الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام16%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193391 / تحميل: 7471
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، يا أمّ سلمة هذا علي سيد مبجّل مؤمّل المسلمين وأمير المؤمنين وموضع سرّي وعلمي وبابي الذي آوي إليه، وهو الوصي على أهل بيتي وعلى الأخيار من أمّتي، هو أخي في الدنيا والآخرة وهو معي في السناء الأعلى، اشهدي يا أمّ سلمة إنّ علياً يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

قال ابن عباس: وقتلهم لله رضاً وللأمّة صلاحاً ولإهل الضلالة سخط.

قال الشامي: يا ابن عبّاس من الناكثون؟

قال: الذين بايعوا علياً بالمدينة ثمّ نكثوا فقاتلهم بالبصرة، أصحاب الجمل، والقاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون أهل النهروان ومن معهم.

فقال الشامي: يا ابن عبّاس ملأت صدري نوراً وحكمة، وفرّجت عنّي فرّج الله عنك، أشهد أنّ عليا رضي الله عنه مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.(١)

ويروي أيضاً: قال ابن عبّاس: عقُم النساء أنّ يجئن بمثل عليّ، وعلى رأسه عمامة بيضاء وكأن عينيه سراجا سليط، وهو يقف على شرذمة بعد شرذمة من الناس يعظهم ويحضّهم إلخ.

ويروي أيضاً: عن ابن عبّاس أنه قال: لقد سبق لعليّ رضي الله عنه سوابق لو أنّ سابقة منها قسّمت على الناس لوسعتهم خيراً.

ويروي أيضاً: عنه قال: كان لعليّ رضي الله عنه خصال ضوارس قواطع سِطة في العشرة، وصهر للرسول، وعلم بالتنزيل، وفقه في التأويل، وصبر عند النزال ومقاومة الأبطال، وكان ألدّ إذا أعضل، ذا رأي إذا أشكل.

ويروي أيضاً: دخل ابن عبّاس على معاوية، فقال: يا ابن عبّاس صِف لي عليا، قال: كأنّك لم تَرَه؟

قال: بلى، ولكنّي أحبّ أن أسمع منك فيه مقالاً.

قال: كان أمير المؤمنين رضوان الله عليه غزير الدمعة طويل الفكرة، يعجبه

____________________

١ - المحاسن للبيهقي، ص ٤٣.

١٢١

من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشُب، يُدنينا إذا أتيناه ويُجيبنا إذا دعوناه، وكان مع تقرّبه إيانا وقربه منّا لا نبدأه بالكلام حتى يتبسّم فإذا هو تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، أَمَا والله - يا معاوية - لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قابض على لحيته يبكي ويتململ السليم، وهو يقول: يا دنيا إيّاي تغرّين أمثلي تشوّقين؟ لا حان حينك، بل زال زوالك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك حقير وعمرك قصير وخطرك يسير، آه آه: من بعد السفر ووحشة الطريق وقلة الزاد.

قال: فأجهش معاوية ومن معه بالبكاء.(١)

أقول: جشب الطعام: غلظ. السليم: الجريح اللديغ. التململ: التقلّب على الفراش. أجهش: تهيّأ.

ويروي أيضاً: أنّ عدي بن حاتم دخل على معاوية بن أبي سفيان، فقال: يا عدي أين الطرفات؟ يعني بنيه طريفا وطارفاً وطرفة. قال: قتلوا يوم صفين بين يدي عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدّم بنيك وأخر بنيه.

قال: بل ما أنصفت أنا علياً إذ قُتل وبقيت.

قال: صف لي علياً. فقال: إن رأيت أن تُعفيني.

قال: لا أُعفيك.

قال: كان والله بعيد المدى وشديد القوى، يقول عدلاً ويحكم فصلاً، تتفجّر الحكمة من جوانبه والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، يستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير الدمعة طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلب كفّيه على ما مضى، يعجبه من اللباس القصير ومن المعاش الخشن، وكان فينا كأحدنا، يُجيبنا إذا سألناه ويُدنينا إذا أتيناه الحديث باختلاف يسير.(٢)

____________________

١ - المحاسن للبيهقي، ص ٤٥.

٢ - نفس المصدر، ص ٤٦.

١٢٢

أقول: يستفاد من هذه الأحاديث أمور:

١ - ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي (ع).

٢ - أنّه خير من يُعلم بعد رسول الله (ص).

٣ - أنّه كنفس رسول الله (ص).

٤ - أنّه أوّل مَن آمن برسول الله (ص).

٥ - هو الصديق الأكبر والفاروق ويعسوب المؤمنين.

٦ - هو أمير البررة منصور من نصره.

٨ - أهدى الله إليه أُثُرُجة.

٩ - أنّه أوّل مَن آمن وصلّى وركع من الذكران.

١١ - أنّه من رسول الله بمنزلة هارون من موسى.

١٢ - أنّه سيّد مبجّل، أمير المؤمنين ومؤمّل المسلمين.

١٣ - موضع سرّ رسول الله (ص) وعلمه وبابه.

١٤ - هو الوصي على أهل البيت وعلى الأخيار.

١٥ - أخوه في الدنيا والآخرة وهو معه.

١٦ - أنّه يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

١٧ - لو أنّ سابقة منها قسمت على الناس لوسعتهم.

١٨ - عالم بالتنزيل وفقيه بالتأويل.

١٩ - غزير الدمعة طويل الفكرة.

٢٠ - كان يبكي ويتململ تملمُل السليم.

٢١ - يستوحش من الدنيا ويستأنس بالليل.

٢٢ - كان في الناس كأحدهم يُجيب إذا سُئل.

١٢٣

( أنّه آخر الناس عهداً برسول الله (ص) )

كان أمير المؤمنين عليّ (ع) يصاحب رسول الله (ص) ليلاً ونهاراً، سفراً وحضراً، إن كان يسأله وإلاّ يبتدئُه، يحبّ رسول الله (ص) ويطيعه ولم يزل كان معه، إلى أن ارتحل (ص) إلى دار الخلد.

الطبقات: عن جابر: أنّ كعب الأحبار قام زمن عمر فقال ( ونحن جلوس عند عمر أمير المؤمنين ): ما كان آخر ما تكلّمّ به رسول الله (ص)؟ قال عمر: سل عياً. قال: أين هو؟ قال: هو هنا، فسأله، فقال عليّ: أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي، فقال: الصلاة الصلاة! فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أُمروا وعليه يبعثون. قال: فمن غسّله يا أمير المؤمنين؟ قال: سلّ علياً، قال: فسأله؟ فقال: كنت أنا أغسّله وكان العبّاس جالساً وكان أسامة وشقران يختلفان إليّ بالماء.(١)

ويروي أيضاً: عن عليّ: قال رسول الله (ص) في مرضه: أدعوا إليّ أخي، قال: فدُعي له عليّ، فقال: ادنُ منّي، فدنوت منه فاستند إليّ فلم يزل مستندا إليّ وإنّه ليكلّمني، حتى أنّ بعض ريق النبيّ (ص) لَيصيبني.(٢)

ويروي أيضاً: عن علي بن الحسين: قبض رسول الله (ص) ورأسه في حجر عليّ.

ويروي أيضاً: عن الشعبي: قال: توفّي رسول الله (ص) ورأسه في حجر علي وغسّله علي، والفضل محتضنه، وأسامة يناول الفضل الماء.

ويروي أيضاً: عن أبي غطفان: قال: سألت ابن عبّاس أرأيت رسول الله (ص) توفّي ورأسه في حجر أحد؟ قال: توفي وهو مستند إلى صدر عليّ، قلت: فإنّ عروة حدثني عن عائشة أنّها قالت: توفّي رسول الله (ص) بين سحري ونحري. قال ابن عبّاس: أتعقل؟! والله لتوفى رسول الله (ص) وإنّه لمستند إلى صدر عليّ

____________________

١ - الطبقات، ج ٢، ص ٢٦٢.

٢ - الطبقات، ج ٢، ص ٢٦٣.

١٢٤

وهو الذي غسّله وأخي الفضل بن عبّاس.

أقول: يستنبط من هذه الروايات أمور:

الأوّل: أنّ علياً هو آخر من صحب رسول الله (ص).

الثاني: أنّه أحبُّ الناس وأقربهم من رسول الله (ص)، وموضع سرّه، والذي كان يحبّ رسول الله (ص) صُحبته في آخر ساعة من حياته.

الثالث: أنّ رسول الله (ص) قد حُضر ورأسه على صدره.

الرابع: هو الذي تصدّى لتغسيل رسول الله (ص) إذ كان الآخرون مشغولين بمقدّمات الخلافة والحكومة.

الخامس: يظهر من هذه الروايات أنّ الأحاديث الواردة الدالة على أنّ رسول الله (ص) قُبض ورأسه على صدر عائشة، مجعولة غير ثابتة.

الاستيعاب: وقال الفضل بن عباس بن عُتية:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرفٌ

عن هاشمٍ ثمّ منها عن أبي الحسنِ

أليس أوّل من صلّى بقبلتكم

وأعلم الناس بالقرآن والسننِ

وزاد أبو الفتح:

وآخر الناس عهداً بالنبيّ ومَن

جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم لا تمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسن(١)

رجال أصبهان: عن حذيفة قال: دخلت على النبيّ (ص) في وجعه الذي توفّى فيه وعلي بن أبي طالب مسنده إلى صدره، فقلت لعليّ دعني فقد سهرت منذ الليلة، فقال النبيّ (ص): دعه فهو أحقّ به.(٢)

خصائص النسائي: عن أمّ سلمة: إنّ أقرب الناس عهداً برسول الله (ص) عليّ رضي الله عنه.

ويروي أيضاً عنها: قالت: لمّا كان غدوة قُبض رسول الله (ص)، فأرسل إلى عليّ رضي الله عنه، قالت: وأظنّه كان بعثه في حاجة، فجعل يقول: جاء عليّ،

____________________

١ - الاستيعاب، ج ٣، ص ١١٣٣.

