تربة الحسين عليه السلام الجزء ١

تربة الحسين عليه السلام25%

تربة الحسين عليه السلام مؤلف:
الناشر: دار المحجّة البيضاء
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 232

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 232 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59719 / تحميل: 3715
الحجم الحجم الحجم
تربة الحسين عليه السلام

تربة الحسين عليه السلام الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار المحجّة البيضاء
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

المرتبطة بهذا الجزء »(1) .

ويقول الفيلسوف اليوناني اشين(2) :

« الآن قد بلغت الشيخوخة ، كنت اتصور انني تعلمت ما كان عليّ ان اتعلمه ، ولم يبق شيء مجهول بالنسبة لي ، لكني ارىٰ انني لا افهم شيئاً ، فأنا اعجز عن ادراك وفهم الذرّة ، لكنني عندما شابّاً ورغم ان معلوماتي كانت قليلة ، كنت اتصور انني اعلم كل شيء ».

ويقول العالم الانجليزي المعروف اسحاق نيوتن(3) :

« كأنني طفل صغير يقف علىٰ ساحل بحر ، يرىٰ احياناً حجراً أو رملاً براقاً ، لكنَّ امامه بحراً عظيماً من المعرفة مجهولاً ».

ويقول احد فلاسفة بريطانيا المعروفين وهو ليدج(4) :

« ان الذي نعلمه حالياً ضئيل جداً مقابل ما يجب علينا معرفته ، لربما يردد هذه الكلمات البعض دون الايمان بها ، لكني اقولها مؤمناً بها تام الايمان ، والذين يرون العلم في المعلومات الحالية فقط ، هم في الحقيقة خانوا اولئك الذين ناضلوا في سبيل المعرفة ».

________________

(1) تكامل علم الفيزياء ، ص 266.

(2) Echin

(3) Nivoton ، الدكتور اراني أيضاً قال بذلك ، لكنه أخذه من نيوتن.

(4) Ledeg

٢١

لا أعلم

يقول الدكتور الكسيس كارل(1) :

( لم تتطوّر العلوم التي تتحدث عن الكائن الحيّ بشكل عام وعن الانسان علىٰ نحو خاص كثيراً ، ولا زالت في مرحلة الوصف ).

ويضيف في بحث آخر :

( مع ان البشرية بذلت جهوداً كبيرة لنفسها ، ومع اننا اليوم نرث خزائن من دراسات العلماء والفلاسفة والعرفاء والشعراء ، لكن معلوماتنا لا تزال ضئيلة ووليدة الأساليب العلمية التي اخترعناها نحن انفسنا ، ولا زالت حقيقة وجودنا مجهولة بين الاشباح التي صنعتها ايدينا ، والحقيقة ان جهلنا بانفسنا كبير ولا زالت نواح كثيرة من عالمنا الداخلي غير معروفة بالنسبة لنا ، كما لازالت اكثر التساؤلات التي يطرحها الباحثون في حياة الانسان متروكة دون جواب ).

ثم يطرح الدكتور كارل بعد ذلك تساؤلات لم يستطيع العلم المعاصر الاجابة عليها رغم تقدمه ، يقول الدكتور كارل :

( لا نزال نجهل كيفية ارتباط الاعمال النفسية بالخلايا المخية ، بل ولا زلنا نجهل الفيزيولوجيا الحقيقية لخلايا المخِّ ، فما هي حدود سيطرة الارادة علىٰ الجسم ؟ لا نعلم.

كيف يؤثر وضع الاعضاء على حالتنا النفسية ؟ لا نعلم.

ما هي العلاقة بين نمو العظام والعضلات واجزاء الجسم الاُخرىٰ بالنشاط

________________

(1) الانسان ذلك المجهول.

٢٢

النفسي والروحي ؟ لا نعلم.

وما هو العامل الذي يضمن توازن الجهاز العصبي ومقاومة الجسم امام الامراض والارهاق ؟

وما حجم الاهمية النسبية للنشاطات الفكرية والاخلاقية والجمالية والعرفانية في حياتنا ؟ لا نعلم ).

في النهاية وبعد طرحه للعديد من التساؤلات ، يقول :

( هذه والعديد من التساؤلات الاُخرىٰ التي يمكن طرحها علىٰ اساس القضايا التي تهتم بها الانسانية ولكن دون الاجابة عليها ).

بعد ذلك أيضاً يتحدّث الدكتور كارل في بحث آخر عن الفكر وتأثيره والعوامل المكونة له والقضايا المرتبطة به ويطرح تساؤلات اخرىٰ ، ثم يقول :

( هناك فلاسفة كبار في كل عصر وفي كل بلد ، صرفوا سنوات عمرهم لحلِّ هذه القضايا ، لكن أيّاً منهم لم يوفّق في حلِّ هذا اللغز ).

فيلسوف آخر من المعاصرين يقول في مقدمة كتاب له ، وبعد طرح سلسلة من التساؤلات الفلسفية المتنوعة :

( المسائل التي ذكرتها هي الموضوع في الفلسفة القديمة والجديدة ، الشرقية والغربية ، لقد ضلت هذه الافكار في مخيلة البشر منذ ظهورهم ، ومن اجل فهم هذا السرِّ استخدموا جميع الطرق من العقل والفكر والشعور والتجربة الىٰ الوهم والخيال في اليقظة والمنام ، لقد تجاوز عدد فلاسفة كل عصر عشرات بل مئات الآلاف اما وزن الكتب التي ألفوها فهو بالاطنان ، وقد بقيت منهم

٢٣

كلمات كثيرة ومتنوعة لا يمكن احصاؤها ، لكنهم يتفقون في واحدة ، وهي خلاصة وحصيلة جهودهم ، تلك الجملة هي : « لا نستطيع ان نفهم »(1) ).

أصدقائي الاعزاء !

اذا اردت ان انقل لكم نماذج من اعترافات اشهر العلماء فيما يتعلق بالمجهولات البشرية ، سوف احتاج الىٰ اطنان من الورق !

خلاصة الكلام ، فيما لو سألتم اعظم بروفسور أو فيلسوف أو افضل عالم في الكيمياء أو الفيزياء : هل هناك ما يجهله الانسان ولم يُحط به علماً ؟

بالتأكيد سوف يجيبكم مستهزئاً : ما هذا السؤال الساذج ؟ هذا سؤال الأطفال.

أيُّها السادة !

لكم الآن ان تحكموا : هذا العالم المليء بالالغاز والتعقيد ، العالم الذي يعترف كبار علمائه بالمجاهيل التي لا زال البشر لا يستطيع الوصول إليها ، كما انه لا يعرف متىٰ ستحلَّ بالنسبة له ، أليس بعيداً عن العقل والمنطق ، ان ننفي قانون مسلَّم جاء به الاسلام ، ذلك الدين المقدّس الذي لا يخفىٰ دوره في حياة الانسانية العلمي ، لمجرد إنّ أحد العلماء لم يستطيع فهمه أو انه لم يرَهُ مطابقاً

________________

(1) فيلسوفي الشرق والغرب.

٢٤

لبعض القواعد العلمية الناقصة أو بعض النظريات العلمية المعاصرة ؟!

رفيق السفر : من باب الانصاف ، الحق ما تقوله ، لكن ذلك بالنسبة للذين

يمتلكون عقلاً سليماً ، وليس لمجموعات تتحرك عقولها الناقصة بصعوبة في ضجيج الحضارة المعاصرة.

