الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام0%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة المصطفوي
تصنيف: الصفحات: 495
المشاهدات: 186557
تحميل: 6849

توضيحات:

الحقائق في تاريخ الاسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 186557 / تحميل: 6849
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) . ويقول:( وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) . ويقول: ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) . ويقول: ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) . ويقول:( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

فيا للعجب أنّ رسول الله (ص) يخاف من العذاب الشديد إذا عصى الوحي، فكيف أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وآخرون من المهاجرين، لم يخافوا في خلافهم وعصيانهم وتساهلهم في الوظيفة المعيّنة والعمل المتعيّن المأمور به من الله ورسوله! وكيف رضوا بالتألّم الشديد والإيذاء لرسول الله (ص) في آخر أيامٍ من حياته!

يقول في إمتاع الأسماع: وعقد يوم الخميس لأسامة لواءً بيده وقال: يا أسامة، اغزُ بسم الله وفي سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تعذروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا تمنّوا لقاء العدو فخرج أسامة فدفع لواءه إلى بُريدة بن الحُصيب، فخرج به إلى بيت أسامة وعسكر بالجُرف، وخرج الناس ولم يبقَ أحدٌ من المهاجرين الأولين إلاّ انتُدِب في تلك الغزوة، كعمر بن الخطاب وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقّاص وأبي الأعور سعيد بن زيد، في رجال آخرين، ومن الأنصار عدّة مثل قتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم، فقال رجال من المهاجرين - وكان أشدّهم في ذلك قولاً عيّاش بن أبي ربيعة -، ثمّ نزل (ص) فدخل بيته، وذلك يوم السبت الرواية.(١)

____________________

١ - إمتاع الأسماع، ج١، ص ٥٣٦.

١٤١

فتنة:

( قول عمر أنّ رسول الله (ص) ما مات )

الملل والنحل: الخلاف الثالث في موته عليه السلام، قال عمر بن الخطاب: من قال أنّ محمداً مات ؛ قتلته بسيفي هذا، وإنّما رُفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم عليه السلام، وقال أبو بكر بن قحافة: من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن يعبد إله محمّد فإنّه حيّ لا يموت، وقرأ هذه الآية:( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) ، ( ٣: ١٤٤ ) فرجع القوم إلى قوله، وقال عمر: كأنّي ما سمعت هذه الآية حتى قرأها أبو بكر.(١)

أقول: هذه فتنة أخرى ثالثة، ظهرت حين رحلة رسول الله (ص)، وهل كان هذا القول تدبيراً آخر حتى يصرف الناس عن التوجّه إلى موته، والإقبال إلى أهل بيته إلى أن يتعيّن الخليفة؟ أو كان منشأه الاشتباه والجهالة بموت النبيّ (ص)؟

والظاهر أنّه مستند إلى علل أخرى، فإنّ الحكم بأنّ عمر كان غافلاً وجاهلاً بهذا الموضوع في غاية البُعد. وأعجب منه قوله: من قال إن محمّداً مات قتلته بسيفي هذا.

مسند أحمد: عن أنس، فقام عمر فقال: إنّ رسول الله لم يمت، ولكن ربّه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى، فمكث عن قومه أربعين ليلة، والله إنّي لأرجو أن يعيش رسول الله (ص) حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وألسنتهم يزعمون أنّ رسول الله (ص) قد مات.(٢)

____________________

١ - الملل والنحل، ج١، ص ١٥.

٢ - مسند أحمد، ج٣، ص ١٩٦.

١٤٢

تاريخ الطبري والسيرة النبوية: لمّا توفي رسول الله (ص) قام عمر بن الخطاب فقال: إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله (ص) قد توفى، وأنّ رسول الله (ص) ما مات ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعنَّ رسول الله (ص) كما رجع موسى، فليقطعنَّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله (ص) مات، قال وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر قال عمر: والله ما هو إلاّ أن سمعت أبا بكر تلاها، فعُقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أنّ رسول الله (ص) قد مات.(١)

ويقول في السيرة: عن ابن عبّاس: والله إنّي لأمشي مع عمر في خلافته فقال يا ابن عبّاس هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله (ص)؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين، أنت أعلم! قال: فإنّه والله إن كان الذي حملني على ذلك الاّ أنّي كنت أقرأ هذه الآية:( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) فوالله إن كنت لأظنّ أنّ رسول الله (ص) سيبقى في أمّته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها.(٢)

أقول: هذا الاعتذار أسوء وأقبح من الخطأ الأوّل ؛ لأنّه يلزم أيضاً على هذا التفسير: طول بقاء الأمّة حتى يكونوا شهداء على الناس، بل يجب كونهم موجودين من أوّل القرون إلى آخرها، مع أنّ الخطاب في قوله تعالى (عليكم) لا يختص بالمشافهين الموجودين، بل يعم جميع المسلمين إلى يوم القيامة.

والمراد من الشهادة الإحاطة والتوجه الروحاني لا الجسماني.

