تربة الحسين عليه السلام الجزء ١

تربة الحسين عليه السلام25%

تربة الحسين عليه السلام مؤلف:
الناشر: دار المحجّة البيضاء
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 232

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 232 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59778 / تحميل: 3716
الحجم الحجم الحجم
تربة الحسين عليه السلام

تربة الحسين عليه السلام الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار المحجّة البيضاء
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ثالثاً ـ سر السجود على تربة الحسين (عليه‌السلام ) :

ويوضح لنا هذا السر أحد أعلام الإمامية بقوله التالي :

« ولعل السر في إلتزام الشيعة الإمامية السجود على التربة الحسينية ، مضافاً إلى ما ورد في فضلها من الأخبار ، ومفادها إلى أنها أسلم من حيث النظافة والنزاهة من السجود على سائر الأراضي ، وما يطرح عليها من الفرش والبواري والحصر الملوثة والمملوءة غالباً من الغبار والميكروبات الكامنة فيها ، مضافاً إلى كل ذلك ؛ لعل من جملة الأغراض العالية والمقاصد السامية ، أن يتذكر المصلي حين يضع جبهته على تلك التربة تضحية ذلك الإمام نفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ؛ وتحطيم هيكل الجور والفساد والظلم والإستبداد ، ولما كان السجود أعظم أركان الصلاة ـ وفي الحديث :« أقرب ما يكون العبد إلى ربه حال سجوده » ـ مناسب أن يتذكر أولئك الذين وضعوا أجسامهم عليها ضحايا للحق ، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى ؛ ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ويحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة ، ولعل هذا هو المقصود من السجود عليها بخرق الحجب السبع كما في الخبر الآتي ذكره ، فيكون حينئذ في السجود سر الصمود والعروج من التراب إلى رب الأرباب إلى غير ذلك من لطائف الحكم ودقائق الأسرار »(١٢٧)

______________________

(١٢٧) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : الأرض والتربة الحسينية / ٢٧

٨١

٨٢

٨٣
٨٤

توطئه :

عُرفت الشيعة الإمامية منذ عهد بعيد بشعار السجود على تربة الحسينعليه‌السلام ، ولو تتبعنا منشأ هذا الشعار وكيفية نشوئه وانتشاره ؛ لتوصلنا إلى أنه يرجع إلى الأطوار الآتية :

الطور الأول ـ بداية السجود عليها :

كان هذا الطور محدوداً لا يتجاوز البيت العلوي إلا لبعض الخلّص من الأصحاب ، كما هو المستفاد من كلمات المجتهد الأكبر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( قده ) حيث قال : « أما أول من صلى عليها من المسلمين بل من أئمة المسلمين ـ فالذي إستفدته من الآثار ، وتلقيته من جملة أخبار أهل البيت ، ومهرة الحديث من أساتيذي الأساطين الذين تخرجت عليهم برهة من العمر ـ هو زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام ، بعد أن فرغ من دفن أبيه وأهل بيته وأنصاره ، أخذ قبضة من التربة التي وضع عليها الجسد الشريف ، الذي بضعته السيوف كلحم على وضم ؛ فشد تلك التربة في صرة وعمل منها سجاده ومسبحة ، وهي : السبحة التي كان يديرها بيده حين أدخلوه الشام على يزيد . ولما رجع الإمامعليه‌السلام هو وأهل بيته إلى المدينة ؛ صار يتبرك بتلك التربة ويسجد عليها ويعالج بعض مرضى عائلته بها ، فشاع هذا عند العلويين وأتباعهم ومن يقتدي بهم ، فأول من صلى على هذه التربة واستعملها ؛ هو زين العابدين ، الإمام الرابع من أئمة الشيعة الإثني عشر المعصومين »(١٢٨)

______________________

(١٢٨) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : الأرض والتربة الحسينية / ٣١

٨٥

الطور الثاني ـ إنتشار ذلك على مستوى الشيعة :

في الفترة الزمنية ما بين عام ( ٩٥ ـ ١١٤ هـ ) ، بداية إنتشار شعار العناية بالتربة الحسينية من السجود عليها والإستشفاء والتبرك بها ، حيث إعتنى بذلك الإمام الخامس محمد بن علي الملقب بـ( الباقر ) عليه‌السلام ، فبالغ في حث أصحابه على السجود على التربة الحسينية ، ونشر فضلها ثم زاد على ذلك ابنه الإمام جعفر بن محمد الملقب بـ( الصادق ) عليه‌السلام ، فإنه أكّد عليها لشيعته حيث تكاثرت في عهده وأصبحت من كبريات الطوائف الإسلامية ، والروايات خير شاهد على ذلك كما سيأتي :

١ ـ الحسن بن محمد الديلمي في( الإرشاد ) قال :( كان الصادق عليه‌السلام لا يسجد إلا على تربة الحسين عليه‌السلام تذللاً لله واستكانة إليه ) (١٢٩)

٢ ـ عن معاوية بن عمّار قال : كان لأبي عبد الله خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبداللهعليه‌السلام ، فكان إذا حضرت الصلاة ؛ صَبّه على سجادته وسجد عليه ثم قالعليه‌السلام :( إنّ السجود على تربة أبي عبدالله يخرق الحجب السبع ) (١٣٠)

توضيح « الحجب السبع » :

« الحَجْبَ والحِجَابُ المنع من الوصول وقوله تعالى :( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ) [ الأعراف / ٤٦ ] ؛ ليس يُعنى به ما يحجب البصر ، وإنما يعنى ما يمنع من وصول لَذّةِ أهل الجنة إلى أهل النار ، وأذيّة أهل النار إلى أهل الجنّة ، كقوله عَزّ وجَلّ :( فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) [ الحديد / ١٣ ]

______________________

(١٢٩) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٣ / ٦٠٨ ( باب ١٦ من أبواب ما يسجد عليه ، حديث ٤ )

(١٣٠) ـ نفس المصدر ( باب ـ ١٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه ، حديث ٣ )

٨٦

والحاجب : المانع عن السلطان ، والحاجبان في الرأس ؛ لكونها كالحاجبين للعين في الذب عنهما »(١٣١)

وبعد إيضاح معنى ( الحجاب ) من الناحية اللغوية ـ وهو معنى عام ينطبق على كثير من المصاديق ـ ينبغي إيضاح ما هو المراد بـ ( الحجب السبعة ) ؟

المستفاد من كلمات العلماء في توضيح معنى ( الحجب السبعة ) أنّها ترجع إلى المعاني التالية :

الأول ـ السماوات السبع :

وقد أشار إلى هذا المعنى مجموعة من الأعلام نذكر منهم ما يلي :

١ ـ الميرزا أبي الفضل الطهراني ( ١٢٧٣ هـ ـ ١٣١٦ هـ ) :

« المراد من الحجب السبعة في حديث معاوية بن عَمّار السماوات السبع ، والمقصود عروج الصلاة إلى الملأ الأعلى وبلوغ القرب الحقيقي »(١٣٢)

٢ ـ الشيخ جعفر التستري ( ١٢٢٧ هـ ـ ١٣٠٣ هـ ) :

« إنّ السجود على ترابها يخرق الحجب السبعة ، ومعنى هذا الحديث ، خرق السماوات للصعود »(١٣٣)

٣ ـ الشيخ حسين الوحيد الخراساني ( دام ظله ) :

« وأما فقه الحديث فلا مجال للإشارة إليه ، فإنّ السجود أعظم عبادة أمر الله سبحانه نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به للإقتراب إليه :( كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ) [ العلق / ١٩ ] والإمام المعصوم يتوسل في سجوده الذي هو نهاية تقرّبه بتراب الحسينعليه‌السلام ،