تأييد الجميع : لا يحق لأي شخص التدخل في أي عمل.

الشيخ : لا شك ان بلدنا فيه الكثير من المتعلمين والفضلاء والمتخصصين في شتىٰ المجالات ، لكن الطامّة الكبرىٰ هي ان الشخص الذي يتخصّص في احد الفروع العلمية ، يتصوّر عقله معياراً لجميع حقائق العالم ، لذلك تراه يتدخل باستعجال خاص في كل موضوع ويسمح لنفسه بالحكم فيه ! فإذا تخصّص شخص في مجال الطب وحاز علىٰ شهادة دكتوراه في الطب بعد اتمامه فترة الدراسة ، فإن بعضهم يتصوّر انه سيكون بالاضافة الىٰ انه طبيب جيد ، مهندساً وتاجراً وقاضياً ومجتهداً وسياسياً ومزارعاً و الخ ، جيداً أيضاً ، لذلك فهو يحاول حل مشكلة كلّ تخصص بعقله هو ، وإذا ما لم يستطع عقله حل تلك المشكلة أو فهمها. سوف ينفيها ولن يقبل بها ، غافلاً عن ضرورة الرجوع في كل الىٰ المتخصص فيها ، وانه لا يحق لأي شخص التدخل في اي مسألة.

خطأ اديسون(1)

يقول الدكتور الكسيس كارل ضمن احد المواضيع :

________________

(1) Edison

٢٥

« المتخصّص في مجال معين لا يحق له التدخل في مجال آخر لا يمت اليه بصلة ».

وفي موضع آخر يقول :

« العلماء الذين يمتازون علىٰ غيرهم بواسطة كشفياتهم واختراعاتهم ، يتصورون انهم متبحرون في سائر المجالات كما هو الحال في مجال تخصصهم ، علىٰ سبيل المثال ، « اديسون » احياناً كان يتحدث للناس عن الفلسفة والدين ويطرح نظريات في ذلك ، فكان الناس يستمعون باحترام الىٰ آرائه لاعتقادهم بتبحره في هذين المجالين ايضاً ، لانه كاشف ومخترع كبير.

وبهذا الشكل نرىٰ ان بعض العظماء الذين مهدوا السبيل لرقي وتقدم البشرية من خلال اختراعاتهم وعلومهم ، يصبحون من جهة اخرىٰ سداً امام ذلك التقدم عندما يتكلمون في مجالات ليست من اختصاصهم وليسوا ملمين بها جيداً »(1) .

اصدقائي الاعزاء !

في ضوء ما قلته ، اليس من العجيب ان تنظروا الىٰ الدين الاسلامي المقدس والملتزمين به نظرة تشاؤمية بهذا الشكل ؟! في حين وعلىٰ حدّ قولكم انكم لم تطالعوا علىٰ مدىٰ حياتكم كتاباً في التعاليم الدينية وكذلك لم تلتقوا بعالم دين ولا اي مسلم واع يحملان معلومات وافرة عن الاسلام.

________________

(1) الانسان ذلك المجهول.

٢٦

ورغم ذلك ، تنفرون من الاسلام وتحقدون عليه للحد الذي اغضبكم وجودي معكم لفترة يوم واحد في هذا القطار لأن مظهري يوحي بأني متدين ، بشكل اخذتم بالاستهزاء بي ، وعدم احترام شيبتي ، وصرتم تتهامسون وتتغامزون فيما بينكم ؟! فمرّة تشيرون الىٰ قبعة الصوف التي اضعها علىٰ رأسي ، واُخرىٰ تتضاحكون علىٰ لحيتي.

أيُّها السادة :

انا وكما تقولون رجعي ، أمّا أنتم المتربّون في أحضان الحضارة الغربية ، لماذا كل تلك التصرفات القبيحة وغير الصحيحة ، علىٰ رجل لم تكونوا تعرفونه ولا رأيتموه من قبل ولم يصدر منه ذنب أو خيانة ؟!

هل هذه الحضارة التي ابتلينا بها والتي لا تستطيع ان تربي ابناءها إلّا بهذا الشكل ؟!

رفاق السفر : كان لكلام الشيخ تأثير قوي في نفوسهم ، اخذ بعضهم ينظروا الىٰ بعض ويوافقون الشيخ كلامه ، واعتذر كل واحد منهم مباشرة من الشيخ بكلمات ودّ واحترام خجولة عمّا بدر منهم من قبل ، ثم قالوا : من دواعي سعادتنا ان نلتقي شخصاً عالماً مثلك ، نأمل ان نسعد ونستفيد من وجودك خلال هذه السفرة القصيرة ـ للأسف

ودار حديث بين رفقة السفر : قال أحد الرفاق :

اصدقائي ! أتصوّر انّنا اليوم اُتيحت لنا فرصة مناسبة ، بوجود هذا الشيخ

٢٧

العالم الذي يجب علينا احترامه ، للبحث والكلام الاسلام وقوانينه ، لكي نطلع علىٰ منطق الدين والمؤمنين به.

باقي الاصدقاء : أنّنا سعيدون باقتراحك هذا ، ونستقبله بكل شوق ، لان ما تحدث به الشيخ يظهر فضل هذا الرجل وسعة اطلاعه بالاسلام وغزارة علمه.

الشيخ : من دواعي الاعتزاز ان تحيطوني بكل هذا اللطف والود ، ولكن قبل البدء بالبحث ، ومن أجل تطبيق حكم الاسلام الاخلاقي في التعامل مع الاشخاص ، لابدّ من ان نتعرّف علىٰ بعضنا ، لكي نبدأ هذا البحث والمناظرة بجو من الود.

التعارف

في البداية ، اعرف لكم نفسي ، اسمي تقي رستگار من مدينة همدان ، مهني.

احد الحاحزين : انا رضا سخنوّر ، أحمل شهادة الدكتوراء في القانون.

الثاني : احمد تاجور ، ضابط برتبة عقيد.

الثالث : حسن سماوي ، طالب في كلية الطب.

الرابع : علي امامي ، موظف في دائرة المخازن ( السايلو ).

الخامس : عباس بيضاوي ، رئيس دائرة التربية والتعليم في بندر شاه.

٢٨

الشيخ : من دواعي السرور ان اكون برفقة مجموعة من المتعلمين والمطلعين علىٰ العصر ، خاصة سعادة السيد الدكتور رضا سخنور الذي يحمل شهادة في القانون والذي سنستفيد كثيراً من آرائه في بحثنا ( البحث في قوانين الدين الاسلامي المقدّس ). فهو يستطيع ، ومن خلال المامه الواسع بالقانون ، ادراك القيمة الحقيقية للقوانين الاسلامية ، من مقارنتها بقوانين الشعوب المتقدّمة في العالم.

الدكتور : يا عمّ ! أودُّ في البداية ان نتحدث حول الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وموضوع نبوته ورسالته ، لكي نتناول فيما بعد مسألة القوانين الاسلامية ، بعد ان ترتفع الشبهات العالقة في اذهاننا ( انا وسائر اصدقائي ) حول النبوة.

٢٩

محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فذّ

الشيخ : سعادة الدكتور ! من اجل توضيح الموضوع الذي سألتموه ، لا بدّ من بحث عدة نواحي ، لكي نصل الىٰ هذه النتيجة وهي إنَّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فذّ في تاريخ الانسانية ، ورسول من جانب الله سبحانه وتعالىٰ ، وإنّ القوانين التي جاء بها الىٰ البشرية ، جميعها اُوحيت إليه من قبل رب العالمين ، وهذه النواحي التي لابدّ من بحثها هي بالترتيب التالي(1) :

أ ـ وضع الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل فترة الرسالة.