سنن الدارمي: فقام عمر فقال: إنّ رسول الله (ص) لم يمت ولكن عُرج بروحه، كما عرج بروح موسى، والله لا يموت رسول الله (ص) حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم، فلم يزل عمر يتكلّم حتى أزبَد شِدقاه بما يوعد ويقول، فقام العبّاس

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج٣، ص ١٩٧، والسيرة النبوية، ج٤، ص ٣٠٥.

٢ - السيرة النبوية، ج٤، ص ٣١٢.

١٤٣

فقال: إنّ رسول الله (ص) قد مات، وإنّه لبشر وإنّه يأسن كما يأسن البشر، أيْ قوم فادفنوا صاحبكم فإنّه أكرم على الله من ان يُميته إماتتين! أيُميت أحدكم أماته ويُميته إماتتين! وهو أكرم على الله من ذلك، أيْ قوم فادفنوا صاحبكم، فإن يك كما تقولون فليس بعزيز على الله أن يبحث التراب إلخ.(١)

أقول: يعلم من ذلك أنّ من قام وخطب بعد عمر هو العبّاس لا أبو بكر.

الطبقات: ويروي قريباً من الدارمي.(٢)

ويروي أيضاً: عن عائشة لمّا توفّي رسول الله (ص) استأذن عمر والمغيرة بن شعبة فدخلا عليه فكشفا الثوب عن وجهه، فقال عمر: واغشيا ما أشدّ غشي رسول الله (ص)، ثمّ قاما فلمّا انتهيا إلى الباب قال المغيرة: يا عمر، مات والله رسول الله (ص) فقال عمر: كذبت ما مات رسول الله (ص)، ولكنّك رجل تحوشك فتنة ولن يموت رسول الله (ص) حتى يفني المنافقين، ثمّ جاء أبو بكر وعمر يخطب الناس فقال له أبو بكر: اسكت إلخ.(٣) ( الحوش: الجمع والسَوق )

ويروي أيضاً: عن أبي هريرة: دخل أبو بكر المسجد وعمر بن الخطاب يكلّم الناس، فمضى حتى دخل بيت النبيّ (ص) الذي توفي فيه وهو في بيت عائشة، فكشف عن وجه النبيّ (ص) برد حبرة كان مسجّى به، فنظر إلى وجههِ ثمّ أكبّ عليه فقبّله، فقال: بأبي أنت والله لا يجمع الله عليك الموتتين، لقد مت الموتة التي لا تموت بعدها، ثمّ خرج أبو بكر إلى الناس في المسجد وعمر يكلّمهم فقال أبو بكر: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فكلّمه أبو بكر مرّتين أو ثلاثاً، فلمّا أبى عمر أن يجلس، قام أبو بكر فتشهّد، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر إلخ.(٤)

____________________

١ - سنن الدارمي، ج١، ص ٣٩.

٢ - الطبقات، ج٢، ص ٢٦٦.

٣ - الطبقات، ج٢، ص ٢٦٧.

٤ - نفس المصدر، ص ٢٦٨.

١٤٤

ويروي أيضاً: عن عائشة أنّ النبي (ص) مات وأبو بكر بالسُنح، فقام عمر فجعل يقول: والله ما مات رسول الله (ص).. إلخ.

أقول: يعلم من ذلك أنّ مَن قام وخطب بعد عمر هو العبّاس لا أبو بكر.

الأوّل: من معارف بعضهم: أنّ النبي (ص) ما مات، وأن من يعتقد موته فهو منافق، ثمّ يرجع النبيّ (ص) ويقطع يديه ورجليه.

الثاني: ومن أحاطته بالقرآن الكريم وآياته: أنّه يقول والله ما هو إلاّ أن سمعت أبا بكر تلاها - أي تلا آية:( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) - ويقول - في حديث الطبقات عن أبي هريرة - والله لكأنّ الناس لم يعلموا أنّ هذه الآية أنزلت.

الثالث: ومن علومه في التفسير: أنّه يزعم أنّ مقتضى آية( لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) هو إدامة حياة رسول الله (ص) ليكون شهيداً على الأمّة، شهادة حسّية خارجية.

الرابع: ومن إطلاعاته التأريخية: انه يزعم أنّ موسى بن عمران عُرج بروحه وبقى جسده خالياً عن الروح مدّة أربعين يوماً ثم رجع روحه إلى جسده - وواعدنا موسى ثلاثين ليلة الآية.

الخامس: ومن تشخيصاته الطبية المزاجية: أنّه زعم بعد كشف الثوب عن وجه رسول الله (ص) أنّه ما مات، بل غُشي عليه.

السادس: ومن فتاويه الفقهية: أنّه زعم أنّ رسول الله يرجع ويقطع أرجل وأيدي من يدّعي موته.

السابع: ومن شدّة محبّته وعلاقته لرسول الله (ص): أنّه بعد أن علم موته وأيقن رحلته، أعرض عنه وعن تجهيزاته، وتوجّه مع أبي بكر والجراح إلى سقيفة بني ساعدة لتعيين السلطان.

الثامن: وليعلم أنّ هذه المراتب بعد أربعة أيام من قوله أنّ النبيّ ليهجر وكفانا كتاب الله.

