناشرات الأوبئة التي لو أحست بحرارة تطايرت في الفضاء قبل أن تحترق ، فتأخذ مفعولها في نشر الأمراض وتلويت الهواء ، وكذا لو ألقيت في البحر أو الأنهار تنمو وتشتد بخلاف ما لو دفنت في التراب ، ولعل فيها مواد من خَاصِّيتها تلف تلك الجراثيم مختلفة الأنواع ، التي لو انتشرت لأهلكت كل حيّ حتى النبات »(٢٢)

وقد أيَّد العلم الحديث هذه النظرية ؛ إذ ذكرت إحدى الكتب العلمية ما يأتي :

« وللبرهنة على أن التراب قاتل الميكروبات لك مثال واحد : إننا نعلم عند موت الإنسان تتفسخ جثته ، ولا بد أن تتحول إلى جراثيم فَتّاكة للغاية ، فكيف إذا لم يكن العالم بأسره مُلَوّثاً بهذه الجراثيم ، فكيف إذن تموت ؟ فلا توجد إلا طريقة واحدة ، هي قتل التراب للميكروبات وبَرهن العالم وكسمان ، والدكتور إلبرت : أن التراب جراثيم نافعة يمكن إستخراجها ومعالجة

______________________

(٢١) ـ وبداية هذا التشريع يرجع إلى ما أشارت إليه الآية المباركة :( فَبَعَثَ اللَّـهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ
يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ
) المائدة / ٣١

(٢٢) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : الأرض والتربة الحسينية / ٢١

٣٣

الأمراض السارية بها وفعلاً إستخرج دواء من التراب باسم ( استربتوماسين ) ، الذي يعالج به السل والتايفوئيد والجراحات المزمنة والإسهال القوي وذات الرئة والتهاب الحلق »(٢٣)

وبعد بيان ما تقدم من الأبحاث ، إتضح لنا أن هذه الأرض المباركة ذات الآيات الباهرة ، التي هي من أعظم آيات الله التي نَمرُّ عليها ليلاً ونهاراً ونحن عنها معرضون ، كما أشارت الآية الكريمة :( وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) [ يوسف / ١٠٥ ]

ويكفيها عظمةً وقداسة أنها بمثابة الأم الحنون لما عليها من الكائنات الحية التي خلقت منها ، وإنها محل الإبتلاء والإختبار للعباد نعم شُرِّعت العبادة عليها ، ومن أعظم العبادات الصلاة ، ومن أعظم أركان الصلاة قرباً لله السجود عليها ، إذن عظمت الأرض تستدعي السجود عليها

______________________

(٢٣) ـ الدهان ، سعيد ناصر : القرآن والعلوم / ١٦٧ ـ ١٦٨

٣٤

٣٥
٣٦

الفصل الأول ـ السجود في اللغة :

س / ما هو السجود لغةً ؟

ج / تناولت كتب اللغة لفظة السجود بما يأتي :

في المصباح المنير ، ج ١ / ٣٦٦ للفيومي : « سَجَد ( سجوداً ) تَطَامن وكل شئ ذَلّ فقد سجد وسجد البعير ؛ خفض رأسه عند ركوبه »

وفي منجد اللغة / ٣٢١ ، « سجد ـ سجوداً : إنحنى خاضعاً ـ وضع جبهته على الأرض متعبداً ، فهو ساجد (ج) سُجَّد وسجود يقال هو ساجد النخر ؛ أي ذليل خاضع ، ونخلة ساجدة أي مائلة »

وفي مجمع البحرين ج ٣ / ٦٣ للشيخ فخر الدين الطريحي : « وهو في اللغة : الميل ، والخضوع ، والتطامن ، والإذلال » والذي يبدو ، أن هذه المعاني متقاربة ، وهي خلاصة ما ذكره اللغويون حول هذه اللفظة ؛ ولذا نلاحظ أن الطريحي أجاد في تعريف « اللفظة » بما ذكره من المعاني الأربعة ، بهذه الصياغة المختصرة

الفصل الثاني ـ السجود في الإصطلاح :

س / ما هو السجود إصطلاحاً ؟

ج / وردت عدة تعاريف للفظة ( السجود ) في الإصطلاح ، لكن الأفضل منها ما يأتي :

١ ـ « وَضْعُ الجبهة على الأرض خضوعاً لله تعالى »(٢٤)

٢ ـ « وخُصّ السجود في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة ، وما يجري مجرى ذلك من سجود القرآن وسجود الشكر »(٢٥)

______________________

(٢٤) ـ السبزواري ، السيد عبد الأعلى : مواهب الرحمان في تفسير القرآ ن ، ج ١ / ١٦٦

(٢٥) ـ الراغب الإصفهاني ، ابي القاسم ، الحسين بن محمد : المفردات في غريب القرآن / ٢٢٤

٣٧

الفصل الثالث ـ السجود في القرآن :

١ ـ معني السجود :

س / ما هو السجود في القرآن ؟

ج / يُفْهَم من الآيات القرآنية ، أن للسجود عدة معانٍ أهمها التالي :

الخشوع والخضوع :

الخشوع : هو الخضوع أي التطامن والتواضع وهو أمر عبادي يترتب على فِعْلِه الثواب ، وهو يشمل سجود الجن والإنس والملائكة فقط ، كما في الآيات الآتية : قوله تعالى :( فَاسْجُدُوا لِلَّـهِ وَاعْبُدُوا ) [ النجم / ٦٢ ] وقوله تعالى :( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
) [ البقرة / ٣٤ ]

ذكر المحقق السيد الخوئي في تفسير الآية : « إن السجود حيث كان بأمر الله ؛ وهو في الحقيقة خضوع لله وسجود له »(٢٦) وقال تعالى :( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى
الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا
) [ يوسف / ١٠٠ ]

وذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي في تفسير الآية : « قال القوم : إن الهاء في قوله ( له ) راجعة إلى الله فكأنه قال : فَخَرُّوا لله سُجَداً شكراً على ما أنعم به عليهم من الإجتماع »(٢٧) ويُعَضِّده ما روي عن الصادقعليه‌السلام ـ أنه قرأ : ( وخروا لله ساجدين )(٢٨) وقوله تعالى :( وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) [ البقرة / ٥٨ ]

______________________

(٢٦) ـ الخوئي ، السيد أبو القاسم : البيان في تفسير القرآن / ٤٧٤

(٢٧) ـ الطوسي ، شيخ الطائفة أبو جعفر ، محمد بن الحسن : التبيان في تفسير القرآن ، ج ٦ / ١٩٧

(٢٨) ـ الطبرسي ، الشيخ الفضل بن الحسن : جامع الجوامع في تفسير القرآن ، ج ١ / ٧٤٨

٣٨

وقال المحقق السيد السبزواري في تفسير الآية : « والسجود هنا بمعنى الخضوع والخشوع المناسب لمن يدخل الأرض المقدسة ، وهو تأديب إلهي في كيفية دخول بيت المقدس »(٢٩)