٢ - رجال أصبهان، ج ١، ص ١٣١.

١٢٥

ثلاث مرّات، فجاء قبل طلوع الشمس، فلمّا أن جاء عرفنا أنّ له إليه حاجة، فخرجنا من البيت وكنّا عند رسول الله (ص) يومئذٍ في بيت عائشة، وكنت في آخر مَن خَرج من البيت، ثمّ جلست من وراء الباب فكنت أدناهم إلى الباب، فأكبّ عليه عليّ رضي الله عنه فكان آخر الناس به عهداً فجعل يسارّه ويناجيه.(١)

رجال أصبهان ومستدرك الحاكم: عن أمّ سلمة قالت: والذي أحلف به أنّ كان عليّ لأقرب الناس عهداً لرسول الله (ص)، عدنا رسول الله (ص) غداة وهو يقول: جاء عليّ؟ جاء عليّ؟ مراراً، فقالت فاطمة رضي الله عنها: كأنّك بعثته في حاجة، قالت: فجاء بعد، قالت أم سلمة: فظننت أنّ له إليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب وكنت مِن أدناهم إلى الباب، فاكبّ عليه رسول الله (ص) وجعل يسارّه ويناجيه، ثمّ قبض رسول الله (ص) من يومه ذلك، فكان علي أقرب الناس عهداً.(٢)

* * *

____________________

١ - خصائص النسائي، ص ٢٨.

٢ - رجال أصبهان، ج ١، ص ٥٠ ومستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٣٨.

١٢٦

( ما تلخّص ممّا سبق )

وقد ذكرنا ما روى من الأحاديث التي وصلت إلينا من رسول الله (ص) في حقّ أمير المؤمنين علي (ع)، وقد صدرت هذه الأحاديث من لسان الوحي، في أحوال مختلفة وأزمنة متفاوتة، وبعبارات متغايرة، وفي موارد كثيرة، في طول حياة رسول الله (ص)

وقد أشرنا في الفصول السابقة إلى نتائج ما يستفاد من الأحاديث، ونشير هنا إجمالاً إلى الموارد التي استفيد منها مقام الإمامة والخلافة لعليّ (ع).

ولا نريد أن نجهد في إثبات هذا المدعى، وإنّما غرضنا إراءة ما وصل إلينا من الحقائق، وأنّها تذكرة للمتّقين( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) .

١ - إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي.

٢ - وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف.

٣ - مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح.

٤ - علي منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي.

٥ - فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة.

٦ - اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك.

٧ - من أطاع علياً فقد أطاعني.

٨ - يا علي من فارقك فقد فارقني.

٩ - أفلا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى.

١٠ - ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ....

١١ - يقاتل الناس على تأويل القرآن.

١٢ - أنا مدينة العلم وعليّ بابها.

١٢٧

١٣ - أنت تُبيّن لأمّتي ما اختلفوا فيه بعدي.

١٤ - عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يفترقا.

فهذه أربعة عشر عنوانا، كلّ واحد منها يكفي في الهداية إلى ما هو الحقّ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ) .

وإذا كنت من هذه الأحاديث على خبرة، فنشير بعون الله تعالى وتأييده على أحداث حدثت، وعلى فتن ظهرت، من آخر عهد رسول الله (ص) بين الأمة الإسلامية، فانحرف أكثر القوم، وارتدّوا عن سبيل الهدى، وتركوا أهل بيت المصطفى، وأضلّهم الشيطان وضلّوا ضلالاً مُبيناً - عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم.

١٢٨

فتنة:

وصية رسول الله (ص)

الملل والنحل: فأوّل تنازع في مرضه عليه السلام، فيما رواه محمّد بن إسماعيل البخاري بإسناده عن عبد الله بن عبّاس، قال: لما اشتدّ بالنبيّ (ص) مرضه الذي مات فيه، قال: ائتوني بدواة وقرطاس اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي، فقال عمر: قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله!! وكثر اللغط، فقال النبيّ (ص): قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع.

قال ابن عبّاس: الرزية كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله.(١)

أقول: قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ) .

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ) .

وقال تعالى:( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) .

وقال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) .

ولا يخفى أنّ رسول الله (ص) لما قال: أكتب كتاباً لا تضلوا بعدي، فهموا منه أنّ الوصية راجعة إلى أمرٍ مهمّ يوجب تركه الضلال والانحراف للأمّة، وليس هو إلاّ تعيين الخليفة وتأمير الأمير، وفهموا بالقرائن الماضية والموجودة أنّ وصيّته راجعة إلى أهل بيته الأطهار والى عليّ بن أبي طالب (ع)، وكان هذا خلاف نظرهم، فخالفوا أشدّ خلاف، وقالوا ما لا يناسب مقام الرسالة.

____________________

١ - الملل والنحل، ج ١، ص ١٣.

١٢٩

مسند أحمد: عن جابر، أنّ النبيّ (ص) دعا عنه موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلّون بعده، قال: فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها.(١)

وفي إمتاع الأسماع: واشتدّ به (ص) وجعه يوم الخميس، فقال: إيتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً. فتنازعوا، فقال بعضهم: ما له، أهجر؟ استعيدوه! وقالت: زينب بنت جحش وصواحبُها: إيتوا رسول الله (ص) بحاجته! فقال عمر: قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، مَن لفلانة وفلانة - يعني مدائن الروم - إنّ النبيّ (ص) ليس بميّت حتى يفتحها، ولو مات لانتظرته كما انتظرت بنو إسرائيل موسى، فلما لغطوا عنده، قال: دعوني فما أنا فيه خير ممّا تسألوني.(٢)

أقول: إن كان اعتذار عمر وتعليله في المنع والخلاف، بقوله أنّ النبيّ (ص) ليس بميّت حتى يفتحها، لا عن غرض سياسي، فهو أقبح من الخلاف والعصيان.

وعلى أيّ حال، فالحقّ ما قال ابن عبّاس: الرزية كلّ الرزية للإسلام والمسلمين ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب وصيته لئلا يضلّوا بعده.

البخاري: بإسناده عن سعيد بن جبير سمع ابن عبّاس رضي الله عنهما يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثمّ بكى حتى بلَّ دمعه الحصى، قلت: يا ابن عبّاس ما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله (ص) وجعه، فقال: ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع، فقالوا: ما له أهجر؟ استفهموه! فقال: ذروني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه.(٣)

وفي البخاري أيضاً: بإسناده مثلها، وفيها: استفهموه فذهبوا يردون عليه، فقال:

____________________

١ - مسند أحمد، ج ٣، ص ١٤٦.

٢ - إمتاع الأسماع، ج ١، ص ٥٤٥.

٣ - البخاري، ج ٢، ص ١٢٦.

١٣٠

دعوني الرواية.(١)

ويروي أيضاً: لمّا حضر رسول الله (ص) وفي البيت رجال، فقال النبيّ (ص): هلمّوا أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده.

فقال بعضهم: إنّ رسول الله (ص) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، ومنهم مَن يقول غير ذلك، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله (ص): قوموا. قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: فكان يقول ابن عبّاس إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.

وقريب منها في مسند أحمد: وفيه: فقال عمر: إنّ رسول الله (ص) قد غلب عليه الوجع وعندنا القرآن.(٢)

ويروي: مثلها، وفيها صرّح بأنّ القائل هو عمر بن الخطاب. فقال عمر: إنّ النبيّ (ص) قد غلب عليه الوجع الرواية.(٣)

ويروي أيضاً: وفيها: قال عمر أنّ النبيّ (ص) غلبه الوجع.(٤)

وفي مسلم: عن سعيد بن جبير.(٥) ، كما في البخاري، ج ٢، ص ١٢٦.

ويروي أيضاً: قريبا منها بسند آخر.(٦) وكذ في مسند أحمد.(٧)

ويروي بإسناده(٨) نظير ما في البخاري، ج ٤، ص ٥.

ويقول في زاد المسلم: وعبيد الله الناقل لقول ابن عبّاس هو عبيد الله بن

____________________

١ - البخاري، ج ٣، ص ٥٨.

٢ - مسند أحمد، ج ١، ص ٣٦٦.

٣ - البخاري، ج ٤، ص ٥.

٤ - نفس المصدر، ص ١٦٧.

٥ - مسلم، ج ٥، ص ٥٧.

٦ - نفس المصدر، ص ٧٦.

٧ - مسند أحمد، ج ١، ص ٢٢٢.

٨ - مسلم، ج ٥، ص ٧٦.

١٣١

عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة، فهو مذكور في إسناد هذا الحديث في الصحيحين.

واللَّغَط - بفتحتين - هو الصوت والجَلَبة وقوله في الحديث يَهجُر - بضم الجيم - أي: يخلط ويهذي، وهذا القول خطأ من قائله ؛ لأنّ وقوع ذلك من النبيّ (ص) مستحيل ؛ لأنّه معصوم في صحّته ومرضه، لقوله تعالى ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) ، ولقول رسول الله (ص): إنّي لا أقول في الرضا والغضب إلاّ حقا.(١)

ويقول: وأمّا قولهم في تفسير: حسبنا كتاب الله. أنّه قال تعالى:( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) ، وقال تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ، فكلّ منهما لا يفيد الأمن من الضلالة ودوام الهداية للناس حتى يتّجه ترك السعي في تلك الكتابة، كيف ولو كان كذلك لما وقع الضلال بعد، مع أنّ الضلال والتفرّق في الأمّة قد وقع.(٢)

الطبقات: يقول ابن عبّاس: يوم الخميس وما يوم الخميس؟! اشتدّ بالنبي (ص) وجعه، فقال: ائتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً، قال: فقال بعض من كان عنده أنّ نبي الله ليهجر! قال: فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: أَوَبعد ماذا؟! قال: فلم يدع به.(٣)

ويروي أيضاً: عن جابر: لما كان في مرض رسول الله (ص) الذي توفّي فيه دعا بصحيفة ليكتب فيها لأمّته كتاباً لا يضلُّون ولا يُضلّون، قال فكان في البيت لغط وكلام وتكلّم عمر بن الخطاب، قال فرفضه النبيّ (ص).(٤)

ويروي أيضاً: عن عمر بن الخطاب كنّا عند النبيّ (ص) وبيننا وبين الناس حجاب، فقال رسول الله (ص): اغسلوني بسبع قِرب، وأئتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً، فقال النسوة: ائتوا رسول الله (ص)

____________________

١ - زاد المسلم، ج ٤، ص ١٨.

