الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام12%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193371 / تحميل: 7471
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وان كان لمن أحبّ الناس إليّ.

إنّ الناس لم يتمكّنوا من الطعن في عليّ ( ع ) زمان حياة رسول الله ( ص ) ؛ لشدّة قربه منه ولعظمة مقامه عنده، وكونه أحبّ الناس إليه، وأنّه أخوه وابن عمّه وصهره، بل وكنفسه، كما في الآية الكريمة:( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) ، وقوله ( ص ): إنّ علياً منّي وأنا منه، وأنا وأنت من شجرة واحدة، ما دعوت لنفسي بشيء إلاّ دعوت لك بمثله. وقال ( ص ): لا تشكوا عليً ؛ فإنّه لأخشن في ذات الله من أن يُشكى، ومن عصى علياً فقد عصاني، ومن آذى علياً فقد آذاني. وما يقرب منها.

ثّم إذا ارتحل رسول الله ( ص ) فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا وطعنوا ما طعنوا، آذوا عِترة رسول الله، وخالفوا أهل البيت، بل عادوهم وأبغضوهم وفارقوهم، ودعوهم إلى البيعة والطاعة والخضوع، وأخذوا ما في أيديهم، وأمالوا الناس عنهم، حتى قال بعضهم: والله لأحرقنَّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. وقال سلمان: كرداد ونا كرداد، أي: عملتم وما عملتم. لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

في مسند أحمد: قال رسول الله ( ص ): لَيردنَّ عليّ الحوض أقوام فإذا رأيتهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربِّ! أصحابي، أصحابي! فيقال إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك.(١)

والعجب من هؤلاء الرجال كيف نسوا في مدّة قليلة ما قال رسول الله ( ص ):

إنّما فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني.

وأنّ الله يغضب لغضب فاطمة.

ويؤذيني ما آذاها. ومن آذى رسول الله فقد حبط عمله.

وإذا دخلت عليه قام إليها واخذ بيدها وقبّلها، وأجلسها في مجلسه.

أنا الشجرة وفاطمة فرعها، وروايات آخر.

فهؤلاء أحدثوا، وأبدعوا ما أبدعوا، وظهرت الفتن، واستترت

____________________

١ - مسند أحمد، ج ٥، ص ٤٠٠، وقريباً منها: ص ٣٩٣.

٢١

الحقائق، وانكسفت شموس المعرفة، وشاعت الآراء والأهواء المختلفة، إلى أن قال عليّ ( ع ): أما والله لقد تقمّصها فلان وأنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً، وطفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخيّة عمياء.(١)

اللّهمّ إنّا خرجنا نشكوا إليك فقد نبيّنا، وتظاهر الزمان علينا، وكثرة توارد الفتن علينا، وشدّة المحن المستصعبة.

( الولاية تكوينية لا تشريعية )

ومن عقائدهم الواهية السخيفة أنّ النبي والإمام ليسا بممتازين عن سائر الناس، ولا فرق بينهما وبين أفراد أخر إلاّ بتعلّق تكليفٍ به من الله ينصّبه علماً لرسالته وتبليغ أحكامه، أو بتصويب الناس واختيارهم وانتخابهم من يشاءون ولو لم يكن أعلم الأمّة وأفضلها واتقاها، وهم في هذا القول شركاء الكفّار، حيث قالوا:( فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً ) .

نعم لهم أعين لا يُبصرون بها الحقائق والآيات الإلهية، ولهم آذان لا يسمعون بها الأصوات الغيبية والدعوات الربانية، ولا يرون إلاّ ظواهر هذا العالم، ولا يقبلون كرامة ولا فضيلة ومقاما إلاّ بما يشاهدون بنظرهم المادّي المحدود، ثمّ يسوّون بين أفراد الناس، ولا يختارون من اصطفاه الله واختاره.

أخبار أصبهان: عن أبي هريرة، قال: سمعت النبيّ (ص) يقول: إذا خلق الله خلقا للخلافة مسح بيمينه على ناصيته.(٢)

أقول: الناصية عنوان الوجه، وفيها يظهر أثر النور والظلمة والتوجّه إلى الله تعالى. ومن مسحت ناصيته بيد الله تعالى فهو على نور من ربّه. وهذا في مقابل

____________________

١ - نهج البلاغة، خطبة ٤.

٢ - أخبار أصبهان، ج ١، ص ١٣٠.

٢٢

من أخذت ناصيته، كما قال تعالى:( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ) .

وقد قال الله تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) .

وقال تعالى:( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) .

وقال تعالى: ( يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ) .

وقال تعالى:( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ) .

وإنهم لم يفهموا أنّ التكليف والتشريع تابع للتكوين، ولا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها، ولا يُكلف الله نفسا إلا ما آتاها، ولا تُكلف نفس إلاّ وسعها. فكما أنّ الحيوان ليس له وسع التكاليف الإنسانية ؛ فالإنسان العادي ليس له وسع الوحي والإلهام والتكليم، ولا يمكن تعلّق التكليف والتشريع إلاّ بعد أن آتى الله ما به يتحقّق الاستعداد والتحمّل والوسع، وكما أنّ الاستعداد من جهة الصفات النفسانية والأخلاق باطنية مختلفة شدّة وضعفاً، كذلك مراتب النفوس ودرجاتها متفاوتة. بل الصفات والأخلاق النفسانية والقوى الباطنية كلّها من أطوار النفس، والنفس في وحدتها كلّ القوى.

وهذا أمر ثابت في الفلسفة الإلهية، بل أمر مسلّم محسوس مقطوع لمن تدبّر ونظر، ثمّ نظر وتدبّر! ولا ينكره إلاّ من حُرم من البصيرة، وأبعده الله عن الحقيقة، وليس له من الروحانية نصيب، وفي أبصارهم غشاوة.

( الإمام مَن هو؟ )

إنّ النبيّ: هو المبعوث من الله تعالى بالوحي والإلهام ؛ لأداء الأحكام وتشريع الدين وبيان الحقائق وتنظيم القوانين والآداب في الشؤون المختلفة. والإمام: هو المحيط بتلك الأحكام، العالم بتلك الحقائق والعارف بتلك الآداب والقوانين علماً من لدن حكيم خبير، لا بالعلم التحصيلي وبالطرق المتداولة المعمولة بين الناس. فالنبيّ هو المؤسّس والشارع، والإمام هو وارثه وخليفته

٢٣

وولي أمره وحافظ دينه وشارح معارفه وأحكامه وآدابه.

وكما أنّ علوم النبيّ ومعارفه حضورية ومن الله، كذلك علوم الإمام ومقاماته الروحانية ليس باكتسابية، بل من الله تعالى، ولذا ترى إحاطتهم بالعلوم والمعارف الحقّة وعلمهم بالأحكام والآداب الإسلامية من دون الدرس والتحصيل والبحث والتتلمذ والتجربة، ومن أوّل أوان الإمامة إلى آخرها بل وقبلها، وفي زمان الصبا والشباب وبعدها، ومن دون أن يقولوا خلافاً، ويرتكبوا سهوا وخطاء، أو يخالف قولهم أحكام النبيّ، أو يخالف حكم واحد منهم واحدا آخر، ومن دون أن يحتاجوا إلى الفكر والتدبّر والتأمّل.

وهذا من المحالات في سائر أفراد الناس، وإن بلغوا في تحصيل العلم ما بلغوا، فإنّ الإنسان محلّ السهو والنسيان، وليس كلّ مجتهدٍ مصيب، وكلّ عالم ما جهله أكثر ممّا علمه، وكفى المرء نبلاً أن تُعدّ معايبه.

قال أمير المؤمنين (ع): [ منها يعني آل النبيّ عليه الصلاة والسلام ](*) : هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَلَجَأُ أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِه، بِهِمْ أَقَامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ، وَأذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ لا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ، وَلا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أبَداً. هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمَادُ اليَقِينِ، إِلَيْهمْ يَفِيءُ الغَالي، وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالي. وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِرَاثَةُ، الآنَ إِذْ رَجَعَ الحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَنُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ.(١)

فإذا كان في الأمّة بعد ارتحال الرسول (ص) من هذه صفتهم، فكيف يعقل أن يتوجّه إلى آخرين، وكيف يجوّز العقل أن يختار الناس لها من يشاءون، وكيف يرضى الله تعالى ورسوله أن يتقدّم من هو متأخّر، وأن يُنصب للإصلاح والتعليم والتربية وحفظ المعارف من يحتاج إلى إصلاح أمره وتربية نفسه وتحصيل العلوم والمعارف، وكيف يكلَّف الناس من جهة الشرع أو العقل أن يطيعوا ويتّبعوا ممّن هو في مرتبتهم، بل وفيهم من هو أحقّ وأفضل، بل وفيهم من

____________________

(*) هكذا في الأصل. وما بين المعقوفتين ليس من قول الإمام، بل هو عنوان لمقطوعة من الخطبة وضعه جامع النهج، ( لجنة التقويم / شبكة الإمامين الحسنين للتراث والفكر الإسلامي ).