التاسع: يظهر منها أنّه وكذلك أبو بكر ما كانا حاضرين عند

١٤٥

رسول الله (ص) حين ما حُضر ثمّ جاءا بعد رحلته.

وفي ذيل رواية الطبقات عن عائشة: فنشج الناس يبكون (بعد كلام أبي بكر) واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا منّا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلّم فأسكته أبو بكر، فكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أنّي قد هيأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر إلخ.(١)

ويروي أيضاً: عن أنس أنّه سمع عمر بن الخطاب الغد حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله (ص)، واستوى أبو بكر على منبر رسول الله (ص): تشهد قبل أبي بكر ثمّ قال: أمّا بعد فإنّي قلت لكم أمس مقالة لم تكن كما قلت، وإنّي والله ما وجدتها في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إليّ رسول الله (ص)، فقال كلمة يريد حتى يكون آخرنا، فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا لما هُدي له رسول الله (ص).(٢)

أقول: كان رسول الله (ص) يقول كراراً: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي؟! ولكن عمر بن الخطاب لا يذكر اسماً من العترة.

أَوَلا يتذكر عمر بن الخطاب أنّ كتاب الله يحتاج إلى مبيّن وعالم بحقائقه وظواهره وبواطنه؟ أَوَلا يتذكّر قول رسول الله (ص) لعلي: أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى؟! أَوَلا يتذكّر قوله (ص): مَن كنت أنا وليّه فعليّ وليّه، اللّهم انصر من نصره واخذل من خذله؟! أَوَلا يتذكّر قوله (ص) لعليّ: أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي وأنت منّي وأنا منك؟! أَوَلا يتذكّر قوله (ص): مَثَل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجى؟!

وسيجيء تفصيل الكلام في الفتن الآتية.

* * *

____________________

١ - الطبقات، ج٢، ص ٢٦٨.

٢ - نفس المصدر، ص ٢٧١.

١٤٦

فتنة:

( سقيفة بني ساعدة )

الملل والنحل: الخلاف الخامس في الإمامة وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة ؛ إذ ما سُلّ في السيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان، وقد سهّل الله تعالى ذلك في صدر الأوّل، فاختلف المهاجرون والأنصار فيها، وقالت الأنصار منّا أمير ومنكم أمير، واتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري فاستدركه أبو بكر وعمر في الحال بأن حضرا سقيفة بني ساعدة، وقال عمر: كنت ازوّر في نفسي كلاماً في الطريق، فلمّا وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلم، فقال أبو بكر: مه يا عمر! فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما كنت اقدّره في نفسي كأنّه يخبر عن غيب، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وبايعه الناس، وسكنت النائرة، إلاّ أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرّها ؛ فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيّما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين تَغرّة أن يُقتلا، وإنّما سكنت الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبيّ عليه السلام (الأئمّة من قريش) وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة، ثمّ لمّا عاد إلى المسجد انثال الناس عليه وبايعوه عن رغبة، سوى جماعة من بني هاشم وأبي سفيان من بني أميّة، وأمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه كان مشغولاً بما أمره النبيّ (ص) من تجهيزه ودفنه وملازمته قبره، من غير منازعة ولا مدافعة.(١)

أقول: في هذا الكلام موارد للنظر والتحقيق:

____________________

١ - الملل والنحل، ج١، ص ١٦.

١٤٧

١ - جريان السقيفة: من اتفاق الأنصار على سعد، واستدراك أبي بكر وعمر في الحال، وتزوير عمر في الكلام، وذكر أبي بكر ما كان يُزوّره، ومدَّ عمر يده للبيعة قبل كلام الأنصار، وكون بيعته فلتة ومَن عاد إلى مثلها فيجب قتله، ولزوم كون البيعة مع مشورة المسلمين.

٢ - استدلال أبي بكر في مقاله ودعواه: بحديث ( الأئمّة من قريش وسكوت الأنصار في مقابل هذا الكلام. ويؤيّده قول أمير المؤمنين (ع): استدلّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.

٣ - قوله: وبايعوه عن رغبة. إشارة إلى أنّ بيعة السقيفة كانت لا عن رغبة، بل بالاستدراك والتزوير ومدّ اليد وبالفلتة.

٤ - قوله: سوى جماعة من بني هاشم وأبي سفيان.

٥ - قوله وكان أمير المؤمنين مشغولاً بما أمره النبيّ (ص).

الفائق: الحبّاب رضي الله عنه قال يوم سقيفة بني ساعدة حين اختلف الأنصار في البيعة - أنا جُذيلها (بصيغة التصغير) المحكك، وعُذيقها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير.(١) الجِذل - بالكسر -: عود ينصب للإبل الجَربى تَحتك به فتستشفى. والمُحكك الذي كثر به الاحتكاك حتى صار مُملّسا. والعَذق بالفتح النخلة. والمرجّب: المدعوم بالرجبة، وهي خشبة ذات شعبتين وذلك اذا طال وكثر حمله. والمعنى إنّي ذو رأي يشفي بالاستضاءة به كثيراً في مثل هذه الحادثة وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد الأحوال فيها وفي أمثالها ومصادرها كالنخلة الكثيرة الحمل.