٢ - نفس المصدر، ص ٢٠.

٣ - الطبقات، ج ٢، ص ٢٤٢.

٤ - نفس المصدر، ج ٢، ص ٢٤٣.

١٣٢

بحاجته قال عمر: فقلت اسكتن فإنّكن صواحبه، إذا مرض عصرتنّ أعينكنَّ وإذا صحّ أخذتنَّ بعنقه، فقال رسول الله (ص): هنّ خيرٌ منكم.

ويروي أيضاً: عن ابن عبّاس لما حضرت رسول الله (ص) الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب - كما في البخاري، ج ٤، ص ٥.(١)

أقول: يستفاد من هذه الروايات أمور:

الأوّل: أنّ رسول الله (ص) كان متوجّهاً إلى اختلاف الأمّة بعد رحلته وضلالتهم وانحرافهم عن الحقيقة.

الثاني: أنّهم اختلفوا في محضر رسول الله (ص) وخالفوا كلامه، وخالفوا أن يكتب لهم كتاباً فيه هديهم، مع أنّ الله سبحانه يقول: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وما آتاكم الرسول فخذوه.

الثالث: إنّهم قالوا ما لا يقوله إلاّ عدوّ خصيم، ونسبوا إلى ساحة قدس رسول الله الأكرم ما لا ينسبه إلاّ جاهل أثيم، وقد قال سبحانه وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى.

الرابع: أنّ رسول الله (ص) قد انزجر وتألّم بحيث اظهر شدّة الانزجار وقال: ذروني، ودعوني، وقوموا عنّي.

الخامس - أنّ هذه المذاكرة قد وقعت يوم الخميس وقبل أربعة أيام من رحلته (ص)، وهو يومئذٍ في أوّل مرضه، وكان اشتداد مرضه يوم الأحد، وفي هذا اليوم عقد لأسامة لواءا بيده، ثمّ خرجوا ومنهم أبو بكر وعمر إلى معسكر أسامة بالجُرف، فكيف يجوز نسبة الهجر إليه في ذلك اليوم.

السادس - أنّ من المخالفين عمر بن الخطاب وقد صرّح باسمه، والظاهر - بل المصرَّح - أنّه هو القائل بكلمة ( ليهجر ).

السابع: أنّ عمر بن الخطاب هو القائل أيضاً بجملة ( كفانا كتاب الله ) مع أنّ رسول الله (ص) كان يقول كراراً: إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إنْ

____________________

١ - الطبقات، ج ٢، ص ٢٤٤.

١٣٣

تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً.

الثامن: أنّ الله تعالى يقول:( وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) ،( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) ، ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ) . وأنّهم خالفوا رسول الله ولم يطيعوه في أهمّ الأمور، ثمّ إنّ عمر بن الخطاب قد خالف كتاب الله في موارد كثيرة، منها في المتعتين، ومنها: في ميراث الأنبياء، وغيرهما.

التاسع: إنّ المقصد الأسنى والهدف الأعلى في حياة كل امرئ إنّما يتحقّق بتحقّق الوصية وحفظها والعمل بها بعده، وهذه مُنية كلّ من أسس أساساً ودوّن قانوناً وأوجد نظاماً وتشكيلاً، وإذا فقدت الوصية أو لم يعمل بها بعده فقد بطل جميع عمله وانمحى كلّ آثار وجوده وبقى خاسراً خائباً.

العاشر: يثبت من هذه الروايات أنّ رسول الله (ص) قد توفي وهو منزجر وساخط على عمر بن الخطاب، وقد صرّح به بقوله وعمله قوموا عنّي، إنّهن خير منكم، فرفضه النبيّ، أو بعد ماذا.

ونِعم ما يقول ابن عمر في موضوع الاستخلاف:

في الطبقات: أن ابن عمر قال لعمر بن الخطاب: لو استخلفت! قال: مَن؟ قال: تجتهد، فإنّك لست لهم بربّ تجتهد، أرأيت لو أنّك بعثت إلى قيّم أرضك ألم تكن تحبّ أن يستخلف مكانه حتى يرجع إلى الأرض؟ قال: بلى، قال: أرأيت لو بعثت إلى راعي غنمك ألم تكن تحبّ أن يستخلف رجلاً حتى يرجع.(١)

أقول: هذا الكلام يؤيّد ما ذكرناه آنفا في الأمر التاسع من أنّ الهدف الأعلى في حياة كل امرئ إنّما يتحقّق بالوصاية، وهذا أمر فطري ضروري لكلّ من كانت له جمعية أو رعيّة أو أسس أساساً اجتماعياً، ولا يختصّ هذا بمورد معيّن، بل يجري في جميع موارد الغَيبة والسفر والبعد عنهم، ولهذا ترى رسول الله (ص) يستخلف في مغازيه وفي كلّ موقع يخرج من المدينة ولو بأيام قلائل، فكيف يمكن أن لا يستخلف بعد حياته وفي غيبته الدائمة؟!

____________________

١ - الطبقات، ج ٢، ص ٣٤٣.

١٣٤

وعلى أيّ حال فهذا الخلاف أوّل فتنة ظهرت في الإسلام، وأوّل تدبير من المخالفين على الوصية وعلى استخلاف أهل البيت، ومن هذا الخلاف بدأت الفتن، ومن هنا ظهر الانحراف، فللمسلم الحرّ أن يتوقّف في هذه المرحلة، يحقّق عن الحقّ وعمّا أراد الله عزّ وجلّ ورسوله، ويبحث عن الصراط الذي يعرّفه رسول الله (ص) في طول أيام حياته، ويراجع الأحاديث الواردة في الكتب المعتبرة من أهل السنة، وقد أدرجنا في هذا الكتاب ما فيه كفاية للمعتبر وأنّها لهدى للمتّقين.

* * *

١٣٥

فتنة:

( بَعْث جيش أُسامة )

الملل والنحل: الخلاف الثاني في مرضه، أنّه قال: جهّزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلّف عنها. فقال قوم: يجب علينا امتثال أمره، وأسامة قد برز من المدينة، وقال قوم: قد اشتدّ مرض النبيّ عليه السلام فلا تسع قلوبنا لمفارقته والحالة هذه، فنصبر حتى نبصر أيّ شيء يكون من أمره.(١)

أقول: قال الله تعالى:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) . وقال تعالى:( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) . فمخالفته قولاً أو عملاً تكشف عن ضعف الإيمان، بل عن النفاق، ولا سيّما مع هذا التأكيد الأكيد واللعن الصريح على المخالفة. ولا يبعد أن يكون هذا التجهيز المأمور به من جانب الله تعالى في هذا الموقع المخصوص لأميرين أو لأمور مهمّة.

منها: أن يتوجّه المهاجرون والأنصار في آخر ساعة من حياة النبيّ (ص) إلاّ أنّ الخلافة والإمارة الإلهية لا ربط لها بالعناوين الظاهرية، من المال والمقام والكهولة، وقد أمّر أسامة بن زيد وهو ابن عشرين سنة على جميع المهاجرين والأنصار، ومنهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.

ومنها: أن يخرج رؤوس المهاجرين والأنصار من المدينة حين وفاة النبيّ (ص)، حتى يمكن إجراء نظره وأعمال وصيّته في علي أمير المؤمنين، حبيب الله وحبيب رسوله، ولكن تدبير المخالفين في هذه المرتبة الثانية أيضاً قد

____________________

١ - الملل والنحل، ج ١، ص ١٤.

١٣٦

منع عمّا يريده رسول الله (ص) من إجراء نيّته.

تهذيب ابن عساكر: فقال رجال من المهاجرين، وكان أشدّهم في ذلك قولاً عيّاش بن أبي ربيعة: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين، فكثرت القالة في ذلك، فسمع عمر بن الخطاب بعض ذلك القول فردّه على من تكلّم به، وجاء إلى رسول الله (ص) فأخبره بقول مَن قال، فغضب رسول الله (ص) غضباً شديداً فخرج وقد عصب رأسه بعصابة وعليه قطيفة، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد، أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، فوالله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليق وأنّ ابنه من بعده لخليق بالإمارة، وإن كان لأحبّ الناس إليّ، وإنّ هذا لمِن أحبّ الناس إليّ، وإنّهما لمُخيلان لكلّ خير، فاستوصوا به خيراً فإنّه من خياركم.

ثمّ نزل رسول الله (ص)، فدخل بيته وذلك يوم السبت وجاء المسلمون الذين سيخرجون مع أسامة يودّعون رسول الله (ص) وفيهم عمر بن الخطاب، ورسول الله (ص) يقول: أنفذوا بعث أسامة.(١)

أقول: اللّهم العن من تخلّف عن جيش أسامة كما لعنهم رسول الله (ص)، اللّهم إنّا نتبرّأ ممّن اعترضوا على رسول الله (ص) وأغضبوه، وطعنوا في تأميره وخالفوا أمره، ولم يطيعوه ولم يسلموا إليه ولم يتجهّزوا ولم يسرعوا السير في حياته.