ب ـ البلاد التي ولد ونشأ فيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث الجغرافيا والسكان.

ج‍ ـ دراسة مختصرة في وضع القوم الذين نشأ وعاش رسول الاسلام بينهم.

الناحية الاُولىٰ : ولد محمد بن عبداللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اسرة طاهرة وشريفة في مكّة ، ولأن اُمّه آمنةعليها‌السلام لم تستطع ارضاعه لشحة حليبها ، فقد اعطاه جدّه

________________

(1) في هذا الصدد يمكنكم الرجوع الىٰ كتابنا « القادة الصديقون » ( بالفارسية ) فقد بحثت هذه المسائل بالتفصيل هناك.

٣٠

عبد المطلب إلىٰ مرضعة تسمىٰ حليمة السعدية(1) حتىٰ ترضعه ، فأخذته الىٰ قومها وبقي مع تلك القبيلة حتىٰ بلغ الخامسة من العمر ، وبعد ذلك عاش مع جدّه عبدالمطلب ثلاثة سنوات ، ومنذ سن الثامنة حيث توفي جدّه عبد المطلب ، عاش في كنف عمّه أبي طالب حتىٰ بُعث بالرسالة وهو في سن الأربعين ، إلّا انّ ما يهمنا من ذلك هو أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرسل الىٰ مدرسة ، ولم يدرس عند أي استاذ إلى أن بُعث رسولاً ، وخلال تلك الاربعين سنة لم يقرأ ويكتب سطراً واحداً ولا كان يدعي ذلك ، وهذا ما يعترف به جميع المؤرخين واصحاب السير. وانما كانت له حياته العادية كسائر العرب ( سوىٰ انه لم يرَ منه ذنب أو خيانة في كل فترة حياته ) ، وهنا يكمن السرّ ، فلو كان محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قد ذهب الىٰ مدرسة أو تتلمذ علىٰ يد احد العلماء ، لربما شُكَّ في الأحكام التي جاء بها كنبي.

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) (2) .

وهذه القضية من أهم القضايا التي احتارت الدنيا بتفسيرها وجعلت علماء العالم يستسلمون أمامها ، لأنه لم يسبق ان رأت البشرية شخصاً اُمّيّاً ينشأ في بيئة مثل الجزيرة العربية وبعد أربعين سنة من حياة عادية ، يأتي وكرجل إلهي ومرسل من قبل الله بأحكام وقوانين لسعادة الانسان ، وبعد اربعة عشر

________________

(1) حليمة ، امرأة من قبيلة بني ساعدة التي تسكن اطراف مكة المكرمة ، وكانت قد جاءت الىٰ مكة بعد القحط الذي أصاب قبيلتها ، لأخذ طفل ترضعه ، فتنال من عملها ذلك مالاً ترمّ به معاشها.

(2) سورة العنكبوت : 48.

٣١

قرناً عجز البشر ان يأتي بمثلها وبعظمتها رغم جميع التطورات العلمية والفكرية التي حدثت.

أجل ، فهذا الأمر هو اكبر دليل علىٰ ان الرجل كان رسولاً من قبل ربّ العالمين ، وانه كان مرتبطاً بمبدأ الوحي.

٣٢

التشريع في عالمنا المعاصر

اصدقائي الاعزاء !

رغم اننا نعيش في عصر العلم والمعرفة ، وقد وصل فيها البشر الىٰ كل هذا التطور العلمي ، إلّا انّ تدوين مادة قانونية في الدول المتقدّمة يحتاج الرجوع الىٰ أصحاب الاختصاص والعلماء الكبار واساتذة الجامعات ، وهؤلاء بعد مشاورات عديدة يقدمونها علىٰ شكل لائحة الىٰ البرلمان ، هناك ايضاً يطرحونها في لجانهم المختصّة(1) وبعد مداولات عديدة تطرح اللائحة في البرلمان للتصويت عليها ، فيتكلم العديد من النواب حولها(2) ثم يصوت عليها بعد ان صرفت اموال طائلة من اجل وضعها ، هذه المادة وبعد فترة قد تكون شهراً أو بضع سنين وعندما تظهر نواقصها الواحدة بعد الاُخرىٰ ، يجبرون علىٰ الغاءها.

فهذا هو الاسلوب المتّبع في التشريع اليوم في العالم المتحضر الذي ينظر

________________

(1) Fraction

(2) هذا الكلام يصدق في الدول التي ينتخب فيها اعضاء البرلمان بشكل حرٍّ ومن قبل الشعب ، وأن يكون الانتخاب ايضاً علىٰ اساس العلم والكفاءة والاخلاص ، وليس في الدول التي تحكمها دكتاتوريات فردية تتسلط علىٰ مقدرات الشعوب ، والتي فيها الاجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية الّا ديكورات وكاريكاتورات ليس إلّا.

٣٣

الىٰ الاُمور من زاوية العلم.

نظرة الىٰ عالم الامس

مع الأخذ بأسلوب التشريع في عالمنا المعاصر ، ننظر الىٰ الوراء الىٰ عالم الظلمات قبل الف وأربعمائة سنة ، في ذلك العصر لم يكن هناك علم ومعرفة فاكثر البلدان تطوراً آنذاك ـ مثل ايران ـ كانوا بمستوىٰ من الانحطاط الفكري بحيث يعبدون النار ، وفي ذروة تطورهم أي العصر الساساني كان تحصيل العلم والمعرفة مقتصراً علىٰ أبناء الاُمراء وعلماء الدين المجوسي ، في حين انّ بعض البلدان الاُخرىٰ كانوا يعبدون البقر! فقد كانت آفاق افكارهم محصورة بشكل يصنعون من التمر آلهة يأكلونها إذا ما جاعوا ، فكانوا يحضرون تمراً من جديد ويصنعون آلهة أُخرىٰ للاستغفار أمامها علىٰ ما قاموا به.

وفي تلك الحقبة المظلمة ظهر رجل يسمىٰ محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك الماضي الذي ذكرناه عنه ، كرسول من قبل الله عزّ وجلّ ، وجاء بأحكام وقوانين للبشرية جعلت عصر الذرة الحالي يستسلم امام دقتها العلمية ، فإذا كنّا اليوم نشاهد في بعض الموارد قوانين مشابهة لقوانين الاسلام وذلك في اكثر الدول تقدّماً ، فهذا لا يبعث علىٰ العجب ، لانّنا نعيش في عصر العلم والمعرفة ، في حين ان العصور الماضية كانت مظلمة مليئة بالجهل والخرافة.

فلو استطاع الشخاص اليوم التعليم وقضوا عمرهم في المدارس والجامعات وزوايا المكتبات ، فقرأوا لكبار العلماء ، ونشأوا في بيئة ساعدتهم

٣٤

في تنمية افكارهم ، هؤلاء الاشخاص لو تمكنوا من الوصول الىٰ حقائق في عالم الوجود ، او قاموا بوضع قانون ذا فائدة فهو ليس امراً مستغرباً وليس كما يسمىٰ « طفرة علمية » ، لأن عملهم ذلك يتناغم وينسجم مع المرحلة التاريخية والظروف البيئة والثقافية والاجتماعية التي يعيشونها.