الفائق: قال عمر بن الخطاب لأبي عبيدة: ابسط يدك لأبايعك، فقال: ما رأيت منك، أو ما سمعت منك فهّة في الإسلام قبلها، أتُبايعني وفيكم الصدّيق ثاني اثنين.(٢) قال الزمخشري: فهّ الرجل فهّة، إذا جاءت منه سقطة أو جهلة.

ويروي: قال أبو بكر يوم سقيفة بني ساعدة: منّا الأمراء ومنكم الوزراء،

____________________

١ - الفائق، ج١، ص ١٨١.

٢ - الفائق، ج٢، ص ٣٠٥.

١٤٨

والأمر بيننا وبينكم كقد الأبلمة. فقال حبّاب بن المنذر: أما والله لا نفس أن يكون لكم هذا الأمر، ولكنّنا نكره أن يلينا بعدكم قوم قتلنا آباءهم وأبناءهم. وقال الحبّاب أيضاً:

أنا الذي لا يصطلى بناره ولا ينام الناس من سُعاره.(١)

وقال الزمخشري: القد هو القطع طولا. والأبلمة خوصة المقل، وهي إذا شقّت تساوى شقّاها. ولا يصطلي بناره: مثل فيمن لا يتعرّض لحربه. والسعار حرّ السعير.

أقول: هذا الكلام صريح في رضا أبي بكر بوزارة الأنصار وتقسيم الأمر بين المهاجرين والأنصار على التساوي كقدّ الأبلمة.

تاريخ الطبري: ثم قال أبو بكر: إنّي قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر أو أبا عبيدة، فقام عمر فقال: أيّكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدّمهما النبيّ (ص)، فبايعه عمر وبايعه الناس. فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلاّ علياً.(٢)

ويروي: فقال سعد: صدقت، فنحن الوزراء وأنتم الأمراء، فقال عمر: ابسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك، فقال أبو بكر: بل أنت يا عمر فأنت أقوى لها منّي، وكان عمر أشدّ الرجلين، قال، وكان كلّ واحد منها يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها، ففتح عمر يد أبي بكر وقال: أن لك قوّتي مع قوّتك، فبايع الناس واستثبتوا للبيعة، وتخلّف عليّ والزبير واخترط الزبير سيفه وقال: لا أغمُدُه حتى يبايع عليّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر فقال عمر: خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر! قال: فانطلق إليهم عمر فجاء بهما تعبا وقال: لتُبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان، فبايعا.(٣)

ويروي: قام عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أمّا بعد ؛ فإنّي أريد أن أقول

____________________

١ - الفائق، ج٢، ص ٣٢١.

٢ - تاريخ الطبري، ج٣، ص ١٩٨.

٣ - نفس المصدر، ص ١٩٩.

١٤٩

مقالة قد قُدّر أن أقولها ثمّ أنّه بلغني أنّ قائلاً يقول: لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلاناً، فلا يغرّن إمرأً أن يقول أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك غير أنّ الله وقى شرّها وليس منكم من تقطّع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وأنّه كان من خبرنا حين توفّى الله نبيّه (ص)، أنّ علياً والزبير ومن معهما تخلّفوا عنّا في بيت فاطمة، وتخلّفت عنّا الأنصار بأسرها واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمّهم فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدراً، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم، فقلنا: والله لنأتينّهم، قال: فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة، قال وإذا بين أظهرهم رجل مزّمل، قال قلت: من هذا؟ قالوا سعد بن عبادة، فقلت ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم فحمد الله وقال: أمّا بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط نبيّنا وقد دفّت إلينا من قومكم دافّة، قال: فلمّا رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر وقد كنت زوّرت في نفسي مقالة أقدّمها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بُعد الحد، وكان هو أوقر منّي وأحلم، فلمّا أردت أن أتكلّم قال: على رسلك، فكرهت أن أعصيه، فقام فحمد الله وأثنى عليه، فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلّم به لو تكلّمت إلاّ قد جاء به أو بأحسن منه، وقال:

أمّا بعد يا معشر الأنصار، فإنّكم لا تذكرون منكم فضلاً إلاّ وأنتم له أهل، وأنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش وهم أوسط داراً ونسباً ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيّهما شئتم فلمّا قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال: أنا جُذيلها فارتفعت الأصوات وكثر اللغط، فلمّا أشفقت الاختلاف قلت لأبي بكر: أبسط يدك أبايعك.(١)

كذا في مسند أحمد باختلاف.(٢)

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج٣، ص ٢٠٠.

٢ - مسند أحمد، ج١، ص ٥٥.

١٥٠

أقول: يظهر من هذا الكلام أنّ الأنصار بأجمعهم ومن بني هاشم من تخلّفوا في بيت فاطمة (ع) كانوا مخالفين لبيعة أبي بكر، أمّا الأنصار فبايعوا بعد أن وقعت الاختلافات الشديدة وارتفعت الأصوات وكثر اللغط، وبنو هاشم فبايعوا بعد مدّة مكرهين.