______________________

(١٣١) ـ الراغب الإصفهاني ، الحسين بن محمد : المفردات في غريب القرآن ، ج ١ / ١٤١ ـ ١٤٢

(١٣٢) ـ الطهراني ، الميرزا أبي الفضل : شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور ، ج ١ / ٤١٩

(١٣٣) ـ التستري ، الشيخ جعفر : الخصايص الحسينية / ١٣٠

٨٧

لأن يخرق الحجب السبع فماذا يمكن أن يقال في شأن دم صار ذلك التراب بإضافته إليه خارقاً للحجاب بين العبد وربه ، موصلاً لعباد الله إلى منتهى كرامة الله وفي الصحيح عن أبي الحسنعليه‌السلام : ( إنّ النبي لما أسري به إلى السماء ؛ قطع سبع حجب ، فكبّر عند كل حجاب تكبيرة ، فأوصله الله عَزّ وجَلّ بذلك إلى منتهى الكرامة ) ومما لابدّ من التأمل فيه أنّ إفتتاح الصلاة بسبع تكبيرات ـ تقوم مقام التكبيرات السبع التي كبّرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرفعت له بها الحجب السبعة ليلة الإسراء ـ قد صار سنّة بلسان الحسينعليه‌السلام ، ففي الصحيح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال : ( إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في الصلاة وإلى جانبه الحسين بن علي ، فكبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يحِر الحسين التكبير ، ثم كبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يحِر الحسين التكبير ، فلم يزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكبّر ويعالج الحسين التكبير فلم يحِر ، حتى أكمل سبع تكبيرات ، فأحار الحسينعليه‌السلام التكبير في السابعة قال أبو عبداللهعليه‌السلام : فصارت سنّة )

فقطع الحجاب بين العباد وربَّ الأرباب في أوّل العروج إلى الله ؛ وهو أول الركعة بلسان الحسينعليه‌السلام وخرق الحجاب في آخر الركعة ؛ وهو السجود بتربة الحسينعليه‌السلام »(١٣٤)

الثاني ـ الذنوب والمعاصي :

وإلى هذا المعنى أشار بعض الأعلام نذكر منهم ما يلي :

١ ـ الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( ١٣٩٤ هـ ـ ١٣٧٣ هـ ) :

« ولعلّ المراد بالحجب هي الحاءات السبع من الرذائل ، التي تحجب النفس عن الإستضاءة بأنوار الحق ، وهي : الحقد ، الحسد ، الحرص ، الحدّة ،

______________________

(١٣٤) ـ الخراساني ، الشيخ حسين الوحيد : مقدمة في أصول الدين / ٣٦١ ـ ٣٦٢

٨٨

الحماقة ، الحلية ، الحقارة فالسجود على التربة من عظيم التواضع ، والتوسّل بأصفياء الحقّ يمزّقها ويخرقها ويبدلها بالحاءات السبع من الفضائل ، وهي : الحكمة ، الحزم ، الحلم ، الحنان ، الحضانة ، الحياء ، الحبّ »(١٣٥)

٢ ـ الميرزا أبي الفضل الطهراني ( قده ) :

« المعاصي السبع المانعة من قبول الأعمال وحجابها ، وتلك هي المعاصي التي رأى جماعة إنحصار الكبائر بها ـ كما ذكر ذلك في الكتب الفقهية ـ :

أ ـ الشرك ،

ب ـ قتل النفس ،

ج ـ قذف المحصنة ،

د ـ أكل مال اليتيم ،

هـ ـ الزنا ،

و ـ الفرار من الزحف ،

ز ـ عقوق الوالدين

ومعنى الخرق لهذه الحجب ، أنه إن كان مقروناً بالتوبة الصادقة والعزم الثابت ، فإن الله تعالى يعفو عن الذنوب السالفة ، يمحوها ببركة هذه التربة المقدسة »(١٣٦)

٣ ـ الشيخ جعفر التستري ( قده ) :

« المراد بالحجب ؛ المعاصي السبع التي تمنع قبول الأعمال ، على ما في رواية معاذ بن جبل ، وأنّ السجود عليها يُنوِّر الأرضين السبع »(١٣٧)

الثالث ـ إستنتاج المؤلف :

بعد عرض ما ذكره العلماء الأعلام في توضيح معنى ( الحجب السبع ) ، يمكن القول بترجيح القول الأول وهو ( السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ ) ؛ وذلك بعد بيان ما يلي :

______________________

(١٣٥) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : الأرض والتربة الحسينية / ٣٢

(١٣٦) ـ الطهراني ، الميرزا أبي الفضل : شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور ، ج ١ / ٤١٩

(١٣٧) ـ التستري ، الشيخ جعفر : الخصائص الحسينية / ١٣٠ ـ ١٣١

٨٩

أولاً ـ السجود :

لابد من ملاحظة السجود باعتباره أعظم مراتب الخضوع والخشوع لله عَزّ وجَلّ ، بل الإيمان الخالص له سبحانه في العبادة في أعظم وأقرب مصاديقها ، ويتضح ذلك بعد عرض الروايات التالية :

١ ـ عبد الواحد الآمدي في الغرر : عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال :( السجود الجسماني : وضع عتائق الوجوه على التراب ، وإستقبال الأرض بالراحتين والركبتين ، وأطراف القدمين ، مع خشوع القلب وإخلاص النية )

السجود النفساني : فراغ القلب من الفانيات ، والإقبال بكنه الهمة على الباقيات ، وخلع الكبر والحمية ، وقطع العلائق الدنيوية ، والتحلي بالأخلاق النبوية )(١٣٨)

٢ ـ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إن الأرض التي يسجد عليها المؤمن يضئ نورها إلى السماء ) (١٣٩)

٣ ـ قال الصادقعليه‌السلام :( السجود على تربة قبر الحسين عليه‌السلام يُنوّر الأرضين السبع ، ومن كان معه سبحه من طين قبر الحسين عليه‌السلام ؛ كان مسبّحاً وإن لم يُسبّح بها ) (١٤٠)

ثانياً ـ معنى ( الخَرْق ) :

لو تصفحنا الكتب اللغوية ؛ لتوصلنا إلى عدة معانٍ متقاربة أهمها ما يلي :

______________________

(١٣٨) ـ الطبرسي ، ميرزا حسين النوري ، مستدرك الوسائل ، ج ٤ / ٤٨٦ ( باب ٢٣ ، من أبواب السجود )

(١٣٩) ـ نفس المصدر / ٤٨٥

(١٤٠) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن حسن : وسائل الشيعة ، ج ٣ / ٦٠٨ ( باب ـ ١٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه ، حديث ١ )

٩٠
١ ـ الفُرْجَة والشَقّ والقطع :

« الخَرْقُ : الفُرْجَة ، وجمعه خُروق الخرق الشّق في الحائط والثوب ونحوه »(١٤١)

وقال الراغب الإصفهاني : « وبإعتبار القطع قيل : خَرَقَ الثوب وخَرّقه ، وخَرَقَ المَفاوِز واخترق الريح وخُصّ الخَرقْ والخَرِيق بالمفاوز الواسعة ؛ إمّا لإختراق الريح فيها ، وإمّا لتخرُّقها في الفَلَاة ، وخُصّ الخَرْق بمن ينخرق في السحاب وقوله تعالى :( إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ ) [ الإسراء / ٣٧ ] فيه قولان : أحدهما ـ لن ينقطع ، والآخر لن تثقب الأرض إلى الجانب الآخر ، إعتباراً بالخرق في الأذن »(١٤٢)

٢ ـ البلوغ :

قال الشيخ الطريحي (ره) : « قوله تعالى :( إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ ) ؛ أي تبلغ آخرها »(١٤٣)

ثالثاً ـ أهمية السماء :