البخاري ومسلم: بإسناده عن ابن عمر: بعث رسول الله (ص) بعثا وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمرته فقام رسول الله (ص) فقال: إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمرة، وإن كان لمِن أحبّ الناس إليّ، وإنّ هذا لمِن أحبّ الناس إليّ بعده.(٢)

ويروي مسلم أيضاً: قريبا منها بسند آخر، وفيها: فأوصيكم به، فإنّه من صالحيكم.

____________________

١ - تهذيب ابن عساكر، ج١، ص ١٢٠.

٢ - البخاري، ج٢، ص ١٨٧ ومسلم، ج٧، ص ١٣١.

١٣٧

ويروي مسند أحمد: قريباً منها.(١)

الطبقات: فلمّا أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواءً بيده، ثمّ قال: اُغزُ بسم الله وفي سبيل الله فقاتِل من كَفَر بالله! فخرج بلوائه معقودا فدفعه الى بُريدة أبن الحُصيب الأسلمي وعسكر بالجُرف، فلم يبقَ أحدٌ من وجوه المهاجرين الأوّلين والأنصار إلاّ انتُدِب في تلك الغزوة، فيهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقّاص فتكلّم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين، فغضب رسول الله (ص) غضباً شديداً فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر ثمّ نزل فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأوّل، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودّعون رسول الله (ص) ويمضون إلى العسكر بالجُرف، وثقل رسول الله (ص) فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة.

فلمّا كان يوم الأحد اشتدّ برسول الله (ص) وجعه، فدخل أسامة من معسكره والنبيّ مغمور، وهو اليوم الذي لدّوه فيه، فطأطأ أسامة فقبّله ورسول الله (ص) لا يتكلّم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثمّ يضعهما على أسامة، قال: فعرفت أنّه يدعو لي، ورجع أسامة إلى معسكره، ثمّ دخل يوم الإثنين وأصبح رسول الله (ص) مفيقاً صلوات الله عليه وبركاته، فقال له: اغد على بركة الله فودّعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل، فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمّه - أمّ أيمن - قد جاءه يقول: إنّ رسول الله (ص) يموت! فأقبل واقبل معه أبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله (ص) وهو يموت فتوفّى (ص) حين زاغت الشمس يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجُرف إلى المدينة إلخ.(٢)

ويروي أيضاً: أنّ النبيّ (ص) بعث سرية فيهم أبو بكر وعمر واستعمل عليهم

____________________

١ - مسند أحمد، ج٢، ص ١٠٦.

٢ - الطبقات، ج٢، ص ١٩٠.

١٣٨

أسامة بن زيد، فكان الناس طعنوا فيه أي في صغره إلخ.(١)

ويروي أيضاً: ثمّ قال: أيّها الناس أنفذوا بعث أسامة، فلعمري إن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه مِن قبله، وإنّه لخليق للإمارة وان كان أبوه لخليقاً لها. قال: فخرج جيش أسامة حتى عسكروا بالجُرف وتتام الناس إليه، فخرجوا إلخ.(٢)

أقول: الجُرف - بالضم - على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. ولدَّ الدواءَ: صبّه في أحد شقّي الفم.

ويروي أيضاً: فخطب أبو بكر أناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: والله لأن تخطّفني الطير أحبّ إليّ مِن أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله (ص)، قال: فبعثه أبو بكر إلى آبل واستأذن لعمر أن يتركه عنده، قال: فأذن أسامة لعمر إلخ.(٣)

أنساب الأشراف: وكان رسول الله (ص) قد رأى توجيه أسامة بن زيد في سرية إلى الذين حاربهم أبوه يوم مؤتة وأمره أن يوطئهم الخيل، وعقد له لواء وضم إليه أبا بكر وعمر فيمن ضم، فمرض (ص) قبل أن ينفذ الجيش، فأوصى بإنفاذه فقال: أنفذوا جيش أسامة. فلمّا استخلف أبو بكر أنفذه، وكلّمه في عمر لحاجته إليه.(٤)

أقول: إن كان مراده من قوله ( فأوصى بإنفاذه ) الوصية بالإنفاذ بعد رحلته وموته: فهذا خلاف ما ثبت ونقل في الكتب المعتبرة، بل وغير المعتبرة أيضاً، وقد مرّ في الطبقات قوله: وأصبح رسول الله (ص) مفيقاً فقال له: أُغدُ على بركة الله. فودّعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل. وان كان مراده من الوصية: الأمر بالإنفاذ وحركة الجيش بالفور ومن غير تأخير، وهو الصريح من

____________________

١ - الطبقات، ج٢، ص ٢٤٩.

٢ - نفس المصدر، ج٤، ص ٦٨.

٣ - نفس المصدر، ج٤، ص ٦٧.

٤ - أنساب الأشراف، ج١، ص ٣٨٤.

١٣٩

التاريخ والرواية: فكيف يجوز للجيش التهاون والتراخي والتسامح ومخالفة أمر الرسول، مع أنه لا ينطق عن الهوى ولا يجوز مخالفته وعصيانه.

ويروي أيضاً: عن ابن عبّاس: خرج رسول الله (ص) عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، وكان الناس قد تكلّموا في أمره حين أراد توجيههم إلى مُؤتة، فكان أشدّهم قولاً في ذلك عيّاش بن أبي ربيعة، فقال: أيّها الناس أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمرته لقد قلتم في إمرة أبيه من قبله ولقد كان أبوه للإمارة خليقا، وإنّه لخليق بها. وكان في جيش أسامة أبو بكرٍ وعمر ووجوه من المهاجرين والأنصار (رض)، وخرج فعسكر بالجُرف. فلمّا قبض رسول الله (ص) واستُخلِف أبو بكر، أتى أسامة فقال له: قد ترى موضعي من خلافة رسول الله (ص) وأنا إلى حضور عمر ورأيه محتاج، فأنا أسألك تخليفه! ففعل.(١)

تهذيب ابن عساكر: فشقّ ذلك على كبار المهاجرين الأوّلين ودخل على أبي بكر عمر وعثمان وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، فقالوا: يا خليفة رسول الله إنّ العرب قد انتقضت عليك من كلّ جانب وأنّك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئاً، اجعلهم عدّة لأهل الردّة ترمي بهم في نحورهم، وأخرى لا تأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء، ولو تأخّرت لغزو الروم فقال: والذي نفسي بيده لو ظننت أنّ السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدّ أن يؤوب منه، كيف ورسول الله (ص) ينزل عليه الوحي من السماء يقول: أنفذوا جيش أسامة. ولكن خصلة أكلّم بها أسامة، أكلمه في عمر يقيم عندنا ؛ فإنّه لا غنى بنا عنه، والله ما أدري يفعل أسامة أم لا.(٢)

أقول: والعجب من قول أبي بكر حيث يعترف بأنّ رسول الله (ص) ينزل عليه الوحي من السماء، ومع هذا تخلّف عن الجيش في زمان حياة رسول الله (ص) ثمّ يكلّم في عمر أيضاً حتى يقوم عنده ويتخلّف عن الجيش، وقال الله تعالى:( أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ) . ويقول:( وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

____________________

١ - نفس السابق، ص ٤٧٤.

٢ - تهذيب ابن عساكر، ج١، ص ١٢٢.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وأنسجة الاتصال فيتفاهم معها على البذة الجثمانية التي سيكون عليها هذا الكائن ، وفيبدأ العظم في التفاهم مع الدم والكلس والمعادن والأخلاط والبروتينات والشحوم وبقية الغدد على انجاز الهيكل العظمي بشكل يتفق مع الخريطة الهندسية التي أطلعه عليها هورمون النمو ، وكأن هذا الهورمون هو المهندس الذي يصمم الخريطة وبقية الأعضاء هم العمال والمقاولون والبناؤون والعتالون والنقالون الذين يبنون هذه البناية الإنسانية الفريدة ، وهكذا يقوم الهيكل العظمي بشكل متزن من كل جهاته ويساهم معه غضروف الاتصال ، وأنسجه الاتصال في كل البدن.

وأما الحاث الذي ينبه الثدي على إفراز اللبن(1) فهو يطلع غدد الثدي وخلاياها على الطريقة السحرية الغامضة التي يمكن بواسطتها قلب محصول الدم في الخلايا إلى حليب يناسب الطفل من كل جانب ، كما أن نفس الحليب يزداد تركيز المواد فيه مع الزمن بحيث يناسب الولد مع تقدم نموه واشتداد عضلاته ، وقوة مفاصله ، وتدرج تكوينه.

وأما الحاث الثالث فهو الذي يتصل الدرقية(2) وهو يعلم الدرق كيفية اصطياد اليود من الدم ، وتركيب هورمونات الدرق منه مثل التيرونين والتيروكسين ، والتيروكسين بدوره يفعل كما ذكرنا على مستويين : الأول هو تثبيط مفرز الغدة النخامية ، والثاني على مستوى

__________________

(1) يسمى اختصاراً L.T.H.

(2) الغدد التي تترابط بشكل مباشر مع النخامة هي الدرق وتقع في أسفل ومتتصف العنق ولا تظهر إلا في الاحوال المرضية ، وغدة الكظر وهي مثل القبعة المثلثة فوق رأس الكلية ، وغدة المبيض وتقع في أسفل البطن والخصية والثدي ، واجهزة النمو بشكل عام ، والهورمونات الستة اختصاراً هي A.C.T.H لقشر الكظر أو مغذي الكظر و T.S.H مغذي الدرق ، و L.T.H مغذي الثدي ، و G.H النمو ، و F.S.H لجريب دو غراف ، و I.C.S.H لخلايا المبيض والخصية.

٢٤١

الجسم ، فهو يؤثر في كل الأجهزة على الإطلاق عدا الدماغ لأنه مركز القيادة ، والطحال لأنه المقبرة الموحشة المنعزلة ، والخصية والرحم لأنهما من اختصاص الغدة النخامية.