ويروي: فبدأ أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ الله بعث محمّداً فخصّ الله المهاجرين الأوّلين من قومه بتصديقه والإيمان به والمواساة له والصبر معه على شدّة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم، وكلّ الناس لهم مخالف زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلّة عددهم وشنف الناس لهم وإجماع قومهم عليهم، فهم أوّل من عَبَدَ الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلاّ ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا يُنكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتأتون بمشورة ولا نقتضي دونكم الأمور، قال: فقام الحبّاب بن المنذر فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإنّ الناس في فيئكم وفي ظلّكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ولن يصدر الناس إلاّ عن رأيكم فمنّا أمير ومنهم أمير، فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يومّروكم ونبيّها من غيركم ولكن العرب لا تمتنع أن تُولّي أمرها مَن كانت النبوة فيهم ووليّ أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب المحجّة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا يُنازعنا سلطان محمّد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلاّ مدلٍّ بباطل فقام الحبّاب بن المنذر فقال: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه ؛ فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد وتولّوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحقّ بهذا الأمر منهم فإنّه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممّن لم يكن يدين، أنا جُذيلها فقال عمر: إذاً يقتلك الله، قال: بل إياك يقتل! فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنّكم أوّل من نصر وآزر فلا تكونوا أوّل من بدّل وغيّر، فقام بشير بن سعد فقال: يا معشر الأنصار إنّا والله لئن كنّا

١٥١

أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلاّ رضا ربّنا، وطاعة نبيّنا، والكدح لأنفسنا فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ولا ينبغي به من الدنيا عرضا فإنّ الله ولي المنّة علينا بذلك، ألاّ أنّ محمّداً (ص) مِن قريش وقومه أحقّ به وأولى، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً، فاتّقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم. فقال أبو بكر: هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيّهما شئتم فبايعوا! فقالا: لا والله لا نتولّى هذا الأمر عليك، فإنّك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمَن ذا ينبغي له أن يتقدّمك أو يتولّى هذا الأمر عليك، أبسط يدك نبايعك؟ فلمّا ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه فناداه الحبّاب بن المنذر يا بشير بن سعد عققت عقاق ما أحوجك إلى ما صنعت، أنفست على ابن عمّك الإمارة، فقال: لا والله ولكنّي كرهت أن أنازع قوماً حقّا جعله الله لهم، ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة: قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرّة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر! فقاموا إليه فبايعوه. فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا اجمعوا له من أمرهم، فأقبل الناس من كلّ جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطأون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: اتّقوا سعداً لا تطؤه فقال عمر: اقتلوه قتله الله، ثمّ قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك، فأخذ سعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فقال أبو بكر: مهلا يا عمر الرفق ها هنا أبلغ، فأعرض عنه عمر، وقال سعد: أما والله لو أن بي قوّة ما أقوى على النهوض لسمعت منّي في أقطارها وسككها زئيراً يحجرك وأصحابك، أما والله إذا لألحقتك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع. احملوني من هذا المكان! فحملوه فأدخلوه في داره، وتُرك أياما ثمّ بُعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك! فقال أما والله حتى

١٥٢

أرميكم بما في كنانتي من نبلي وأخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي فلما أتي أبو بكر بذلك، قال له عمر: لا تدعه حتى يبايع. فقال له بشير بن سعد: إنّه قد لجّ وأبى وليس بمُبايعكم حتى يُقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضارّكم إنّما هو رجل واحد، فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه لما بدا لهم منه، فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يجمع معهم.(١)

أقول: فيما نقل عن الطبري موارد للدقّة والاعتبار والتدبّر.

١ - قول أبي بكر:  قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين. بل أنت يا عمر ؛ فأنت أقوى منّي. وأنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحيّ من قريش. ولكن قد رضيت لكم أحد هذين فبايعوا أيّهما شئتم. فيها دلالة على أنّ الأمر قد تحقّق بالانتخاب والتدبير، لا بالنصّ والوصية.

٢ - قولهم: فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم. كنت زوّرت في نفسي أن أتكلّم به إلا قد جاء به. لا تُفتأتون بمشورة ولا نقضي دونكم الأمور. فمنّا أمير ومنهم أمير. ولكن العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها من كانت النبوّة فيهم. فأنتم والله أحقّ بهذا الأمر منهم. فيها دلالة على أنّ الاختلاف إنّما كان في الحكومة والخلافة الظاهرية للمسلمين. وليس من مقامات العلم والمعرفة والروحانية والحقيقة ذكرٌ فيما بينهم.

٣ - قولهم: فقالت الأنصار أو بعض الأنصار لا نبايع إلاّ علياً. وتخلف عليّ والزبير واخترط الزبير سيفه. وقال: لا أغمده حتى يُبايَع عليّ. إنّ علياً والزبير تخلّفوا عنّا في بيت فاطمة وتخلّفت عنا الأنصار بأسرها. فيها دلالة على أنّ لعليّ (ع) حقّا ثابتاً ومقاماً محرزاً معلوماً عندهم، وليس ذلك إلاّ بوصية رسول الله (ص) وقوله وبالأحاديث الواردة منه.