وقد أشار إلى هذه الأهمية أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله : ( فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطّدات بلا عمد ، قائمات بلا سند ، دعا هن فأجبن طائعات مذعنات غير متلكّئات ولا مبطئات ، ولولا إقرارهنّ بالربوبية ، وإذعانهن ______________________

(١٤١) ـ الطبرسي ، ميرزا حسين النوري : مستدرك الوسائل ، ج ٤ / ٤٨٦ ( باب ٢٣ ـ من أبواب السجود ـ حديث ٩ )

(١٤٢) ـ الراغب الإصفهاني ، الحسين بن محمد : المفردات في غريب القرآن ، ج ١ / ١٤٩

(١٤٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ١٥٣

٩١

بالطواعية ؛ لما جعلهن موضعاً لعرشه ، ولا مسكناً لملائكتة ، ولا مصعداً للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه )(١٤٤)

وبعد عرض هذا المقطع من خطبة أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ ينبغي الإشارة إلى الآيات التالية :

الأولى ـ قوله تعالى :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) [ المؤمنون / ١٧ ] المراد بـ( سَبْعَ طَرَائِقَ ) السماوات السبع ، وَعبّرت عنها الآية بـ( طَرَائِقَ ) ؛ لأنها طرائق الملائكة في العروج والهبوط والطيران ، وما يترتب على ذلك من نزول الوحي على الأنبياء ، ورفع الأعمال البشرية

الثانية ـ قوله تعالى :( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) [ الذاريات / ٢٢ ]

قيل المراد أنها أسباب رزقكم أو تقديره( وَمَا تُوعَدُونَ ) من الثواب ؛ لأنّ الجنة فوق السماء السابعة ، أو لأنّ الأعمال وثوابها مكتوبة مُقَدّرة في السماء

الثالثة ـ قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ )
[ الأعراف / ٤٠ ] ؛ أي لا تفتح لهم أبواب السماء لأدعيتهم وأعمالهم ، أو لأرواحهم ، كما تفتح لأعمال المؤمنين وأرواحهم ، ويُؤيِّد هذا المعنى ما روي عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام أنّه قال : ( أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء ، فتُفتّح لهم أبوابها ، وأما الكافر فيُصْعَدُ بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادي منادٍ : إهبطوا به إلى ______________________

(١٤٤) ـ ابن أبي الحديد ، عبدالحميد : شرح نهج البلاغة ، ج ١٠ / ٨١ ـ ٨٢

٩٢

سِجِّين ؛ وهو وادٍ بحضرموت يقال له : بَرَهُوت )(١٤٥) وبعد إيضاح ما تقدم ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ إنّ السجود أعظم أركان الصلاة ؛ حيث يتحقق فيه غاية الخضوع والخشوع والقرب إلى الله عَزّ وجَلّ في هذه العبادة وإذا كان على تربة سيد الشهداء الحسينعليه‌السلام والصفوة من أهل بيته وصحبه الكرام ، فيناسب للساجد وهو في هذه الحالة العبادية ، أن يتذكر بوضع جبهته على تلك التربة الطاهرة تضحية تلك الصفوة النبوية والمؤمنة في سبيل المبدأ والعقيدة الذين صعدت دماؤهم وأرواحهم إلى أعلى عليين ، فيكون حينئذ في السجود سرّ الصعود والعروج من التراب إلى رب الأرباب ، فيتحقق ( خرق الحجب السبعة ) ؛ وهي السماوات السبع

ثانياً ـ أما ما ذهب إليه بعض الأعلام من تفسير ( الحجب السبعة ) بالذنوب والمعاصي ؛ فيمكن مناقشته كالتالي :

أ ـ ما ذهب إليه الشيخ كاشف الغطاء ، من أنّ المراد بها الحاءات السبع من الرذائل ؛ فهذا إستنتاج عقلي محض يحتاج إلى مؤيد من الروايات وغيرها

ب ـ وأما ما ذكره الميرزا أبي الفضل الطهراني ، والشيخ التستري من إنحصار الكبائر بالسبع ؛ فهذا غير واضح من الروايات ؛ لذا إختلف الفقهاء في حصر الكبائر في عدد مُعَيّن ، فبقي لدينا القول بكونها هي السماوات السبع ، وقد أوضحنا ذلك في بيان أهمية السماء

______________________

(١٤٥) ـ البحراني ، السيد هاشم الموسوي : البرهان في تفسير القرآن ، ج ٣ / ١٦٢

٩٣

الطور الثالث ـ عملها ألواحاً :

وبعد عصر الصادق عليه السلام ، سار على نهجه الأئمة من ولده في تحريك العواطف ، وتحفيز الهمم ، وتوفر الدواعي إلى السجود على تربة الحسينعليه‌السلام ، وبيان تضاعف الأجر والثواب في التبرك بها والمواظبة عليها ، حتى إنتشر ذلك بين الشيعة في بلادهم مع عظيم الإهتمام بها ، فلم يمضِ على زمن الصادقعليه‌السلام قرن من الزمن ؛ حتى صارت الشيعة تصنعها ألواحاً وتضعها في جيوبها كما هو المتعارف اليوم

فيظهر أن صنع التربة ألواحاً ـ كما هو المتعارف اليوم ـ كان في وسط القرن الثالث الهجري ؛ أي حدود المائتين وخمسين هجرية ، أي في الغيبة الصغرى ، كما هو المستفاد من الخبر التالي :

عن محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري : عن صاحب الزمانعليه‌السلام : ( أنه كتب إليه يسأله عن السجدة على لوح من طين القبر ، هل فيه فضل ؟ فأجاب يجوز ذلك وفيه الفضل )(١٤٦)

وخلاصة الدليل ؛ أي الإقتداء بأهل البيتعليهم‌السلام في السجود على تربة الحسينعليه‌السلام ، أن المستفاد من الروايات المتقدمة ، من سجود الإمام زين العابدينعليه‌السلام ومن جاء بعده من الأئمة ، خير شاهد ودليل على إلتزام الشيعة الإمامية بذلك ، وهل في ذلك إشكال ؟ بعد أن أوصانا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسك والإقتداء بهم كما في حديث الثقلين المشهور بين المسلمين ، عن زيد بن أرقم : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي

______________________

(١٤٦) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن حسن : وسائل الشيعة ، ج ٣ / ٦٠٨ ( باب ١٦ من أبواب ما يسجد عليه ، حديث ٩ )

٩٤

أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود بين السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) (١٤٧)

ويقول الشيخ ابن تيمية :« وإذا كانوا خير الخلائق ؛ فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال » (١٤٨) وهذا إعتراف منه صريح بصحة عمل من إتبع أهل البيتعليهم‌السلام في أقوالهم وأفعالهم ، لا يشك في ذلك أحد من المسلمين ، وإلى هذا يشير بعض العلويين بقوله :

قل لمن حجنا بقول سوانا

حيث فيه لم يأتنا بدليل

نحن نروي إذا روينا حديثاً

بعد آيات محكم التنزيل

عن أبينا عن جدنا ذي المعالي

سيد المرسلين عن جبرئيل

وكذا جبرئيل يروي عن الله

بلا شبهة ولا تأويل(١٤٩)

______________________

(١٤٧) ـ الترمذي ، محمد بن عيسى : سنن الترمذي ، ج ٢ / ٣٠٨

(١٤٨) ـ ابن تيمية ، أحمد عبد الحليم : رأس الحسين / ١٧٠٤ « مطبوع مع استشهاد الحسين ـ للحافظ ابن كثير ـ تقديم الدكتور محمد جميل غازي ـ القاهرة ـ مطبعة المدني

(١٤٩) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن حسن : الجواهر السنية في الأحاديث القدسية / ١٧٧