١ - نهج البلاغة، خطبة ٢.

٢٤

لهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصية والوراثة.

( شكوى أمير المؤمنين علي (ع) )

يقول علي (ع) في النهج: حتى إذا قبض الله رسوله صلّى الله عليه وآله، رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتّكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودّته، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه، فبنوه في غير موضعه، معادن كلّ خطيئة.(١)

وفي مستدرك الحاكم عن علي (ع) قال: إنّ ممّا عهد إلي النبيّ (ص) أنّ الأمة ستغدر بي بعده.(٢)

ويروي أيضاً عن ابن عبّاس قال، قال النبيّ (ص): أما إنّك ستلقى بعدي جهدا! قال: في سلامة من دِيني؟ قال: في سلامة من دينك.

وعن علي (ع) قال: قال لي رسول الله (ص): إنّ الأمّة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملّتي وتُقتل على سنّتي، من أحبّك أحبّني ومن أبغضك ابغضني، وإنّ هذه ستُخضّب من هذا. يعنى لحيته من رأسه.(٣)

أقول: راجع في تحقيق غدر الأمّة مبحث: وصيّة رسول الله (ص) وفتنة السقيفة من هذا الكتاب، ثمّ إلى مباحث أخر، حتى تعلم ما صنعوا بعد نبيّهم، بل غدرهم في آخر ساعات من حياته، ومخالفتهم وصيّة رسول الله (ص).

ويشير علي (ع) إلى خلاصة غدرهم ونتيجة صنيعهم في حقّه:

في تاريخ الطبري: عن علي (ع): أنّ النبي (ص) قبض وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي، فبايع الناس أبا بكر فبايعت كما بايعوا، ثمّ أنّ أبا بكر هلك وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي، فبايع الناس عمر بن الخطاب فبايعت كما بايعوا، ثمّ إنّ عمر هلك وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي فجعلني سهماً من

____________________

١ - نهج البلاغة: ١٥٠.

٢ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٠.

٣ - نفس المصدر، ص ١٤٢.

٢٥

ستة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعت كما بايعوا، ثمّ سار الناس إلى عثمان فقتلوه ثمّ أتوني فبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا مُقاتل من خالفني بمن اتّبعني، حتى يحكم الله بيني وبينهم.(١)

أقول: الولاية الحقيقية بجعل الله تعالى وإعطائه، وهي مرتبة تكوينيّة روحانية ومقام معلوم لا يزيد بإقبال الناس وتوجههم، ولا ينقص بإدبارهم وإعراضهم. كما ورد بأنّ الإمام كالكعبة يُؤتى ولا يأتي. وأمّا الإمارة والخلافة الظاهرية فهي تتحصل بإقبال الناس وتوجّههم واعتبارهم، وتنتفي بأدبارهم ومخالفتهم، فإنّ أساس هذه الخلافة تحقّق السلطنة الظاهرية والنفوذ والحكومة والغلبة للحاكم، بأيّ وسيلة كان وبأي طريق وقع، حقّاً أو باطلاً. ولكل من هاتين الخلافتين آثار وأحكام شرعية وعقلية وعرفية، ولا ربط بأحديهما إلى الأخرى.

ثمّ إنّ الأحقّ بالولاية الظاهرية مَن كانت له ولاية حقيقية باطنية ؛ فإنّه أولى لإجراء الأحكام والقوانين الدينية، وهو أعلم بإصلاح أمور الناس دنيوية وأخروية، وإنّه مأمون عن الانحراف والضلال والإضلال، وهو أحرى بالاتّباع والاهتداء، وهذا معنى قوله (ع): وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي.

ولمّا كان الإمام له أن يفسّر الحقائق ويبيّن الأحكام ويحفظ معارف الدين ويدفع الشكوك والشبهات، فليس من وظائفه أن يأتي الناس ويدعوهم إليه، ويبلّغ الأحكام ويجاهد في التبليغ والدعوة. بل لهم أن يأتوا الإمام، ويستفيدوا من محضره، ويهتدوا بهديه، ويستنيروا بنوره، ويستكملوا بتعاليمه وتربيته.

ومن الأسف: أنّ أكثر الناس عن طريق السعادة لناكبون، وعن صراط الحقيقة لمعرضون، وعن الله وعن رسوله وعن أوليائه لمعتزلون، يريدون متاعاً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون.

وما أقبح ما صنعوا ؛ حيث خالفوا أهل بيت رسول الله (ص) وأعرضوا عن طريقة أئمّة الهدى، الذين قال فيهم الرسول: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٧١.

٢٦

وعترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً.

بل ولم يقنعوا ولم يكتفوا بتركهم والإعراض عنهم، وشرعوا بالتهمة والسبّ والشتم. وكادوا يظنّون أنّ هذا المنكر من المعروف، وأنّهم يتقرّبون بها إلى الله تعالى، فانظر ماذا يقول الإمام علي بن الحسين (ع) في ديدنهم:

في الطبقات، قال منهال: دخلت على علي بن الحسين فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله؟ فقال: ما كنت أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري كيف أصبحنا! فأمّا إذ لم تدرِ فأخبرك: أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ؛ إذ كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأصبح شيخنا وسيدنا يُتقربُ إلى عدونا بشتمه أو سبّه على المنابر! وأصبحت قريش تعدّ أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً (ص) منها، لا يعدّ لها فضلٌ إلاّ به، وأصبحت العرب مقرَّه لهم بذلك، وأصبحت العرب تعد أنّ لها الفضل على العجم لأنّ محمّداً (ص) منها، لا يعدّ لها فضل إلاّ به، وأصبحت العجم مقرّه لهم بذلك، فلئن كانت العرب صدقت أنّ لها الفضل على العجم، وصدقت قريش أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً (ص) منها، إنّ لنا أهل البيت الفضل على قريش لأنّ محمّداً (ص) منّا، فأصبحوا يأخذون بحقّنا ولا يعرفون لنا حقّا، فهكذا أصبحنا إذ لم تعلم كيف أصبحنا.(١)

( مَن هم أهل البيت؟ )

أهل الرجل وأهل بيته خواصّه، والخواص تختلف مصداقاً باختلاف الموارد والأفراد والحالات.

فأهل النبيّ من خاصة أهله الذين لهم اختصاص بالنبيّ من جهة الإيمان والروحانية والمعرفة.

وأهل النبيّ بعد ارتحاله هم الذين يختصّون به في زمان حياته وبعد رحلته

____________________

١ - الطبقات، ج ٥، ص ٢١٩.

٢٧

ولا ينقطع اختصاصهم بالموت. فأهل بيت كلّ رجل خواصّه بحسب حاله ومقامه.

وقد يكون الولد خارجاً عن الأهل إذا انقطع الاختصاص وانتفى الارتباط، كما قال الله تعالى:( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) .

فاللازم في مفهوم الأهل هو قيد الاختصاص، وإطلاقه على الزوجة والأولاد، من جهة اختصاصهم بالرجل، وإذا فقد الاختصاص انتفت الأهلية.

ويقال: أهل القرية، أهل المدينة، أهل الكتاب، أهل الله، أهل المعرفة، أهل العلم، أهل البيت، أهل التقوى، أهل الذكر.

ولمّا كان هذا المفهوم عنوانا كلّياً غير متعيّن فقد عرّف رسول الله (ص) أهل بيته وعيّن الخواص من عموم أهله وصرّح بأسمائهم وأشخاصهم في الأحاديث الآتية، ثمّ وصّى بهم وذكر مقاماتهم.

( أهل البيت وآل محمّد )

مسند أحمد: عن أم سلمة، قالت: بَيْنَمَا رسولُ اللَّه صَلَّى اللّه عليه وَسَلَّم فِي بَيْتِي يَومًا إِذْ قالتْ الْخَادمُ إِنَّ عَلِيًّا وفاطمةَ بِالسُّدَّةِ. قَالَتْ، فَقَالَ لِي: قُومِي فَتَنَحَّيْ لِي عَنْ أَهْلِ بَيْتِي. قالتْ: فَقُمْتُ فَتَنَحَّيْتُ فِي الْبَيْتِ قَرِيبًا، فدخل عليٌّ وفاطمَةُ وَمَعَهُمَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وهمَا صَبِيَّان صغِيرانِ، فَأَخذَ الصَّبِيَّيْنِ فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ فَقَبَّلَهُمَا، وَاعْتَنَقَ عَلِيًّا بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَفَاطِمَةَ بِالْيَدِ الأُخْرَى، فَقَبَّلَ فَاطِمَةَ وَقَبَّلَ عَلِيًّا، فَأَغْدَفَ عَلَيْهِمْ خَمِيصَةً سَوْدَاءَ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ لا إِلَى النَّارِ، أَنَا وَأَهْلُ بَيْتِي. قَالَتْ، فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: وَأَنْتِ.(١)

وعن أمّ سلمة: أنّ رسول الله (ص) قال لفاطمة: ايتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم، فألقى عليهم كساء فدكيّاً، ثمّ وضع يده عليهم، ثمّ قال: اللّهمّ إنّ هؤلاء آل محمّد فاجعل صلواتك وبركاتك على محمّد وعلى آل محمّد إنّك حميد

____________________

١ - مسند أحمد، ج ٦، ص ٢٩٦.