العقد الفريد: فقال حبّاب بن المنذر: منّا أمير منكم أمير، فإنّ عمل المهاجريّ

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج٣، ص ٢٠٨.

١٥٣

في الأنصاري شيئاً ردّ عليه، وإن عمل الأنصاري في المهاجري شيئاً ردّ عليه، وإن لم تفعلوا فأنا جُذيلها المحكّك وعُذيقها المرجب، لنُعيدنّها جذعة. قال عمر: فأردت أن أتكلّم وكنت زوّرت كلاما في نفسي. فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر، فما ترك كلمة كنت زوّرتها في نفسي إلاّ تكلّم بها فبايع الناس أبا بكر وأتوا به المسجد يبايعونه، فسمع العبّاس وعليّ التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول الله (ص)، فقال عليّ: ما هذا؟ قال العبّاس: مارُئي مثل هذا قط، أما قلت لك؟!(١)

البخاري: أنّ رسول الله (ص) مات وأبو بكر بالسُنخ يعني بالعالية، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله (ص) وقال: والله ما كان يقع في نفسي إلاّ ذاك، وليبعثنه الله فيقطعنّ أيدي رجالٍ وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله (ص) فقبّله، فقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميّتاً والذي نفسي بيده لا يُذيقك الله الموتتين أبداً واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلّم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلاّ إنّي قد هيّأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلّغه أبو بكر، ثمّ تكلّم أبو بكر فتكلّم أبلغ الناس فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حبّاب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا ولكنّا الأمراء وأنتم الوزراء. هم أوسط العرب داراً وأعربهم أحسابا فبايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح! فقال عمر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبّنا إلى رسول الله (ص)، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله.(٢)

أقول: يستفاد من صريح هذا الكلام المنقول من الصحيح أمور:

١ - استدل أبو بكر في مقام اختيار الأمير بقوله: أعرب أحساباً

____________________

١ - العقد الفريد، ج٤، ص ٢٥٧.

٢ - البخاري، ج٢، ص ١٧٩.

١٥٤

وأوسطهم داراً. وهذا العنوان موجود في جميع أفراد قريش.

٢ - ولمّا لم يكن له امتياز وتفوّق وليس لنفسه خصوصية، فأشار إلى أبي عبيدة وعمر ودلّهم إليهما. أو أنّ هذا كان تدبيراً منه في المقام.

٣ - فعلى هذا القيل والقال: يلزم أن يكون الوزير في هذه الحكومة من الأنصار، فإنّ لهم نصيباً منها، وهم الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم يُحبون من هاجر إليهم.

٤ - لا معنى صحيح لقول عمر: قتله الله. مع أنّ النبيّ (ص) كان يقول: أوصيكم بالأنصار، فإنّهم كرشي وعيبتي، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم. كما في البخاري، ج٢، ص ١٩٢.

وفي البخاري: بإسناده عن عمر بن الخطاب أنّه قال: بلغني أنّ قائلاً منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترنّ امرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألاَ وإنّها قد كانت كذلك! ولكنّ الله وقى شرّها، وليس منكم من يُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يُقتلا، وأنّه قد كان من خيرنا حين توفى الله نبيّه (ص)، إنّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنّا عليّ والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلمّا دنونا منهم لقينا رجلان منهم صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن تقربوهم اقضوا أمركم! فقلت: والله لنأتينّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم، فقلت: مَن هذا؟ قالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك، فلمّا جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثمّ قال: أمّا بعد: فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفّت دافّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضونا من الأمر، فلمّا سكت، أردتُ أن

١٥٥

أتكلّم وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدّمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحدّ، فلمّا أردت أن أتكلّم قال أبو بكر: على رسلك! فكرهت أن أغضبه، فتكلّم أبو بكر فكان هو أحلم منّي وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قال في بديهته مثلها أو أفضل حتى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحيّ من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره ممّا قال غيرها، كان والله أن أقدّم فتُضرب عنقي لا يقرّبني ذلك من أثمٍ، أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر، اللّهم إلاّ أن تسوّل إلى نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن.

فقال قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المُحكك وعُذيقها المرجب منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش! فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقتُ من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر! فبس يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثمّ بايعته الأنصار. ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، قال عمر: وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فأمّا بايعناهم على ما لا نرضى وأمّا نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يُقتلا.(١)

أقول: هذا الكلام مضبوط في أقدم كتاب وأصحّه وأتقنه من كتب إخواننا أهل السنّة، وكذا في تاريخ الطبري باختلاف يسير.(٢) فمن تدبر فيه ورجع البصر إليه بعين الإنصاف ونظر إلى الحقيقة اطلع على أسرار هذا الأمر من جهات:

الأوّل: أنّه اقّر وشهد بأنّ إمرة أبي بكر كانت فلتة من دون سابقة، وقى

____________________

١ - البخاري، ج٤، ص ١١١.