٩٥
٩٦

٩٧
٩٨

الفصل الأول ـ مقدمة في تاريخ السبحة :

السُّبحة ؛ المسبحة Rosary : خرزات أو قطع من الزجاج أو العاج أو الأحجار الكريمة أو شبه الكريمة منظومة في سلك وهي عريقة في القدم عرفها الإنسان منذ العصور القبتاريخية واتخذها تميمة أو تعويذة حِيَناً ، وضَرْبَاً من ضروب الزينة حِينَاً آخر حتى إذا كان القرن الثالث للميلاد إتخذها رهبان الكنيسة المسيحية الشرقية للصلاة والتسبيح وسرعان ما شاعت في أوساط الكنيسة الغربية أيضاً أما المسلمون فقد عرفوا السبحة أول ما عرفوها من طريق الصوفية ، وهي تعتبر بدعة لا أصل لها في الدين وأكثر السُّبحات شيوعاً تلك التي يبلغ عدد حباتها تسعاً وتسعين أو ثلاثاً وثلاثين وكثير من الناس يحملون السُّبوحات اليوم على سبيل التسلية ليس غير(١٥٠)

مناقشة هذا النص التأريخي :

بعد ذكر النص المتقدم نخرج بالملاحظتين الآتيتين :

الأولى ـ أنّ المسلمين عرفوا السبحة عن طريق الصوفية ؟

ويمكن الاجابة عن ذلك بمايلي :

أنها دعوى تحتاج إلى دليل ، والدليل الواضح لدينا أنّ الزهراءعليها‌السلام هي من أوائل الذين إتخذوا السبحة للتسبيح بها في الصلاة وغيرها من الأوقات ، وكانت سبحتها الأولى من خيط صوف مفتل معقود عليه عدد التكبيرات ، والثانية بعد مقتل حمزة ( رضي ) حيث إتخذت من تربته مسبحةً ، وسار على ذلك المسلمون في حدود السنة الثالثة للهجرة ، وسوف نذكر الروايات النَّاصّة على ذلك

______________________

(١٥٠) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٦٠٧

٩٩

الثانية ـ أنها بدعة لا أساس لها في الدين ؟

ويمكن الإجابة عن ذلك بمايلي :

إنّ دعواه بأنها بدعة لا أساس لها في الدين ، هذه دعوى تحتاج إلى دليل وهو مفقود ، حيث ذكرنا في الجواب عن الملاحظة الأولى ؛ أنّ لها إرتباطاً في الدين وليس بدعة ؛ إذ أنّ الزهراءعليها‌السلام لا تفعل البدع ، ولو كان بدعة ؛ لنهى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك وأيضاً المصادر اللغوية نَصّت على أنها تستخدم في الصلاة ولم تنص على أنها بدعة ؛ إذ أنّ بعض المصادر منها تختص بالقرآن والسنة كما ستعرف ، وإليك هذه المصادر :

١ ـ كتاب العين ، ج ٣ / ١٥٢ ، للخليل بن أحمد الفراهيدي :

« السُّبحة : خرزات يُسبَّح بعددها »

٢ ـ المفردات في غريب القرآن / ٢٢٣ ، للراغب الإصفهاني :

« السُّبحة : التسبيح ، وقد يقال للخرزات التي يُسبّح بها سُبحة »

٣ ـ أساس البلاغة / ٢٠ ، لجار الله الزمخشري :

« السُّبحة : أي النافلة ، وفي يده السُّبح يُسبح بها »

٤ ـ لسان العرب ، ج ٢ / ٤٧٣ ، لإبن منظور :

« السُّبحة : الخرزات المسبح بها تسبيحة ، وهي كلمة مُولّدَة »

٥ ـ المصباح المنير ، ج ١ / ٢٦٢ ، للفيومي :

« السُّبحة : خرزات منظومة ، قال الفارابي وتبعه الجوهري : والسُّبحة التي يسبح بها ، وهو يقتضي كونها عربية وقال الأزهري : كلمة مولّدة وجمعها سُبح »

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ايها السادة المحترمون !

مثل هذهِ الامور كثيرة جداً في التاريخ القضائي لبلادنا. وان ذكرها بأجمعها يحتاج الىٰ سنوات من الوقت.

والحقيقة هي ان القيود التي وضعها العالم المتحضر علىٰ القوانيين القضائية سلبتها السرعة اللازمة وجعلها كما هي الآن مضحكة ، مما ادىٰ الىٰ يأس الفئات المستضعفة من احقاق حقها بواسطة الاجهزة القضائية ، للحدّ الذي يرضىٰ اكثر المظلومين المستضعفين بغض النظر عن حقوقهم المسلّمة والقانونية على أن يرجعوا الىٰ المحاكم.

لكن الاسلام العظيم لا يرضىٰ ان يكون هناك عمل مهما كان صغيراً بعنوان طي مراحل قانونية او عناوين اُخرىٰ في دائرته القضائية ، ومع ان المحكمة الاسلامية ليس فيها الّا عضوان هما القاضي والكاتب ( الذي يحرر الحكم ) ، الّا انه في الغالب يفضّ النزاع في اول جلسة قضائية ، ويأخذ كل واحد حقه.

المحكمة القضائية الاسلامية برأي غوستاف لوبون

يقول الدكتور غوستاف لوبون حول القضاء في الاسلام :

« القضاء الاسلامي وترتيب المحاكمات وجيز وبسيط ، فهناك شخص منصب من قبل الحاكم لأمر القضاء ، يتابع جميع القضايا شخصياً ويحكم فيها ،

١٨١

وحكمه هذا قطعي ، ففي المحكمة الاسلامية ، يدعىٰ طرفي النزاع الىٰ الحضور شخصياً الىٰ المحكمة ويقومان بشرح القضية ويقدم كل طرف منهم دليله ، ثم يصدر القاضي حكمه في ذلك المجلس.

لقد حضرت مرّة في احدىٰ هذهِ المحاكم في المغرب ورأيت كيف يقوم القاضي بعمله ، كان القاضي يجلس علىٰ كرسيه في بناية متصلة بدار الحكومة ، كما ان كلّ واحد من المتداعيين أيضاً يجلس في مكانه ومعه شهوده ، وكانوا يتحدثون بألفاظ مختصرة وكلام بسيط ، فإذا كان احدهم يحكم عليه بعدّة سياط ، كان الحكم ينفذ فيه في ختام الجلسة ، واكبر فوائد هذا النوع من القضاء هو عدم ضياع وقت المتداعيين ، وعدم وجود خسائر مالية للمتداعيين بسبب المراجعات الادارية التي نراها اليوم ، ومع البساطة والايجاز الذي ذكرته فأن الاحكام الصادرة كانت عادلة ومنصفة ».

ليس في الاسلام استئناف ولا تميز

الدكتور : الشروط التي ذكرتها والالتفاتات العلمية الموجودة في القضاء الاسلامي ليس لها مثيل في قوانين القضاء الوضعية في جميع العالم ، حسب معلوماتي الشخصية ، ورغم الضجيج الاعلامي الذي تقوم به اوروبا دعاية لمؤساستها القضائية ، فليست هناك مؤسسة متطورة كما هو الحال في المؤسسات القضائية الاسلامية. لكن هناك امر في قوانين القضاء الوضعية المعاصرة لا نجدها في القوانين القضائية الاسلامية ، وتلك مرحلة الاستئناف والتميز ، اي ان القوانين القضائية المعاصرة تكون علىٰ مرحلتين ، فلو اخطأ

١٨٢

القضاة في المرحلة الاولىٰ او ارتكبوا خيانة ، تذهب القضية مباشرة الىٰ محكمة الاستئناف ومن ثم الىٰ التميز وهناك تدرس وتتابع من جديد ، في حين ان الاسلام فاقد لهذهِ الميزة القضائية ( الاستئناف والتميز ).