٢٨

مجيد. قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي، وقال: إنّك إلى خير.(١)

أقول: كلمة وأنت في الحديث الأوّل تصديق بكونها إلى الله لا إلى النار، لا في كونها من أهل البيت، ويؤيّد هذا المعنى قوله (ص) في الحديث الثاني - إنّك إلى خير - حيث استدعت أن تكون معهم وتدخل في الكساء.

( أهل البيت والثقلين )

في صحيح مسلم: بإسناده عن زيد بن أرقم، قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سنّي وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله (ص)، فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلّفونيه، ثمّ قال: قام رسول الله (ص) فينا خطيباً بماء يدعى خمّا بين مكّة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر، ثمّ قال أمّا بعد: ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين ؛ أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه، ثمّ قال: - وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي! فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟! قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومَن هم؟ قال: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس.(٢)

وفي مسند أحمد قريب منها.(٣)

أقول: نقل في حاشية الكتاب، قال القاضي: يعني أنّ نساءه من أهل مسكنه ولسنَ المراد، وإنّما أهل بيته وأهله وعصبته - انتهى.

وفي تعميم الكلمة حتى تشمل آل عقيل وآل جعفر وآل عباس نظر لا يخفى على البصير، وهو تفسير بالرأي.

____________________

١ - مسند أحمد، ج ٦، ص ٣٢٣.

٢ - صحيح المسلم، ج ٧، ص ١٢٢.

٣ - مسند أحمد، ج ٤، ص ٣٦٧.

٢٩

ويروي أيضاً قريباً منها، وفيها: فقلنا من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، وايم الله أنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.(١)

سنن الدارمي: عن زيد بن أرقم، قال رسول الله (ص) يوما خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: يا أيّها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيبه، وإنّي تارك فيكم الثقلين أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور فتمسّكوا بكتاب الله وخذوا به، فحثّ عليه ورغّب فيه، ثمّ قال: وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي. ثلاث مرّات.(٢)

ويروي السنن الكبرى للبيهقي مثلها.(٣)

سنن الترمذي: عن جابر رأيت رسول الله (ص): في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصوى يخطب، فسمعته يقول: أيّها الناس إنّي تركت فيكم من أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي.(٤)

ويروي أيضاً: عن زيد بن أرقم، قال رسول الله (ص): إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيها.

أقول: هذه الرواية متواترة معنىً بين الفريقين، فلو لم يكن في موضوع الوصية والخلافة إلاّ هذا الحديث المسلّم المروي عن رسول الله (ص) لكفانا، وهذا أعظم حجّة، وأتقن دليل، وأدلّ شاهد قاطع، على أنّ رسول الله (ص) أوصى الأمّة بالكتاب وبأهل بيته، ودلّهم على هذين الثقلين، وصرّح بأنّهم إن تمسّكوا بهما لن يضلّوا أبداً. والعجب من الأمّة كيف تركوا هذه الوصية، واعرضوا عن طريقة

____________________

١ - صحيح مسلم، ج ٧، ص ١٢٣.

٢ - سنن الدارمي، ج ٢، ص ٤٣١.

٣ - السنن الكبرى، للبيهقي، ج ١٠، ص ١١٤.

٤ - سنن الترمذي، ص ٥٤١.

٣٠

أهل البيت، بل خالفوهم أشدّ خلاف، وخاصموهم ألدّ خصام، ضلّوا وأضلوا، وخسروا خسرانا مبيناً.

وفي مسند أحمد: عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ (ص) قال: إنّي أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروني بمَ تخلفوني فيهما.(١)

وروى قريبا منها،وفيها: تارك فيكم خليفتين.(٢)

مستدرك الحاكم: عن زيد بن أرقم قال: رسول الله (ص): إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.(٣)

الفائق: النبيّ (ص) - خلّفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي -الثَّقل ( بفتحتين ) المتاع المحمول على الدابّة، وإنّما قيل للجنّ والإنس.الثقلان ، لأنّهما قطّان الأرض، فكأنّهما أثقلاها، وقد شبّه بهما الكتاب والعترة في أنّ الدين يستصلح بهما ويعمر كما عمرت الدنيا بالثقلين.(٤)

أقول: وفي جملة ( لن يفترقا ) إشارة إلى بطلان القول بكفاية الكتاب، وقد قلنا بأنّ الإمام هو كاشف حقائق القرآن ومفسّر معارفه، وحافظ أحكامه، ومبيّن مجمله ومتشابهه، فكيف يُستغنى عن الإمام، وكيف يكفينا كتاب الله، بل وكيف يصحّ لنا العمل بخلاف قول رسول الله (ص) ووصيّته، وكيف يجوز لرجل مسلم أن يقول معترضاً: كفانا كتاب الله، وقد قال الله تعالى:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) [ النجم: ٤ ]، و:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) .

____________________

١ - مسند أحمد، ج ٣، ص ١٧.

٢ - مسند أحمد، ج ٥، ص ١٨٢.

٣ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٨.

٤ - الفائق، ج ١، ص ١٥١.

٣١

ثمّ إنّ المراد من أهل البيت في هذه الأحاديث ليس إلاّ أهل الكساء والأئمّة المعصومون الذين هم خزّان العلم والمطهّرون من الرجس، بدليل قوله (ص): إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً. و: لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

( أهل البيت وكيفية الصلاة عليهم )

مسند أحمد: عن طلحة قال: قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال، قل: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.(١)

ويروي عن زيد بن خارجة قال: سألت رسول الله (ص) كيف الصلاة عليك؟ قال: صلّوا واجتهدوا ثمّ قولوا: اللّهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم إنّك حميد مجيد.(٢)

ويروي عن كعب، أنّ رجلا قال للنبيّ (ص): يا رسول الله قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال، قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللّهم بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم إنّك حميد مجيد.(٣) ويروي بإسناد آخر مثلها.

سنن البيهقي: قال بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلّي عليك يا رسول الله، فيكف نصلّي عليك؟ قال: فسكت رسول الله (ص) حتى تمنّينا أنّه لم يسأله! ثمّ قال رسول الله (ص)، قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم في العالمين.(٤)

ويروي روايات قريبة منها.

____________________

١ - مسند أحمد، ج ١، ص ١٦٢.

٢ - مسند أحمد، ج ١، ص ١٩٩.

٣ - مسند أحمد، ج ٤، ص ٢٤١.

٤ - سنن البيهقي، ج ٢، ص ١٤٦.

٣٢

سنن النسائي: قلنا: قد عرفنا كيف السلام عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال، قولوا: اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم.(١)

أقول: وروي روايات كثيرة بهذا المضمون في الكتاب.

مسند أبي عوانة: روى روايات مثلها.(٢)

مستدرك الحاكم: ثمّ قال رسول الله (ص): اللّهم هؤلاء آلي، فصلّ على محمّد وعلى آل محمّد. وأنزل الله عز وجل:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) . هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه. وقد صحّت الرواية على شرط الشيخين، أنّه علّمهم الصلاة على أهل بيته كما علّمهم الصلاة على آله.(٣)

أقول: يكشف هذا عن شدّة محبّته وتعلّقه بآله ؛ حيث قرن الصلاة عليه بالصلاة عليهم، وليس هذا إلاّ من جهة طهارتهم وتنزّههم، وكمال قربهم من الله ومن الرسول، ونهاية ارتباطهم واتصالهم به، وسيجيء التصريح منه (ص) بأنّ حبّهم حبّ الرسول، وحربهم حربه، وبغضهم بغضه، وطاعتهم طاعته، وأنّهم أمان أهل الأرض، والتمسّك بهم نجاة من الضلال.

ولا يخفى أنّ المصداق المسلّم من الآل هنا: هم أهل الكساء والأئمّة الطاهرون المعصومون الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهم خزنة علوم النبيّ وورثة الأنبياء وحملة الكتاب والحكمة وأولياء الله المقرّبون وعباده المخلصون.

( أهل البيت وآية التطهير )

صحيح مسلم: بإسناده عن عائشة، قالت: خرج النبيّ (ص) غداة وعليه مِرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله، ثمّ قال:( إِنَّمَا

____________________

١ - سنن النسائي، ج ٣، ص ٤٨.