٢ - تاريخ الطبري ج٣، ص ٢٠٠.

١٥٦

الله شرّها. وهذا يدلّ على نفي أيّ وصية من رسول الله (ص) في الخلافة.

الثاني: أنّه يقول بلزوم المشورة في هذا الأمر بعد، ولا يجوز لأحد أن يبايع أحداً حتى تقع فلتة، فإنّها في معرض الخطر والشر.

الثالث: أنّه يعترف بخلاف الأنصار وخلافّ عليّ والزبير ومن معهما، ففي هذه الصورة كيف يجوز التعبير عنها بالإجماع والاتّفاق من أهل الحلّ والعقد، وان أرادوا وقوع الاتفاق بعد أشهر فهذا قد يتحقّق في أغلب الحكومات والدول، بل ولا يتحقق استقرار حكومة إلاّ بالغلبة التامة والاستيلاء الكامل والتسلط على جميع الأفراد طوعاً أو كرهاً، ولو بالتدريج.

الرابع: يعلم أنّ غلبة أبي بكر في السقيفة كانت من طريق التزوير(*) ، وكان تزويره في خطابه أحسن وأعجب مما زوّره عمر في نفسه.

الخامس: أنّ قوله: (فلم أكره ممّا قال غيرها) من الكلمات المزوّرة المخالفة للواقع، كيف وقد أمر رسول الله (ص) أسامة عليهم قبل أيام قليلة من رحلته، وكذا في غزوات آخر. فالإمرة مطلوبة إذا كانت عن وظيفة.

فيا إخواننا هذه حقيقة إمرة أبي بكر، فهل يجوز أن يكلّفنا العقل والشرع بوجوب طاعته وقبوله، وهل يمكن أن يحكم الله ورسوله على كفر من تخلّف عن هذه البيعة، وهل يجوز أن نقول: أنّ علياً وفاطمةَ والحسن والحسين ومَن معهم من أهل بيت النبيّ (ص) كانوا على الضلالة ووقعوا في طريق خلاف الشريعة النبوية، وقد قال النبيّ (ص): الحقّ مع عليّ وعليّ مع الحقّ. وقال: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى. وقال: أنتَ منّي وأنا منك. وقال: اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد من عاداه.

السيرة النبوية: فأتى آت إلى أبي بكر وعمر، فقال: إنّ هذا الحيّ من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم، ورسول الله (ص) في بيته لم يُفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهلُه، قال عمر: فقلت لأبي بكر انطلق بنا إلى

____________________

(*) المراد من التزوير في قول عمر غير ما فهمه المصنّف (رحمه الله) وهذا من سهو قلمه، وإن كان هو أحد المعاني للكلمة. قال في لسان العرب: والتزوير: إصلاح الكلام وتهيئته. ( لجنة التقويم / شبكة الإمامين الحسنين للتراث والفكر الإسلامي )

١٥٧

إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه.(١)

وقال: ثمّ أنّه قد بلغني أنّ فلاناً قال: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً، فلا يغرنَّ امرأً أن يقول: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمّت، وإنّها قد كانت كذلك إلاّ أنّ الله قد وقى شرّها وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فإنّه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يُقتلا، إنّه كان من خيرنا حين توفّى الله نبيّه (ص) إلخ.(٢) - كما في البخاري، ج٤، ص ١١١.

مقالات الإسلاميين: لو بلغ ذلك أبا بكر وعمر فقصدا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين، فأعلمهم أبو بكر أنّ الإمامة لا تكون إلاّ في قريش واحتجّ عليهم بقول النبي (ص): الإمامة في قريش. فأذعنوا لذلك منقادين ورجعوا إلى الحقّ طائعين، بعد أن قالت الأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، وبعد أن جرّد الحبّاب بن المنذر سيفه وقال: أنا جُذَيلها المحكّك وعُذيقها المرجّب من يبارزني، بعد أن قام قيس بن سعد بنصرة أبيه سعد بن عبادة حتى قال عمر بن الخطاب في شأنه ما قال، ثمّ بايعوا أبا بكر.(٣)

أقول: قد صرّح بأن الاتّفاق في هذا المجتمع قد حصل بعد ذلك الاختلاف الشديد والتنازع وتجريد السيف، مع غيبة أهل بيت النبي (ص) وخواص أصحابه، وكان أقوى احتجاجهم في قولهم إنّ الإمامة في قريش، وقد قال عليّ (ع) في ذلك: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.

عيون ابن قتيبة: أراد عمر الكلام، فقاله له أبو بكر: على رسلك. نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً، وأوسطهم داراً وأكرمهم أحسابا وأحسنهم وجوها وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسّهم رَحِما برسول الله (ص)، أسلمنا قبلكم وقُدّمنا في القرآن عليكم، فأنتم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الفيء

____________________

١ - السيرة النبوية، ج٤، ص ٣٠٧.

٢ - نفس المصدر، ص ٣٠٨.

٣ - مقالات الإسلاميين، ج١، ص ٤٠.