لكن إذا ظهر شخص اُمّي في عصر مظلم قبل الف واربعمائة عام ومن بيئة متوحشة وملوّثة بمعنىٰ الكلمة ، وتمكن من ايجاد ذلك التغيير الفكري والعلمي في العالم الذي يتّسع شعاعه بمرور الأيام والقرون ، وكلّما اتّسعت دائرة العلم والمعرفة ، اتّضحت عظمة الاسلام العلمية مع تطور العلم في شتىٰ المجالات ، فهذا هو الذي يبعث علىٰ العجب والدهشة ، وهو الذي لم يسبق ان حدث مثله.

مثل هذه الحادثة ، ومع الأخذ بالحالة الثقافية ، والظروف التاريخية والاجتماعية لذلك العصر ، لهو دليل قاطع في ان الذي جاء بكل تلك القوانين مرسل من جانب الله سبحانه وتعالىٰ ، وانه يوحىٰ اليه من مبدأ العلم المطلق( الله ) ، لأن ذلك غير ممكناً بالحسابات المادية ، وهو كيف يمكن لرجل أُمّي أن يؤسس ديانة علمية تتعامل وواقع العالم والانسانية ، فهذا الامر حتىٰ في البيئة العلمية والثقافية تماماً غير ممكناً.

فلو كانت القضية « نبوغاً فكرياً » وتتعلّق بالظروف البيئية ، لحدث مثل ذلك ولو لمرة اُخرىٰ في تاريخ البشرية ، لكن هذا الامر لم يحدث في اكبر واهم المراكز العلمية وبين من لهم افضل الظروف العلمية والفكرية ، فضلاً عن ذلك العصر المظلم وتلك البيئة المتخلفة ، وهذا دليل قاطع علىٰ ارتباط الذي جاء

٣٥

بتلك القوانين والاحكام بمبدأ العلم ومصدره ، أي رب العالمين ، فهو نبي وما يقوله هو وحي إلهي :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (1)

اعتراف الدكتور لورافاكسيا فاغليري

الدكتور لورافاكسيا فاغليري ، البروفيسور الايطالي المعروف واستاذ جامعة نابل ، يقول في كتابه حول القرآن : ( نشاهد في هذا الكتاب خزائن وذخائر من المعرفة فوق قابليات واستعداد اذكىٰ الاشخاص واعظم الفلاسفة واقوىٰ رجال السياسة ، ولذلك لا يمكن ان يكون القرآن نتاج رجل متعلم ، افنىٰ عمره في مجتمع غير ديني ، لأن هذا الأمر لا يقوىٰ عليه رجال العلم والدين ، ذلك الرجل كان يؤكد علىٰ الدوام انه بشر مثل الآخرين ، لذا فبدون الله القادر لا يستطيع القيام بأية معجزة ، ومصدر القرآن ومنشأه لا يمكن ان يكون غير الله الذي احاط بعلمه السموات والارض وما بينهما ).

اصدقائي الاعزاء !

حقيقة الأمر هي كما قال الدكتور فاغليري ، لأنَّه إذا أراد شخص ان يصبح عالماً كبيراً ومعروفاً في عصرنا من خلال الانصراف بجميع سنوات عمره الىٰ كسب العلم ، فأن تخصصه في النهاية ايضاً سيكون في فرع معين ، فهو اما طبيب ـ مثلاً ـ أو خبير اقتصادي ، او عالم في القانون أو صاحب رتبة عالية في الجيش

________________

(1) سورة النجم : 3.

٣٦

أو الخ ، فلا يمكن ان تجدوا اليوم في كل العالم شخصاً تخصص في مختلف الفروع والمجالات.

لكن رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان فرداً بلا مستشار ، جاء من قبل الباري عزّ وجلّ تلك القوانين المتنوعة ، من المسائل العبادية حتىٰ المسائل القانونية ، ومن الاحكام الفردية حتىٰ المسائل الاقتصادية والاجتماعية ، وجميعها علىٰ اساس مسلَّمات حقائق عالم الوجود.

أليس ذلك دليل علىٰ ان محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رسول من قبل رب العالمين ، وليس عصارة ظروف تاريخية خاصة ؟!

الدكتور : النقطة التي اشرت اليها جديرة جداً بالالتفات ، لأننا نرىٰ في اكثر دول العالم تقدماً ، يوجهون كل فرد أو مجموعة الىٰ مجال معيَّن ، فالقضايا القانونية ـ علىٰ سبيل المثال ـ يوكلونها الىٰ اصحاب الاختصاص في القانون. ولم نشاهد الرجوع اليهم في قضايا الاقتصاد او الامور العسكرية. لأنهم لا يملكون معلومات فيها. اما فيما يتعلّق بالرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكما تفضلت ، لم يحدث ذلك من قبل وهو أن يأتي شخص ويقدم للبشرية قوانين محكمة وغير قابلة للأنكار في جميع المجالات.

الشيخ : أجل ، هكذا الدين الاسلامي ، له قوانين حيّة وغنية في مختلف شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأقتصادية ، وهو ما يميّز ديننا عن سائر الأديان ، ويقدّمه عليها.

فالانجيل ـ مثلاً ـ الذي يعتبر الكتاب الديني المقدّس لجميع الدول الغربية ، اذا تصفحتموه بدقّة ستجدون اكثر احكامه اخلاقية ، ويحتوي

٣٧

علىٰ مباحث روحية ، بحيث لو تركت البلدان الغربية قوانينها الاجتماعية وارادت ان تعمل علىٰ ضوء تعاليم الانجيل ، ستشلّ وتقف عن الحركة جميع مؤسساتها ومرافقها الاجتماعية والاقتصادية ، وستسقط دفعة واحدة ، لانّه لا نجد في الانجيل كلّه حتىٰ خمسين مادة قانونية حول القضايا الاجتماعية(1) .

في حين ان الدين الاسلامي المقدس ، ليس فقط يملك اسمىٰ التعاليم الاخلاقية والروحية ، بل ان قوانينه واحكامه تشمل جميع المجالات ، مثل : الزراعة والاقتصاد والسياسة والاُمور العسكرية والجيش والصحة والثقافة والتجارة والقضاء. وبشكل عام فهو يمتلك كل وافضل القوانين التي تحتاجها اُمة متحضرة ، حتىٰ في السباقات.

محطة بندرگز

في تلك اللحظة وصل القطار الىٰ محطة بندرگز ، كانت جماعة من الناس مستعدة للركوب ، ومجموعة من المسافرين أيضاً مستعدة للنزول ، ولذلك اختل النظام العادي في القطار.

شرطي المحطة واقف الىٰ جانب السلم ، ويصيح : أيُّها السادة أرجو منكم مراعاة النظام ، افسحوا المجال للمسافرين يخرجون من داخل القطار ، ومن ثم اصعدوا.

________________

(1) لدراسة محتويات التوراة والانجيل ومقارنتها بالقرآن ، يمكنكم الرجوع إلى كتاب « الانسان وسائر الكتب السماوية ». ( بالفارسية )

٣٨

ولكن لم يكن احد يستمع اليه في تلك اللحظات ، فكرر الشرطي : أيُّها السادة ارجو ان تراعوا القانون ، لماذا تصعدون ، فلا زالوا لم ينزلوا ؟!