الإنقياد : وهو الخضوع ، ويُعَبَّر عنه بالسجود التسخيري ، وهو عام يشمل السجود العبادي المتقدم ، وسجود باقي المخلوقات كالحيوان والجماد ، وإليه أشارت الآيات التالية :

قوله تعالى :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ
) [ الحج / ١٨ ]

س / كيف يُتَصَوّر سجود هذه المذكورات ؟ ولِمَ قال : ( وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ) مع أن قوله : ( مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ) مغنٍ عنه ؟

ج / « سُميت مطاوعتها له تعالى فيما يحدث فيها من أفعاله ، ويجري عليها من تدبيراته إيّاها ، وتسخيره لها ، سجوداً له تشبيهاً لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلف في باب الطاعة والإنقياد ، وهو السجود الذي كل خضوع دونه

أما قوله :( وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ) ؛ فمعناه : ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة ، وهم المؤمنون به والموحدون له ، ولا يصح أن يراد من السجود في صدر الآية ، السجود بهذا المعنى من الطاعة والعبادة ؛ لأن ذلك يصح في حق الملائكة والإنس والجن فقط ، وهذا لا يصح أن يراد في حق _

_____________________

(٢٩) ـ السبزواري ، السيد عبد الأعلى : مواهب الرحمن في تفسير القرآن ، ج ١ / ٢٥٢

٣٩

الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب »(٣٠) وقوله تعالى :( وَلِلَّـهِ
يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
) [ النحل / ٤٩ ]

س / ـ ما ـ لما لا يعقل ، وما معنى سجود ما لا يعقل ، وكيف يصدر السجود من الموجودات التي لا تعقل ، وهي جمادات وحيوانات صامته ؟

ج / « هذا من باب الإستعارة والمراد كونها غير ممتنعة عليه وتحت تصرفه ، ولما كان سجود من يعقل هو الخضوع والخشوع له تعالى الذي هو ضرب من الانقياد وسجود ما لا يعقل كما عرفت ، ناسب أن يعبر عنها بالسجود وبعلاقة عدم الامتناع عليه »(٣١)

٢ ـ هيئة السجود وكيفيته :

س / على أي كيفيّة جاءت السجدة العبادية في القرآن ؟

ج / أشارت الآيات القرآنية إلى التالي :

قوله تعالى :( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا ) [ السجدة / ١٥ ]

وقوله تعالى :( إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَـٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) [ مريم / ٥٨ ]

وقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ) [ الإسراء / ١٠٧ ]

وقوله تعالى :( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم
مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ
) [ الفتح / ٢٩ ]

______________________

(٣٠) ـ ياسين ، الشيخ خليل : أضواء على متشابهات القرآن ، ج ٢ / ٣٧

(٣١) ـ نفس المصدر ، ج ٢ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣

٤٠

عدها العالم فون إيكونومو ، وهي التي تسيطر على نشاط البدن وفعاليته جميعا وهي التي يكمن فيها النشاط الفكري ، والتخيل الذهني ، وشخصية الانسان إجمالاً ، أو كما وصف الدماغ أحدهم فقال : هذا هو عجيبة الدهر الذي في تلافيفه بنيت المختبرات واستنبطت الاختراعات ، وبين تعاريجه أسست معاهد العلم ، وعلى تحاديبه نصب ميادين الطيارات والسيارات ، وداخل تجاويفه سطعت الكهرباء ، كتلة صغيرة وسعت ما ضاق به الكون الفسيح ، هذا هو رافع الإنسان إلى أعلى الرتب وهذا هو أساس العلم والعمران(1) . أو كما أراد أن يصفه العالم الأمريكي جودسون هويك عندما ألقى محاضرة في معهد التاريخ بنيويورك ديسمبر 1957 فقال : لو جمعنا كل أجهزة العالم من الرادار والتلغراف والتلفزيون والتلفون ثم بدأنا بتصغير ما اجتمع لدينا حتى توصلنا بهذه الكومة الهائلة من الأشرطة والأجهزة المعقدة إلى حجم الدماغ فإنها لا تبلغ في تعقيدها مثل الدماغ؟! ..

الحمات الراشحة :

في الخلية يكمن سر الحياة وخاصته في النواة حيث ترقد الكروموسومات ( الصبغيات ) التي تحدد الجنس وصفات النوع إلى الأجيال القادمة ، ولقد وجد أن النقلة من عالم الجماد إلى عالم الأحياء الذي يمتاز بالتكاثر والتغذي والتنفس والحس إنما تتم عن طريق الخلية التي تظهر أوضح ما يكون في عالم الحمات الراشحة ، حيث وجد أن بعض الحمات الراشحة تأخذ طوراً صفات الجماد فيدرسها الكيمياوي على أساس أنها مادة ليست حية فهي تتبلور كما هي في صفات الجمادات وإن كانت ذرتها كبيرة ومعقدة ، وطوراً آخر يدرسها الجرائيمي على أنها حمات

__________________

(1) عن كتاب هذا الانسان للدكتور حبيب صادر بتصرف.

٤١

راشحة لأن فيها صفات الأحياء وهي التكاثر ، ولذا فإنها مخلوقات عجيبة ، والحمات لا تتطفل إلا على الأحياء ولذا فهي لا تعيش إلا داخل الخلية ولها أنواع متعددة مثل حمة الجدري وحمة شلل الأطفال وحمة النزلة الوافدة وحمة فسيفساء التبغ والعاثيات وهذه الأخيرة تسطو على الجراثيم خاصة ، ولذا فإن هذا الانتقال من طور إلى طور وبشكل يدعو للتأمل والعجب من الجماد إلى الحياة وبالعكس ، إن هذا قد يجعلنا نقول لعل سر الخليقة يكمن في هذا التحول عندما يقول الله كن فيكون؟!!

تكوين الاعضاء والاجهزة :

في جسم الانسان ألف مليون مليون خلية [ 1000,000,000,000,000 ] وهذه الخلايا تشكل مجموع الأجهزة في الانسان مثل جهاز التنفس ، وجهاز الهضم ، والجهاز البولي ، والجهاز التناسلي ، والجهاز اللنفاوي ، والجهاز الدموي ، والجهاز العضلي ، والجهاز الصقلي العظمي ، والجهاز العصبي ، والجهاز الجلدي ، والجهاز الضام ، بالاضافة إلى الحواس كالسمع والبصر والذوق والشم والإحساس عن طريق الجلد ، فمجموع هذه الأجهزة تتعاون معاً لتشكل كينونة واحدة هي الكائن الانساني ، كما أن الجهاز الواحد بالذات ينقسم إلى أعضاء مثل الجهاز الهضمي الذي ينقسم إلى الفم واللسان والحلق والبلعوم والمري والفؤاد والمعدة والبواب والاثني عشرية والأمعاء الدقيقة ثم الأمعاء الغليظة ثم السين الحرقفي ثم المستقيم ثم الشرج ، وهو كما نرى يؤلف حوالي 12 ـ 13 عضواً ، وهذه الأعضاء تتعاون تعاوناً وثيقاً فيما بينها لتؤدي دوداً بالغ الأهمية بالنسبة للكائن الإنساني وهو التغذية ، ومثل آخر على ذلك جهاز التنفس حيث يشترك الأنف أو الفم في أول مجرى التنفس وخاصة مجرى الانف ثم الحلق ثم الرغامي ثم القصبات ثم القصيبات ثم الأسناخ الرئوية التي يبلغ عددها 750 مليون سنخ رئوي وتفرش سطحاً مساحته سبعون متر مربع وكله