وهذا الهورمون أصح ما يقال عنه إنه هورمون الفعالية والنشاط فهو يدفع النشاط والحيوية في كل مسارب البدن ، فالقلب يضرب ، والتوتر يرتفع ، والفعالية تزداد ، والعرق يتصبب ، والصوت يعلو ، والحرارة تتدفق في أرجاء البدن ، والنمو يزداد ، ومنعكسات الجهاز العصبي تزداد ، والكلية تعمل ، ويزداد ادرار البول ، والعضلات تشتد ، والسكاكر تحرق ، والشحوم تذاب في البدن ، والفيتامينات تتكون مثل الفيتامين A من الكاروتين إنها الفعالية والنشاط في كل مستويات البدن. إنها حرارة العمل ، ونشاط الانتاج ، ووهج الحيوية ، ولكن إذا زاد الأمر أو نقص انقلب الأمر بشكل مريع ، وهو ما يعرف بقصور الغدة الدرقية ونشاط الغدة الدرقية ، ففي الأول يسيطر الكسل والخمول على كل فعاليات البدن ، فإذا تحرك نقل المريض نفسه ببطء ، وإذا تكلم كان صوته خشناً خافتاً وكأنه ينبعث من كهف ، وأما وجهه ففيه تعابير البلادة ، وأما قلبه ففيه بطء الحياة ، وهكذا يعم الكسل وينتشر الخمول!! وإذا اشتد نشاط هذه الغدة تدفق العرق من الجسم فلا تصافح المريض إلا ويده رطبة من التعرق ، وتفيض الحرارة على الجسم فيشعر المريض وكأنه في أتون ويتضايق من الحر. ويميل إلى حب البرد ، وإذا تكلم ارتفع صوته واشتد غضبه وحدثت لديه الانفعالات بسرعة وبشدة ، وإذا مد يديه أصابهما الرجفان ، وهكذا تنتشر السرعة ، ويعم الاضطراب العصبي وكأن الحالة الأولى هي القطار البطىء والثانية هي القطار الأهوج السريع!!!

وأما الحاث الرابع فهو الرسول الموقر إلى مملكة الكظر حيث يقابل

٢٤٢

عناصر الدولة في الحدود الأولى ، وهي القشر في الكظر ، وهناك تشرح الخطة التي يجب أن يقوم بها الكظر ، حيث يبدأ بإفراز الهورمونات من ثلاث مناطق ، وبعدد يبلغ الثلاثين هورموناً ، وهي تقوم بثلاث وظائف حيوية : الأولى على مستوى السكاكر ، والثانية على مستوى معادن البدن ، والثالثة في الوظائف الجنسية ، ولذا تسمى هذه الهورمونات : بالقشرية السكرية ، والمعدنية ، والجنسية. وهي تفرز من مناطق اختصاص من منطقة قشر الكظر.

وهذه الهورمونات الثلاثون تقوم بجملة عجيبة في البدن فتعدل الشوارد المعدنية فيه ، وتحسن وظائف أجهزته ، وتحافظ على اتزان أخلاطه ، وتسير أموره ، وتضبط موازينه فيما يزيد على سبعين وظيفة لسنا بصددها الآن ، هذا مع العلم بأن كل الكظر بما فيه القشر واللب لا يتجاوز وزنه سبعة غرامات فقط.

وأما الرسولان الأخيران فهما يرسلان إلى مراكز الجنس ومستودعات الذخيرة الإنسانية ، وهي الخصية والمبيض ، وهناك تشرح الخطة المفصلة لانضاج البيضة الإنسانية وإعدادها للالقاح ، كما يهىء الحيوان المنوي بما يلزمه في الرحلة التي يقطعها عبر الرحم والأخلاط والمفرزات والطرق المتعرجة ، والمسارب الملتوية ، والأحماض والسوائل ، فهو يزود بذنب طويل يساعده على الحركة اللولبية ، كما يفهم كيف يجب أن يمشي وأي الطرق يختار ، وما هي السرعة التي يجب أن يسير بها ، والطريقة التي يسرع بها ، وأنسب ما تكون الحركة اللولبية ، كما يغطى رأسه من الأمام بخوذة مصفحة حتى لا يتأثر بالصدمات والرضوض والضربات ، وهي القلنسوة الامامية ، وحتى يلج بها جدار البيضة التي تنتظره. ثم يزود بعد ذلك بالأدعية أن يحفظه الله في رحلته الميمونة الخطرة!! فكيف علمت وعلمت هذه الهورمونات ، أهو عامل الصدقة؟ أم هو

٢٤٣

قوة النطفة بذاتها ، أم هي القوة المدبرة اللطيفة الحكيمة والعقل المنظم الدافع الذي يبعث الحياة ، ويهب الحكمة ، ويمنح الرحمة ، ويعطي الهداية للكائنات( قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ايتوني بكتاب من قبل هذا أن أثارة من علم إن كنتم صادقين ) سورة الأحقاف( أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون ) سورة الطور

هذا ما كان من أخبار الفص الأمامي للغدة النخامية ، وأما الفص المتوسط فيفرز حاثاً يتعلق بالجلد حيث يوفد هذا السفير إلى تلك الأصقاع النائية الشاسعة التي تغطي الوجود الانساني كله من مفرق رأسه إلى قدمه ، ولا تنفتح عنه إلا في الفوهات مثل الفم والانف والاحليل والمستقيم ، والجلد في هذه الفوهات يستدير ويفصل بطريقة ملائمة جداً ، ويأتي هذا السفير إلى تلك الاصقاع فيخبرهم بالخطر الذي يتعرض له الجلد من الضياء والحرارة والأعداء الخارجيين ، لذا فان أنسب تلوين يأخذه هو من طبيعة الأرض ولون الأرض التي يعيش عليها ، كما أن المناطق التي تتعرض بكثرة للنور يجب أن لا تبقى بيضاء والا احترقت خاصة في المناطق التي تزداد فيها أشعة الشمس مثل المناطق الاستوائية ولذا يتلون الجلد باللون الأسود ويحدث العكس في المناطق الباردة والمناطق القليلة الشمس.

إن تتظيم الصباغ الذي بلون الجلد يعود إلى هذا الهورمون الحاث حيث يتفاهم مع خلايا قاعدة الجلد على افراز صباغ خاص يسمى بالميلانين ، وهذا الصباغ يلون الجلد باللون المناسب حسب الحرارة ووهج الضياء الخارجي ، ولنا أن نتساءل أمام هذه الحقيقة : ما ذنب الزنجي الاسود حتى تسقط حقوقه ، وتداس كرامته ، ويحرم من التعليم ، ويسام الخسف والهوان والضيم والذل ، ويسلط عليه الفقر والجهل

٢٤٤

والمرض ، ويطارد كالكلب ، بل يكتب على المطاعم ممنوع دخول الكلاب والسود!! ما ذنبه إذا كان كل صباغ الميلانين هذا الذي يتوزع في جلده يساوي غراماً واحداً فقط ، ولكن هل تساوي هذه الحضارة المزيفة غراماً واحداً من الخلق والإنسانية؟!!

وآخر الأقسام الثلاثة من النخامة هو الفص الخلفي ، ويسمى بالفص العصبي ، لأن له اتصالات عصبية مباشرة مع مراكز الدماغ العليا أكثر من الفص الأمامي والمتوسط ، وكما ذكرنا سابقاً فهناك مراكز تقع فوق النخامة وتحت السرير البصري ، وهذه المناطق هي مناطق التنظيم والقياده العليا التي تنصّب الملوك ، وتعين الأمراء ، وترسل الرسل ، وتهيمن على الجميع!! إن هذه المنطقة ترسل أليافاً عصبية تسيطر بها على فعالية الغدة النخامية حتى تتناسق في العمل مع بقية أعضاء الجسم عن طريق الدماغ ، وهذه الألياف تنحدر إلى الغدة وتتوزع في الفصوص الثلاثة ، وأكثرها في الفص الخلفي ، ويبلغ عدد الألياف وسطياً في كل فص (50) ألف ليف عصبي ، فهي شبكة اتصالات هاتفية مكونة من أكثر من (100000) مائة ألف خط للتفاهم وتنسيق الجهود.

هذا الفص يفرز ثلاثة هرمونات ، وهذه الهورمونات تقوم بثلاثة أدوار هي تقليص عضلة الرحم ، وتقبيض الأوعية الدموية ، والدور الثالث عبارة عن عملية مضادة للإدرار في الكلية. فأما الهورمون الأول فهو الذي ينظم تقلص الرحم في ساحة الخلاص وبشكل تدريجي ونتساءل لماذا يبدأ هذا الهورمون عمله وفي هذه اللحظة بالذات؟ لقد وجد من أسرار التنظيم العجيبة أن هناك تضاداً ما بين إفراز هذا الهورمون من غدة النخامة ، وما بين الهورمونات التي تفرزها المشيمة المتعلقة بأرجل هي أقوى من مائة (100) أخطبوط إلى جدار الرحم ، وهي هورمونات البروجسترون والأستروجين ، ولقد لوحظ ان هذه

٢٤٥

الهورمونات تنخفض كلياً وبسرعة في لحظة ما ، وكأن هذا اللجام للغدة النخامية قد أفلت وكأن تعلق المشيمة بجدار الرحم قد تزعزع من الأساس فيبدأ هذا الهورمون باقناع الرحم أن يتقلص لدفع الجنين إلى الخارج بشكل منظم تدريجي بعد أن حواه تسعة أشهر كاملة ( حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) ونتساءل مرة أخرى ما الذي دعا الى هبوط مستوى هورمونات المشيمة من الدم كلياً دفعة واحدة وبسرعة؟ هل لأن المشيمة شاخت ، أو ماذا؟ لا أحد يدري وقيل في هذا تعليلات مختلفة ولكن أصدق ما يقال هو قدرة الله المنسقة للكون والحيان والانسان(1) .