اهانة عقيد لسائق سيارة اجرة

أحد المسافرين كان يحمل حقيبة بيده وهو مستعد مع أخيه للصعود ، قال : دعك من هذا غفر الله لك ، اين يُراعىٰ القانون في هذا البلد ، حتىٰ يُراعىٰ هنا بجنب سلّم القطار ، إذا كان حقيقاً ما تدّعي اذهب وقل لمرؤوسيك ان لا يتصرفوا خلاف القانون.

فقال الشرطي : ما هذا الذي تقوله ؟

المسافر : ليس قول وإنّما حقيقة.

في هذا العام كان أحد أصدقاءنا يقود سيارته في احد شوارع طهران وفجأة استدارت سيارة خاصة امامه ، لم يكن يبق شيئاً ان يتصادما ، فضغط صديقنا علىٰ الكابح وأوقف السيارة قبل ان تصطدم بتلك السيارة المخالفة ، ممّا ادىٰ الىٰ جرح احد الركاب الذين كانوا معه برأسه ، فنزل من سيارته واتّجه الىٰ سائق تلك السيارة فوجده يحمل علىٰ صدره واكتافه طناً من الميداليات والأوسمة وإلىٰ جانبه سيدة نصف عارية ، فقال له : أيُّها السيد المحترم ، ما هذا الذي عملته ، لماذا استدرت هنا ؟

صدقني أيُّها الشرطي ! ما ان أتم كلامه حتىٰ أتته صفعة قوية من ذلك

٣٩

الرجل ، فردّها صديقنا المسكين إليه بصفعة مماثلة.

عند ذلك قال له الرجل : يجب ان نذهب الىٰ مركز الشرطة ، فقبل صديقنا بذلك ، وذهبوا جميعاً الىٰ هناك ، وما أن وصلوا المركز حتىٰ رأىٰ صديقنا ان جميع الضباط والشرطة قد وقفوا احتراماً لذلك الرجل ، فتبيّن ان ذلك الرجل برتبة عقيد.

فأمر الشرطة ، الذين قاموا بضرب صديقنا للحد الذي لم يتمكن النهوض من فراشه ليومين ، ثم أمرهم بحلق رأسه وسجنوه ليلة عندهم ، مع ان ضابط المرور كان قد أشار بالتقصير الىٰ العقيد ، فما كان عليه ان يستدير في ذلك المكان ، لكن سيادة العقيد لا يهمه القانون ، لانه يعتبر نفسه فوق القانون ، القانون يجب ان يكون للجميع وليس لي ولأمثالي من المساكين.

هنا قال اخو المسافر : أخي ، ما هذا الذي تقوله ، لا حاجة لنا بوجع الرأس ، فلو القوا القبض عليك الآن بتهمة الاستهزاء بالمقدّسات الوطنية ! والتجاسر علىٰ ، من الذي سينجيك ؟!

وبعد دقائق من التوقّف ، تحرك القطار ثانية وعاد النظام الىٰ ما كان عليه.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ثالثاً ـ سر السجود على تربة الحسين (عليه‌السلام ) :

ويوضح لنا هذا السر أحد أعلام الإمامية بقوله التالي :

« ولعل السر في إلتزام الشيعة الإمامية السجود على التربة الحسينية ، مضافاً إلى ما ورد في فضلها من الأخبار ، ومفادها إلى أنها أسلم من حيث النظافة والنزاهة من السجود على سائر الأراضي ، وما يطرح عليها من الفرش والبواري والحصر الملوثة والمملوءة غالباً من الغبار والميكروبات الكامنة فيها ، مضافاً إلى كل ذلك ؛ لعل من جملة الأغراض العالية والمقاصد السامية ، أن يتذكر المصلي حين يضع جبهته على تلك التربة تضحية ذلك الإمام نفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ؛ وتحطيم هيكل الجور والفساد والظلم والإستبداد ، ولما كان السجود أعظم أركان الصلاة ـ وفي الحديث :« أقرب ما يكون العبد إلى ربه حال سجوده » ـ مناسب أن يتذكر أولئك الذين وضعوا أجسامهم عليها ضحايا للحق ، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى ؛ ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ويحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة ، ولعل هذا هو المقصود من السجود عليها بخرق الحجب السبع كما في الخبر الآتي ذكره ، فيكون حينئذ في السجود سر الصمود والعروج من التراب إلى رب الأرباب إلى غير ذلك من لطائف الحكم ودقائق الأسرار »(١٢٧)

______________________

(١٢٧) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : الأرض والتربة الحسينية / ٢٧

٨١

٨٢

٨٣
٨٤

توطئه :

عُرفت الشيعة الإمامية منذ عهد بعيد بشعار السجود على تربة الحسينعليه‌السلام ، ولو تتبعنا منشأ هذا الشعار وكيفية نشوئه وانتشاره ؛ لتوصلنا إلى أنه يرجع إلى الأطوار الآتية :

الطور الأول ـ بداية السجود عليها :

كان هذا الطور محدوداً لا يتجاوز البيت العلوي إلا لبعض الخلّص من الأصحاب ، كما هو المستفاد من كلمات المجتهد الأكبر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( قده ) حيث قال : « أما أول من صلى عليها من المسلمين بل من أئمة المسلمين ـ فالذي إستفدته من الآثار ، وتلقيته من جملة أخبار أهل البيت ، ومهرة الحديث من أساتيذي الأساطين الذين تخرجت عليهم برهة من العمر ـ هو زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام ، بعد أن فرغ من دفن أبيه وأهل بيته وأنصاره ، أخذ قبضة من التربة التي وضع عليها الجسد الشريف ، الذي بضعته السيوف كلحم على وضم ؛ فشد تلك التربة في صرة وعمل منها سجاده ومسبحة ، وهي : السبحة التي كان يديرها بيده حين أدخلوه الشام على يزيد . ولما رجع الإمامعليه‌السلام هو وأهل بيته إلى المدينة ؛ صار يتبرك بتلك التربة ويسجد عليها ويعالج بعض مرضى عائلته بها ، فشاع هذا عند العلويين وأتباعهم ومن يقتدي بهم ، فأول من صلى على هذه التربة واستعملها ؛ هو زين العابدين ، الإمام الرابع من أئمة الشيعة الإثني عشر المعصومين »(١٢٨)

______________________

(١٢٨) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : الأرض والتربة الحسينية / ٣١

٨٥

الطور الثاني ـ إنتشار ذلك على مستوى الشيعة :

في الفترة الزمنية ما بين عام ( ٩٥ ـ ١١٤ هـ ) ، بداية إنتشار شعار العناية بالتربة الحسينية من السجود عليها والإستشفاء والتبرك بها ، حيث إعتنى بذلك الإمام الخامس محمد بن علي الملقب بـ( الباقر ) عليه‌السلام ، فبالغ في حث أصحابه على السجود على التربة الحسينية ، ونشر فضلها ثم زاد على ذلك ابنه الإمام جعفر بن محمد الملقب بـ( الصادق ) عليه‌السلام ، فإنه أكّد عليها لشيعته حيث تكاثرت في عهده وأصبحت من كبريات الطوائف الإسلامية ، والروايات خير شاهد على ذلك كما سيأتي :

١ ـ الحسن بن محمد الديلمي في( الإرشاد ) قال :( كان الصادق عليه‌السلام لا يسجد إلا على تربة الحسين عليه‌السلام تذللاً لله واستكانة إليه ) (١٢٩)