الشيخ : ان وجود مرحلتان قضائيتان في عالم اليوم وعدم وجود ذلك في القانون القضائي الاسلامي هو دليل هام علىٰ استحكام مباني القوانين القضائية الاسلامية ، وهشاشتها في القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ، ولان الاسلام يأخذ الحدّ الاقصىٰ من الاحتياط والدقة في المرحلة الاولىٰ وضمن الشروط الواجب توفرها في القاضي. لان تلك الشروط التي ذكرناها مسبقاً تجعل من الصعب ان يخطيء القاضي او يخون وبذلك تنتفي الحاجة الىٰ مرحلة الاستئناف والتميز.

أمّا دنيا اليوم ترىٰ ان شرط القضاء الوحيد هو الشهادة الدراسية ، دون الاخذ بالجوانب الاُخرىٰ والتي تجعل من اي شخص قاضياً لمجرد انه خريج فرع القانون ، لابد وان لا تطمئن لقضاءهم وان تجعل احتمال الخطأ والخيانة مساوياً لاحتمال الصحة في الحكم !

سعادة الدكتور ! حتىٰ لو فرضنا ان جميع القضاة عدول واتقياء ، فان الاسلوب القضائي المتبع اليوم لا يبعث علىٰ الاطمئنان ، لان الاضبارة التي يجب ان يدرسها القضاة نظمت في محلّ آخر ، ومن اين للقضاة ان يطمئنوا اليها وانها لم تطلها يد التحريف والتزوير ، وهل تستطيع تلك الاضبارة أن تعكس واقع الناس المساكين والمظلومين ؟! وهل الاحكام التي تصدر من مثل هذه الاضبارات صحيحة ويمكن الاطمئنان إليها ؟

١٨٣

سعادة الدكتور ! يحاول عالمنا المعاصر حلّ مشاكله القضائية مثل احتمال الخيانة او الخطأ ( وهو احتمال قوي جداً وفي محله ) عن طريق محكمة الاستئناف والتميز ، في حين ان هذا الامر خطأ تماماً وتصور مغلوط ، لان القضاة الكبار في محكمة الاستئناف والتميز ليسوا ملائكة ، بل من اولئك المتعلمين الذين يعتبر شرط استخدامهم الوحيد هو شهادتهم الدراسية ، اي ان قضاة الاستيناف والتميز ايضا من نفس شاكلة القضاة العاديين ، فكيف لا يطمئن الىٰ حكم المحاكم العادية ويطمئن الىٰ حكم محكمة الاستئناف والتميز ؟! فهل ان قضاة المحاكم العادية غير عدول وغير متقين ، لكن قضاة محاكم الاستيناف والتميز عدول ومتقون ؟!

أليسوا جميعاً من صنف وهيئة واحدة ، والشرط الوحيد لعملهم هو الورقة التي في ايديهم ( الشهادة الدراسية ) ؟!

أمّا الاسلام وعلىٰ الرغم من عدم وجود محكمة استئناف وتميز في تشكيلاته القضائية ، يمكن الاطمئنان الىٰ قضائه سبب الشروط التي يضعها للقضاء ، وللحد الذي يعترف بصراحة الدكتور غوستاف لوبون :

« علىٰ الرغم من بساطة عملية القضاء الاسلامي والايجاز الذي فيها ، إلّا ان جميع الاحكام الصادرة عادلة ومنصفة. على العكس من القضاء في دول اوروبا وامريكا رغم تشكيلاته العريضة والطويلة والمعقدة ».

سعادة الدكتور ! لقد اراد العالم الاوروبي والامريكي من خلال محاكم الاستئناف والتميز ، الدقّة والحيطة التي اتبعها الاسلام قبل تعيين القاضي من

١٨٤

حيث شروط القضاة والشهُود ، ولقد اثبتنا ان اجراءات الاسلام لها دور مهم وبارز في القضاء لا يمكن لمحاكم الاستئناف والتميز القيام به ، ويجب ان نعترف بأن محكمة الاستئناف والتميز ايضاً تتبع نفس الاجراءات الروتينية التي تتبعها المحاكم العادية ، وليس لها تأثير سوىٰ في المبالغ الطائلة التي تصرف سنوياً من اموال هذا الشعب المسكين !

جواب سؤال

الطالب الجامعي ، حسن : أيّها العمّ العزيز كيف لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز ، مع ان الاسلام يرىٰ احتمال نقض حكم القاضي الأوّل من قبل قاض ثان ، او ان المحكوم يطلب اعادة محاكمته عند قاضٍ آخر ؟

الشيخ : الموارد التي يمكن فيها نقض حكم القاضي ، ان المحكوم يمكنه طلب اعادة المحاكمة عند قاص آخر ، لا تشبه ما عليه في محاكم الاستئناف والتميز في عالم اليوم. لانه هناك ثلاثة مراحل قضائية في مؤسسات القضاء المعاصرة ، هي : المرحلة الاولية والاستئنافية والتميزية ، فمرحلة الاستئناف فوق مستوى المرحلة الاولىٰ والتميز فوق مرحلة الاستئناف ، من شروط عقد محكمة الاستئناف هو ان لا يمضىٰ اكثر من عشرة ايام علىٰ تاريخ صدور الحكم من قبل المحكمة الاولىٰ ، كما ان محكمة التميز تنعقد بشروط خاصة ، كما لا يوجد في انعقاد محكمة التميز ، امتيازاً بين الدعاوىٰ الجزائية او الحقوقية.

١٨٥

وتنعقد محكمة الاستئناف في حال طب المحكوم ضده ، سواءً كان يحتمل الخطأ في الحكم الصادر بحقه او متيقن من خطأه ، فالقانون يقرّ انعقاد محكمة الاستئناف لمجرد طلب الشخص الذي صدر الحكم ضده ، وسواءً قطع قضاة محكمة الاستئناف بخطأ قضاة المحكمة الاوليّة اوقطعوا بعدهم خطأهم ، واحتملوا الخطأ أو الخيانة في حكمهم ، واذا ما انعقدت محكمة الاستئناف وبعد دراستهم لأضبارة طرفي النزاع ، استنبطوا حكماً مخالفاً لأستنباط المحكمة الاولىٰ ، عند ذاك يقومون بنقض حكم المحكمة الاولىٰ ويصدرون هم حكماً محله.

موارد نقض الحكم في قوانين الاسلام القضائية

في الاسلام لا يحق لقاضٍ نقص حكم قاض قبله الّا في ثلاث موارد ، هي :

1 ـ اذا لم يرَ القاضي الثاني صلاحية وجدارة في القاضي الأول لمقام القضاء.

2 ـ فيما لو كان حكم القاضي الأول مخالفاً للأدلة القاطعة والقواعد المسلّمة في القضاء الاسلامي ، مثل : مخالفة للاجماع المحقق والثابت والخبر المتواتر وامثالها.

أمّا إذا استنبط القاضي الاول حكماً علىٰ اساس القوانين القضائية الاسلامية ، لم يستنبطه القاضي الثاني منها ، بل فهم منها شيئاً آخراً ، ففي هذه الحالة لا يحق للقاضي الثاني نقض حكم القاضي الاول.

١٨٦

3 ـ عندما يثبت تقصير القاضي الاول في دراسته للقوانين والادلة القضائية ، ولم يدقق فيها بشكل جيد.

حول طلب اعادة المحاكمة في الاسلام

أمّا الموارد التي يمكن فيها للمحكوم ضده طلب اعادة المحاكمة ، هي الادعاء بقطع خطأ القاضي في حكمه ، او انه لم يكن يمتلك صلاحية علمية للقضاء ، او انه كان فاسقاً ، او ان الشهود لم يكونوا عدول وانهم فساق ومثل هذهِ الادعاءات.