٤٢

للتبادل الغازي بنظام محكم بديع ، وهو كما ترى حولي 5 ـ 6 قطع أعضاء ، وهذه الاعضاء تتعاون معاً تعاوناً وثيقاً لتؤدي غرضاً بالغ الاهمية بالنسبة للكائن الانساني وهو عملية التنفس وتتلخص في نقل الأكسيجن إلى الكرية الحمراء حيث يرتبط بالهيموغلوبين الموجود في الكرية الحمراء وهذه تنقلها بدورها إلى الأنسجة العطشى حيث تقوم عمليات الأكسدة والاحتراق واستنفاذ الغذاء ونشر الطاقة والحرارة اللازمه الضرورية للانسان حتى يتابع مسيرة الحياة ، ثم نقل غاز الفحم الناتج من الاحتراق عبر الأوردة حتى يصب مجموعها العام في القلب الأيمن أي الأذينة اليمنى ثم البطين الأيمن ثم ينتقل عبر الشريان الرئوي إلى الرئتين حيث يجري طرح غاز الفحم إلى الخارج حيث ينقلب الدم الفاسد الاسود إلى دم أحمر قان يحمل الأكسجين بدلاً من غاز الفحم ثم ينتقل بدوره إلى القلب الأيسر أي الاذينة اليسرى بواسطة الاوردة الرئوية الاربعة حيث تصب في أعلى الاذينة اليسرى وبالتالي إلى البطين الايسر ثم عبر الشريان الأبهر أو ما يسمى بالوتين إلى جميع أجهزة الجسم حيث تتغذى بواسطة الاكسجين والاغذية المنقولة إليها.

الانسجة :

ذكرنا فيما مضى أن الخلايا الموجودة والتي تشكل الانسان تصل إلى حوالي الف مليون مليون خلية وهذه تتوزع إلى أجهزة متعاونة متفاهمة ، وهذه الاجهزة تنقسم إلى أعضاء متعاونة متفاهمة متناسقة يكمل بعضها عمل بعض وتتساند فيما بينها ، وكذلك فإن العضو نفسه ينقسم إلى أنسجة متعاونة متناسقة يكمل بعضها بعضاً ، ومثلاً على ذلك المعدة فهي تنقسم إلى أربع طبقات من الناحية النسيجية ، فلو تأملناها من الخارج لرأينا أنها تشبه القربة وهي مكونة من قطعة واحدة من اللحم ، ولكن لو أخذنا جدار المعدة وحاولنا أن نتبين محتوياته تحت المجهر المكبر

٤٣

لوجدنا أن هذا الجدار مكون من أربع طبقات فهو أشبه ما يكون بجدار يغلفه جدار ثان ، والجدار الثاني يغلفه جدار ثالث ثم جدار رابع ، وهذا ما يعلل لنا لماذا تستطيع المعدة أن تهضم اللحم وهي لحم ، ومع ذلك لا تنهضم مع الطعام ، فأما الجدار الداخلي الاول فنراه مكوناً من طبقة من الخلايا المخاطية التي تفرشه حيث تقوم بإفراز حمض كلور الماء بنسبة معينة هي أربعة بالالف ، ومن خلايا معينة وهي الخلايا المسماة بالخلايا الهامشية بالإضافة إلى الخمائر وإلى ما يسمى بالعامل الداخلي وهو الذي يقوم بالدور الاساسي في تكوين الفتامين ب 12 الذي يلعب دوراً هاماً وحيوياً في تكوين الكريات الحمر ووقاية الانسان من فقر الدم وتحت هذه الطبقة نجد طبقة أخرى وهي ما تعرف بالطبقة تحت المخاط ، وتحت هذا الجدار الثاني نرى جداراً ثالثاً يغلف الثاني وهذا الجدار الثالث عضلي وهو الذي يتمطط فيما إذا امتلأت المعدة كثيراً والتكوين العضلي ليس واحداً بل يترتب أيضاً على ثلاث طبقات هو الآخر ، حيث نرى أولاً طبقة عضلية ذات اتجاه منحرف ، ثم طبقة أخرى عضلية ذات اتجاه دائري يحيط بالجدار المعدي ، ثم طبقة عضلية ثالثة ذات اتجاه طولاني ، وهذا الترتيب البديع مهم للغاية حيث يسير التمطط المعدي في أي اتجاه كان ، فاذا امتلأت المعدة ولنفرض بسائل ثقيل يترسب في القاع فإن عمل العضلات الدائرية يلعب دوراً اساسياً هنا ، وإذا امتلأت بطعام يملأ الفضاء المعدي برمته فإن عمل العضلات الطولانية هو الذي يحل المشكلة هنا ، وإذا اجتمع العاملان معاً تضافرت العضلات الطولانية والدائرية معاً ، وإذا لم يكن هناك نظام معين في تمدد المعدة تضافرت العضلات بأشكالها الثلاثة معاً؟!! ثم يحيط بالجدار الثالث جدار رابع وهو ما يسمى بالطبقة المصلية وهذه الطبقة هي الدرع الذي يغلف الطبقات جميعها من جهة كما يكون صلة الوصل مع

٤٤

بقية الاجهزة داخل البطن بالإضافة إلى دخول التروية الدمويه من خلال هذه الطبقة حيث تغلف وتستر الاوعية الدموية والاعصاب ، وأما الاعصاب فهي تشكل ضفائر عصبية تسمى بضفائر مايسنر وأورباخ ، تتوضع الأولى تحت الطبقة المخاطية وتتوضع الضفيرة الثانية ما بين الطبقات العضلية ، أو باضبط ما بين الطبقة العضلية الطولانية والدائريه ، ثم لنلق نظرة أدق مما ذهبنا إليها خاصة ونحن الآن انتقلنا من المستوى الذي نرى فيه رأي العين المجردة إلى النظر عبر التكبير وهي الرؤية المجهرية حيث نصل إلى اسرار جديدة وألغاز حديثة كشف العلم الحديث عن بعض أسرارها ...