٢ ـ عن معاوية بن عمّار قال : كان لأبي عبد الله خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبداللهعليه‌السلام ، فكان إذا حضرت الصلاة ؛ صَبّه على سجادته وسجد عليه ثم قالعليه‌السلام :( إنّ السجود على تربة أبي عبدالله يخرق الحجب السبع ) (١٣٠)

توضيح « الحجب السبع » :

« الحَجْبَ والحِجَابُ المنع من الوصول وقوله تعالى :( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ) [ الأعراف / ٤٦ ] ؛ ليس يُعنى به ما يحجب البصر ، وإنما يعنى ما يمنع من وصول لَذّةِ أهل الجنة إلى أهل النار ، وأذيّة أهل النار إلى أهل الجنّة ، كقوله عَزّ وجَلّ :( فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) [ الحديد / ١٣ ]

______________________

(١٢٩) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٣ / ٦٠٨ ( باب ١٦ من أبواب ما يسجد عليه ، حديث ٤ )

(١٣٠) ـ نفس المصدر ( باب ـ ١٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه ، حديث ٣ )

٨٦

والحاجب : المانع عن السلطان ، والحاجبان في الرأس ؛ لكونها كالحاجبين للعين في الذب عنهما »(١٣١)

وبعد إيضاح معنى ( الحجاب ) من الناحية اللغوية ـ وهو معنى عام ينطبق على كثير من المصاديق ـ ينبغي إيضاح ما هو المراد بـ ( الحجب السبعة ) ؟

المستفاد من كلمات العلماء في توضيح معنى ( الحجب السبعة ) أنّها ترجع إلى المعاني التالية :

الأول ـ السماوات السبع :

وقد أشار إلى هذا المعنى مجموعة من الأعلام نذكر منهم ما يلي :

١ ـ الميرزا أبي الفضل الطهراني ( ١٢٧٣ هـ ـ ١٣١٦ هـ ) :

« المراد من الحجب السبعة في حديث معاوية بن عَمّار السماوات السبع ، والمقصود عروج الصلاة إلى الملأ الأعلى وبلوغ القرب الحقيقي »(١٣٢)

٢ ـ الشيخ جعفر التستري ( ١٢٢٧ هـ ـ ١٣٠٣ هـ ) :

« إنّ السجود على ترابها يخرق الحجب السبعة ، ومعنى هذا الحديث ، خرق السماوات للصعود »(١٣٣)

٣ ـ الشيخ حسين الوحيد الخراساني ( دام ظله ) :

« وأما فقه الحديث فلا مجال للإشارة إليه ، فإنّ السجود أعظم عبادة أمر الله سبحانه نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به للإقتراب إليه :( كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ) [ العلق / ١٩ ] والإمام المعصوم يتوسل في سجوده الذي هو نهاية تقرّبه بتراب الحسينعليه‌السلام ،

______________________

(١٣١) ـ الراغب الإصفهاني ، الحسين بن محمد : المفردات في غريب القرآن ، ج ١ / ١٤١ ـ ١٤٢

(١٣٢) ـ الطهراني ، الميرزا أبي الفضل : شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور ، ج ١ / ٤١٩

(١٣٣) ـ التستري ، الشيخ جعفر : الخصايص الحسينية / ١٣٠

٨٧

لأن يخرق الحجب السبع فماذا يمكن أن يقال في شأن دم صار ذلك التراب بإضافته إليه خارقاً للحجاب بين العبد وربه ، موصلاً لعباد الله إلى منتهى كرامة الله وفي الصحيح عن أبي الحسنعليه‌السلام : ( إنّ النبي لما أسري به إلى السماء ؛ قطع سبع حجب ، فكبّر عند كل حجاب تكبيرة ، فأوصله الله عَزّ وجَلّ بذلك إلى منتهى الكرامة ) ومما لابدّ من التأمل فيه أنّ إفتتاح الصلاة بسبع تكبيرات ـ تقوم مقام التكبيرات السبع التي كبّرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرفعت له بها الحجب السبعة ليلة الإسراء ـ قد صار سنّة بلسان الحسينعليه‌السلام ، ففي الصحيح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال : ( إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في الصلاة وإلى جانبه الحسين بن علي ، فكبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يحِر الحسين التكبير ، ثم كبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يحِر الحسين التكبير ، فلم يزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكبّر ويعالج الحسين التكبير فلم يحِر ، حتى أكمل سبع تكبيرات ، فأحار الحسينعليه‌السلام التكبير في السابعة قال أبو عبداللهعليه‌السلام : فصارت سنّة )

فقطع الحجاب بين العباد وربَّ الأرباب في أوّل العروج إلى الله ؛ وهو أول الركعة بلسان الحسينعليه‌السلام وخرق الحجاب في آخر الركعة ؛ وهو السجود بتربة الحسينعليه‌السلام »(١٣٤)

الثاني ـ الذنوب والمعاصي :

وإلى هذا المعنى أشار بعض الأعلام نذكر منهم ما يلي :

١ ـ الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( ١٣٩٤ هـ ـ ١٣٧٣ هـ ) :

« ولعلّ المراد بالحجب هي الحاءات السبع من الرذائل ، التي تحجب النفس عن الإستضاءة بأنوار الحق ، وهي : الحقد ، الحسد ، الحرص ، الحدّة ،

______________________

(١٣٤) ـ الخراساني ، الشيخ حسين الوحيد : مقدمة في أصول الدين / ٣٦١ ـ ٣٦٢

٨٨

الحماقة ، الحلية ، الحقارة فالسجود على التربة من عظيم التواضع ، والتوسّل بأصفياء الحقّ يمزّقها ويخرقها ويبدلها بالحاءات السبع من الفضائل ، وهي : الحكمة ، الحزم ، الحلم ، الحنان ، الحضانة ، الحياء ، الحبّ »(١٣٥)

٢ ـ الميرزا أبي الفضل الطهراني ( قده ) :

« المعاصي السبع المانعة من قبول الأعمال وحجابها ، وتلك هي المعاصي التي رأى جماعة إنحصار الكبائر بها ـ كما ذكر ذلك في الكتب الفقهية ـ :

أ ـ الشرك ،

ب ـ قتل النفس ،

ج ـ قذف المحصنة ،

د ـ أكل مال اليتيم ،

هـ ـ الزنا ،

و ـ الفرار من الزحف ،

ز ـ عقوق الوالدين

ومعنى الخرق لهذه الحجب ، أنه إن كان مقروناً بالتوبة الصادقة والعزم الثابت ، فإن الله تعالى يعفو عن الذنوب السالفة ، يمحوها ببركة هذه التربة المقدسة »(١٣٦)

٣ ـ الشيخ جعفر التستري ( قده ) :

« المراد بالحجب ؛ المعاصي السبع التي تمنع قبول الأعمال ، على ما في رواية معاذ بن جبل ، وأنّ السجود عليها يُنوِّر الأرضين السبع »(١٣٧)

الثالث ـ إستنتاج المؤلف :

بعد عرض ما ذكره العلماء الأعلام في توضيح معنى ( الحجب السبع ) ، يمكن القول بترجيح القول الأول وهو ( السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ ) ؛ وذلك بعد بيان ما يلي :

______________________

(١٣٥) ـ كاشف الغطاء ، الشيخ محمد حسين : الأرض والتربة الحسينية / ٣٢

(١٣٦) ـ الطهراني ، الميرزا أبي الفضل : شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور ، ج ١ / ٤١٩