٢ - مسند أبي عوانة، ج ٢، ص ٢١١.

٣ - مستدرك الحاكم، ج٣، ص ١٤٨.

٣٣

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) [الأحزاب: ٣٣ ].(١)

الكُنى للبخاري: قال أبو الحمراء صحبت النبيّ (ص) تسعة أشهر، فكان إذا أصبح كلّ يوم يأتي باب عليٍّ وفاطمة، فيقول: السلام عليكم أهل البيت،إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. (٢)

أقول: هذا العمل من النبيّ (ص) يدلّ على نهاية الاهتمام وكمال التوجّه والتعمّد في تعريف أهل البيت وتعيينهم ؛ لئلاّ يبقى مورد للشكّ والاشتباه والترديد في مصداق أهل البيت.

سنن الترمذي: عن عمر بن أبي سلمة، ربيب النبيّ (ص)، قال: لما نزلت هذه الآية على النبيّ ( ص): ( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم بكساء، وعليّ خلف ظهره فجلّله بكساء، ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، قالت أمّ سلمة: وأنا معهم يا نبيّ الله؟ قال: أنت على مكانك، وأنت على خير. (٣)

ويروي أيضا عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله (ص) كان يمرّ بباب فاطمة ستّة أشهر، إذا خرج لصلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) . ورواه أيضا مسند أحمد.(٤)

الكُنى للدولابي: عن عطية، عن أبيه، عن أُمّ سلمة، قالت: بينا رسول الله (ص) في بيته يوماً إذ قال لي الخادم إنّ علياً وفاطمة بالسدّة، فقال لي: قومي فتنحّي لي عن أهل بيتي. فقمت فتنحّيت في البيت قريباً، فدخل عليّ وفاطمة ومعهما الحسن والحسين وهما صغيران، فأخذ الصبيّين فوضعهما في حجره واعتنق عليّ

____________________

١ - صحيح مسلم، ج ٧، ص ١٣٠.

٢ - الكُنى، للبخاري، ص ٢٥.

٣ - سنن الترمذي، ص ٤٦٢.

٤ - سنن الترمذي، ص ٤٦٢. ومسند أحمد، ج٣، ص ٢٥٩.

٣٤

بإحدى يديه وفاطمة بالأخرى، فقبّلهما وأغدف عليهم خميصة سوداء، وقال: اللّهمّ إليك لا إلى النار، أنا وأهل بيتي. قالت: قلت وأنا يا رسول الله، قال: وأنت.(١)

البيان والتعريف: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصيّتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. أخرجه الإمام أحمد عن أُمّ سلمة رضي الله عنها.(٢)

وسببه: عنها: أنّ النبيّ (ص) كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة، فدخلت بها عليه، فقال: ادعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء عليّ وحسين وحسن فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة وهو على منامة له، وكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا أصلي في الحجرة فانزل الله عز وجل هذه الآية:( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، قالت فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثمّ اخرج يده فألوى بها إلى السماء ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء إلخ.

رواه مسند أحمد: وآخر الحديث: هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قالت فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير، إنّك إلى خير(٣)

مستدرك الحاكم: عن واثلة قال: جئت أريد علياً ( رض ) فلم أجده، فقالت فاطمة ( رض ): انطلقَ إلى رسول الله (ص) يدعوه، فاجلس! فجاء مع رسول الله (ص) فدخل ودخلت معهما، قال فدعا رسول الله (ص) حسناً وحسيناً فأجلس كلّ واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها، ثمّ لفّ عليهم ثوبه وأنا شاهد، فقال:( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، اللّهم هؤلاء أهل بيتي. (٤)

ويروي نظيره، وفيه: اللّهم أهل بيتي أحقّ. هذا حديث صحيح على شرط

____________________

١ - الكُنى، للدولابي، ج ٢، ص ١٢١.

٢ - البيان والتعريف، ج ١، ص ١٥٠.

٣ - مسند أحمد، ج ٦، ص ٢٩٢.

٤ - مستدرك الحاكم، ج ٢، ص ٤١٦.

٣٥

الشيخين ولم يُخرجاه(١)

وفي مسند أحمد: عن شدّاد قال: دخلت على واثلة وعنده قوم، فذكروا علياً، فلمّا قاموا قال لي: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله (ص)؟ قلت بلى، قال: أتيت فاطمة ( رض ) أسألها عن عليّ، قالت: توجّه إلى رسول الله (ص)، فجلست انتظره حتى جاء رسول الله (ص) ومعه عليّ وحسن وحسين ( رض ) آخذٌ كلّ واحد منها بيده، حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه، ثمّ لف عليهم ثوبه - أو قال: كساءا - ثمّ تلا هذه الآية:( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، وقال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحقّ.(٢)

الاستيعاب: أبو الحمراء مولى النبيّ (ص) قيل اسمه هلال بن الحارث، حديثه عن النبيّ (ص): أنّه كان يمرّ ببيت فاطمة وعليّ عليهما السلام فيقول: السلام عليكم أهل البيت( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .(٣)

أقول: وقد صرّح رسول الله (ص) بقوله: ( وأهل بيتي أحقّ، السلام عليكم أهل البيت، هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، وأنت إلى خير، فتنحّي لي عن أهلي، أنا وأهل بيتي ) بكونهم مصداق أهل البيت في آية التطهير وفي دعاء الرسول مخصوصاً، ولا يعمّ غيرهم في هذا المورد، وان أُطلق على غيرهم في سائر الموارد. وهذا الاختصاص نصّ من رسول الله (ص)، ولا يجوز الاجتهاد في مقابل النصّ.

المحاسن للبيهقي: سُئلت عائشة عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقالت: وما عسيت أن أقول فيه وهو أحبّ الناس إلى رسول الله (ص)، لقد رأيت رسول الله (ص) قد جمع شملته على عليّ وفاطمة والحسن والحسين، وقال: هؤلاء أهل بيتي اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قيل لها فكيف

____________________

١ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٧.

٢ - مسند أحمد، ج ٤، ص ١٠٧.

٣ - الاستيعاب، ج ٤، ص ١٦٣٣.

٣٦

سرت إليه؟! قالت: أنا نادمة، وكان ذلك قدراً مقدوراً.! (١)

مستدرك الحاكم: عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت:( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ، قالت: فأرسل رسول الله (ص) إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: هؤلاء أهل بيتي(٢)

ويروي أيضاً: عن عبد الله بن جعفر، قال: لمّا نظر رسول الله (ص) إلى الرحمة هابطة، قال: ادعوا لي، ادعوا لي. فقالت صفيّة: مَن يا رسول الله؟ قال: أهل بيتي، علياً وفاطمة والحسن والحسين. فجيء بهم، فألقى عليهم النبيّ (ص) كساءه ثمّ رفع يديه، ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء آلي فصلّ على محمّد وعلى آل محمّد، وأنزل الله عزّ وجلّ( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣) . هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه.

أقول: يستفاد من هذه الروايات أمور:

١ - قد صرّح فيها بأنّ المراد من أهل البيت هو عليّ وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام )

٢ - أذهب الله الرجس عنهم وطهّرهم تطهيراً، فقد طهّر قلوبهم ونفوسهم، وأذهب عنهم رجس الشكّ والعصيان، وعصمهم عن الخطأ والخذلان.

٣ - فإذا أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم فلا يجوز نسبة الخطأ والكذب والخلاف والعصيان، فكيف يمكن أن يقولوا خلاف الصدق والحقّ؟! أو أن يدّعوا ما ليسوا له بأهل؟! أو يتملّكوا ما ليس لهم؟! وهل يُعقل أن نتبع ممّن ليس بمعصوم عن الخطأ والرجس مع وجود هؤلاء المطهّرين المعصومين؟!

____________________

١ - المحاسن، للبيهقي، ص ٢٩٨.

٢ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٦.

٣ - مستدرك، الحاكم، ص ١٤٨.

٣٧

( بعض ما ورد في أهل البيت )

وقد وردت أحاديث كثيرة عن طرق أهل السنّة، في أنّ أهل البيت: أمان لأهل الأرض.

وأنّ: مَثَلهم كمثل سفينة نوح.

وأنّهم: أوّل من يدخل الجنّة.

وأنّهم: سادة أهل الجنّة.

وأنّ: نسبهم لا ينقطع.

وأنّ: مبغضهم يدخل النار.

وأنّ: رسول الله (ص) حربٌ لمن حاربهم وسلمٌ لمن سالمهم.

وأنّ: صالح الأعمال لا ينفع حتى يُحبوهم. ونحن نورد بعضها بالاختصار.