الغشاء العاقل :

نحن الآن مع النسيج حيث نرى الحجر الخلوية وهي تتراص جنباً إلى جنب وبين الحين والآخر نرى ما يشبه النهر الصغير وهو يمر ما بين الخلايا ويصغر تدريجياً حتى يصل إلى درجة من الصغر لا نستطيع أن نميزه ونحن نتابع مسيره ، وهكذا يكون قد ضاع ما بين الحشود الخلوية وهذه هي صورة التغذية الخلوية حيث تتم التغذية عن طريق التشرب ، وحيث يحيط بالخلايا السائل الخلالي وكأن مجموع الخلايا وهو هكذا بالفعل يغطس في سائل كالاسفنجة التي تغطس في السائل

وحتى يمكن لنا أن نفهم كيف تتغذى الخلايا فان هذه الصورة البسيطة غير مقنعة تماماً خاصة لمن يريد أن يصل إلى أعماق الحقيقة وهذا ما دفع بالاطباء والباحثين أن يتعرفوا إلى كنه الامور وحقيقتها قدر الإمكان لقد وجدوا أن للخلية غشاء يغلفها ويمتاز هذا الغشاء بخاصية عجيبة وهي أن يشبه المرشحة الانتخابية فهذا الغشاء ترشح منه المواد من داخل الخلية إلى خارجها والتي تمثل نتائج الاستقلاب وبقايا الفضلات الفاسدة وغاز الفحم كما أنها تدخل المواد التي تحتاجها الخلية

٤٥

من السكر والماء وسواهما ، ولكن العجيب يكمن في أنها تدخل ما تشاء وترفض ما تشاء عن طريق الغشاء الخلوي فمثلاً تسمح وبمنتهى السرعة بدخول مادة البوتاس حيث يشكل البوتاس الموجود ضمن الخلايا 98% من بوتاس البدن عامة و 2% يوجد في الدم بينما تمنع شاردة ( معدن ) الصوديوم والكلور لان المنطقة الانتحابية لمادة الصود هي خارج الخلايا وهذه وتلك معدن. فالصود والبوتاس معدنان متقاربان ولكن الغشاء يرفض الاول بينما يأخذ الثاني هذا مع العلم ان ذرة البوتاس وزنها 39 بينما وزن ذرة الصود 23 أي أن ذرة البوتاس أكبر وأثقل ، وبالإضافة إلى هذه نجد أن الغشاء لا يسمح بدخول المواد البروتينية بينما يسمح بدخول السكر والبولة وهذه الخاصية عجيبة في الواقع ، فما هو السر الذي يجعل هذا الغشاء يتصرف كالعاقل ، فهو يرفض إدخال عنصر كالصوديوم مثلاً بينما هو يسمح بإدخال عنصر آخر كالبوتاسيون حتى لتعتبر الخلية الملجأ الامين الوحيد لشاردة(1) البوتاسيوم في البدن.

وأما تكوين الغشاء الذي يحيط بالخلية وثخانته والعمل الذي يقوم به فهو فعلاً مدهش فلقد وجد أن ثخن الغشاء يتراوح وسطياً ما بين 120 ـ 140o A ( كنا قد ذكرنا أن الانغسترومo A يساوي جزء من (10) عشرة ملايين من السنتيمتر ) وهو يتركب من طبقتين من المواد الدسمة وتكون هتان الطبقتان الدسمتان ( يقصد بالدسم الشحوم ،

__________________

(1) نقصد بالشاردة أن العنصر نفسه مثل البوتاسيوم عندما ينحل في السوائل فإنه يتشرد بمعنى أن الكترون من مداره يفلت أو يصبح شريداً؟! ولذا فإن عنصر البوتاسيوم يصبح من ناحية الشحنة موجباً وذلك لان عدد البروتونات في النواة تصبح أكثر من الالكترونات في المدارات بواحد ولهذا يصبح البوتاسيوم عنصراً قلقاً حزيناً يبحث عن هذا الالكترون الهارب وبذا يحاول ان يتحد مع العناصر الاخرى ليستقر ويسحب الكترون إلى مداره حتى يعرض عن ذلك الالكترون الآبق!!

٤٦

والشحوم عادة يدخل في تركيبها الفحم والهيدرجين والأكسيجن بخلاف البروتين الذي يدخل في تركيبه بالإضافة الى ما مر الآزوت ) مغلفتين بطبقتين أخريين من الموارد البروتينية والآن أين الثقوب التي تمر منها المواد والذرات من داخل الخلية إلى خارجها؟ إن الجواب على هذا هو أن أحدث ما توصل اليه العلم عن طريق المجهر الالكتروني الذي يكبر حوالي 100 ـ 600 ألف مرة أن الثقوب هي بحالة ديناميكية غير ثابتة ، أي أنها تتشكل من وقت لآخر حيث تتعرى مناطق ثم تنستر لتحدث في مناطق أخرى ثقوباً جديدة وهكذا ، وهذا يجلعنا نقف متأملين عن قدرة الخلية العيبة التي يستهلك منها جسم الانسان كما مر معنا 125 مليون خلية في الثانية الواحدة!!!

إلى داخل الخلية :

والآن لنحاول أن ندخل عبر ثقوب الغشاء الخلوي إلى داخل الخلية لنرى العالم الذي يقع خلف هذا الستار المجهول.

ليست الخلية حجرة صغيرة محاطة بغلاف وفيها سائل متجانس بل إنها كالبحر الذي يعج بأنواع مختلفة من الحيتان والاسماك والحيوانات المختلفة ، فلننظر إلى هذه العناصر الموجودة داخل الخلية وهذا قبل الوصول إلى النواة ، لان النواة كما ذكرنا فيها سر حياة الخلية وسنفرد لها بحثا خاصاً. أولاً وجد أن تركيب الانسان من العناصر هو بالنسب المئوية التالية : من عنصر الاكسيجن 81 و 62 ومن الفحم 37 و 19 ومن الهيدرجين 14 و 0 ، ومن الآزوت 38 و 1 ومن الكلس 63 و 0 ومن الفوسفر 64 و 0 ومن الكبريت 26 و 0 ومن الصود 18 و 0 ومن الكلور 22 و 0 ومن الماينزا أقل من 04 و 0 والعجيب في هذه النسبة انها تشبه النسبة الموجودة في النباتات في زمن الربيع عندما تزهر فهل هذا لان الانسان يمثل ربيع الوجود؟!!

٤٧

الماء والحياة :

وأما الماء فهذا يحتاج لحديث كامل لوحده ذلك لانه يمثل أساس الحياة فهو يدخل في تركيب جميع الكائنات الحية وطالما وجدت الحياة فحتماً سيوجد الماء معها ، وهو يدخل في تركيب الخلية بشكل حيوي أساسي ، ولنسمع الى أستاذ علم النسج في كلية الطب وهو يقول لنا بالحرف الواحد : يتخلل الماء جميع الانسجة ولا حياة للخلايا بدون الماء وصدق الله العظيم إذ قال :( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) ـ واضيف له تتمة الآية لأن سياق الآية ليس له معنى(1) إذا كان لا يدل على الشيء الذي أراده من معجزة الماء ـ وهو يوجد في الخلية بثلاثة أشكال وليس بشكل واحد عادي كما نعرفه نحن في الحياة الطبيعية فهو يوجد بشكل متحد اتحاداً كيمياوياً في هيولى الخلية أو متشرب بجزئياتها أو كما يوجد الماء في عيون الإسفنح ، والماء يتمتع بنسبة ثابتة في الخلية حسب ما تحتويه من الشحوم. ثم لنلق نظرة على محتويات الخلية غير المصورة ، أي الاجزاء التي لا تتجمع بشكل كتل وتأخذ أحجاماً وصوراً معينة ثابتة وتقوم بدور معين كما ذكرنا عن المصورات الحيوية أو ما تسمى بالميتوكوندريا إننا نجد أولاً الماء كما ذكرنا ثم الاملاح المعدنية حيث تحتوي خلايا جميع الاحياء ما يلي من العناصر المعدنية بالدرجة الاولى P,O,N,H(2) ثم عناصر ثانوية وهي Na ( صوديوم ) Mg مغنزيوم ، S كبريت ، CL كلور ، K بوتاس ، Ca كلس ، Fc حديد ، ثم عناصر بكمية قليلة جداً وهي B بور ، F فلور ، Si سيليس ، Mn منغنيز ، Cu نحاس ، I يود وهكذا نرى وسطياً في كل خلية حية من العناصر المعدنية حوالي 18 عنصراً وهي العناصر الموجودة في