كما انه لا تعاد المحاكمة لمجرد تلك الادعاءات ، بل على المحكوم في البداية اثبات دعواه ، فلو ادعىٰ المحكوم ان القاضي قد اخطأ ، عليه اولاً ان يثبت خطأ القاضي ومن ثم طلب اعادة المحاكمة.

أمّا اذا لم يثبت المحكوم خطأ القاضي او عدم صلاحيته او عنوان آخر مما ذكرناه ، فليس له طلب اعادة المحاكمة لمجرد احتماله الخطأ وحتىٰ لو طلب ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي ان يبحث ويدرس حكم القاضي الأول.

خصوصيات المسألتين في القضائين الاسلامي والوضعي

اصدقائي الاعزاء !

أتصوّر انه ومن خلال ما ذكرته اعلاه ، يتضح الفارق بين محكمة

١٨٧

الاستئناف والتميز عن الموارد التي يمكن فيها للقاضي المسلم نقض حكم قاض آخر او التي يحق للمحكوم فيها طلب اعادة محاكمته ، وثبت عدم تشابه ما يطرحه الاسلام عما موجود في الانظمة الوضعية ( محكمة الاستئناف والتميز ) ، وبشكل عام فأن الفوارق القضائية بين الاسلام والوضعية ، هي كالتالي :

1 ـ لا توجد في المؤسسة القضائية الاسلامية ثلاثة مراحل قضائية ، خلافاً للمؤسسة القضائية الوضعية المعاصرة التي لها ثلاث مراحل قضائية ، هي : المرحلة الاولية والاستئناف والتميز.

2 ـ من منظار القوانين القضائية الاسلامية ، اذا كان استنباط احد القضاة مخالفاً لأستنباط وحكم القاضي الاول ، فليس له اي حق في نقض ذلك الحكم الاولي ، في حين ان القوانين القضائية الوضعية المعاصرة ترىٰ ان استنباط قضاة محكمة الاستئناف إذا كان مخالفاً للحكم الاولي ، ينقضه ويصدر مباشرة حكم آخر في القضية.

3 ـ لا يقبل من المحكوم طلب اعادة المحاكمة ما دام لم يدعي خطأ القاضي الاول بشكل قطعي او عدم صلاحيته اوفسقه او الخ ، وحتىٰ لو طلب المتهم ذلك من قاض آخر ، فلا يحق لذلك القاضي اعادة المحاكمة او النظر في حكم القاضي الاول ، اما لو اتهم المحكوم القاضي الاول بما ذكرناه مسبقاً ، فلا تنعقد محكمة جديدة مباشرة أيضاً ، لانه عليه ان يثبت ما ادعاه اولاً ، في حين ان قوانين القضاء الوضعية تقرّ بتشكيل محكمة استئناف بمجرد طلب المحكوم لذلك ، كما ان لقضاة محكمة الاستئناف النظر في حكم المحكمة الاولىٰ ونقصه ،

١٨٨

وعلىٰ هذا لا يوجد في الاسلام محكمة استئناف وتميز بالمعنىٰ الوارد في القوانين الوضعية المعاصرة ، وان عدم وجود مرحلتي الاستئناف والتميز في القانون القضائي الاسلامي لهو خير دليل علىٰ استحكام مبنىٰ القضاء في الاسلام ، ونزلزله في القضاء الوضعي.

كانت تلك جوانب من خصوصيات قوانين القضاء الاسلامي مقارنة بالقضاء الوضعي المعاصر ، وهناك الكثير من نماذج تفوق القوانين الاسلامية علىٰ غيرها مما يعمل به في عصرنا الحاضر.

ملاحظة بعض قوانين الاسلام الجزائية

الدكتور : كما اشرتم ، ان قوانين الاسلام تتفوّق علىٰ قوانين العصر الوضعية في العديد من المجالات ، وهو امر لابد من الاعتراف به ، ولكن هناك بعض القوانين الجزائية في الاسلام ، ادت الىٰ الطعن في صميم الدين وتلك هي العقوبات الشديدة التي فرضت علىٰ بعض الذنوب في الاسلام ، مثل قطع يد السارق ، او السوط بالنسبة للزاني او شارب الخمر ، فالعالم الغربي يرىٰ ان هذهِ العقوبات اعمال وحشية ، يجب ان لا تنفذ علىٰ البشر.

الشيخ : ان معرفة حقيقة معينة تحتاج الىٰ معرفة سائر القضايا التي ترتبط بها بنحوٍ ما.

أمّا إذا أردنا دراسة موضوع ما دون الاخذ بالمواضيع الاخرىٰ المتصلة به ، فلن نصل الىٰ معرفة حقيقة وصحيحة فيما يتعلق به. ومن النماذج التامة لذلك هي القوانين الجزائية الاسلامية التي سألتم عنها. والاشكالات التي

١٨٩

يواجهها البعض مع القوانين والاحكام الجزائية في الاسلام ، مصدرها ذلك الخطأ ، وهو انهم ينظرون فقط الىٰ احكام الاسلام فيما يتعلق ببعض العقوبات ، دون الاخذ بنظر الاعتبار للقوانين التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتمع من الاثم والذنب ، والتي تعد القوانين الجزائية الشديدة ، آخر علاج لها.

أمّا الخطوات والأحكام التي يطرحها الاسلام في مجال تطهير المجتع وجعله فاضلاً ، فهي كالآتي :

أ ـ العوامل التربوية :

يستند الاسلام غالباً في صيانة المجتمع وابعاده عن العصيان والذنوب الىٰ العوامل التربوية التي يطرحها ، وهذهِ العوامل واسعة وشاملة بحيث لو أنّها طبقت بشكل جيد تضمن سلامة المجتمع ونظافته وتقيه من 90% من المعاصي.

والعوامل التربوية كثيرة في الاسلام ، لكن اهمها :

1 ـ الايمان بالله.

2 ـ الالتزام والمسؤولية.

3 ـ الالتفات الىٰ الآخرة والحساب والاجر والعقاب.

4 ـ دعوة الانسان الىٰ الفضيلة ومحاربة الخصال الذميمة.

5 ـ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٩٠

6 ـ الصلاة بمعاينها السامية ومفاهيمها التربوية الخاصة.

7 ـ الصوم.

وعشرات العوامل الاُخرىٰ التي لها أدوار أساسية في تربية الانسان بتمام معنى الكلمة.

ب ـ العلاج من الاساس :

المسألة الاخرىٰ التي التفت اليها الاسلام من اجل تطهير المجتمع من الذنوب والمعاصي ، هي معالجة الظواهر من الاساس ، ومهاجمة العوامل الاساسية التي تؤدي الىٰ الذنب والمعصية ، وهذهِ بحد ذاتها مرحلة مهمة يجب الالتفات اليها قبل دراسة القوانين الجزائية الاسلامية الشديدة.

فالاسلام عندما حرّم الزنا ـ علىٰ سبيل المثال ـ لم يتجاهل الغريزة الجنسية للانسان او يقمعها ، بل وضع لها طرق شرعية متعددة لو طبقت سدت حاجة الانسان الجنسية.

ولو كان الاسلام شديداً في تعامله مع السارق فلأنه طرح نظاماً اقتصادياً ليست فيه فوارق طبقية وتمايزات بين البشر ، وهو يدعو الىٰ توزيع الثروات الطبيعية والدخل علىٰ اساس العدل ، وعلىٰ ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، لن يكون هناك محتاجاً في المجتمع حتىٰ يقال : لماذا يقطع الاسلام يد السارق الجائع ، الذي ما سرق إلّا ليشبع بطنه ؟! لانه سيقال في جواب ذلك اولاً ، لن يكون هناك جائع على ضوء النظام الاقتصادي الاسلامي ، بل هو سيملك حق

١٩١

الاستفادة من جميع المصادر الطبيعية في العالم بقدر حاجته وعلىٰ اساس اصالة العمل. وثانياً متىٰ قال الاسلام بقطع يد السارق في النظام الذي يبيت فيه الاشخاص جياعاً ؟!