وييدأ الرحم في التقلص ، ويبدأ صراخ الأم وتمر بمراحل مختلفة من الالم يشتد فيها تدريجياً حتى يصل الألم إلى درجة لا تستطيع الام أن تخرج معه صوتها ، نقف هنا لنلفت نظر القارئ إلى نقطة عجيبة وهي : إن تفلص الرحم المنظم المشتد تدريحياً هو الذي يخرج الجنين إلى الحياة لأن نقص التقلص يفضي إلى ما يعرف بعطالة الرحم حيث يمتنع الرحم عن التقلص ويبقى الجنين في الداخل ينتظر ساعة الخلاص ، وهنا يعمد الاطباء إلى ما يعرف بتحريض المخاض عن طريق حقن مواد ودوائية في الوريد ، وإذا اشتد تقلص الرحم حدث ما يعرف باشتداد تقلص الرحم ، وفرط مقوية الرحم التي قد تصل إلى درجة تكزز الرحم حيث تتوالى التقلصات بدون فواصل راحة وكأنها هستريا تشنجية في عضلة الرحم ، ويصل الامر في آخره إلى أن تنقبض الرحم مرة واحدة فلا ترتخي ، وهذا معناه الهلاك المبين للجنين ، لا تشنج الرحم

__________________

(1) لا يعني هذا ان بقية الآليات والتفاعلات في الجسم إذا جاء العلماء وفسروها فان معناها ان قدرة الله لا تتدخل فيها ، بل إن نفس الدماغ الذي يفسر بواسطته العالم مشاكل العلم هو من هبات الله التي لا تحصى.

٢٤٦

وانقباضه بهذا الشكل يعني انقطاع ورود الدم إلى الجنين عبر المشيمة ، ويبدأ الجنين في التالم ويرسل صيحات النجدة وإشارات الاستغاثة ، ولكن كيف سنعرف أنه في حالة محنة وكرب؟ إنه يرسل صرخات النجدة من خلال أثمن ما يملك وهو دقات القلب(1) ، وهكذا يعرف الطبيب وضع الجنين تماماً من خلال سماع دقات قلب الجنين ، وتكون إشارات الاستغاثة تماماً كالإشارات الخضراء والصفراء والحمراء. فالقلب أولاً يسرع ثم يبطؤ ، ثم تخف ضرباته ويضيع انتظامه ، وكأن الحالة الأولى الانفعال السريع ثم التراخي ثم الاقتراب من سكرة الموت وضياع الوعي ، فما أعقل قلب هذا الجنين الذي يرسل هذه الإشارات المعبرة!! ان سماع هذه الدقات يعني للطبيب أن يتدخل بسرعة لانقاذ حياة هذا الذي يغرق في الموت كل لحظة.

إن هذا الهورمون هو الذي ينظم تقلصات الرحم كحد السيف فلا تزيد ولا تنقص وكل شي بمقدار ، حتى يسهل خروج الجنين إلى الحياة ولكن إذا خرج سالماً هل انتهت القضية؟ إن المحنة تبقى للأم فجدار الرحم مثقوب بآلاف الثقوب من أوعية الدم التي كانت تغذي المشيمة وها هي قد انفتحت دفعة واحدة فيا للهول الهائل!! إن هذا يعني موت الأم في دقائق لأن النزيف سيقتلها ولن ينقذها شيء في هذه اللحظة إلا القدرة الحكيمة اللطيفة التي رتبت الأمور!!

يا أيها الهورمون الذكي لقد كنت تشبه الذي يلعب الأستغماية فأنت تبرز وجهك للرحم فيخاف وينكمش ثم تختفي فيرتخي الرحم ويبش ،

__________________

(1) دقات قلب الجنين ضعف دقات قلب الرجل الكهل أي 120 ـ 140 ضربة في الدقيقة الواحد وهي تشبه دقات الساعة ، وقد ترتفع في حالات تألم الجنين إلى 160 ـ 180 ـ 200 واكثر في الدقيقة الواحدة.

٢٤٧

وهكذا تتوالى التقلصات ، فالآن جاء دورك أيها الهورمون الذكي إجعل الرحم ينقبض دفعة واحدة ، ولفترة طويلة(1) ، لقد جاء دور الانقباض الآن!! ألا تعجب أيها القارىء ما بين خطورة الانقباض قبل قليل وفائدته الآن!! ان انقباض الرحم قبل قليل معناه موت الجنين ، وعدم انقباض الرحم الآن يعني موت الام ، نفس العمل يميت ويحيي ، فتباركت اللهم الذي جعلت من الموت حياة ومن الحياة موتاً( إن الله فالق الحب والنوى ، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنّى تؤفكون ، فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم. وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون. وهو الذي انشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون ) سورة الانعام ، هذا هو عمل هذا الهورمون الذكي العاقل فهو هورمون ساعة الخلاص ، وهو هورمون النجدة ، وهو هورمون التخفيف والمواساة للأم.

وأما الهورمون الثاني من الفص الخلفي للنخامة فهو يتعلق بالعروق الدموية المرنة ، فهو يخنقها أو يرخيها. وأما كيف يتم هذا التقلص أو الارتخاء ، وبالتالي يرتفع ضغط الدم أو ينزل ، فان السبب فيه يرجع إلى أن هذا الهورمون له علاقة وصحبة قديمة مع عناصر مهمة في جدار العرق الدموي وخاصة الشرايين ، فالشريان يتكون جداره من ثلاث طبقات ، وتحوي الطبقة المتوسطة أليافاً عضلية مرنة ، فإذا تقلصت هذه الألياف العضلية أدى ذلك إلى صغر لمعة الوعاء الدموي وبالتالي اشتد

__________________

(1) يسمى هذا الفعل عند المولدين بالارقاء الحي ، وسماها بينار تشكل كرة الامان لأن الشعور بها يبعث الى الاطمئنان على حياة الأم ، وعدم تشكلها يعني النزف كافواه القرب

٢٤٨

ضغط الدم ، والعكس بالعكس ، إن هذا الهورمون الجوال لا يهمه من كل ما يحيط به إلا هذه المنطقة فقط فيأوي اليها ويفهمها أن ترتخي وتتقلص بما يناسب حالة البدن بشكل عام من الداخل أو الخارج. وأما كيف يتم التفاهم بين هذا الهورمون وبين الألياف العضلية اللاارادية أو ما تسمى بالألياف الملس فتقوم بما املاه عليها اقتناعها؟ فذلك سر من الاسرار!

وأما الهورمون العاشر والأخير من سلسلة هورمونات الغدة النخامية ، أو الهورمون الثالث من هورمونات الفص الخلفي من النخامة ، فيختص بالكلية فهو معجب بها ولا يحب غيرها ، ولذا فهو يأوي اليها ليقوم ببعض المهام التي تعتبر في منتهى الخطورة بالنسبة للجسم ، إن هذا الهورمون يقع تأثيره بعمل معين وفي منطقة معينة ، فأما العمل المعين فهو الامتصاص وكأنه ذلك الحيوان الاسطوري الذي لا يكف عن شرب السوائل ليل نهار ، وأما مكان عمله فهذا يحتاج لشرح بسيط.

لقد وجد أن الكلية تتكون من مليون كبة!! وما هي الكبة؟ أهي كبة شعر؟!؟ لا إنها كبة من شعريات دموية فالشريان الكلوي يتفرع حتى يصل إلى درجة عظيمة من الدقة والصغر وهنا يلتف على نفسه حتى يكون كبة ، ولكن من وعاء دموي صغير هو أرفع من الشعرة ، وهذه الكبة يحيط بها غشاء هو أشبه بالقربة التي تتلقى السوائل التي ترشح من هذه الكبة ، ومن هذه القربة يمتد أنبوب متعرج ثم يشكل عروة صغيرة(1) ، ثم يتعرج مرة أخرى حتى يلتقي بأمثاله ، مكوّناً أنبوباً كبيراً ، وهكذا تجتمع الأنابيب فتكوّن أنبوباً أكبر ، وهكذا حتى تصب فيما يسمى بالكؤوس الكلوية ، وهي تشبه الخلجان البحرية ، ثم

__________________

(1) تسمى هذه العروة بعروة هانلة.

٢٤٩

يلقى البول المتكون الراشح في الحويضة ثم يمر إلى الحالب فالمثانة فالاحليل ، ثم إلى الخارج نهائياً ، ان الأنبوب القريب من الكبة تمتص منه معظم السوائل المرتشحة وهي ما تقارب 85% ، والمنطقة التي تقع بعد عروة هائلة تسمى بالأنبوب البعيد وهنا يمتص قرابة 14% من السائل الراشح ، والامتصاص هنا يخضع لهورمون الغدة النخامية ، ولذا سمي بالهورمون المضاد للأدرار ، ويتم الامتصاص هنا بشكل فاعل أي أن الامتصاص هنا يتعلق بكمية هذا الهورمون في الدم ، وبكمية الشوارد المعدنية والسوائل التي توجد في البدن ، ولكن الشيء المهم هو أن هذا الهورمون هو الذي يمسك هذه القناة فيصرف سوائلها ، بينما تعتبر المنطقة القريبة من الكبة منطقة منفعلة يتم الامتصاص فيها بشكل آلي وبدون تدخل أحد ، فهي قناة عامة لا يد لأحد فيها ، وحتى نتفهم خطورة هذا العمل الذي يقوم به الهورمون فيجب أن نعلم أن كمية الدم المارة في الدقيقة الواحدة هي (1300) سم 3 أي أن الكلية تقوم بتصفية (1800) ليترة من الدم يومياً فأي مصفاة عجيبة هذه!! وهذه المصفاة تصفي من الدم عشرات العناصر من المعادن والسموم والنفايات ، والمخلفات والمواد التي تعتبر حصيلة استقلابات البدن ، ولذا يعتبر فحص البول مهماً جداً لكشف الكثير من الأمراض التي تختص بجهاز البول وببقية الأجهزة.