١٥٨

وأنصارنا على العدو، آويتم وواسيتم فجزاكم الله خيراً، نحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش، وأنتم محقّوقون إلاّ تنفسوا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم.(١)

أقول: العلل المذكورة في الخطبة كلّها راجعة إلى العناوين الظاهرية والتشخّصات الصورية والحسب والنسب والمتاع الدنيوي، وليس فيها ذكر من العلم والإيمان والروحانية والمقام المعنوي، فهذا أوّل كلام بعد النبيّ (ص) دُعي فيه المسلمون إلى أتباع الشخصية الظاهرية وأُسقط العلم والإيمان وحذف من صحيفة الإمامة قيد التقوى والمعرفة.

وفي أثر هذا الكلام ترى أنّ معاوية بن أبي سفيان وسائر أفراد بني أمية ادعوا مقام خلافة رسول الله (ص): مع أنّهم فعلوا ما فعلوا وارتكبوا من الظلم والطغيان ما ارتكبوا وظلموا آل محمد (ص) ما ظلموا! ومع هذا قد أطاع المسلمون لهم وانقادوا لحكومتهم!!

الطبقات: فتكلّم أبو بكر فقال: نحن الأمراء وأنتم الوزراء وهذا الأمر بيننا وبينكم نصفين كقدّ الأبلُمة (يعني الخوصة)، فبايع أوّل الناس بشير بن سعد أبو النعمان، قال: فلمّا اجتمع الناس على أبي بكر قسّم بين الناس قسما فبعث إلى عجوز من بني عديّ بن النجّار بقسمها مع زيد بن ثابت، فقالت: ما هذا؟ قال قسم قسّمه أبو بكر للنساء، فقالت أتُراشوني عن ديني؟ فقالوا: لا، فقالت أتخافون أن أدع ما أنا فيه؟ فقالوا: لا، فقالت: أتخافون أن ادع ما أنا فيه؟ فقالوا: لا، قالت: فوالله لا آخذ منه شيئا أبداً، فرجع زيد إلى أبي بكر فأخبره بما قالت، فقال أبو بكر فأخبره بما قالت، فقال أبو بكر: ونحن لا نأخذ مما أعطيناها شيئا أبداً.(٢)

أقول: هذا التقسيم كان ممّا يُحكّم ويشدّد ويُثبّت إمارة أبي بكر، والغرض منه جلب النفوس الأبيّة وتقريب القلوب المخالفة وتحبيبها ورفع الاختلافات والموانع، وكان هذا لغرض ظاهر بحيث أنّ العجوز قد فهمته.

____________________

١ - عيون ابن قتيبة، ج ٢، ص ٢٣٣.

٢ - الطبقات، ج ٣، ص ١٨٢.

١٥٩

أنساب الأشراف: لمّا قبض رسول الله (ص) أتى عمر بن الخطاب أبا عبيدة بن الجراح فقال له: ابسط يدك نبايعك فإنّك أمين هذه الأمّة على لسان رسول الله (ص) فقال: يا عمر ؛ ما رأيت لك تهمة منذ أسلمت قبلها، أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين؟!(١)

أقول: هذا الكلام والاستخلاف من عمر بن الخطاب يكشف عن أنّه كان متحيّراً في تعيين الخليفة، وكان معرضاً عن أهل بيت النبيّ وعترته الذين أوصى بهم رسول الله (ص)، ومع هذا كان لا يعتني برأي الأصحاب ولا يتوجّه إلى المشاورة مع الآخرين والى حصول الإجماع.

ويروي أيضاً: (في، ص ٥٨٠) كما في الطبقات، ج ٣، ص ١٨٢.

ويروي أيضاً ثمّ قال: بلغني أنّ الزبير قال: لو قد مات عمر بايعنا علياً وإنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة، فكذب والله لقد أقامه رسول الله (ص) مقامه واختاره لعماد الدين على غيره، وقال: يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر، فهل منكم من تمدّ إليه الأعناق مثله.(٢)

أقول: هذا القول مخالف لما سبق من قوله لأبي عبيدة: ابسط يدك نبايعك فإنّك أمين هذه الأمّة، وهكذا مخالف لقول أبي بكر: إن تطيعوا أمري تبايعوا أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وكان عن يمينه أو عمر بن الخطاب وكان عن شماله.(٣)، وكما مرّ ما يقرب منه من البخاري.

ويروي أيضاً: عن جابر: قال العبّاس لعلي: ما قدّمتك إلى شيء إلاّ تأخّرت عنه، وكان قال له لما قبض رسول الله (ص): اُخرج حتى أُبايعك على أعين الناس فلا يختلف عليك اثنان. فأبى وقال: أو منهم من ينكر حقّنا ويستبد علينا؟ فقال العبّاس: سترى أن ذلك سيكون. فلما بويع أبو بكر، قال له

____________________

١ - أنساب الأشراف، ج ١، ص ٥٧٩.

٢ - أنساب الأشراف، ج ١، ص ٥٨١.

٣ - نفس المصدر ٥٨٢.

١٦٠