أجل ، ان علاج الحالات المرضية من الأساس هو الأصل الثاني المهم الذي وضعه الاسلام لتطهير المجتمع من الجريمة والمعصية ، وذلك من خلال قلع جذور الاسباب الرئيسية للجريمة.

ج ـ الاحام الجزائية في الاسلام :

وفي نهاية المطاف ، وكآخر حلّ يضع الاسلام مجموعة من العقوبات لردع الانسان العاصي والوقوف دون وقوع الجريمة ، والآن إذا أراد شخص ان ينظر الىٰ احكام العقوبات فقط وتجاهل الموردين الاوليين المهمين في الاسلام ، فأن هذا الشخص مخطئ تماماً ، لانه وكما شرحنا من قبل وضع الاسلام من جهة عوامل تربوية واسعة وشاملة تقوم ببناء شخصية الانسان من خلالها ، ويسيطر بها على الصفات الرذيلة ، لكي يرتدع الانسان من خلال امتناعه عن الذنب والمعصية.

ومن جهة اخرىٰ ، قام بقطع دابر العوامل المؤدية للذنب من الجذور ، ووضع حلولاً علمية مناسبة لجميع المشاكل وفي كل المجالات ، وفيما لو طبقت تضمن جميع متطلبات الانسان وحاجياته الطبيعية والمشروعة.

وصدقوني ان نسبة عالية من الناس لو اجتازوا هاتين المرحلتين سيكونون بكل تأكيد اشخاصاً متقين واصحاب فضائل.

١٩٢

أمّا لو بقي رغم ذلك كله شخصاً مصرّاً في اختيار الطرق الشيطانية والخصال الرديئة ، فهنا وكآخر وسيلة للعلاج ، يتعامل الاسلام معه بشدّة ويقف من خلال قوانينه واحكامه سدّاً مقابل هذه الاعمال التي تريد هدم كيان المجتمع.

وهنا لكم ان تحكموا ، أليس من غير الانصاف ان يأتي شخص ويحكم في قوانين الاسلام الجزائية ويدينها دون الاخذ بنظر الاعتبار للمسائل الاُخرىٰ المرتبطة بها ، اي تلكما المرحلتان التي ذكرتهما من قبل ؟!

الثقافة

من الضروري الالتفات الىٰ ان الاسلام يرىٰ ان العوامل التربوية والمرحلة الثانية التي هي علاج الحالات المرضية من الاساس لها دور مؤثر وقوي جداً في تطهير المجتمع وردع الاشخاص عن الذنب والعصيان ، كما ان القوانين الجزائية لو طبقت بشكل جيد يمكن ان تقف امام المعاصي وتحول دون انتشار الفساد.

أمّا الايديولوجيات الوضعية ـ وللأسف الشديد ـ لا هي تستخدم العوامل التربوية المؤثرة ولا هي تقدم حلولاً اصولية من اجل تأمين حاجات الانسان ومتطلباته المختلفة ، ولا تقدم للأسف ايضاً قوانين جزائية صارمة يمكنها مكافحة الجريمة والفساد بشكل واسع ومؤثر.

١٩٣

الذين قطعت ايديهم !!!

هنا قد يقال : لو ان السارقين تقطع اياديهم ، لفقد الكثير من الناس في المجتمع اياديهم ؟! وفي جواب ذلك ، نقول :

بل العكس فلو طبقت تلك القوانين ( خاصة مع الاخذ بالمرحلتين الاوليتين المذكورتين ) لن يكون في المجتمع مقطوعي ايدي ولا سارقين ، ومثال ذلك في عصرنا دولة السعودية ، فعلىٰ الرغم من عدم وجود عوامل تربوية صحيحة في ذلك المجتمع ونظام اقتصادي اسلامي عادل ، وعلىٰ الرغم من الفوارق العميقة الموجودة وترف ولهو وثروات الامراء والحواشي والمقربين من اموال النفط وعائداتة الطائلة ، فليس هناك سرقة ( طبعاً السرقة العادية وليست السرقات الكبيرة التي يقوم بها المسؤولون والامراء من اموال الشعب ) ولا ايدٍ مقطوعة ، لانه علىٰ الاقل تطبق الحكومة السعودية قانون قطع يد السارق ، وهذا ما يمكن التأكد منه بواسطة آلاف الحجيج الذين يذهبون سنوياً الىٰ هناك للحج ، فكم من يدٍ وجدوها مقطوعة ؟! وكم رؤوا من السرقات ؟! وحتىٰ لو شاهدوا السرقات فيه أقل بكثير مما يحدث في أي دولة اُخرىٰ.

فهذا نموذج عملي واحد عن دور القوانين الجزائية الاسلامية فيما يتعلق بالسرقة في عالمنا المعاصر ، علىٰ الرغم من ان السعودية دولة لا تطبق النظام الاقتصادية الاسلامي وليس هناك توزيع عادل للثروة ، كما انها من البلدان المتخلفة ثقافياً وحضارياً.

١٩٤

قاطعية الاسلام في مكافحة الفساد

لا يُنكر ان الاسلام واجه المذنبين والعصاة المفسدين بعقوبات شديدة ، لكن يجب ان لا ننسىٰ ان ذلك كله من أجل مصلحة المجتمع وبسبب خطورة المعصية اجتماعياً ، ولا يهدف الاسلام في قوانينه الجزائية إلّا المكافحة الحقيقية للمعصية.

والاسلام ليس كالعالم المعاصر وقوانينه ، الذي يسوّي المسألة مع العاصي أو المذنب ، وبهذا الشكل يتلاعب بسعادة المجتمع ومصلحته.

فالاسلام يرجح أن يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً من أجل ان يقطع دابر شرب الخمر من المجتمع ويخلصه من امراضه.

والاسلام يرجح ان يضرب شارب الخمر ثمانين سوطاً ولكن في المقابل يكون له ولجميع يجله رادعاً عن فعل ذلك للأبد.

والغريب ان عالمنا المعاصر وعلىٰ الرغم من اعترافاته بأضرار شرب الخمر ، فهو يقول ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وخطرة وانها تؤثر سلباً علىٰ المخ والدم والقلب والاعصاب والجلد والجهاز الهضمي و الخ ، لكنه لا يتعامل بجدية مع القضية ويتساهل مع شارب الخمر بشكل يعتبر عمله ترغيباً واشاعة للمعصية !

ولو كان العالم المعاصر يريد قلع جذور السرقة والاعتداء علىٰ اموال وممتلكات الناس ، فلماذا يتساهل مع السارق ويبدي معه تسامحاً ؟! ولو كان

١٩٥

العالم المعاصر يعتبر الاعتداء علىٰ اعراض الناس خيانة وجريمة فلماذا كل هذا التساهل مع من يفعلها ؟!

هنا لا بدّ أن نعترف وللأسف الشديد ، ان القوانين الوضعية الحالية لن تستطيع ان تلعب دوراً مهماً في قلع الفساد والمعاصي من الجذور في المجتمع فقط ، بل اجازت تلك الاعمال وأدت إلىٰ انتشارها من خلال التسامح والتساهل الذي تبديه مع مرتكبيها ، والنهج الذي تتبعه تلك القوانين الجزائية الوضعية في مكافحة الفساد والاثم ، يشبه عمل الدكتور الذي يكتفي ببعض الجرعات المسكنة مقابل مرض خطر ومسري ، علىٰ الرغم من امتلاكه جميع الوسائل والامكانيات لمكافحة المرض. وفي مثل هذه الحالة الا يقال ان هدف الدكتور هو ليس علاج الحالة المرضية بل الهاء المريض المسكين وتخديره !