إن الدم الذي يمر يرشح منه في تلك القربة السحرية ـ وتسمى بمحفظة بومان ـ مقدار يبلغ (127) سم 3 في الدقيقة أي ما يعادل (183) ليتر من البول يومياً فكيف يمتص ثانية؟ إن امتصاصه يتم عن طريق الأنابيب القريبة ، ثم الأنابيب البعيدة ، بواسطة هورمون النخامة المسمى بالهورمون المضاد للإدرار ، وهكذا يمتص ( 5 و 181 ) ليتراً ويطرح (5 و 1) ليتراً يومياً وهو البول العادي الذي يطرحه كل واحد منا ، وهكذا يمتص (1100) غرام من ملح الطعام و (410) غرام من ثاني فحمات الصوديوم و (150) غرام

٢٥٠

من سكر العنب وهذا يعني أن سوائل البدن التي تتراكم ما بين الخلايا وتقدر بـ (11) ليتر تترشح وتمتص (16) مرة في اليوم الواحد ، أي ان أخلاط البدن الداخلية تنقى وتصفى من الكدر والسموم والبقايا والنفايات والمواد الضارة ، والزائدة ، والتي لا لزوم لها ، ومحاصيل الاستقلاب ، كلها تنظفها الكلية من الجسد (16) مرة في اليوم ، فأي عناية وأي نظافة وأي تصفية عجيبة هذه!!

وإذا وقعت الواقعة وفقد هذا الهورمون من البدن فماذا يحدث؟ بول دائم ليلاً نهاراً! إن المريض يبول ويبول بدون توقف(1) ، وحتى يعوض عما يبول يشرب ويشرب ويشرب الماء ، وهكذا فان المريض لا يبقى له شغل إلا أن يكون بجانب حنفية الماء ودورة المياه ، وإذا لم يفعل هذا تجفف جسمه ومات في مدى أيام قليلة ، وكل هذا بسبب فقد هذا الهورمون الذي يسيطر على إدرار البول في الجسم وبتأثير يبلغ ملغرامات بسيطة قليلة

إنه الاتزان المحكم ، والدقة الرائعة ، والحكمة المهيمنة ، والإرادة المدبرة ، فلا شيء يقوم بالفوضى أو على الفوضى ، ولا شيء يوجد من تلقاء نفسه بل تقوم السنن والنواميس والقوانين المطردة الدقيقة الرائعة المتزنة( وخلق كل شيء فقدره تقديراً ) سورة الفرقان.

وهكذا رأينا في الغدة النخامية التي تزن نصف غرام ويبلغ طولها 1 سم وعرضها ( 1 ـ 5 و 1 ) سم وارتفاعها نصف سنتمتر ، أي أن حجمها يبلغ (1) سم 3 ، وجدنا فيها ثلاثة فصوص ، يوجد في الفص الأمامي

__________________

(1) يسمى هذا المرض بالبيلة التفهة أي التي لا طعم لها لكثرة احتوائها على الماء ، ولا تتصور أيها القارىء كم يشرب ويبول هذا المريض يومياً فلقد ذكر أن أحد المصابين بال في يوم واحد (43) ليتراً من البول أي قرابة ثلثي وزنه!!

٢٥١

وحده خمسة أنواع من الخلايا ، وتفرز هذه الغدة (10) عشرة هورمونات ، وتتصل بالدماغ بأكثر من (100) ألف خط هاتفي ( ليف عصبي!! ) وتسيطر على الدرق وقشر الكظر والخصية والمبيض والثدي وأجهزة النمو ، أي العظام والمفاصل والعضلات والغضاريف ، وعلى العروق الدموية والكلية وعضلة الرحم. وهي بهذه السيطرة والهيمنة تعدل أخلاط البدن ، وتصحح مزاجه ، وتضبط سوائله ، وتصرف فائضه ، وتقوّم ميزانيته ، وتعدل أحماضه وقلوياته ، وتوازن شوارده ، وتحكم تفاعلاته ، فكيف تم هذا المزيان الرائع؟ وكيف ركبت هذه الآليات المعقدة؟ وكيف وزنت الأمور وأقيمت بالقسطاس المستقيم؟( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم ) سورة الحجر.

والان الى بحث شيق آخر من أبحاث الروعة والعظمة في هندسة وبناء الانسان.

وزارات الجسم

مكن أن يشبه الجسم إلى حد بعيد بالأمة والدولة ، فالخلايا هي أفراد الشعب العامل ، وتجمع الخلايا في عمل واحد يشبه المديريات والمؤسسات ، والاختصاصات في الجسم تشبه الوزارات إلى حد ما ، فالجهاز العصبي المركزي هو بمثابة السلطة الحاكمة المهيمنة ، المخلصة ، العاقلة ، العالمة ، والجسم كله يمثل الشعب المتفاني في الطاعة وتقديم الولاء.

وأما جهاز الدوران فهو يجمع بين خاصية نقل الغذاء والاكسجين إلى الأنسجة العطشى الجائعة وإرجاع بقايا الاحتراق ونفايات الغذاء ، فهذا الجهاز يعبّد الطرق ، ويشق الممرات ويحس الوصل ، ولذا فهو أشبه بوزارة المواصلات.

٢٥٢

وأما الجهاز الهضمي فهو ينقل إلى الأمعاء النشويات والبروتينات والدسم والماء والأملاح المعدنية والفيتامينات ويلقي الفضلات والقمامة التي لا يحتاجها البدن ، ولذا فإن هذا الجهاز أشبه بوزارة التموين في الجسم.

وأما الغدد العرقية فهي أشبه بوزارة السياحة والاصطياف لأنها تبرد الجسم وتخفف من حرارته.

وأما الجلد واللحف(1) والأظافر والاشعار فهي تمثل الانسان من الخارج ، فهي أشبه بوزارة الخارجية!!

وأما جهاز التنفس فهو يأتي بالغازات الضرورية للبدن مثل الاكسجين ويطرح غاز الفحم وهكذا يتصفى الدم من الكدر ، ولذا فهو اشبه بوزارة الاقتصاد لأنه يستورد ويصدر.

أما العضلات والمفاصل والعظام فهي أشبه بوزارة الدفاع أو الحربية والجيش لأنها تدافع عن الانسان كما تقوم بالهجوم إذا لزم الأمر.

وأما الكبد فهو مركز الجمارك العام لأن كل ما يرد إلى البدن من الطريق الهضمي يمر فيه حيث يبعد المشتبه به ، ويدخل المرغوب فيه ، كما يعدل الشيء المشكوك به ويرسل معه مراقباً حتى يلقيه خارج الحدود عن طريق الكلية ، وهو ما يعرف بالازدواج الكبريتي أو الغلو كوروني ، لأن هاتين المادتين تترافقان مع المادة التي ستطرح إلى الكلية.

وأما الطحال فهو المقبرة الموحشة للكريات الحمر لأن الكرية لا تعيش أكثر من شهرين وسطياً حيث تنقل إلى الطحال وتواري مثواها الأخير وطريقة الدفن في الطحال عجيبة فهي اشبه ما تكون بطريقة الدفن

__________________

(1) يقصد باللحف الأغشية الخارجية التي تغطي الفوهات الخارجية مثل العين حيث تغطيها الملتحمة ، والفم من الداخل الغشاء المخاطي وهكذا.

٢٥٣

عند المسلمين حيث يدفن الجثمان ويرجع بالتابون خلافاً لطريقة الآخرين الذين يدفنون الجثمان والتابوت جميعاً ، ومظهره هنا العودة بذرة الحديد مرة أخرى حتى يتستفيد منها الجسم في بناء كريات حمر جديدة!!

وأما النخاع الموجود في باطن العظام وأماكن أخرى متنائرة في الجسم فهي أشبه ما تكون بوزارة الصناعة لأنها تصنع الكريات الحمر والبيض والصفيحات ، وعناصر أخرى كثيرة.

وأما الجهاز البولي فهو أشبه بوزارة الداخلية لأنها تطرح العناصر المشتبة خارج الحدود ، وتحافظ على نظام البدن الداخلي حتى يتزن ولا يتقلب ، كما تنظم السوائل الداخلة والخارجة حتى لا يحصل العبث بالنظام الداخلي ولذا فهي مصفاة البدن الكبيرة والمحافظة على الاتزان الداخلي.

وأما الحواس فهي امتدادات وزارة الخارجية ، أي الجلد.

وأما اللسان وأعضاء التصويت فهي وزارة الإعلام التي تذيع الاخبار وتبث الأحاديث ، وتنقل الأفكار والمفاهيم ، والإذاعة هي مراكز التصويت المتجمعة في الحبال الصوتية والحنجرة وغضاريفها ، واللسان وعضلاته ، والجمجمة وحفرها ، والشفة ومقدم الفم.

وبقي أن نتساءل : أين تقع وزارة الأوقاف بين هذه الوزارات؟ والجواب أنه لا حاجة لمكان تحدد فيه لأن الجسم وغدده وأخلاطه ودمه ولمفه وعروقه وأعصابه وشعره وجلده كله يمشي وفق الناموس الذي رسمه له الخالق العظيم ، فكل خلاياه وأنسجته وأعضاءه وأجهزته انما هي في حالة عبادة واستسلام وإسلام لله رب العالمين ، فليس هناك من مكان يخصص لعبادة الله والتفرغ له وأماكن أخرى تخصص لعبادات أخرى( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) الكل يعبد ويسبح الله والكل يصلي لله وفق اختصاصه ، فالدم يصلي في جريانه ، والرئة تصلي

٢٥٤

في تنفسها ، والقلب يصلي في نبضاته ووالعصب يصلي في سريانه( كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ) سورة النور.