( أنّهم أمان أهل الأرض )

مستدرك الحاكم: عن ابن عبّاس، قال رسول الله (ص): النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس. (١)

ويروي أيضا: عن المنكدر، قال رسول الله (ص): النجوم أمانٌ لأهل السماء فإن طمست النجوم أتى السماء ما يوعدون، وأنا أمانٌ لأصحابي فإذا قبضت أتى أصحابي ما يوعدون، وأهل بيتي أمانٌ لأمّتي فإذا ذهب أهل بيتي أتى أمّتي ما يوعدون.(٢)

أقول: قد صرّح رسول الله (ص) بأنّ: اتّباعهم وإطاعتهم يرفع الاختلاف عن الأمّة ويهديهم إلى الحقّ ويمنعهم عن الضلال ويعطيهم الأمان من الانحراف والعقوبات،( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ ) .

____________________

١ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٩.

٢ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ٤٥٧.

٣٨

( حُبُّهم وبُغضُهم )

مستدرك الحاكم: عن عليّ ( ع ): قال رسول الله (ص): إنّ أوّل مَن يدخل الجنّة أنت وفاطمة والحسن والحسين. قلتُ: يا رسول الله، فمحبّونا؟ قال: من ورائكم.(١)

مسند أحمد: أنّ رسول الله (ص) أخذ بيد حسن وحسين رضي الله عنهما، فقال: مَن أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما، كان معي في درجتي يوم القيامة.(٢)

الكُنى للدولابي: عن زيد بن أرقم، أنّ النبيّ (ص) قال لعليّ وفاطمة وحسن وحسين ( عليهم السلام ): أنا حربٌ لمَن حاربتم، وسِلمٌ لمَن سالمتم.(٣)

سير الأعلام: عن أبي هريرة، نظر النبيّ (ص) إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين فقال: أنا حربٌ لمَن حاربَكم وسِلم لمَن سالمكم(٤). يروي مسند أحمد مثلها(٥) . والحاكم في المستدرك مثلها. (٦)

ويروي الذهبي أيضاً: عنه (ص): فلو أنّ رجلاً صفن بين الركن والمقام، فصلّى وصام، ثمّ لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمّد، دخل النار.

أقول: لمّا كان أهل البيت مظهر العلم والحقيقة ومَجلى الصدق والإيمان والطهارة ؛ فطاعتهم والسلام لهم طاعة لله، وبغضهم والحرب لهم حربٌ لله، ومخالفةٌ للحقٌ وانحراف عن صراط الحقيقة، ومَن خالفهم وأبغضهم فهو بعيد عن الله، وبعيد عن رسوله وعن الحقّ، ولا يفيده العمل ولا ينفعه التعبّد الظاهريّ.

____________________

١ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٥١.

٢ - مسند أحمد، ج ١، ص ٧.

٣ - الكُنى، للدولابي، ج ٢، ص ١٦٠.

٤ - سير الأعلام، ج ٢، ص ٩٠.

٥ - مسند أحمد، ج ٢، ص ٤٤٢.

٦ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٩.

٣٩

أخبار أصبهان: عن سلمان قال: أنزلوا آل محمّد بمنزلة الرأس من الجسد وبمنزلة العين من الرأس ؛ فإنّ الجسد لا يهتدي إلاّ بالعينين.(١)

ويروي: عن أبي هريرة، قال رسول الله (ص): خيركم خيركم لأهلي من بعدي. (٢)

سنن الترمذي: عن ابن عبّاس، قال رسول الله (ص): أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِى بِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِى لِحُبِّى.(٣)

سير الأعلام: عن أبي سعيد قال رسول الله (ص): لا يبغضنا أهل البيت أحدٌ إلاّ أدخله الله النار(٤)، ويروي الحاكم في مستدركه نظيره.(٥)

الفائق: أبو ذر رضي الله عنه: لو صلّيتم حتى تكونوا كالحنايا، ما نفعكم ذلك حتى تُحبّوا آل رسول الله (ص). (٦)

ثمّ قال الزمخشري: حتى تحدبوا وتنحنوا ممّا تجهدون أنفسكم.

أقول: سيأتي في الفصول الآتية أحاديث مروية عن رسول الله (ص) في أنّ من أحبّ علياً فقد أحبّه. ومن أحبّ فاطمة فقد أحبّه. ومن أحبّ الحسنين فقد أحبّه. ومن أبغض واحداً منهم فقد أبغضه. وما يقرب منها.

( أنّهم كسفينة نوح )

العقد الفريد: وروى فيها جعفر بن محمّد رضوان الله عليه: ألاّ إنّ الأبرار عِترتي وأطايب أرومتي، أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً، ألا وإنّا أهل البيت

____________________

١ - أخبار أصبهان، ج ١، ص ٤٤.

٢ - أخبار أصبهان، ج٢، ص ٢٩٤.

٣ - سنن الترمذي، ص ٥٤١.

٤ - سير الأعلام، ج ٢، ص ٩٠.

٥ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٥٠.

٦ - الفائق، ج ١، ص ٣٠٢.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وهكذا نلاحظ كثيراً من الأدلة القرآنية التي تؤيد هذا الأمر. إذن ما ذهب إليه الإمامية صحيح ، لا يخالف القرآن كما إدعاه البعض.

وبعد هذا البيان والدراسة في بحث (الغيب) ، ندخل في دراسة القصة الغيبية.

ب ـ أقسام القصة الغيبية :

سبق أن قلنا أنّ هذا النوع من القصص تعد أحداثها بتفاصيلها مصدرها الوحي ، فهذه القصص من قبيل الغيب الذي كشفه الله عَزّ وجَلّ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي غيب سواء أكانت في الماضي أو المستقبل ، فعلى هذا يمكن تقسيم القصة الغيبية إلى ما يلي :

الأول ـ قصص الماضي :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب ، خصوصاً ما جرى على الأمم الماضية ، فعلى سبيل المثال ما جاء في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته حيث أوحى الله سبحانه إلى يوسف في قوله تعالى :( لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [يوسف / ١٥]. ففي الآية غيب موحى إلى يوسف ، وكذلك غيب موحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الوحي له بما حصل ليوسف عليه السلام وأكّد على ذلك في قوله تعالى :( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) [يوسف / ١٠٢]. إلى غير ذلك مما ذكره القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية ، فالقرآن ذكر تلك القصص على نحو الإختصار ، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوضحها ، فالملاحظ أنّ تلك القصص وما تضمنته من أحداث ليست في متناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تحدث أمامه ، كما أنّه لم يُنشئها ولم يأخذها عن طريق غيره

١٠١

من المؤرخين ، بل مصدره الوحي ، وأخذ عنه أهل بيته عليهم السلام. «وذكر العلامة الجليل الورع الثقة النبيل ، السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) أكثر من ستمائة رواية في إخبارات الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم»(١٠٥) .

الثاني ـ قصص المستقبل :

يتناول هذا اللون من القصص أموراً مختلفة كلها تتحدث عن أمور غيبية خاصة تحدث في الواقع ، ولو تأملنا ما ذكر في القرآن الكريم ، وعلى لسان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأمكن تقسيمه إلى ما يلي :

أولاً ـ أخبار تحققت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام ـ وكان ذلك في المدينة المنورة قبل أن يخرج إلى الحديبية ـ أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكة عامهم هذا ، فلما إنصرفوا ولم يدخلوا مكة ؛ قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله هذه الآية :( لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح / ٢٧]. وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة. وكان عام سبع للهجرة وتَمّ الفتح القريب من دونه ـ وهو صلح الحديبية ـ ، الذي كان مقدمة لفتح مكة سنة ثمان للهجرة.

ثانياً ـ أخبار تحققت بعد حياته :

وهذا ال نوع من القصص منه ما هو مشهور كأخبار آخر الزمان ، المسمى بـ(أحاديث الفتن والملاحم) ، ويندرج تحت هذا النوع كثير من الإخبارات ،

__________________

(١٠٥) ـ النمازي ، الشيخ علي الشاهرودي : مستدرك سفينة البحار ، ج ٨ / ٨٠.

١٠٢

كخبر الدابة التي تخرج للناس في آخر الزمان ، وقد جاء في القرآن الكريم خبرها في قوله تعالى :( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) [النمل / ٨٢]. ومن أراد تفاصيل ذلك ؛ فليراجع كتب التفسير.

كما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة إخبارات غيبية ، من أهمها ما يحل على أهل بيته عليهم السلام كإخباره بمقتل سبطه الحسين عليه السلام في كربلاء ، وقد ذكر منها ابن الأثير في ترجمة أنس بن الحارث حيث قال : «روى حديثه أشعث بن سحيم ، عن أبيه عن أنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض ال عراق ، فمن أدركه فلينصره) ، فقتل مع الحسين عليه السلام»(١٠٦) .

وأيضاً إخباره عن الإمام المهدي عليه السالم ، وقد ذكرها علماء المسلمين ، لا ينكر ذلك إلا مكابر لا قيمة لرأيه.