أمّا الاسلام

لكن الاسلام ( وخلافاً لعالمنا المعاصر ) يسعىٰ بجدية لمكافحة جذرية للفساد والمعصية في المجتمع ، وهدف الاسلام من ذلك هو قلع الفساد والمعصية من الجذور ، علىٰ قدر المستطاع ، ولهذا نراه شديداً في وضعه للقوانين الجزائية وقوانين العقوبات وفي تنفيذها.

ولان الاسلام يريد مكافحة السرقة بشكل حقيقي ويضمن امن المجتمع من هذه الناحية ، لذلك يأمر بقطع يد السارق(1) .

________________

(1) طبعاً من الأخذ بالشروط التي وضعها الاسلام.

١٩٦

والاسلام يريد مكافحة الاعتداء علىٰ اعراض ونواميس الآخرين بشكل حقيقي ، لذلك أمر بجلد الزاني مئة سوط أمام أعين الناس ، لكي لا يعود الىٰ ذلك ويكون عبرة للآخرين وسدّاً امام اتساع دائرة المعصية في المجتمع.

والاسلام يرىٰ ان المشروبات الكحولية سموم مهلكة وانها تهدد أساس المجتمع وسلامته ، لذلك يأمر بضرب ذلك الشخص الذي يخاطر بسعادة نفسه وسلامتها وسعادة وسلامة جيلة ، ويشرب من هذا الشراب المهلك ، ثمانين سوطاً ، لكي يقف امام تكرار مثل هذا العمل في المجتمع.

ألا يمكن تطبيق هذه القوانين في عصرنا.

هنا يمكن القول ، علىٰ الرغم من تأثير القوانين الجزائية والعقوبات الشديدة التي وضعها الاسلام لمكافحة المعاصي والفساد من الجذور الا ان هذه القوانين غير قابلة للتطبيق في عصرنا الحاضر ، لانه يعتبرها اساليب وحشية !

فنقول : ليس لنا إلّا أن نتعجب لهذا القول ونأسف له.

أليس عجيباً ان الدنيا تصمت وتصم آذانها وهي تشاهد مئات عمليات القتل والاعتداء وقطع الاعضاء وعشرات الجرائم الاُخرىٰ ، والتي تقع بسبب السرقة او التطاول علىٰ أموال الآخرين ، ولكنها تعتبر قطع أربعة أصابع من يد خائن او معتدي وذلك أيضاً من أجل محو ظاهرة السرقة ، والوقوف أمام مئات الجرائم التي تأتي من هذه الاعتداءات والتجاوزات غير قابلة للتطبيق والاجراء ؟!

وكيف يستصعب عالم اليوم ثمانين سوطاً علىٰ جسد شارب الخمر

١٩٧

في حين انه لا يستصعب القتل والجرائم وسلب راحة المجتمع الذي ينتج عن تأثير الخمر في سلوكيات الاشخاص والمجتمع ، ويرىٰ ذلك صعب النتفيذ !

دنيا التناقضات

اليست دنيا الي نعيش فيها ، دنيا تناقضات وعصرنا عصر غريب ! فدنيانا من جهة رؤوفة وعطوفة للحد الذي لا ترضىٰ بقطع اربعة اصابع لمجرم ( من اجل الامن العام ومحو السرقة من المجتمع ) ، ومن جهة اخرىٰ ، هذه الدنيا الرؤوفة ، تستثمر وعلىٰ مدىٰ سنوات عديدة ملايين البشر الضعفاء وعشرات الشعوب الصغيرة والمحرومة ، وتعطي للاقوياء الحق في نهب ثروات المستضعفين. في حين ان اولئك المساكين يعيشون حفاة وجياعاً ويعانون من اسوء الظروف !

وكيف تبرر هذه الدنيا العطوفة التي لا ترضىٰ ان يضرب شارب الخمر أو الزاني ثمانين أو مائة سوط ، قتل مليون جزائري مسلم ليس لهم ذنب سوىٰ انهم يريدون الاستقلال والخلاص من الهيمنة الاستعمارية ؟!

وكيف قبلت هذه الدنيا بالقنبلتين الذريتين اللآتي دمرتا هيروشيما وناكازاكي في اليابان فقتل اكثر من سبعين الف شخص وتحولت الابنية والمصانع والمرافق العامة الىٰ انقاض خلال لحظات ؟ اليس من حق الانسان صاحب الضمير الحي ان يعجب امام تصرفات هذه الدنيا المتناقضة ؟!!

١٩٨

سرد موجز للجريمة في الدول المتقدمة

عالمنا الذي يرىٰ خطأ ان قوانين الاسلام الجزائية وحشية ، اراد ان يقف امام اعتدالات الانسان عن طريق وضع قوانين اقل صرامة وبعبارة اخرىٰ لينة ، وبذلك يقتلع جذور السرقة او اية جريمة اخرىٰ ، لكنه وللأسف لم يوفق في ذلك فقط ، بل اضطر الىٰ تشديد عقوباته وقوانينه الجزائية ويزيد من عدد سجونه يوماً بعد يوم.

وعلىٰ الرغم من ذلك كله ، ولسوء الحظ ، يزداد عدد السارقين والمجرمين في كل يوم للحد الذي اصبحت احصائيات الجريمة تقلق وتخيف مسؤولي اكبر الدول المتحضرة.

وهذه بعض تلك الاحصائيات المنشورة ، والتي سببها ترك قوانين الاسلام الجزائية وعدم العمل بها :

أ ـ تقرير وزير العدل :

في تقرير قدمه وزير العدل الايراني بتاريخ 2 / 1 / 1960 الىٰ البرلمان ( المجلس الوطني ) يقول :

« نحن نواجه هذه الحقيقة المرّة ، وهي التزايد المستمر لدعاوى الناس الحقوقية والجزائية ، ولابد من التفكير بحلّ لذلك ، وعلىٰ سبيل المثال : طبقاً للاحصائيات الموجودة عندي ، فان مجموع الاضبارات التي دخلت الىٰ جهاز

١٩٩

القضاء في الأشهر الستّة الاُولىٰ من سنة 1959 ، هو 362665 في حين ان المجموع للاشهر الستة الاولىٰ من هذا العام بلغ 444391 ، اي ان ما يقرب ثمانين الف اضبارة زادت عما كان عليه في العام الماضي ، وبالتأكيد فان العملية تصاعدية في السنوات السابقة أيضاً.

ونقلت الصحف آنذاك نصّ التقرير ، وهو نماذج صغير للجرائم الموجودة لبلد في طريقه الىٰ الرقيّ ، يرىٰ ان القوانين الجزائية الاسلامية وحشية ، ويريد ان يقف امام الجريمة بالقوانين التي تضعها عقول رجاله ورجال اوروبا المخمورين !!

ولا بدّ من كلمة لوزير العدل الذي يعجب للنتائج التي تعطيها قوانينهم الوضعية : ما ستراه في المستقبل اعظم بكثير ، فأنّك لا زلت في أول الطريق.

ب ـ سجن واشنطن :

طبقاً لاحد التقارير الذي نشرته صحيفة معروفة ، كانت في واشنطن سابقاً 3600 سجينة فقط ، اما هذه السنين فقد وصل عدد السجينات الىٰ ثمانية آلاف.

وفي مدينة فلادلفيا(1) يطلق سراح النساء اللواتي يصدر الحكم بسجنهن ، لان سجون النساء مكتضة ، وليس هناك مكان للسجينات الجُدد.

________________

(1) هذه الاحصائيات تعود لثمان سنوات قبل ، أمّا الآن فالله العالم.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232