ونقف هنا لنلفت نظرالقارىء ولنحرك وجدان الطبيب والعالم ، إن الانسان سخر له الكون وهو يتصرف فيه كما يشاء ، وتتخصص طوائف البشر في الصناعات والحرف تعالج عللها وتكتشف أسرارها ، وتسخر سننها ، ولكن أخطر الاختصاصات هو الذي ينصب على نفس الانسان ، فالانسان يختص بدراسة كل الكون ، والطبيب يختص بمفتاح هذا كله وهو الانسان ، فماذا أثمرت هذه الدراسة؟

إن كاتب هذه السطور درس الطب سبع سنوات طويلة مليئة من عمره فلم يسمع كلمة الله من أحد من الذين يختصون بالدراسات الطبية العميقة سواء على مستوى الطب الطبيعي أو على مستوى الطب المرضي(1) ، إلا ان تذكر الكلمة عرضاً وبسرعة ، أو أن يفتتح الكتاب بجملة( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، ثم تقرأ ، وتقرأ مئات الصفحات حتى تفرغ من الكتاب فلا تشعر بلمسة إيمان ، أو نبضة روح من المؤلف أو المترجم أو الناقل ، آيات تمر ، ومعجزات تسطر ومع هذا لا يتحرك وجدان ، ولا تستيقظ( وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) وحقاً إن الآية بالذات لا فائدة منها إلا للمتفكر والمتأمل والمتدبر( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) ، وتقرأ كتاباً لمؤلف آخر فتراه يعرض الآية القرآنية مبتورة وبمنتهى السرعة ، ثم اننا لفظنا الآية القرآنية والاصح أن يقال آية قرآنية لأن كتابين كبيرين من كتب الطب ليس فيهما الا نصف آية من القرآن وبشكل مبتور ، فيا أيها

__________________

(1) نستثني من هذا الكلام بعض الاساتذة ولكن كما هو معروف في اطلاق القواعد ان الحكم للاغلبية وليس للاقلية فضلاً عن أفراد معدودين على رؤوس الأصابع.

٢٥٥

القارىء بالله عليك ما فائدة الآيات إذا لم توصل إلى الإيمان ، وهل يكفي أن نقول ان الماء فيه سر الحياة وفيه خواص عجيبة ومدهشة ثم نأتي لنستشهد بالقرآن فنقول :( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) وباقي الآية؟! فلتبلغ!! ان تتمة الآية هو المقصود من سوق الآية فالماء وغيره آية تشده البصيرة وتقود إلى الايمان ، ولذلك كانت الآية القرآنية كما يلي :( وجعلنا من الماء كل شيء حي افلا يؤمنون ) سورة الأنبياء.

وطالما سار الأمر في هذا البحث ، فلنسمع شهادة التاريخ وشهادة العلماء لا لندعم به إيماننا ، ولكن لنحاكم أولئك الذين لا يصدقون إلا بما يقوله أصحاب الاسماء الرنانة ، والشهادات العريضة ، ونسوا ان الانسان مهما بلغ علمه ، وارتفعت خبرته فانه لا يحيط بالوجود ، ولا ينفذ إلى خزائن الأسرار ، لأنه مركب من نقص ، وضعف وقصور ، وهوى ،( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا ) سورة النساء.

لنذكر أولاً احصائية قام بها العالم دينرت(1) عن كبار العلماء والفالسفة في القرون الاربعة الاخيرة ، وكان عددهم (290) عالماً ، فوجد ما يلي : (28) منهم لم يصلوا إلى عقيدة ما ، (242) أعلنوا إيمانهم على رؤوس الاشهاد و (20) لم يكونوا يبالون بالوجهة الدينية ، وهذا يعني أن 92% أظهروا إيمانهم أمام الناس ، وهذا ما يثبت الفكرة التي طرحناها لامتنا وهي ان العلم والطب هما من جملة محاريب الإيمان ، ولنسمع إلى اقوال بعض العلماء في هذا الصدد :

1 ـ الطبيب المشهور باستور : ( الإيمان لا يمنع أي ارتقاء كان ،

__________________

(1) نقلاً عن كتاب روح الدين الإسلامي ، عفيف عبد الفتاح طبارة ص 82 [ معظم الفقرات ].

٢٥٦

لأن كل ترق ، يبين ويسجل الاتساق البادي في مخلوقات الله ، ولو كنت علمت أكثر مما أعلم اليوم ، لكان ايماني بالله أشد وأعمق مما هو عليه الآن ).

2 ـ الدكتور ( وتز ) عميد كلية الطب في باريس ، وعضو اكاديمية العلوم ، وكيميائي : ( اذا أحسست في حين من الأحيان أن عقيدتي بالله قد تزعزعت وجهت وجهي الى أكاديمية العلوم لتثبيتها )

3 ـ باسكال : ( صنفان فقط من الناس يجوز أن نسميهم عقلاء : الذين يعرفون الله ، والذين يجدّون في البحث عنه لأنهم لا يعرفونه ).

4 ـ اينشتاين : ( إن الإيمان هو أقوى وأنبل نتائج البحوث العلمية ) ، ( ان الايمان بلا علم ليمشي مشية الأعرج ، وان العلم بلا إيمان ليتلمس تلمس الأعمى )

5 ـ ادمون هربرت ، جيولوجي ذائع الصيت ، ومدرس بجامعة السوربون : ( العلم لا يمكن أن يؤدي الى الكفر ، ولا الى المادية ، ولا يفضي إلى التشكيك ).

6 ـ فابر : العلامة المؤرخ الطبيعي : ( كل عهد له أهواء جنونية ، واني اعتبر الكفر بالله من الأهواء الجنونية وهو مرض العهد الحالي وأيسر عندي أن ينزعوا جلدي من أن ينزعوا مني العقيدة بالله ).

7 ـ ألبرت ماكوب ونشستر : أستاذ الاحياء بجامعة بايلور وعميد أكاديمية العلوم بفلوريدا سابقاً : ( ان اشتغالي بالعلوم قد دعم إيماني بالله حتى صار أشد قوة وأمتن أساساً مما كان عليه من قبل ، ليس من

٢٥٧

شك ان العلوم تزيد الانسان تبصراً بقدرة الله وجلاله ، وكلما اكتشف الانسان جديداً في دائرة بحثه ودراسته ازداد إيماناً بالله )

8 ـ اسحق نيوتن : ( ان هذا التفرع في الكائنات وما فيها من ترتيب أجزائها ومقوماتها وتناسبها مع غيرها ومع الزمان والمكان لا يمكن أن تصدر إلا من حكيم عليم ).

ـ * ـ

٢٥٨

الطعام والتغذية

يقول الخالق الرازق :( فلينظر الانسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ، ثم شققنا الأرض شقاً ، فأنبتنا فيها حباً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا ، متاعاً لكم ولأنعامكم ) سورة عبس

ـ 1 ـ

كيف يستطيع الإنسان أن يتغذى بكل هذه الأنواع ، من الأطعمة ، من الماء الى الخبز الى اللحم إلى الفاكهة الى الخضراوات ، كيف تهضم امعاؤه كل هذه الأصناف المتباينة من الأغذية؟ كيف تهضم المشوي والمقلي والمسلوق؟ كيف تهضم المطبوخ والنيء؟ كيف تتقبل وبنفس الوقت المالح والحامض والحلو والمر؟ ثم كيف تتحول هذه الأغذية الى طاقة تحرك البدن ، ومواد ترميم ، وخامات تصنيع جديدة؟

ـ 2 ـ

ثم لننظر في الأسنان والشفاه والفم وكيف ركب بشكل مدهش لتقبل الطعام ، فالأسنان منها القواطع والثنايا الأمامية لتقطيع الطعام ، ومنها الأنياب لتمزيق اللحم والأشياء القاسية ، والأضراس في كل جانب

٢٥٩

لطحن وجرش المأكولات ، بحيث ان اللقمة تنقلب إلىعجينة عندما تصل إلى المري والمعدة.

ثم لننظر في الغدد اللعابية وهي ثلاثة أزواج : تحت الفك ، وتحت اللسان ، والغدة النكفية في كل جانب ، وهذه الغدد تفرز المصل والمخاط والخمائر الخاصة بهضم النشويات وتبلل الطعام وتبلل الحلق ويصل إفرازها اليومي إلى قرابة اللتر ، والخميرة التي تهضم النشا يبقى تأثيرها حتى الساعة والنصف ولولاها لتأخر امتصاص النشويات وكلنا يعرف عسر الهضم عند المسنين وذلك لنقص إفراز هذه الخميرة من غدد اللعاب ، كما تذيب مفرزات الغدد المواد فنشعر بطعمها وهكذا نشعر بطعم المواد ومذاقها ، كما تشترك في تزليق المواد الصلبة فيسهل بلعها ، وفي تليين الغذاء فيسهل مضغه ، كما تقوم هذه المفرزات بتعديل المواد الداخلة الى الفم فيما إذا كانت ضارة أو حارة أو باردة وهكذا نشرب الشاي الساخن الذي لا يتحمله إلا الفم بهذه الدرجة وبفضل الغدد اللعابية ، كما تقوم الغدد اللعابية بجرف الخلايا المتوسفة وبقايا الأغذية والجراثيم ، وهكذا تفعل هذه الغدد كما تفعل أمانة العاصمة في تنظيف هذه الأماكن وتطهيرها ، كما تعتبر مشعراً في العطش فعندما تنقص السوائل في البدن يشعر الإنسان بجفاف حلقه فيشرب الماء ، ونرى الخطباء الذي يتكلمون الساعات الطويلة ، والمتحدث والمتكلم العادي فكيف يمكن لكل واحد فيهم من متابعة حديثه وتزييت لسانه؟!! إنه اللعاب الذي يرطب جوف الفم ولولاه لما استطعنا متابعة الحديث ، وكلنا يشعر بذلك عندما يجف حلقه كيف يصعب عليه الكلام.

فكيف اجتمعت كل هذه الوظائف في هذا اللعاب العجيب فهو المنظف والمطهر والمعدل والمرطب والمزلق والملين والحامي ، والمبلل ، والمذوق ، والمحلل ، والمشعر ، وجرس الانذار في الفم ، عشرات الوظائف في سائل

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495