__________________

(1) وتتمة الآية أفلا يؤمنون؟!

(2) هذه الرموز هي كالتالي H هيدرجين C فحم N آزوت O اكسجين P فوسفور.

٤٨

التراب الذي نعيش عليه مصداقاً لقول الله تعالى :( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) .

رحلة مع ذرة السكر :

والآن الى سر جديد من اسرار الخلية :

بعد أن عبرنا ثقوب الغشاء الخلوي عبر تلك البوابات السرية المتحركة فإننا نواجه جدار الخلية من الخارج وإذا بالجدار ينفتح منه باب للدخول وهذا الباب ليس للعموم فمن شاء دخل بل ان على الثقب بواباً عاقلاً حكيماً فهو يسمح لبعض الذرات بالدخول كما في ذرة البوتاس ويمنع ذرة الصود مع أن ذرة البوتاس أكبر من ناحية الوزن الذري من الصود ولكن انها ارادة البواب العاقل الذي يقف على البوابة السرية المتحركة التي تكمن في أي نقطة من جدار الخلية ، من هذه الذرات الهامة التي معها اجازة دخول ذرة السكر ، ولكن هل الخلية هي المركز الأول للتفتيش والدخول لنر؟ إذن فلنحاول الآن أن نتتبع مسير ذرة السكر من نقطة الدخول الأولى حتى تستحيل الى غازات تنطلق في الهواء وهي غاز الفحم ونجار الماء

إذا رافقنا ذرة السكر نجد انها إذا كانت من نوع النشويات بدأت بالتغير من لحظة مرورها الاولى بالفم وذلك بسبب وجود خميرة النشا في الغدد اللعابية الموجودة في الفم وهي غدة تحت الفك وغدة تحت اللسان والغدة النكفية ، وأما إذا كانت من أنواع السكاكر الأخرى ـ وللسكاكر أنواع وليست نوعاً واحداً كما يتوهم حيث تنقسم إلى سكاكر خماسية وسكاكر سداسية والأخيرة لها أنواع عديدة منها سكر العنب وسكر اللبن وسكر الثمار وغيرها ـ فانها تصل إلى الامعاء وهناك يحصل لها التغير الاساسي حيث لا يمكن لها أن تدخل جدار المعي بدون جواز مرور وهذا الجواز هو عملية الفسفرة في مصطلح الكيمياويين ومن هناك تصل الى الكبد عبر الدوران حيث يعتبر مركز الجمارك العام

٤٩

وهنا يحصل أعجب وأغرب الأشياء في البدن وهو تحول السكر الى ما يسمى بالغليكوجين أو مولد السكر لأن هذا يعتبر المركز التمويني العام للسكر في الدم وحتى نعرف تنائج هذا الأمر فاننا يجب أن نعرف ان كمية السكر في الدم في حدود 5 ـ 6 غرامات وهذه لا تكفي أكثر من ربع ساعة لحاجة البدن فمن أين سيأتي امداد الدم بالسكر وبشكل منتظم ، خاصة وإذا علمنا ان غذاء الخلايا العصبية الأول والمفضل هو السكر بالدرجة الأولى فاذا حصل نقص عن 50 ملغ في 100 سم3 من الدم فان المرء يشعر باضطراب ذهني وانزعاج ، وإذا هبط أكثر من ذلك عن 40 ملغ اصيب المرء بارتعاشات عضلية واغفاء متزايد واختلاجات ، وإذا حصل أكثر من هذا حدث ما يسمى بالسبات السكري وهي حالة الغيبوبة الكاملة بسبب نقص السكر الشديد!! إن الذي يؤمن كل هذا هو الكبد مركز التموين الأول لأن السكر حينما يمر الى الكبد ينظر الكبد نظرة البصير في وضعه فاذا كان يحتاج اليه قلبه من سكر عادي الى مولد سكر ( غليكوجين ) وإذا زاد عن حده الذي يريده حوله الى مراكز التموين الأخرى وهي العضلات حيث يختزن هناك أيضاً بشكل مولد سكر يكون تحت الطلب ، وبعد هذا يكون هناك انتظام ما بين مقدار السكر في الدم ووضعه في الكبد فاذا استنفد البدن السكر قام الكبد بشكل آلي تلقائي بحل السكر المتكاثف عنده إلى سكر بسيط مستساغ الى الدم ومن الدم ينتقل الى كل خلايا الجسم التي تحتاجه ، وهنا نتساءل : يا ترى ما الذي يحدث للسكر عندما يعبر الدم الى الكبد هل يتحول كله الى مولد سكر أم ماذا وذلك قبل أن نصل الى خاتمة المطاف في الخلية؟ ان الطب يجيبنا فيقول ان أمام السكر ثلاثة طرق وهذه الطرق تنظم أيضاً بحسب حاجة الجسم فهو أما أن يجتاز الطريق السريع فوراً فلا يتحول

٥٠

الى شيء خلال الكبد بل فوراً الى الانسجة حيث يحترق ويتحول الى غاز فحم وماء وهذه الطاقة كما ذكرنا تصرف تدريجياً حسب حاجة الخلية وإما أن يتحول إلى دسم وشحم حسب حاجة البدن لذلك وحسب الفائض ولذا نرى أن الاكثار من النشويات تؤدي الى سمنة واما أن يدخل العضلات ليتحول الى مولد سكر كما ذكرنا أو في الكبد ولكن وضعه في العضلات يختلف عن وضعه في الكبد لأن الكبد يقلب الغلوكوز الى غليكوجين عند زيادة الوارد من الغلوكوز ( سكر العنب ) ويحصل العكس أي حل الغليكوجين إلى غلوكوز عند حاجة البدن وهذا طبعاً يمشي باستمرار ودون توقف لحظة واحدة من ليل أو نهار وذلك لأن استهلاك الجسم للسكاكر دائم من أجل تموين الجسم بالطاقة والحرارة اللازمة للحياة