ثالثاً ـ أخبار البعث والنشور :

لعلّ من أهم القضايا التي واجه بها نبينا الأعظم عليه السلام مشركي قريش قضية البعث والنشور ، فقد أنكر المشركون هذا الأمر باصرار عنيف ، واستغربوا من ذلك أشد الإستغراب ، وقد سجل القرآن الكريم هذا الإنكار في أكثر من آية ، منها ما يلي :

قوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) [سبأ / ٧ ـ ٨].

__________________

(١٠٦) ـ ابن الاثير ، علي بن محمد : أسد الغابة ، ج ١ / ١٢٣.

١٠٣

وقوله تعالى :( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [الجاثية / ٢٤].

وقوله تعالى :( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) [الصافات / ١٦ ـ ١٩].

وإزاء هذا الإنكار لهذه القضية ، إستخدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القصة في عرض البعث واليوم الآخر ، وأكّد على ذلك بأن نَزّل المستقبل منزلة الحار ، فهذه القصص في الوقت الذي تحمل الرد على المنكرين ، فإنّها تُؤكِّد الإيمان بالبعث والنشور ، كما أنّ هناك عاملاً جوهرياً يضاف إلى وجود هذا النوع من قصص العالم الآخر ، ووراء كثرته وتكراره أنّ ذلك العالم هو محل العقاب والثواب ، وقضية العقاب والثواب أساسية يتمد عليها منهج التربية في الشريعة الإسلامية ، من أجل قيام الإنسان المسلم على مبادئ دينه والإلتزام بها ، حيث سيظل وازع الإحساس بالمسؤولية ، ـ عما يقول أو يفعل ـ مائلاً أمامه من خلال تصوره لحياة أخرى يؤمن بأنّه سيجازي فيها على سلوكه ، على الخير بالخير في الجنة والنعيم ، وعلى الشر بالشر في النار والعذاب ، كما في قوله تعالى :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة / ٧ ـ ٨].

١٠٤

٣ ـ القصة الخيالية

أ ـ الخرافية

ب ـ التمثيلية

ج ـ الخيال العلمي

١٠٥
١٠٦

٢ ـ القصة الخيالية :

هي حكايات يبتدعها خيال المؤلف ، قد تكون نثراً أو نظماً ، والروايات والقصص القصيرة ، هي من أشهر أشكال قصص الخيال رواجاً ، وسمات هذه القصص أنّها تحتوي على عناصر خيالية ، إما كلياً أو جزئياً ، وهذه العناصر تشمل الشخصيات والأوضاع المحيطة ، وفي بعض قصص الخيال تكون العناصر الخيالية واضحة ـ أي بعيدة عن الواقع ـ مثل القصة الإطارية ، وهي قصة تروي في إطارها مجموعة من الحكايات ، ومن أحسن الأمثلة عليها قصة شَهْرَيَار الملك وشَهْرَزَاد في كتاب (ألف ليلة وليلة) ، ومع ذلك ليس من الضروري أن تختلف كثيراً عن الواقع ؛ إذ أنّ كثيراً من نماذج قصص الخيال تمثل شخصيات قريبة من الواقع ، وتصف أوضاعاً واقعية ، وبعض القصص ترتكز على شخصيات وحوادث حقيقية ، وتدمج عادة العناصر الواقعية في قصص الخيال مع الأوضاع والشخصيات والحوادث الخيالية ، والغرض الرئيس لمعظم قصص الخيال هو التسلية ، إلا أنّ هناك بعض الأعمال الجادة من قصص الخيال التي تحفز العقل وتدعو إلى التفكير عن طريق إيجاد الشخصيات ، ووضعها في مواقف محددة ، وتأسيس وجهات النظر ، ويقوم مؤلفو قصص الخيال الجادة بتوضيح الأحكام المميزة بين الأشياء ، وهذه الأحكام تتناول المسائل الأخلاقية والفلسفية والنفسية والإجتماعية ، ولعلّ أهم ما يمكن دراسته من أقسامها هي التالي :

أ ـ الخرافية :

الخُرافَة : «الحديث المستملح من الكذب. وقالوا : حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبي في قولهم حديث خرافة أنّ خرافة من بني عُذْرَة أو من جُهَيْنَة ، إختطفته الجن ، ثم رجع إلى قومه فكان يُحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها

١٠٧

الناس ، فكذبوه فجرى على ألسن الناس»(١٠٧) . وعُرِّفت الخرافة أيضاً بـ«معتقد لا عقلاني أو ممارسة لا عقلانية. والخرافات قد تكون دينية ، وقد تكون ثقافية أو إجتماعية. فمن الخرافات الدينية إيمان بعض المشلولين أو المقعدين ، بقدرة قديس بعينه أو قديسة بعينها على شفائهم.

ومن الخرافات الثقافية أو الإجتماعية ، إيمان كثير من الناس بأنّ الخرزة الزرقاء تدفع الشر ، وبأنّ نعل الفرس مجلبة للخير»(١٠٨) وبعد هذا التعريف فالحكاية الخرافية : «قصة أو حكاية خيالية قصيرة ذات مغزى في معظم الحكايات الخرافية ، يمثل واحد أو أكثر من الشخصيات حيواناً أو نباتاً أو شيئاً يتكلم ويتصرف كمخلوق بشري ، ويمكن أن نُقص الحكاية الخرافية نثراً أو شعراً ، وفي عديد من الحكايات يمكن تلخيص المراد من القصة ، أو مغزاها في النهاية على شكل مثل شعبي»(١٠٩) .

وهذا النوع من القصة الخيالية لا قيمة له على المستوى الديني ، لا في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية.

ب ـ التمثيلية :

لست بصدد دراسة القصة التمثيلية من جميع جوانبها ، وإنّما الهدف هو التعريف بها من بعض جوانبها ، في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والذي يهمنا بحثه هو التالي :

__________________

(١٠٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٩ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٠٨) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٤٦١.

(١٠٩) ـ الموسوعة العربية العالمية ، ج ٩ / ٤٨١.

١٠٨

١ ـ التعريف بالمثل :

يطلق المثل على معانٍ ثلاثة ، هي كالتالي :

الأول ـ المثل السائر :

هو كلمة موجزة قيلت في مناسبة تناقلتها الأجيال بدون تبديل ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ من البيان لسحرا)(١١٠) ، قال الميداني : «يعني أنّ بعض البيان يعمل عمل السحر ، ومعنى السحر : إظهار الباطل في صورة الحق ، والبيان : إجتماع الفصاحة والبلاغة ، وذكاء القلب مع اللسَنِ ، وإنما شُبّه بالسحر ، لحدّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له. يضرب في إستحسان المنطق ، وإيراد الحجة البالغة»(١١١) . والهدف منه مقصور على التطبيق.

الثاني ـ المثل القياسي :

ويقصد به البيانيون متشكل من أي وصف أو قصة أو تصوير رائع لتوضيح فكرة ، عن طريق تشبيه يسميه البلاغيون (التمثيل المركب) لتقريب أمر معقول من محسوس يجمع بذلك بين عمق الفكرة ، وجمال التصوير ولم يقصر على سماع أو نقل ، والإهتمام بصياغة الفكر فيه أكثر من إقتباس مثل سائر ، وحاصل القياسي : هو ما يخلقه المتمثل لغرض ينشده ، ومن نماذجه في القرآن الكريم ، قوله تعالى :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل / ١١٢]. فالآية فيها إستعارة تمثيلية ؛ حيث أخذ اللباس في الجوع والخوف الدال على إستعمالها لمن

__________________

(١١٠) ـ الميداني ، احمد بن محمد النيسابوري : مجمع الأمثال ، ج ١ / ٧.

(١١١) ـ نفس المصدر.

١٠٩

كفر بأنعم الله تعالى ـ الأمن والصحة والكفاية في الرزق وغيرها من النعم التي لا تحصى ـ ، ولو إكتفى بالإذاقة لفات ذلك. وفي الأمثال النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أيها الناس إياكم وخضراء من الدِمَن. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١١٢) .

قال الشريف الرضي : «... أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن ـ وهي منبت السوء ، أو في البيت السوء ـ ، فوجه المجاز في هذا القول ، أنّه عليه الصلاة والسلام ، شَبّه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة لجمال ظاهرها ، وشبّه منبتها السوء بالدِمْنَة لقباحته ، والدِمْنَة هي : الأبعار المتجمعة تركبها السوافي ، ويعلوها الهابي ، فإذا أصابها المطر أنبتت نباتاً خضراء يروق منظره ويسوء مخبره ، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة في نفسها ، أو مطعوناً عليها في نسبها ، لأنّ أعراق السوء تنزع إلى ولدها ، وتضرب في نسلها ، قال الشاعر :

وأدركنه خالاته فخذلنه

ألا إنّ عِرق السوء لا بدّ مدرك(١١٣)

وفي السيرة الحسينية ما جاء في خطبته في مكة المكرمة : «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه ، فكأنّي بأوصالي تُقطعها عُسْلَان الفَلوات بين النَوَاوِيس وكربلا ، فيملأن مني أكراشاً جُوفَاً ، وأجْرُبَة سُغُبَاً»(١١٤) .