(١٣٧) ـ التستري ، الشيخ جعفر : الخصائص الحسينية / ١٣٠ ـ ١٣١

٨٩

أولاً ـ السجود :

لابد من ملاحظة السجود باعتباره أعظم مراتب الخضوع والخشوع لله عَزّ وجَلّ ، بل الإيمان الخالص له سبحانه في العبادة في أعظم وأقرب مصاديقها ، ويتضح ذلك بعد عرض الروايات التالية :

١ ـ عبد الواحد الآمدي في الغرر : عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال :( السجود الجسماني : وضع عتائق الوجوه على التراب ، وإستقبال الأرض بالراحتين والركبتين ، وأطراف القدمين ، مع خشوع القلب وإخلاص النية )

السجود النفساني : فراغ القلب من الفانيات ، والإقبال بكنه الهمة على الباقيات ، وخلع الكبر والحمية ، وقطع العلائق الدنيوية ، والتحلي بالأخلاق النبوية )(١٣٨)

٢ ـ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إن الأرض التي يسجد عليها المؤمن يضئ نورها إلى السماء ) (١٣٩)

٣ ـ قال الصادقعليه‌السلام :( السجود على تربة قبر الحسين عليه‌السلام يُنوّر الأرضين السبع ، ومن كان معه سبحه من طين قبر الحسين عليه‌السلام ؛ كان مسبّحاً وإن لم يُسبّح بها ) (١٤٠)

ثانياً ـ معنى ( الخَرْق ) :

لو تصفحنا الكتب اللغوية ؛ لتوصلنا إلى عدة معانٍ متقاربة أهمها ما يلي :

______________________

(١٣٨) ـ الطبرسي ، ميرزا حسين النوري ، مستدرك الوسائل ، ج ٤ / ٤٨٦ ( باب ٢٣ ، من أبواب السجود )

(١٣٩) ـ نفس المصدر / ٤٨٥

(١٤٠) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن حسن : وسائل الشيعة ، ج ٣ / ٦٠٨ ( باب ـ ١٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه ، حديث ١ )

٩٠
١ ـ الفُرْجَة والشَقّ والقطع :

« الخَرْقُ : الفُرْجَة ، وجمعه خُروق الخرق الشّق في الحائط والثوب ونحوه »(١٤١)

وقال الراغب الإصفهاني : « وبإعتبار القطع قيل : خَرَقَ الثوب وخَرّقه ، وخَرَقَ المَفاوِز واخترق الريح وخُصّ الخَرقْ والخَرِيق بالمفاوز الواسعة ؛ إمّا لإختراق الريح فيها ، وإمّا لتخرُّقها في الفَلَاة ، وخُصّ الخَرْق بمن ينخرق في السحاب وقوله تعالى :( إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ ) [ الإسراء / ٣٧ ] فيه قولان : أحدهما ـ لن ينقطع ، والآخر لن تثقب الأرض إلى الجانب الآخر ، إعتباراً بالخرق في الأذن »(١٤٢)

٢ ـ البلوغ :

قال الشيخ الطريحي (ره) : « قوله تعالى :( إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ ) ؛ أي تبلغ آخرها »(١٤٣)

ثالثاً ـ أهمية السماء :

وقد أشار إلى هذه الأهمية أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله : ( فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطّدات بلا عمد ، قائمات بلا سند ، دعا هن فأجبن طائعات مذعنات غير متلكّئات ولا مبطئات ، ولولا إقرارهنّ بالربوبية ، وإذعانهن ______________________

(١٤١) ـ الطبرسي ، ميرزا حسين النوري : مستدرك الوسائل ، ج ٤ / ٤٨٦ ( باب ٢٣ ـ من أبواب السجود ـ حديث ٩ )

(١٤٢) ـ الراغب الإصفهاني ، الحسين بن محمد : المفردات في غريب القرآن ، ج ١ / ١٤٩

(١٤٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ١٥٣

٩١

بالطواعية ؛ لما جعلهن موضعاً لعرشه ، ولا مسكناً لملائكتة ، ولا مصعداً للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه )(١٤٤)

وبعد عرض هذا المقطع من خطبة أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ ينبغي الإشارة إلى الآيات التالية :

الأولى ـ قوله تعالى :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) [ المؤمنون / ١٧ ] المراد بـ( سَبْعَ طَرَائِقَ ) السماوات السبع ، وَعبّرت عنها الآية بـ( طَرَائِقَ ) ؛ لأنها طرائق الملائكة في العروج والهبوط والطيران ، وما يترتب على ذلك من نزول الوحي على الأنبياء ، ورفع الأعمال البشرية

الثانية ـ قوله تعالى :( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) [ الذاريات / ٢٢ ]

قيل المراد أنها أسباب رزقكم أو تقديره( وَمَا تُوعَدُونَ ) من الثواب ؛ لأنّ الجنة فوق السماء السابعة ، أو لأنّ الأعمال وثوابها مكتوبة مُقَدّرة في السماء

الثالثة ـ قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ )
[ الأعراف / ٤٠ ] ؛ أي لا تفتح لهم أبواب السماء لأدعيتهم وأعمالهم ، أو لأرواحهم ، كما تفتح لأعمال المؤمنين وأرواحهم ، ويُؤيِّد هذا المعنى ما روي عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام أنّه قال : ( أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء ، فتُفتّح لهم أبوابها ، وأما الكافر فيُصْعَدُ بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادي منادٍ : إهبطوا به إلى ______________________

(١٤٤) ـ ابن أبي الحديد ، عبدالحميد : شرح نهج البلاغة ، ج ١٠ / ٨١ ـ ٨٢

٩٢

سِجِّين ؛ وهو وادٍ بحضرموت يقال له : بَرَهُوت )(١٤٥) وبعد إيضاح ما تقدم ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ إنّ السجود أعظم أركان الصلاة ؛ حيث يتحقق فيه غاية الخضوع والخشوع والقرب إلى الله عَزّ وجَلّ في هذه العبادة وإذا كان على تربة سيد الشهداء الحسينعليه‌السلام والصفوة من أهل بيته وصحبه الكرام ، فيناسب للساجد وهو في هذه الحالة العبادية ، أن يتذكر بوضع جبهته على تلك التربة الطاهرة تضحية تلك الصفوة النبوية والمؤمنة في سبيل المبدأ والعقيدة الذين صعدت دماؤهم وأرواحهم إلى أعلى عليين ، فيكون حينئذ في السجود سرّ الصعود والعروج من التراب إلى رب الأرباب ، فيتحقق ( خرق الحجب السبعة ) ؛ وهي السماوات السبع

ثانياً ـ أما ما ذهب إليه بعض الأعلام من تفسير ( الحجب السبعة ) بالذنوب والمعاصي ؛ فيمكن مناقشته كالتالي :

أ ـ ما ذهب إليه الشيخ كاشف الغطاء ، من أنّ المراد بها الحاءات السبع من الرذائل ؛ فهذا إستنتاج عقلي محض يحتاج إلى مؤيد من الروايات وغيرها

ب ـ وأما ما ذكره الميرزا أبي الفضل الطهراني ، والشيخ التستري من إنحصار الكبائر بالسبع ؛ فهذا غير واضح من الروايات ؛ لذا إختلف الفقهاء في حصر الكبائر في عدد مُعَيّن ، فبقي لدينا القول بكونها هي السماوات السبع ، وقد أوضحنا ذلك في بيان أهمية السماء