ان مولد السكر في العضلات إما ان يتحول الى حمض لبن اثناء استهلاكه وهذا بدوره يتحول في الكبد من جديد الى مولد سكر أي ان الحلقة تكون مغلقة ولا يضيع شيء سوى هذه التحولات ، واما ان يحرق ويستفاد من القدرة المتشكلة. ثم لنتابع رحلة هذه الذرة التي مرت في هذا الطريق الوعر المنظم الشائك المتناسق!! حيث تصل الى البوابة السرية المتحركة في جدار الخلية حيث يلقى القبض على ذرة السكر بواسطة خميرة ويقوم هورمون الانسولين بدور السائق الذي يوصل الذرة الى الخلية وبدور المسهل لدخول الذرة السكرية الى الخلية حيث تصل الى مثواها الاخير ( فمستقر فمستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) سورة الانعام. وهنا لنتساءل مرتين أولاً من الذي يسيطر على كل هذه التفاعلات المعقدة والمنظمة ، ثم كيف يستقر السكر في الدم بنسبة معينة ثابتة لا تزيد أو تنقص وهي غرام واحد فقط في كل ليتر من الدم بحيث ان النقص أو الزيادة يؤدي إلى اضطرابات

٥١

مخيفة أهمها السبات والداء السكري المشهور في الزيادة وهنا يقف المتأمل خاشعاً وهو يرى هذه الاسرار العجيبة وهي تخبره عن بعض التفاصيل الرائعة التي تحدث أولاً هناك من المنظمات الهورمونية ما يحير ، فهناك المنظمات الهورمونية التي تقوم بفعل لجم لزيادة السكر وهناك هورمونات مضادة تفعل بالعكس وهي تعمل بانتظام فالانسولين(1) هو الذي يقوم بانقاص السكر في البدن وذلك بزيادة ادخاله الى الخلايا لزيادة استخدامه او لحجم انحلاله من الكبد وزيادة قابليته للتحول الى الدسم وانقاص التحولات الأخرى التي تصل الى سكر كما في تحولات الدسم والحموض الامينية ، وأما الهورمونات المضادة وهي تشترك جميعها بحل السكر فهي هورمون الفلوكاكون الذي يفرز من المعثكلة وهورمون النمو من الفص الامامي للغدة النخامية وبعض هورمونات قشر الكظر والإدرينالين من لب الكظر(2) وكذلك البتروكسين وهو هورمون الغدة الدرقية الذي يتعاون أيضاً في الاستقلاب وحل السكر أيضاً ، وأما الثبات والتوازن ما بين هذه الهرمونات وتنظيم افرازها بالتعاون مع الكبد وجعل السكر في ثبات واستقرار في الدم ، ان الأمر فعلاً يدعو الى الدهشة والعجب ولكن لا عجب في ابداع خلق الله( صنع الله الذي اتقن كل شيء ) النمل.

تكوين البروتين الخلوي :

وبعد بحث موضوع السكر في الخلية هناك سر مهم أيضاً استطاع العلم الحديث أن يكشف عنه وخاصة بعد اختراع المجهر الالكتروني

__________________

(1) الانسولين هورمون يفرز من المعثكلة من جزيرات خلوية تسمى جزيرات لانفرهانس وسنشرحها بالتفصيل عندما تمر معنا.

(2) الكظر غدة تزن عدة غرامات فوق الكلية وهي قسمان قشر ولب وكل منهما له هورموناته الخاصة.

٥٢

وهذا السر هو في تكوين البروتين الخلوي لأننا كنا قد ذكرنا ان الغشاء الخلوي لا يسمح بدخول البروتينات الى داخل الخلية فكيف إذن يتكون البروتين الخلوي اعتمادا على امكانيات الخلية وحدها خاصة وان بعض الخلايا في الجسم تقوم بتركيب هورمانات هي في غاية التعقيد كما في هورمون الانسولين من خلايا بيتا في جزر لانغرهانس من المعثكلة أو البتروكسين من خلايا الغدة الدرقية أو هورمون النمو من العنصر الأمامي من الغدة النخامية أو التستومكرون وهو هورمون جنسي عند الذكور من خلايا لبديغ في الخصية ، حقاً ان الأمر يدعو الى الدهشة خاصة وان الغشاء الخلوي لا يسمح بدخول الذرات البروتينية المعقدة فكيف يحدث الأمر اذن هنا؟؟ حتى يمكن أن نفهم الاجابة بشكل دقيق وصحيح لابد من فهم شيئين ، أولاً ما هو البروتين وكيف يتكون أصلاً؟ وثانياً من الذي يكونه داخل الخلية التي ما زلنا حتى الآن نبحث بعض اسرارها الغامضة المحيرة

ان المواد البروتينية ومنها اللحم هي عبارة عن اجتماع مجموعة ضخمة من الاحماض الامينية والحمض الاميني هوعبارة عن ذرة من اجتماع حمض وأمين كما هو اسمه والحمض معروف والامين هو الذي يوجد في تركيبه ذرة آزوت مع ذرتين من الهيدرجين وتكون صفاته معاكسة للحمض أي تميل للقلوية ، وهكذا فان الحمض الأميني يحمل خاصيتين خاصية الحموضية والقلوية وهي ميزة هامة له وهذا شيء بسيط في أول البحث ولكن كيف تتكون البروتينات المعقدة خاصة وان عدد الاحماض الامينية كثير والاعقد هو اجتماع الاحماض الامينية بشكل اذا اختلف قليلاً عن الآخر فان هذا يعطي مركباً يختلف كل الاختلاف عن المركب الاول حتى ان تبديل بعض الذرات في المركب نفسه يقلب المركب رأساً على عقب. ان السر في هذا يعود الى حد الحياة في الخلية الذي

٥٣

هو النواة حيث يستقر مركز الرئاسة والادارة وتنظيم الأمور هناك وهذا ما كشف العلم الحديث عنه فلنسمع طرفاً من هذا النبأ العظيم بعد الجهود المضنية الشاقة التي رافقت اختراع المجهر الالكتروني والبحث عن أسرار الخلية وجدوا ان الخلية لا يمكن أن تعيش بدون نواة فقالوا ان سر الحياة هو في النواة ، فبدأوا يدرسون النواة وهناك في النواة تبينوا وجود اجسام غريبة

لم يعيروها في اول الأمر انتباهاً كبيراً ولكن مع متابعة البحث والدرس وجدوا ان هذه الاشكال ثابتة كما انها في كل انقسام خلوي عندما تنشطر الخلية الى نصفين يتولد منه خليتين جديدتين بحيث ان الخلية البنت تشبه الام الأصلية تماماً وجدوا ان لهذا الانقسام علاقة بهذه الموجودات داخل النواة حيث انها تنقسم الى نصفين مع كل انشطار خلوي ووجدوا انها تتلون بالاصباغ بشدة فسموها الصبغيات ، ولكن مع متابعة البحث والجهد تبين للعلماء ان هذه الصبغيات لها دور كبير في الوراثة حيث ان الصفات الوراثية تكمن في هذه الصبغيات وحيث تنتقل من الآباء إلى الابناء والاحفاد من خلالها وتبين للعلماء ان هذا الأمر ثابت في كل الانواع الموجودة من الاحياء النباتية أو الحيوانية أو حتى الانسان بالذات.