__________________

(١١٢) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ٢٧٢.

(١١٣) ـ الشريف الرضي ، محمد بن الحسين : المجازات النبوية / ٦٠ ـ ٦١.

(١١٤) ـ السماوي ، الشيخ محمد طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦.

١١٠

إنّ بلاغة هذه الخطبة وعُلو مضمونها ، يوجب لنا الإطمئنان بصدورها عن سيد الشهداء عليه السلام ، كما أنّها على وجازتها تضمنت نهج الحسين عليه السلام وهدفه ، ونهايته ووصف مصرعه ومكانه ، والذي يهمنا بحثه ـ هنا ـ بيان بعض أوجهها البلاغية ، المتمثلة فيما يلي :

أولاً ـ عَبّر الحسين عليه السلام عن الموت الذي هو طبيعي للبشر بأنّه : (خط مخط القِلادة على جِيدْ الفَتاة). وهذا التعبير براعة إستهلال عجيبة المعنى ؛ حيث أنّ مخط القلادة يراد منه شيئين :

أ ـ إسم مكان : وهو موضع خط القلادة ـ وهي الجلد المستدير من الجيد ـ ، فكما أنّ ذلك الجلد لازم على الرقبة ، كذلك الموت على ولد آدم.

ب ـ إسم مصدر : والمراد به نفس الخط ، فيكون معنى ذلك : أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم عن وسطها ، كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجيد منها حال تقليده. فإذا كان الموت لابد منه ؛ فليختر الإنسان أفضل ميتة ، وأعظمها شرفاً ونفعاً ، وإن أدّت إلى تقطيع أوصاله.

ثانياً ـ إختيار الحسين عليه السلام لنفسه الموتة الكريمة ، التي هي مرتبطة بأمر السماء التي تتم فيها شهادة الحسين وسعادته ، وسعادة من سار على نهجه ، لقد قضي الأمر وتمت الخيرة ، وكيفية القتلة ومكانها وعَبّر عن ذلك بقوله : (وخِير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقَطّعها عُسْلَان الفَلوات ، بين النَواوِيس وكربلاء).

فعسلان الفلوات : هي الذئاب ، ولعلّ الحسين عليه السلام يعني بها ـ مجازاً ـ الوحوش البشرية من أعدائه التي وَزّعت جسده الطاهر ، وتركته بالعراء وسلبته ووطأته بالخيول ، ثم تركته بلا مواراة ثلاثة أيام ، وقد عَبّر عن وحشيتهم بقوله

١١١

(فيملأن مني أكراشاً جُوْفَاً ـ أي واسعة ـ ، وأجربة سُغُباً ـ أي البطون الجائعة ـ ، وهذا تعبير عن شدتها وكثرة أكلها من دون محام ولا دافع عن الأعضاء المقطعة ، ويُؤَيّد هذا المعنى ما قاله لأصحابه لما نزل بَطْن العَقَبة : «ما أراني إلا مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليّ كلب أبقع»(١١٥) . أراد الحسين عليه السلام أن يُبيّن للمسلمين من خلال خطبته ، تلك الجريمة النكراء التي إقترفها الأمويون في حق البيت النبوي الطاهر ، ومدى اللثم والخسة في نفوس أعدائه ، حيث إمتدت تلك الجريمة ـ بعد تقطيع الحسين عليه السلام بالسيوف ، ووطئ جثته بالخيول ـ لتدخل الرعب والهلع في نفوس النساء والأطفال ، وتُعَرِّضَهم للعطش والحرق والسحق والأسر وضرب السياط ، وبهذا أراد الحسين عليه السلام أن يسجل على صفحات التاريخ ، صوراً من البطش والهمجية التي لا يرتكبها إلا الذئاب المفترسة والوحوش الضارية.

الثالث ـ مطلق ما يسمى بالمثل :

سواء فيه المثل السائر ، والقياسي والفرضي المعروف بالخياليات التي صنعت للإعتبار والموعظة ، كفرضيات كتاب (كليلة ودمنة) ، وكل وصف به نوع غرابة أو إعجاب زائد ، كقوله تعالى :( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ .) [محمد / ١٥]. المستفاد من كلمات اللغويين أنّ المثل بمعنى التمثيل والتنظير ، وسمي المثل مثلاً لأنّه ماثل بخاطر الإنسان ؛ أي شاخص به. يقول الجوهري : «ومثلت له كذا تمثلاً إذا صَوّرت له مثاله

__________________

(١١٥) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق الموسوي : مقتل الحسين / ١٨١.

١١٢

بالكتابة وغيرها»(١١٦) . فكأنّ مراد الجوهري الصورة بالكتابة والتمثال بخير الكتابة ؛ لأنّ غير الكتابة إما يكون وصفاً ؛ فهو أمر تخييلي محض ، وإما أن يكون عملاً يدوياً محسوساً فهو التمثال. فيكون الغاية من سوق المثل والتنظير له إقامة الحجة أو إظهار آية دالة على شيء ما. فالأسلوب في الآية عرضها مثول وانتصاب لحقيقتها أمام الناظر. ومن هذا الباب ما جاء عن الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم ، حينما إستدعى ابن سعد ومَثّل له نهايته ، حيث قال له : «أي عمر ، أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدّعي بلاد الرّي وجُورجَان ، والله لا تهنأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم ، فصرف بوجهه عنه مغضباً»(١١٧) .

وعند خروج الأكبر عليه السلام إلى الميدان ؛ صاح بعمر بن سعد : «مالك؟! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسَلّط عليك من يذبحك على فراشك»(١١٨) .

٢ ـ أهمية المثل :

للمثل أهمية كبرى يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ إنّ أهمية الأمثال بيانية ، حيث لم يكن في كلام العرب أوجز منها ، ولا أشد إختصاراً. قال إبراهيم النظام : «إجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في

__________________

(١١٦) ـ الجوهري ، إسماعيل بن حَمّاد : تاج اللغة وصحاح العربية ، ج ٥ / ١٨١٦.

(١١٧) ـ المقرّم ، عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٥.

(١١٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٧.

١١٣

غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة»(١١٩) .

٢ ـ إنّ المقصود من ضرب الأمثال ، أنّها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ؛ وذلك لأنّ الغرض في المثل أن تنفعل به النفوس ، وتؤمن به القلوب ، فإن كان مدحاً ؛ كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهز للعطف ، وأسرع للإلف ، وأذكر وأيسر على الألسن ، وأولى بأن تعتلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذماً ؛ كان مَسّه أوجع ، ووقعه أشدّ ، وحَدّه أحد. ومن هذا ما ورد في الخطب الحسينية في الطريق وفي كربلاء. وكذلك ما ورد عن أهل بيته عليهم السلام أثناء الخطب في الكوفة ، ويمكن التركيز منها على ما يلي :

المثل في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) :

قال عليه السلام لابن عباس : «والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقَة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذبهم ، حتى يكونوا أذلّ من فِرَام المرأة»(١٢٠) .

وقال أثناء طريقه إلى الكوفة : «إنّ هؤلاء أخافوني ـ وهذه كتب أهل الكوفة ـ وهم قاتليَّ ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا الله محرماً إلا انتهكوه ؛ بعث

__________________

(١١٩) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ١٠.

(١٢٠) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٤.

١١٤

الله إليهم من يقتلهم ، وحتى يكونوا أذلّ من فِرَام الأمّة»(١٢١) . وخاطب الأعداء يوم عاشوراء بقوله : (يا عَبيد الأمّة)(١٢٢) تحقيراً لهم.

إيضاح أهم مفردات المثل الحسيني :

الفِرَام : ورد في كتب اللغة أنّ (الفِرَام) : دواء تُضيِّق به المرأة المسلك ، أو حب الزبيب تحتشى به لذلك ، وكانت في أحراح ثقيف سعة يتضيقن بعجم الزبيب. والفرامة : هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض كالفِرَام ، وفيها يقول الشاعر :

وجَدْتُك فيها كأمِّ الغلام

متى ما تَجِدْ فَارِما تَفْترِم(١٢٣)

وأيضاً قال في (بَطْن العَقَبة) : «إنّهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم»(١٢٤) .

وقال في (الرُهَيَمة) : «وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذِلّاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، ويسلط عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من قوم سَبأ ؛ إذ ملكتهم إمرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(١٢٥) . هذه بعض الأمثال الحسينية الواردة في خطبه عليه السلام.