______________________

(١٤٥) ـ البحراني ، السيد هاشم الموسوي : البرهان في تفسير القرآن ، ج ٣ / ١٦٢

٩٣

الطور الثالث ـ عملها ألواحاً :

وبعد عصر الصادق عليه السلام ، سار على نهجه الأئمة من ولده في تحريك العواطف ، وتحفيز الهمم ، وتوفر الدواعي إلى السجود على تربة الحسينعليه‌السلام ، وبيان تضاعف الأجر والثواب في التبرك بها والمواظبة عليها ، حتى إنتشر ذلك بين الشيعة في بلادهم مع عظيم الإهتمام بها ، فلم يمضِ على زمن الصادقعليه‌السلام قرن من الزمن ؛ حتى صارت الشيعة تصنعها ألواحاً وتضعها في جيوبها كما هو المتعارف اليوم

فيظهر أن صنع التربة ألواحاً ـ كما هو المتعارف اليوم ـ كان في وسط القرن الثالث الهجري ؛ أي حدود المائتين وخمسين هجرية ، أي في الغيبة الصغرى ، كما هو المستفاد من الخبر التالي :

عن محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري : عن صاحب الزمانعليه‌السلام : ( أنه كتب إليه يسأله عن السجدة على لوح من طين القبر ، هل فيه فضل ؟ فأجاب يجوز ذلك وفيه الفضل )(١٤٦)

وخلاصة الدليل ؛ أي الإقتداء بأهل البيتعليهم‌السلام في السجود على تربة الحسينعليه‌السلام ، أن المستفاد من الروايات المتقدمة ، من سجود الإمام زين العابدينعليه‌السلام ومن جاء بعده من الأئمة ، خير شاهد ودليل على إلتزام الشيعة الإمامية بذلك ، وهل في ذلك إشكال ؟ بعد أن أوصانا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسك والإقتداء بهم كما في حديث الثقلين المشهور بين المسلمين ، عن زيد بن أرقم : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي

______________________

(١٤٦) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن حسن : وسائل الشيعة ، ج ٣ / ٦٠٨ ( باب ١٦ من أبواب ما يسجد عليه ، حديث ٩ )

٩٤

أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود بين السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) (١٤٧)

ويقول الشيخ ابن تيمية :« وإذا كانوا خير الخلائق ؛ فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال » (١٤٨) وهذا إعتراف منه صريح بصحة عمل من إتبع أهل البيتعليهم‌السلام في أقوالهم وأفعالهم ، لا يشك في ذلك أحد من المسلمين ، وإلى هذا يشير بعض العلويين بقوله :

قل لمن حجنا بقول سوانا

حيث فيه لم يأتنا بدليل

نحن نروي إذا روينا حديثاً

بعد آيات محكم التنزيل

عن أبينا عن جدنا ذي المعالي

سيد المرسلين عن جبرئيل

وكذا جبرئيل يروي عن الله

بلا شبهة ولا تأويل(١٤٩)

______________________

(١٤٧) ـ الترمذي ، محمد بن عيسى : سنن الترمذي ، ج ٢ / ٣٠٨

(١٤٨) ـ ابن تيمية ، أحمد عبد الحليم : رأس الحسين / ١٧٠٤ « مطبوع مع استشهاد الحسين ـ للحافظ ابن كثير ـ تقديم الدكتور محمد جميل غازي ـ القاهرة ـ مطبعة المدني

(١٤٩) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن حسن : الجواهر السنية في الأحاديث القدسية / ١٧٧

٩٥
٩٦

٩٧
٩٨

الفصل الأول ـ مقدمة في تاريخ السبحة :

السُّبحة ؛ المسبحة Rosary : خرزات أو قطع من الزجاج أو العاج أو الأحجار الكريمة أو شبه الكريمة منظومة في سلك وهي عريقة في القدم عرفها الإنسان منذ العصور القبتاريخية واتخذها تميمة أو تعويذة حِيَناً ، وضَرْبَاً من ضروب الزينة حِينَاً آخر حتى إذا كان القرن الثالث للميلاد إتخذها رهبان الكنيسة المسيحية الشرقية للصلاة والتسبيح وسرعان ما شاعت في أوساط الكنيسة الغربية أيضاً أما المسلمون فقد عرفوا السبحة أول ما عرفوها من طريق الصوفية ، وهي تعتبر بدعة لا أصل لها في الدين وأكثر السُّبحات شيوعاً تلك التي يبلغ عدد حباتها تسعاً وتسعين أو ثلاثاً وثلاثين وكثير من الناس يحملون السُّبوحات اليوم على سبيل التسلية ليس غير(١٥٠)

مناقشة هذا النص التأريخي :

بعد ذكر النص المتقدم نخرج بالملاحظتين الآتيتين :

الأولى ـ أنّ المسلمين عرفوا السبحة عن طريق الصوفية ؟

ويمكن الاجابة عن ذلك بمايلي :

أنها دعوى تحتاج إلى دليل ، والدليل الواضح لدينا أنّ الزهراءعليها‌السلام هي من أوائل الذين إتخذوا السبحة للتسبيح بها في الصلاة وغيرها من الأوقات ، وكانت سبحتها الأولى من خيط صوف مفتل معقود عليه عدد التكبيرات ، والثانية بعد مقتل حمزة ( رضي ) حيث إتخذت من تربته مسبحةً ، وسار على ذلك المسلمون في حدود السنة الثالثة للهجرة ، وسوف نذكر الروايات النَّاصّة على ذلك

______________________

(١٥٠) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٦٠٧

٩٩

الثانية ـ أنها بدعة لا أساس لها في الدين ؟

ويمكن الإجابة عن ذلك بمايلي :

إنّ دعواه بأنها بدعة لا أساس لها في الدين ، هذه دعوى تحتاج إلى دليل وهو مفقود ، حيث ذكرنا في الجواب عن الملاحظة الأولى ؛ أنّ لها إرتباطاً في الدين وليس بدعة ؛ إذ أنّ الزهراءعليها‌السلام لا تفعل البدع ، ولو كان بدعة ؛ لنهى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك وأيضاً المصادر اللغوية نَصّت على أنها تستخدم في الصلاة ولم تنص على أنها بدعة ؛ إذ أنّ بعض المصادر منها تختص بالقرآن والسنة كما ستعرف ، وإليك هذه المصادر :

١ ـ كتاب العين ، ج ٣ / ١٥٢ ، للخليل بن أحمد الفراهيدي :

« السُّبحة : خرزات يُسبَّح بعددها »

٢ ـ المفردات في غريب القرآن / ٢٢٣ ، للراغب الإصفهاني :

« السُّبحة : التسبيح ، وقد يقال للخرزات التي يُسبّح بها سُبحة »

٣ ـ أساس البلاغة / ٢٠ ، لجار الله الزمخشري :

« السُّبحة : أي النافلة ، وفي يده السُّبح يُسبح بها »

٤ ـ لسان العرب ، ج ٢ / ٤٧٣ ، لإبن منظور :

« السُّبحة : الخرزات المسبح بها تسبيحة ، وهي كلمة مُولّدَة »

٥ ـ المصباح المنير ، ج ١ / ٢٦٢ ، للفيومي :

« السُّبحة : خرزات منظومة ، قال الفارابي وتبعه الجوهري : والسُّبحة التي يسبح بها ، وهو يقتضي كونها عربية وقال الأزهري : كلمة مولّدة وجمعها سُبح »

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232