وهنا يتساءل المرء : ولكن أين تقبع هذه الصفات الوراثية في خلية لا ترى إلا بالمجهر؟ اللون للشعر والعينين ، طول القامة ، لحن الصوت ، قسمات الوجه ، شكل المشية ، المزاج ، تشكيل العظام والعضلات ، شكل الاصابع والأظافر ، استطاعة الأنف ، فتحة العينين ، اهداب الاجفان ، استدارة الصدر ، المفاصل ، الهورمونات ، الاخلاط ، العدد ، الزمر الدموية ، الأمراض الوراثية ، شكل الجمجمة الخ ) كلها أسرار من الاسرار التي لا يعرف العلم عنها حتى الآن إلا القليل

٥٤

وما لنا نستعجل فلنسمع الحديث إلى الآخر!!

يقول العلماء ان هذه الصبغيات هي الاساس في الوراثة ولكن ما هو تركيبها يا ترى؟ وبدأ البحث المضني حتى استطاعوا أن يتعرفوا ـ ليس فقط على تركيب هذه الصبغيات ـ بل توصلوا إلى اثبات ان هذه الصبغيات لها ما يشابهها في التركيب ايضاً في داخل الخلية وجدوا ان الصبغي مكون من اجتماع حمض فوسفور وسكر خماسي ( أي فيه خمس ذرات فحم وهو سكر الريبوز ولذا سمي المركب بالحمض الديبي ) بالاضافة الى مركب عضوي آزوتي فاطلق على هذا المركب الثلاثي الحمض الديبي النووي واختصاراً سمي بـ د. ن. آ D.N.A ووجد ان هذا الحمض يشبه السلم فيه عمودان يربط بينهما درج ولكن هذا السلم ليس مستقيماً بل ملفوف على نفسه بحيث اننا لو جعلناه على استقامة واحدة وربطنا العمودين ببعضهما لامتد هذا الحمض خارج النواة مسافة متر ونصف؟!! كما وجد ان هناك احماضاَ تشابههن؟ في الخلية ولكن لها ميزة تختلف عن ميزة الاول من ناحية تركيب ذرة الاكسجين فقط فيه فمسي R.N.A ر. ن. آ ، ووجد من هذا الاخير ثلاثة أنواع في الخلية الواحدة

والآن بعد هذه المقدمة لنعرف كيف يتم تركيب البروتين في هيولي الخلية ( المادة التي تحيط بالنواة وتقع ما بين النواة والغشاء الخلوي تسمى بالهيولي الخلوية ) لقد وجد ان في هيولي الخلية الواحدة ما يقرب من 500 الف جسيم ريبي أي من النوع الأخير الذي شرحناه بالاضافة الى 500 مصورة حيوية ( مرت سابقاً وستشرح لاحقاً ) بالاضافة إلى 500 مليون ذرة انزيمية!! والأهم لقد استطاع العلماء أن يتعرفوا وبالجهود المضنية طبعاً ان الحمض د. ن. آ D.N.A يشبه الاستاذ الذي يعطي المعلومات لتلاميذه لكي يقوموا بأمر ما وإذا بالحمض الثاني ر. ن. آ

٥٥

R.N.A ينطلق من النواة كالرسول الذي يحمل رسالة هامة وهناك يقترب من الجسميات الريبية في الهيولي (نوع من انواع ر. ن. آ الثلاثة ويهمس لها سراً في أن تقوم بعمل ما وهنا يتحرك طرق ثالث في القضية وهو النوع الثالث من الحمض ر. ن. آ R.N.A ويسمى بالناقل أو المنحل فينادي الأحماض الامينية أن هلمي إلي فتجتمع إليه لتسمع ماذا سيقول لها وهنا يضعها تحت تصرفه ثم يبدأ ليصفها بشكل فني دقيق ماهر وكأنه أعقل العقلاء حتى يبني منها البروتين الذي يناصبه أو الهورمون الذي يريد إطلاقه فمن علسّمه يا ترى كل هذا؟!!

مريكز الخلية :

ومن جملة هذا العنصر لنسجه في السائل الخلوي المركز وسمي بذلك لأنه يحاول أن يكون في مركز الخلية واضعاً النواة إلى أحد أقطاب الخلية والعجيب في هذا العنصر انه يتكون من اسطوانة فيها تسعة أنابيب أو الياف أخرى فما هو السر في الرقم يا ترى ولماذا ترتبت بهذا الشكل ايضاً؟ هذا الأمر سر من الاسرار ، ولقد وجد أن هذا المريكز يظهر وكأنه المخطط والمهندس لمرحلة النشطار الخلوي حيث أنه يقوم أثاء انقسام الصبغيات فيرسم خطوطاً وطرقاً دقيقة أمام الصبغيات المنشطرة وهذه الخطوط تشبه بشكلها المغزل ثم لا يلبث أن يتكون في الخلية من كل طرف ما يشبه الكوكب المشع ، وكأنه القمر المنير في الظلمات ولذا سميت هذه الاشعة بالأشعة الكوكبية وتصدر الأوامر للصبغيات أولاً أن تقف بحالة استعداد في منتصف الخلية ثم يؤمر كل شطر من شطري الصبغي المنقسم أن يتجه إلى أحد طرفي الخلية ولكن كيف سيمشي في هذا الظلام؟ لا حرج عليه ان هذا النور الهادي وهذه الاشعة العجيبة التي تخطط له السير وتوضح له الطريق تجعله يمشي على هدى هذا الشعاع وهو يتهادى ويمشي في هدوء حتى

٥٦

يصل الى طرف الخلية الاول حيث يكون قد وصل في الوقت نفسه توأمه لى الطرف الآخر وهكذا تنقسم الخلية إلى قسمين بعد أن تنشطر الصبغيات بهذه الكيفية.

فمن الذي علم هذا الجماد أن يقوم بكل هذا التناسق والإبداع ومن أعطاه هذه الحكمة ودرسه فنون الحركة الرائعة المتناسقة الحكيمة؟!! ..

تفسير نشأة الحياة :

والآن بعد هذا البحث الذي يعد موجزاً بسيطاً جداً عن بعض اسرار الخلية يحق لنا أن نتساءل كيف نفسر نشأة الحياة وظهور الخلية الأولى في الحياة؟ ومع كل الوضوح الذي يشير إلى الجواب بدون تكلف نجد بعض المؤلفين والكاتبين السين يقفون ليتكلموا بطريقة علمية نرى ان ذهنهم العلمي يخونهم في أدق المواقف وأحرج التفسيرات وأهمها ، ومن هؤلاء استاذ يدرّس في كلية الطب في قسم النسج يقول ما يلي بالحرف الواحد :

« إن علم الحياة وما تفرع عنه من علوم أخرى على النحو المار ذكره ما تزال جميعها عاجزة عن تفسير كيفية نشوء الحياة الاولى وتكون أول مادة حية على سطح الأرض ، ولعل نظرية النشوء الذاتي الأولى في ظروف خاصة وعهود متناهية في القدم هي النظرية الاكثر قبولاً في القوت الحاضر ».