__________________

(١٢١) ـ المصدر السابق / ١٧٥.

(١٢٢) ـ نفس املصدر / ١٦٨.

(١٢٣) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ١٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(١٢٤) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ١٨١.

(١٢٥) ـ نفس المصدر / ١٨٥.

١١٥

وإن كان وعظاً ؛ كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، ويبصر الغاية.

المثل في خطبة السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة :

ومما ورد في الخطبة الزينبية التي خطبتها في الكوفة ـ من الأمثال ما يلي : «الحمد لله ، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الخَتَل والغَدْر ، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّه ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»(١٢٦) . تشير أم المصائب زينب عليها السلام إلى قوله تعالى :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [النحل / ٩٢].

وبعد مراجعة كتب المفسرين حول هذه الآية ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ هذا مثل قرآني يشير إلى المرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفَتلٍ للغزل ؛ وهي إمرأة حمقاء من قريش ، واسمها رَيطَة بنت عمرو ، بن كعب ، بن سعد ، بن تميم ، بن مُرّة ، وكانت تسمى خَرْقَاء مكة ، كانت تغزل مع جواريها إلى إنتصاف النهار ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها.

ثانياً ـ هذا نهي من الله للمكلفين أن يتصفوا بالصفات المذكورة في الآية ، المندرجة تحت الألفاظ التالية :

__________________

(١٢٦) ـ المصدر السابق / ٣١١.

١١٦

١ ـ أنْكَاثاً : جمع نِكْث ، وكل شيء نقض بعد الفتل ؛ فهو أنكاث حبلاً كان أو غزلاً.

٢ ـ دَخَلاً : الدَخَل ، ما أدخل في الشيء على فساد ، فالمراد بالدخل وسيلته ، من تسمية السبب باسم المسبب ؛ أي وسيلة للغدر والخدعة والخيانة ؛ تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتدعونهم بنقضها. ومعنى ذلك : أنكم كمثلها ، إذا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم فتؤدونها وتعقدونها ، ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثلها ، والله ينهاكم عنه.

٣ ـ أرْبَى : أي أكثر عدداً ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمة في رأس ماله. ومعنى ذلك لا ينقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ؛ أي لا تنقضوا عهدكم ، متخذيها دغلاً وغدراً وخديعة ، لمداراتكم قوماً هم أكثر عدداً ممن عاهدتم له ، بل عليكم الوفاء والحفظ لما عاهدتم عليه. فالسيدة زينب عليها السلام تذكرهم وتوبخهم بالعهد والبيعة لسيد الشهداء عليه السلام التي نقضوها ، وشبهتهم بالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، إلى أن قالت : «ألا وهل فيكم إلا الصَلَف النَطَف ، والعجب والكذب والشَنِف ، ومَلِق الإماء ؛ وغَمَز الأعداء؟!» وفي هذا المقطع عَبّرت عنهم بألفاظ تعيبهم وتكشفهم بها توبيخاً لهم (فالصَلَف) : الذي يمتدح بما ليس عنده. وفي حديث المؤمن : (لا عنف ولا صَلَف) ، يقال : سحاب صلف ، إذ كان قليل الماء ، كثير الرعد ، وفي المثل (رُبّ صَلَف تحت الرَاعِدَة) يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم فيه»(١٢٧) .

__________________

(١٢٧) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ٨٢.

١١٧

(والنَطَفَ) : «القذف بالفجور ، أو الفساد ، أو الشر»(١٢٨) .

(والشنف) : المبغض(١٢٩) .

(ومَلِق الإماء) :

«المَلأِق : الضعيف. أو التودد والتذلل ، وإبداء ما باللسان من الإكرام والودّ ما ليس في القلب»(١٣٠) .

(وغَمَز الأعداء) :

«الغَمَز : الضعف والميل والعيب»(١٣١) ؛ أي أنتم ضعاف في عقولكم وعملكم بحيث إستزِهدكم الأعداء ، وسخروا بكم بإطاعتكم لهم. إلى أن قالت : «أو كَمَرْعَى على دِمّنَة ، أو كقَصّةٍ على مَلْحُودَة».

(الدِمنَة) :

«هي ما تُدمّنُه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها ؛ أي تلبّده في مرابضها ؛ فربما نبت الحسن النضير. ومنه الحديث : (فينبتون نبات الدِّمن في السيل) ، هكذا جاء في رواية بكسر الدال وسيكون يرعى البعير ؛ لسرعة ما ينبت فيه»(١٣٢) .

وقيل الدِّمنة : هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب وتحصل فيه بسبب نزولهم تغيّر في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم ، فإذا أمطرت أنبتت نبتاً حسناً شديد الخضرة والطراوة ؛ لكنّه مرعى وَبِيء للإبل

__________________

(١٢٨) ـ لويس ، معلوف : المنجد في اللغة / ٨١٦.

(١٢٩) ـ نفس المصدر / ٤٠٤.

(١٣٠) ـ نفس المصدر / ٧٧٤.

(١٣١) ـ نفس المصدر / ٥٥٩.

(١٣٢) ـ ابن الأثير ، المبارك بن محمد الجزري : نهاية في غريب الحديث ، ج ٢ / ١٣٤.

١١٨

مُضرّبها)(١٣٣) . ومن هذا ، ما ورد في الحديث النبوي (.. إياكم وخَضْرَاء الدِّمن ، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدِّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١٣٤) .

قال الشريف الرضي (ره) : «والقول الآخر : أن يكون عليه الصلاة والسلام ؛ إنّما نهى في الحقيقة عن تغارض النفاق وتعاير الأخلاق ، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل ، وينطوي عن الباطن الدميم ، أو يخدعه بحلاوة اللسان ، ومن خلفها مرارة الجنان ، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله :

وقد يَنْبُتُ المرْعَى على دِمَنِ الثّرَى

وتَبْقَى حَزَازَاتُ النفوس كما هِيَا

كأنه أراد ، إنا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر ، فإنّا نضمر لكم على باطن الغش والغمز ، ومثل هذا قول الآخر :

وفِينَا وإن قِيلَ إصْظَلحْنَا تَضَاغُنٌ

كما طرّ أوبارُ الجِرَابِ على النّشْرِ

وقال أهل العربية : النشر أن ينبت وبر البعير وتحته داء العرّ ؛ وهو الجرب فيرى كأن ظاهره سليم وباطنه سقيم»(١٣٥) ، وبعد هذا الإيضاح يظهر لنا مغزى ما يستفاد من كلام السيدة زينب عليها السلام ، حيث أنّ الغرض هو التعريف بأن الدِّمنَة وإن زها ظاهرها بالنبت ، إلا أنّه لا يفيد الحيوان قوة ؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكشافات السامة القاتلة ، فنتاج الدِّمنة لا يكون طيباً ، وأهل الكوفة وإن زها

__________________

(١٣٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٦ / ٢٤٨.

(١٣٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢٠ / ٣٥ (الباب ٧ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٧).

(١٣٥) ـ الشريف الرضي ، محمد بن ابي احمد الحسين : المجازات النبوية / ٦١.

١١٩

ظاهرهم بالإسلام ؛ إلا أنّ الصدور إنطوت على قلوب مظلمة لا يصدر منها إلا بما يقوم به أهل الجاهلية والإلحاد»(١٣٦) .

(أو كقَصّةٍ على مَلْحُودة) :

«القَصّةُ والقِصّة والقَصُّ ، الجَصّ : لغة حجازية. وقيل : الحجارة من الجَصّ ، وقد قصّصَ داره ، أي جصّصَها. ومدينة مُقصّصَة : مطلية بالقصّ ، وكذلك قبر مُقصّصٌ ، والتقصيص : هو التجصيص ، وذلك أنّ الجَصّ يقال له ، القَصّة. يقال : قصصت البيت وغيره ؛ أي جصّصته. وفي حديث زينب (يا قَصّةٌ عُلى مَلحُودَةٍ) ؛ شبهت أجسادهم بالقبور المتخذة من الجصّ ، وأنفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور»(١٣٧) .

قال السيد المقرّم (ره) : «والذي أراه ، أنّ النكتة في هذه الإستعارة ، أنّ القصّة بلغة الحجاز الجصّ ، والملحودة ؛ القبر لكونه ذا لحد ، فكان القبر يتزين ظاهره ببياض الجصّ ، ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، إلا أنّ قلوبهم كجيف الموتى ؛ بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادئ الصحيحة ؛ وقد إنفردت (متتمة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة ، التي لم بسبقها مهرة البلغاء إليها»(١٣٨) .

إلى أن قالت عليها السلام : (ولقد أتيتم بها خَرْقَاء ، شَوْهَاء كِطلَاعِ الأرض ، ومِلء السماء).

__________________

(١٣٦) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١١ (بتصرف).

(١٣٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٧ / ٧٦ ـ ٧٧.

(١٣٨) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١٢.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495