ونقف قليلاً لنناقش الكاتب في هذه العبارة. أولاً : نظرية النشوء والتولد الذاتي من الناحية التجريبية نقضها العالم باستور من الأساس في تجربته المعروفة المشهورة.

ثانياً : ماذا تعني كلمة النشوء الذاتي ، هل تغني أن الخلية خلقت نفسها بنفسها أو أنها تكونت صدفة من اجتماع العناصر ، أو الاحتمال الثالث وهو لا أدري؟!! فاما انها أوجدت نفسها بنفسها فهو كلام متهافت لأن معنى الخلق هو الايجاد فكيف توجد نفسها بعد أن لم تكن موجودة

٥٧

وأما الصدفة فليرجع الى بحث المصادفة في أول الكتاب ، وأما لا أدري فلا ندري بماذا نجيب عليه!!!

من هنا نفهم ماذا يعني ان الانسان عندما بخوض بحثاً ما ثم يخونه ذهنه العلمي أو أنه لا يستعمل ذهنه العلمي في هذا المجال الخطير الذي يجب على العالم أن يقرر قبل كل الناس حقائق الامور وبديهياته وهو ما قاله رب العزة( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) إنه ليس هناك من مكان للصدفة خاصة وقد بحثنا هذا الموضوع في أول مدخل الكتاب حتى ننفي الحظ والفوضى في بناء الكون ونشأة الحياة ، وهكذا تسد جميع الأبواب أمام من يتأمل في هذه الظاهرة العجيبة ولا يجد إلا الحق الابلج الواضح المبين وهو يقلو له( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ) ثم لنسمع مع ذلك كلاماً في هذا المجال لأحد العلماء لا لنسند فكرتنا منه لأن ظهور هذه الفكرة وبديهيتها تضغط على العقل البشري ولا تجعل له مهرباً من الاعتراف بها طائعاص أم مكرهاً يقول بوخز وهو من أكثر الماديين غلواً ومن الذين اتهموا داروين بأنه يصانع رجال الكنيسة وقف أمام ظاهرة خلق الحياة من جماد ليقول بالحرف الواحد : ( إن البتّ في أمر التولد الذاتي للكرية الأولى التي نشأ عنها الأصل الأول أمر غير متيسر ، لأن الأحوال المناسبة لتولد الكرية الأولى تولداً ذاتياً غير معروفة ، والكرية ذاتها على بساطتها ذات بناء وتركيب يمتنع معه صدورها من الجماد مباشرة ، بل إن ظهورها من الجماد ليعد في نظر العلم معجزة ليست أقل بعداً عن العقل منظهور الاحياة العليا من الجماد مباشرة ) وصدق الله الخالق حينما يقول :( ذلك الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل. لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخير. ) سورة الانعام. وهكذا نكون قد انتهينا من البحث الأول وهو مبحث الخلية حتى ندخل الآن التركيب المادي لأجهزة الإنسان المعقدة وعالمه النفسي الغريب المجهول.

٥٨

تخلق الإنسان

يقول الخالق العليم :( ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) سورة المؤمنون

لنحاول على ضوء هذه الآية أن نتبين بعض الاسرار المادية في تكوين الإنسان وتخلقه حيث استطاع الطب الحديث أن يكشف بعض أسرار التكوين ، وذلك بعد أن مررنا في الأبحاث الأولى على مكوّنات الخلية المعقدة وبعض اسرارها المحيرة

إن تكوين الانسان من ناحية العناصر التي تتعاون في تركيبه هي بالدرجة الأولى من الماء حتى ليقال ليس الإنسان سوى برميل صغير من الماء مع عناصر معدنية أخرى نستطيع أن نكوّن منها مسماراً صغيراً من الحديد وراس عود ثقاب من الكبريت وكمية من الكلس تعين في دهن جدار من مادة الكلس التي تستعمل لتبيض الجدران وعناصر أخرى بحيث أنها لا تبلغ في القيمة سوى ما يعادل 40 قرشاً سورياً ، ولكن السر لا يكمن في نوعية المواد وإنما يكمن في كيفية تركيب هذه المواد بعضها إلى بعض ، وهذا المثل ينطبق على أبسط ذرات الخلية كما ينطبق على أعقد التركيبات الحيوية التي تتولد من الجسم

إن العنصر الذي يتكون من الجسم مهما بلغ من البساطة كما في الهورمونات والمنتجات الحيوية يتكون من اجتماع ذرات معينة من عناصر التربة نفسها وأهمها المكونات العضوية التي يتداخل في تركيبها الفحم

٥٩

والهيدرجين والأكسجين بالدرجة الأولى ، وهذه العناصر البسيطة تكوّن آلاف الآلاف من المركبات العضوية المعقدة حتى ان علماً كاملاً من العلوم التي تدرس تسمى بالكيمياء العضوية حيث تشترك عناصر معينة محددة في تكوين مئات وآلاف من المواد في الطبيعة ، والغريب في هذه التكوينات ان الذرات الداخلة في تركيبه إذا اختلفت اختلافاً بسيطاً أو تبدلت في موضعها من مكان لآخر حصل مركب آخر مغاير للأول في خواصه وصفاته مغايرة تامة.

العفريت ذو الاقنعة المتعددة :

ومن الأمثلة على ذلك مادة الكولسترول التي يصطنعها الجسم البشري فهي بالأصل مادة شحمية دسمة تعتبر من دسم البدن ولكن هذا المركب يعد من مركبات البدن السحرية ، ولنسمع إلى الطب لكي يقص علينا قصة هذا العفريت الذين يتلون في كل لحظة إلى مركب جديد وشخصية جديدة فهو ذو الأقنعة المتعددة. فهو تارة كولسترول في الدم بشكل دسم ( الكولسترول مادة شحمية اذا ترسبت على جدران الاوعية الدموية سببت ارتفاع الضغط ) وهو تارة أخري بشكل ينافي الكولسترول تماماً مع أن البناء الكيمياوي هو واحد ولكن تغيرت بعض ذرات البناء فقط فإذا بهذا المركب يصبح هورموناً يعطي صفات الذكورة كلها من توزع الشعر في البدن وخاصة الوجه وغلظ الصوت وشدة العضلات وضيق الحوض واتساع الصدر والمزاج الشديد نسبة للانثى ونموا الأعضاء التناسلية الخاصة ، وبينما هذا المركب يمشي في هذا الاتجاه إذا بتحولات طفيفة تطرأ على بعض ذراته فاذا به ينقلب بشكل عجيب ويصبح هورموناً أنثوياً يعطى للأنثى كل صفات الانوثة من توزع الشعر ، ورقة الجلد ، ونعومة الصوت ، وكثرة الشحم في البدن ، وضعف العضلات وكبر الحوض العظمي حتى يتسع للحمل والولادة وضيق الزنار الكتفي

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232